على مائدة الأخوين رحباني... لحم مشوي بارد و«كوسى بحَرّ»

سعيد عقل أحبّ «مجدّرة» أم عاصي... ومنصور خدع عبد الوهاب بـ«القلقاس»

أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
TT

على مائدة الأخوين رحباني... لحم مشوي بارد و«كوسى بحَرّ»

أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

بين طاولات مقهى والدهما حنّا، تنقّل عاصي ومنصور الرحباني صغيرَين. وبين أبٍ احترف «صَنعة» المقاهي والمطاعم، وأمٍّ عُرفت بـ«نفَسها الطيّب» في الطبخ، رُسمت أولى ملامح علاقتهما بالطعام.

كان عاصي ومنصور يساعدان العائلة في مقهى «فوّار أنطلياس»، فيقدّمان الأكل إلى الزبائن ويُفرغان الطاولات بعد مغادرة هؤلاء. وفي الطريق إلى المطبخ، يلتهمان ما تبقّى في الصحون من لحمٍ مشويّ بارد، وهي عادة رافقتهما في ما بعد. فبقي لفضَلات اللحم المشويّ البارد مذاق الحنين إلى «مقهى الفوّار»، وإلى طفولةٍ زاخرة بالطعام اللذيذ رغم تواضع الحال.

عاصي ومنصور على مائدة الطعام (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

في مطبخ «أم عاصي»

أخذت «أم عاصي» عن زوجها «علّوميّات» في الطبخ وطوّرتها، فكانت أكلاتها محبوبة من زبائن المطعم. يقصدون «الفوّار» من جوار أنطلياس ومن بيروت ومن مناطق أبعَد، ليتذوّقوا الأطايب من تحت يدَي سعدى الرحباني. والأطايب آنذاك كانت بعيدة عن التعقيد، قريبة من خيرات الأرض. وبالتالي كان الطعام النباتي والمقبّلات اللبنانية الخفيفة، كالحمّص بالطحينة والباذنجان المتبّل، هي التي تتصدّر المائدة.

اشتهرت طاولة المطعم الرحبانيّ بصحن البطاطا المتبّلة بالطحينة والثوم، حسبما يخبر أسامة الرحباني «الشرق الأوسط»، إضافةً إلى أكلات كثيرة بالزيت، وما يُعرَف بـ«القواطع»، أي الطعام الخالي من اللحوم ومشتقّات الحليب.

عاصي ومنصور الرحباني إلى المائدة (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

أما الأكلة الرحبانية العابرة للأجيال الأربعة، فهي «الكوسى بحَرّ». وهي عبارة عن شرائح رقيقة من الكوسى، مقليّة بقليل من الزيت ترافقها صلصة من الحامض والثوم والفلفل الحار والملح وزيت الزيتون، حسب الوصفة التي حفظها أسامة الرحباني عن ظهر قلب.

رغم بساطتها، شكّلت هذه الأكلة أسطورة على مائدة الرحابنة عبر أجيالهم: من حنّا الجدّ الأكبر إلى الحفيد كريم الذي يخبر «الشرق الأوسط» أنّ «كل جلسة طعام عائلية لا يمكن أن تغيب عنها (الكوسى بحرّ)»، في استحضارٍ للجدّ حنا وللأخوين عاصي ومنصور اللذَين تأثّرا بها إلى درجة أنهما ذكراها في أحد مشاهد مسرحية «لولو».

الطعام في أعمال الأخَوين

تُعدّد إلهام الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بعضاً من أكلات شقيقَيها المفضّلة: «كانا يحبّان البامية، والكبّة، والحمّص، والباذنجان المتبّل، وورق العريش، والسمك، والدجاج المحشي...». تضيف: «في بيت الوالدة، كان نصف طاولة السفرة للأكل ونصفُها الثاني للكتابة». أما خلال سهرات العمل والتأليف الطويلة، فكانت الشقيقات يتناوبن على السهر معهما: «ننتظرهما لنسهر على راحتَيهما، فنحضّر لهما الشاي أو القهوة، أو نقدّم لهما الحلوى والمثلّجات»، تقول إلهام.

غداء رحبانيّ عائليّ (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

وفق أسامة الرحباني، «كان منصور أكولاً أكثر من عاصي»، وقد اتضح ذلك منذ الطفولة. إذ كان منصور بمثابة «صبي الدليفري» في مطعم الوالد. يذهب سيراً على الأقدام إلى منازل الزبائن لإيصال وجبات الغداء، وإذا جاع في الطريق، لا يتردّد في فتح «المَطبَقيّة»، وتَذوُّق أكثر من قطعة لحم واحدة! وفي اليوم الذي كانت تطهو أمه الديك، يجلس منصور بقربها ولا يذهب إلى المدرسة، منتظراً أن تَجهز الوليمة.

