على ساحل البحر الأيوني، وفي مدينة هيمارا الألبانية التي تجمع بين سحر الطبيعة ونكهة التاريخ، يبرز مطعم «كافيه هيمارا 28» واحداً من أهم الوجهات السياحية والمطاعم العائلية في المنطقة. لا يقتصر تميّز المكان على موقعه المطل على البحر مباشرة فحسب، بل يتجلى أيضاً في تنوع أطباقه التي تمزج بين المطبخ الألباني التقليدي ولمسات المطبخ اليوناني؛ ما جعله محطة مفضلة للزوّار المحليين والسياح على حد سواء. وبين نكهات المأكولات البحرية الطازجة وأجواء الضيافة الدافئة، يكتب «هيمارا 28» قصته الخاصة بصفته رمزاً للذوق الرفيع والتجربة المميزة.

قبل أن نبدأ تقييمنا لمطعم «كافيه هيمارا 28» Kafe Himara 28، من الضروري اختصار تاريخ مدينة هيمارا الواقعة في جنوب ألبانيا التي تُعدّ من أعرق المدن الساحلية على البحر الأيوني؛ إذ تعود جذورها إلى قبائل الإيليريين قبل الميلاد، ثم تأثرت بالحضارة اليونانية وخضعت لاحقاً لحكم الرومان والبيزنطيين. في العصور الوسطى اشتهرت بقلاعها الدفاعية، بينما دخلت تحت النفوذ العثماني مع حفاظها على هوية ثقافية متأثرة باليونان. ومع استقلال ألبانيا في القرن العشرين أصبحت هيمارا جزءاً من الدولة الحديثة، لتتحول اليوم وجهةً سياحيةً تجمع بين عمق التاريخ وسحر الطبيعة.

تاريخ المدينة وتأثرها بالحضارة اليونانية يلعبان دوراً مهماً في مطبخها المتوسطي الأقرب إلى اليونان منه إلى المطبخ الألباني، فعلى طول شاطئ هيمارا المعروف باسم «الريفييرا الألبانية» تنتشر المطاعم وبكثرة، يقف على مدخل كل منها موظف التشريفات وفي يده لائحة الطعام، يدعو المارة إلى الولوج إلى المطعم وتذوق أطباقه، وفي خضم زحمة المطاعم تشدك رائحة طعام غير عادية، وديكورات تمزج ما بين الماضي والحاضر، ومبنى من الحجر الطبيعي تزيّنه الزهور وردية اللون التي تذكرك بأزقة جُزر اليونان مثل ميكونوس وسانتوريني، ولافتة كبيرة تحمل اسم المطعم «كافيه هيمارا 28»، وهذا الرقم يدل على السنة التي تم افتتاح المطعم فيها لتتوالى أجيال عدة على إدارة المطعم، ووضع بصمة كل منها حسب كل حقبة من الزمن، بدءاً بالجد أريستيد غورو الأول الذي أسس المشروع الذي كان حينها بمثابة مركز تجاري يواجه الزمن والتاريخ وتحديات ما بعد الحرب العالمي الأولى، مروراً بالجيل الثاني من عائلة غورو، ستيفو وزاهاريا غورو، اللذين واصلا تقاليد وإدارة فندق «هيمارا 1928» حتى عام 1945، عندما وصل العمل إلى ذروته، وباستخدام سفينتهما، كان الأخوان غورو يورّدان منتجات عالية الجودة من جزيرة كورفو والبندقية إلى مدينة هيمارا. ومع ذلك، بين عام 1945 وأوائل التسعينات، كانت ألبانيا تحت نظام شيوعي ديكتاتوري؛ ما أدى إلى إغلاق جميع الأعمال التجارية الخاصة، بما في ذلك فندق ومطعم «هيمارا 1928». خلال هذه السنوات الـ45، صودرت المنشآت من قِبل النظام المحلي، وتحولت مركزاً للشرطة بذريعة الحفاظ على الاستقرار والأمن المحلي ضد عدو وهمي. كانت هذه فترة عصيبة للغاية على عائلة غورو. وبصفتهم تجاراً؛ فقد وصمهم النظام بلقب «الكولاك» (Kulaks)؛ ما أسفر عن معاناة حقيقية دمرتهم اقتصادياً ومعنوياً.

