قد تظن أنك تعرف كل شيء عن أم كلثوم. ولِمَ لا؟ فقد كبرنا على أغانيها وتشبعنا بالحديث عنها وبسيرها الذاتية. لكن «فيلم «الست» يفاجئنا؛ لأنه يأخذنا إلى منطقة لم تتطرق إليها السيرة من قبل. منطقة تتناول حياة امرأة تعيش بين المجد والوحدة. محاطة طوال الوقت برجال، شعراء وموسيقيين، لكنها بذكاء الأنثى، وبعد تجربة فارقة في بدايتها، ظهرت فيها منى زكي بطلة الفيلم مع الممثلة أمينة خليل في لقطة سريعة، تعلمت أن المظهر جزء من النجاح. في قلب هذه الرحلة تشارك عزة فهمي بمجوهرات تُجسّد بشكل أو بآخر طبقات نفسية وزمنية عاشتها الأسطورة.

لم يكن «الست» مجرد فيلم عن أم كلثوم، بل نافذة واسعة أعاد فيها المخرج مروان حامد كشف جانب إنساني كان مخفياً وراء الصورة الأيقونية المهيبة. ومن بين كل العناصر التي أشركها في صناعة هذه الحكاية، تألقت مجوهرات عزة فهمي لغةً سرديةً موازية، تضيء لحظات ومواقف، وتُعزز ملامح الشخصية كما تستحضر زمناً جميلاً بكل وهجه وعنفوانه. تخرج بعد مشاهدة الفيلم وصورة لا تفارقك لكوكب الشرق، أعمق وأكثر إنسانية. فالفيلم لم يركز على الأسطورة. فهذه تم استنزافها وأصبح الكل يحفظها عن ظهر قلب، بل كشف لنا عن جانب إنساني تجسّده وحدتها النفسية رغم كل النجاحات وحب الملايين.

إشادات بعد انتقادات
غني عن القول أن فيلم «الست» أثار موجة واسعة من الجدل قبل عرضه، وصلت حدّ التنمر على بطلته منى زكي. والسبب لا يتعدى حكماً مسبقاً على إعلان ترويجي قصير.
ثم عُرض الفيلم في الدورة الـ22 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ونال استحساناً كبيراً من قِبل النقاد والجمهور على حد سواء، ثم عُرض في القاهرة فتبدّل المزاج العام، وانهالت الإشادات. فالإخراج محكم، كذلك الموسيقى وباقي المؤثرات السينمائية، بما فيها الماكياج والأزياء والمجوهرات التي شكَلت لغة بصرية آسرة.
أما منى زكي، فتألَقت على مدى ساعتين ونصف الساعة تقريباً، وهي تؤدي مشاهد عدة من دون أن تنبس بكلمة، مكتفية بعيونها للتعبير عما بداخلها، بينما نجحت الأزياء والمجوهرات التي ظهرت بها، في رسم انتقالها من فتاة قروية، بسيطة ومحافِظة إلى امرأة واثقة تكتسح الساحة المصرية ثم العالم. خلعت ملابس القروية البسيطة وارتدت أزياء من دور فرنسية مثل «ديور» و«شانيل»، ومجوهرات من «كارتييه» و«فان كليف أند آربلز» وغيرهم. أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى.

لم تفت المخرج مروان حامد أهمية الأزياء والمجوهرات، فكبار المخرجين العالميين يوظفونها في أدوار مهمة منذ عقود طويلة. يكفي استحضار أفلام مثل «إفطار في تيفاني»، حيث تحوّلت مجوهرات «تيفاني آند كو» جزءاً من ذاكرة السينما، أو «الرجال يفضلون الشقراوات»، حيث ارتبطت مارلين مونرو بالألماس من هاري وينستون ارتباطاً أيقونياً. لكن خصوصية «الست» أنه أعاد هذا التقليد إلى القاهرة، وجعله جزءاً من سردية محلية، متجذرة في الثقافة، لا مستوردة من هوليوود. مروان حامد هو الآخر استعملها هنا عنصراً سردياً درامياً لا مجرد إكسسوارات زينة. يزداد بريقها مع تصاعد الأحداث ويخفت وهجها عند الانكسار وجرح القلب، ويتوهّج ويتراقص في لحظات المجد والتألق.

خيار حامد على عزة فهمي لكي تشاركه هذه التحفة الفنية لم يكن من باب الصدفة أو من باب المجاملة والمحاباة. كان خياره محسوباً؛ كونه يعرف أنها جزء من التراث الثقافي المصري الأصيل، فضلاً عن علاقة فنية متينة تربط الفنانة عزة فهمي نفسها بأم كلثوم؛ إذ استلهمت من أغانيها الشهيرة الكثير مما جسدته في خواتم وعقود وأساور وبروشات، مثل «أنت عمري» و«من أجل عينيك عشقت الهوى» وغيرهما من الأشعار. في عام 2014، طرحت مجموعة كاملة بعنوان «سومة» كرَّست فيها عزة حبها وإعجابها بإرث كوكب الشرق بشكل واضح.
عزة فهمي والسينما
إلى جانب كل هذا، فإن عزة فهمي نفسها، تحمل قصة كفاح تشبه قصص النساء اللواتي يتمردن على القوالب التقليدية لبناء أنفسهن، فضلاً عن أن تجاربها في السينما ليست جديدة. تعاونت سابقاً مع الراحل يوسف شاهين في فيلميه «المهاجر» و«المصير»، مقدمة مجوهرات تعكس طبيعة حقبتين مختلفتين وشخصياتهما. عملت أيضاً مع المخرج علي بدرخان في فيلم «شفيقة ومتولي»، حيث قدمت لسعاد حسني حلياً تميزت بالطابعين الغجري والفلاحي.
لهذا؛ جاءت مشاركتها في فيلم «الست» امتداداً لمسيرتها في صون التراث من جهة، ولحركة عالمية باتت فيها العلامات الفاخرة تستعمل الصورة وسيلةً لاكتساب مصداقية أكبر بصفتها رموزاً ثقافية.