انعكست تلك العلاقة المميّزة مع الطعام على أعمال الأخوين رحباني، فحضرت التبّولة ومكوّناتها في سكتش «الدكّان» من مسرحية «حكاية الإسوارة». مع العلم أنّ جلسات التبّولة عصراً كانت رائجة في ذلك الزمن.

في فيلم «بياع الخواتم»، حضر الصيادون وعصافيرُهم، التي كانت جزءاً أساسياً من مائدة الأخوين. أما مسرحية «قصيدة حب» فكثُر فيها الحديث عن الطعام. في سكتش «المطاليب»، ذُكرت أنواع طعام عدّة في الحوار بين فيلمون وهبي في شخصية «سبع» الشهيرة، ونصري شمس الدين، وجوزيف ناصيف: «الشيكالاتا مش أكل. الحلاوة مش أكل. السردين مش أكل. البسطرمة مش أكل. والنمّورة؟ النمورة فيها طحين. والساندويش؟ الساندويش إذا بلا خبز مش أكل»، وفي مشهد المصالحة، غنّى وديع الصافي «المناقيش والطلامي على التنّور».

رفاق المائدة واختبارات منصور

يعود هذا المشهد إلى ذاكرة إلهام الرحباني: «يدخل سعيد عقل إلى بيت العائلة في أنطلياس، ويسأل الوالدة سعدى: شو في غدا يا أم عاصي؟ فيأتي الجواب: مجدّرة. يعترض ممازحاً: أنا سعيد عقل بدّي آكل مجدرة؟ ما في كافيار؟»، لينتهي به الأمر ملتهماً صحناً كبيراً من المجدّرة.

كان الشاعر سعيد عقل أحد أكثر الأصدقاء قرباً من عاصي ومنصور، على المستويَين الإنساني والفنّي. وهما كانا يفتحان باب البيت للأصدقاء. ومَن أرادا تكريمَه تكريماً خاصاً، كانا يدعوانه إلى مائدة الوالدة.

جلس الموسيقار محمد عبد الوهاب مراراً ضيفاً على مائدة الأخوين. وينقل أسامة الرحباني إحدى النوادر التي جمعت والده منصور بعبد الوهاب على الطاولة، يوم تذوّق طبقاً أعجبَه كان عبارة عن قلقاس بالطحينة، فسأل: «ما هذا يا منصور؟»، فأجابه: «سمك اللقز بالطحينة»، في مزحة حريصة على عبد الوهاب الذي كان ينتبه كثيراً إلى ما يأكل ويشرب.

لاحقاً انتقلت المائدة إلى مكتب الأخوين في شارع بدارو البيروتيّ، حيث كانت جلسة الغداء اليوميّة تجمع الرفاق مثل عبد الله الخوري، وجورج جرداق، وسعيد عقل، وهنري زغيب، وغيرهم... فيطلبون الأكل من مطاعم المنطقة آنذاك كـ«بدارو إن» و«إكستاز»، وفي بعض الأحيان يخرجون للغداء أو العشاء في مطعم «العجمي» أو عند «سقراط» في الحمرا. غير أنّ المحطة الأساسية كانت مطعم «الحلبي» في أنطلياس، وهما بقيا وفيَّين لجلسته وللقمته حتى النهاية.

لم يدخل الأخوان إلى المطبخ إلا للأكل، وتركا مهمة الطبخ لسيّدات العائلة. لكنّ منصور عُرف بتجاربه واختباراته المرتبطة بالطعام، كاختبار الكبّة التي حقنها بإِبَر الزبدة السائلة والشحم من أجل تدسيمها.

وهو كان يحب الطعام دسِماً ولم يكمل أي حِميةٍ بدأها. يروي حفيده كريم أنه خلال التحضير لإحدى المسرحيات مع كارول سماحة، بدّل معها وجبات الطعام فقدّم لها وجبة الحمية حتى يأكل ما يشاء.

ومن عادات منصور بعد وفاة زوجته، أنه كان يتّصل فجأةً بعدد من سيّدات العائلة، كشقيقته إلهام، ونينا زوجة شقيقه إلياس، ويطلب منهنّ إعداد طبقٍ معيّن، كالكبّة بالصينيّة أو القلقاس مثلاً. وفور انتهائهنّ من إعداد الطبق نفسه، يتذوّق النسخ المختلفة ويُجري مقارنةً بينها، ويعلّق على كل طبَق بجدّيّةِ مَن ينتقد مسرحيّةً أو أغنية.

في البيت الرحبانيّ، الطبخ والأكل احترافٌ وإبداعٌ أيضاً. وما مشهد القبضايات في مقهى «خان المكاريّي» من فيلم «سفر برلك»، سوى تحيّةٍ لمقهى الوالد حنّا حيث بدأت الحكاية. حكايةٌ ذاب على نارها سُكّر قلوبٍ كثيرة.