بعد سقوط النظام الشيوعي في أوائل التسعينات، تولى أريستيد غورو الثاني - من الجيل الثالث للعائلة - المبادرة لإعادة فتح المنشأة، متبعاً تقاليد أجداده لتكريم أصولهم وخدمتهم الصادقة والأصيلة. كانت رؤيته هي إعادة إنشاء بيئة جديدة على الطراز المتوسطي. أسفر العمل على الديكورات الداخلية الحجرية والخشبية، والأبواب، والنوافذ، والأثاث عن إعادة بناء الأماكن والحفاظ عليها حتى يومنا هذا. بفضل العمل الشاق والتفاني من عائلة غورو، عاد «هيمارا 1928» بقوة إلى الحياة.

يتميز المطعم بجلسات في الخارج وأخرى في داخله الذي يزخر بالديكورات المزدانة بالتحف والصور المعلقة على الجدران، والتي تدوّن زيارات أهم الشخصيات مثل زيارة الملك زوغ الأول وزوجته جيرالدين رفقة فريق حكومي.
لائحة الطعام غنية جداً، وفيها وصفات قديمة حافظت عليها العائلة بأجيالها الخمسة، كما أن الحلويات من تحضير السيدة فانجيلو غورو، فعندما تزور المطعم تشعر وكأنك في منزل وليس في مطعم، فالخدمة جيدة ودافئة، أشرف على طاولتنا الشاب كاسترو الذي يتكلم عن أصحاب المطعم وكأنهم أهله، فالألفة واضحة.

بالنسبة للطعام فهو لذيذ جداً؛ لأنه يعتمد على المنتجات الطازجة من البحر والجبل، فطبيعة هيمارا جميلة جداً ومميزة كونها على البحر مباشرة وفي الوقت نفسه فهي مسوَّرة بالجبال الشاهقة؛ ما يمنح مطبخها تنوعاً واسعاً ينعكس في طريقة تقديم الطعام، فمن بين الأطباق اللذيذة في المطعم سلطة الخضراوات مع الجمبري الملفوف بالشعيرية المقلية المقرمشة، ويُعدّ هذا الطبق - حسب كاسترو - من أكثر الأطباق طلباً في المطعم، بالإضافة إلى سلطة ثمار البحر التي تحتوي على الأخطبوط والخضراوات والمغمسة بزيت الزيتون الطبيعي، أما بالنسبة للسمك، فمن الأفضل تناول صيد اليوم، فاخترنا يوم زيارتنا سمكة «سي باس» مشوية على الطريقة اليونانية تقدم مع الخضراوات الموسمية وصلصة البيستو المصنوعة من الريحان مع الصنوبر، من الأطباق المحلية التي أنصحك بتناولها الجبن المشوي بالفرن؛ فهو بالفعل من ألذ المقبلات التي تجدها في أغلب مطاعم المدينة، وتختلف النكهة حسب اختلاف النوعية وجودتها، ولا تكتمل المائدة اليونانية من دون البطاطس المقلية مع الزعتر البري.

«هيمارا 28» يتخطى كونه مطعماً؛ لأنه لا يشبع معدتك فقط، إنما يشبع شغفك بالتاريخ ويغذّي روح الاكتشاف لديك؛ لأنه يعدّ شاهداً على تاريخ قاسٍ؛ إذ عاشت ألبانيا فترة طويلة من الانغلاق والعزلة التامة عن العالم خلال الحكم الشيوعي. بدأت هذه العزلة تدريجياً بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها بلغت ذروتها ابتداءً من أوائل الستينات حينما قطعت ألبانيا علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي ثم مع الصين لاحقاً، لتصبح واحدة من أكثر دول العالم انغلاقاً. دامت هذه العزلة من أوائل الستينات حتى سقوط النظام الشيوعي عام 1991، أي ما يقارب 30 سنة من الانغلاق شبه الكامل عن العالم الخارجي.
واليوم يعود المطعم والمدينة التي يحمل اسمها إلى الحياة من جديد من خلال تقديم ألذ الأطباق وأجمل الأجواء الألبانية المتأثرة برونق جُزر اليونان ومطبخها الغني بالنكهات المتوسطية التي تعانق البحر وتعبق برائحته.