فاطمة غالي، ابنة عزة فهمي الكبرى والرئيس التنفيذي للشركة، تكشف عن أن المشاركة في الفيلم جاءت بشكل عضوي، حين عرض عليها مروان حامد، صديق الطفولة ورفيق المدرسة، التفكير في المشروع. تقول: «لم أتردد لأني معجبة برؤيته الفنية، وكنت على ثقة بأنه سيُوظف هذه القطع بشكل يليق بها». وهذا ما تحقق فعلاً.
لكن الجزء الأكبر من العمل وقع على عاتق أمينة غالي، الابنة الصغرى ورئيسة قسم التصميم. هي من حملت على كتفيها مهمة ترجمة سيرة شبه ملحمية إلى لغة فنية. تستعيد أمينة التجربة وتقول إنها بقدر ما كانت ممتعة وملهمة لم تكن سهلة. لكنها ولحسن الحظ نجحت في الإمساك بروح أم كلثوم وكل حقبة عاشت فيها، من خلال تصميمات حملت تطورات اجتماعية وثقافية، وأحياناً نفسية.

التحدي والنجاح
تروي أمينة أن التجربة استغرقت عامين من البحث والعمل: «لم يكن مطروحاً بالنسبة لنا تقديم قطعة أنيقة فحسب. كان علينا درس كل حقبة وكل شخصية حسب مكانتها الاجتماعية وتطورها». فالفيلم يتتبع رحلة أم كلثوم من البدايات في كفر السنبلاوين إلى ذروة المجد، وكان لا بد من هوية بصرية تُجسد عصراً وثقافة وهالة. تستشهد أمينة بلقطة قصيرة ومتسارعة في بداية الفيلم تظهر فيها عائلة أم كلثوم في القطار وهم متجهون إلى القاهرة لأول مرة. يجلسون في الدرجة الثالثة، لكن يقررون النزول من باب الدرجة الأولى «بين الدرجة والدرجة تمر الكاميرا على وجوه نساء يضعن حلياً صغيرة وأبسط مما قد يُرى على الشاشة عادة، تتغير الصورة في الدرجتين الثانية والأولى». تشرح أمينة: «هذه اللقطة وحدها أخذت وقتاً طويلاً لنتأكد أن كل قطعة، مهما صغرت، تنطبق على الشخصية والطبقة التي تنتمي إليها».

مع تقدم الفيلم، تظهر المجوهرات وكأنها لغة قائمة بذاتها. الأقراط تتراقص وتتمايل مع طبقات الصوت، والعقود المرصعة بالأحجار الكريمة تتحدّث لغة القوة أو تروي وجعاً دفيناً، بينما تلمع أخرى مستلهمة من «الآرت ديكو» إيذاناً بولادة الأسطورة. كل تفصيلة كانت محسوبة. قارنت أمينة بين صور أرشيفية ومقتنيات من متاحف وصور حفلات الست وتسجيلات نادرة، محاولة فهم زمن لم تعشه، لكنه يسكن وجدانها من خلال أغانٍ عابرة للأجيال.

ما يُحسب لها أنها لم تستهدف استنساخ الأصل، سواء كان من «فان كليف أند آربلز» أو «كارتييه» أو «شوميه»، بل تقديم صياغة تحاكيه بأسلوب معاصر يعكس إرث عزة فهمي ولا يُشعِر المشاهد بالغربة التاريخية.
الهدف كان واضحاً ومتفقاً عليه منذ عام 2023، عندما بدأ الحديث عن الفيلم، أن تكون المجوهرات جزءاً من الحبكة وليس فقط للإبهار والزينة.

أم كلثوم وكوكو شانيل
فأم كلثوم، كما يكشف لنا حسن عبد الموجود في كتابه «أم كلثوم: من الميلاد إلى الأسطورة»، كانت امرأة وإنسانة قبل أن تكون أيقونة، وهذا يعني أنها كانت تهتم بأناقتها اهتماماً بالغاً. يروي الكاتب حكاية لقاء جرى بينها وبين كوكو شانيل في باريس، حيث كان الإعجاب بين أم كلثوم و كوكو شانيل متبادلاً، حسب ما جاء في الكتاب. استمعت شانيل لأم كلثوم باهتمام شديد، وعرفت أنها تفضل التصاميم المحتشمة والطويلة والأقمشة المرنة التي تتيح لها الحركة على المسرح، وكذلك ألوانها المفضلة من الزهري والأحمر والأبيض والأخضر بكل تدرجاتها.

أخذت مقاساتها وأوكلت لمشغلها تفصيل مجموعة على المقاس، ترسلها لها بعد شهر. بيد أن الست لم تعد خالية اليدين، فقد أخذتها كوكو شانيل في جولة في المحل اختارت منه ما يروق لها من فساتين جاهزة ومعاطف بتصاميم بسيطة وعطور ومستحضرات تجميل.
تخرج من الفيلم وأنت مشبع بصرياً بالجمال، سواء من حيث المجوهرات أو الصوت والموسيقى وباقي المؤثرات، وفي الوقت ذاته بشعور غامر بأنك تحتاج إلى مشاهدته مرة ثانية لتستوعب كل الأحداث والمشاهد.



