مقالات ذات صلة

محمد رحيم... رحيل يستدعي حزن جيل التسعينات

يوميات الشرق الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)

محمد رحيم... رحيل يستدعي حزن جيل التسعينات

ما أن تم الإعلان عن خبر الرحيل المفاجئ للملحن المصري محمد رحيم حتى سيطرت أجواء حزينة على الوسط الفني عامة والموسيقي خاصة بمصر.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الوتر السادس أحمد سعد سيطرح ألبوماً جديداً العام المقبل (حسابه على {إنستغرام})

أحمد سعد لـ«الشرق الأوسط»: ألبومي الجديد يحقق كل طموحاتي

قال الفنان المصري أحمد سعد إن خطته الغنائية للعام المقبل، تشمل عدداً كبيراً من المفاجآت الكبرى لجمهوره بعد أن عاد مجدداً لزوجته علياء بسيوني.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الوتر السادس الفنانة بشرى مع زوجها (حسابها على {فيسبوك})

بشرى لـ«الشرق الأوسط»: الغناء التجاري لا يناسبني

وصفت الفنانة المصرية بشرى الأغاني الرائجة حالياً بأنها «تجارية»، وقالت إن هذا النوع لا يناسبها

أحمد عدلي (القاهرة)
الوتر السادس تتشارك قسيس الغناء مع عدد من زملائها على المسرح (حسابها على {إنستغرام})

تانيا قسيس لـ«الشرق الأوسط»: أحمل معي روح لبنان ووجهه الثقافي المتوهّج

تتمسك الفنانة تانيا قسيس بحمل لبنان الجمال والثقافة في حفلاتها الغنائية، وتصرّ على نشر رسالة فنية مفعمة بالسلام والوحدة.

فيفيان حداد (بيروت)

هولندي يروّج للسياحة المصرية بالتجديف في النيل لمدة أسبوع

المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)
المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)
TT

هولندي يروّج للسياحة المصرية بالتجديف في النيل لمدة أسبوع

المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)
المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

دشن المجدف الهولندي المحترف، روب فان دير آر، مشروع «التجديف من أجل مصر 2024»، بهدف الترويج لمنتج السياحة الرياضية المصرية، حيث تستمر الرحلة لمدة أسبوع، وتبدأ من بني سويف (115 كيلومتراً جنوب القاهرة)، وحتى العاصمة القاهرة.

ويهدف المشروع إلى تسليط الضوء على جمال مصر وتراثها الطبيعي والثقافي المتميز، بالإضافة إلى الترويج لمقوماتها السياحية والأثرية المتنوعة، ورفع الوعى بأهمية الحفاظ على نهر النيل.

المُجدّف الهولندي المحترف روب فان دير آر (وزارة السياحة والآثار المصرية)

ووفق عمرو القاضي، الرئيس التنفيذي للهيئة المصرية العامة للتنشيط السياحي، فإن مشاركة الهيئة في هذا الحدث تأتي في إطار حرص الدولة المصرية على التعاون مع سفارات الدول الأجنبية بمصر، ولا سيما في الفعاليات والأحداث التي تلقي الضوء على المقصد السياحي المصري والترويج لمقوماته ومنتجاته السياحية المتنوعة والمختلفة.

ولفت القاضي إلى أن «هذه النوعية من الأحداث تخاطب شريحة من المهتمين بمنتج السياحة الرياضية بصفة عامة ومنتج سياحة المغامرات بصفة خاصة، كما أنها تتماشى مع الاستراتيجية الترويجية للهيئة التي تهدف إلى الترويج لمقومات مصر السياحية، علاوة على الدور المجتمعي الذي تقوم به الهيئة في التعاون مع المؤسسات الخيرية».

جدير بالذكر أن هذا المشروع يتم تنفيذه بالتعاون والتنسيق بين سفارة دولة هولندا في القاهرة، ومؤسسة مجدي يعقوب للقلب، وشركة Aspire، وتحت رعاية عدد من الوزارات.

مشروع «التجديف من أجل مصر 2024» يهدف إلى الترويج للسياحة الرياضية (وزارة السياحة والآثار المصرية)

ويتوقع وزير السياحة والآثار المصري، شريف فتحي، الوصول إلى هدف «30 مليون سائح سنوياً» بحلول عام 2031 إذا لم تحدث متغيرات جيوسياسية جديدة بالمنطقة»، وفق تعبيره.

وقال إن «الاستراتيجية التي أعلنتها الحكومة المصرية خلال الفترة الماضية -30 مليون سائح بحلول عام 2028- كانت طَموحة للغاية، ولم تضع في حسبانها الأزمات السياسية والعسكرية التي أثّرت تداعياتها على دول المنطقة والعالم».

ورغم ذلك توقع الوزير أن يشهد العام الحالي زيادة في أعداد السائحين القادمين إلى مصر، ليكون 15.2 مليون سائح في 2024، مقارنةً بـ14.906 مليون سائح عام 2023.