في «حديقة لي شوميه» الجديدة تنسجم الألوان والطبيعة لتشكل باقة من الزهور والسنابل

دار «شوميه» ترسم لوحات معاصرة من ماضيها

من وحي الطبيعة بورودها وأشجارها وسنابلها وُلدت حديقة غنّاء (شوميه)
من وحي الطبيعة بورودها وأشجارها وسنابلها وُلدت حديقة غنّاء (شوميه)
TT

في «حديقة لي شوميه» الجديدة تنسجم الألوان والطبيعة لتشكل باقة من الزهور والسنابل

من وحي الطبيعة بورودها وأشجارها وسنابلها وُلدت حديقة غنّاء (شوميه)
من وحي الطبيعة بورودها وأشجارها وسنابلها وُلدت حديقة غنّاء (شوميه)

في عام 1780 وعندما أنشأ ماري - إتيان نيتو محترفه بباريس، بدأ التوقيع على إبداعاته بعبارة «صائغ الطبيعة». كانت رؤيته واضحة ترى كل ما حوله جميلاً ومن الطبيعة مُلهماً. ومن حينها أصبح هذا الارتباط الشاعري مرافقاً لهوية «شوميه». لهذا لم يكن غريباً أن تطرح الدار مؤخراً مجموعة بعنوان «لو جاردان دو شوميه Le Jardin de Chaumet»، أي «حديقة شوميه»، ترجمت فيها رؤية فنية تعكس ولاءها لعلاقة تمتد لأكثر من قرنين. كل قطعة فيها تصور مستويات مهمة في التراكم التاريخي والفني بأساليب مبدعة تُدخل الناظر إلى عالم الطبيعة وهي في أجمل حالاتها وتفتحها.

تمتد علاقة «شوميه» مع الطبيعة لأكثر من قرنين من الزمن (شوميه)

كان قسم التصميم والحرفيين يُدركون تماماً أن العودة إلى الإرث لم تكن تعني فقط أشكالاً وألواناً مدهشة، بل أيضاً الارتقاء بمفهوم المرونة التقنية في كل قطعة بأن تقوم بعدة وظائف وأدوار، حيث تتحول قلادة إلى بروش أو تاج أو أقراط. فليس من المعقول أن ينجح حرفيوها الأوائل في صياغتها لتكون قابلة للتفكيك بسهولة ولا يتمكنوا هم من تطوير هذه التقنيات ونقلها إلى مرحلة أكثر تطوراً. من هذا المنظور تميز كل طقم بوظائف متنوعة تلعب على أشكال أكثر ابتكاراً سواء كانت أوراق كرْم مشبعة بالتفاصيل الدقيقة، أم سنابل قمح تنتظر من يحصدها. ونظراً لعددها البالغ 68 قطعة، كان لا بد من تنسيق هذه الحديقة بشكل متناغم بتقسيمها إلى أربعة فصول، لكل فصل مصدر إلهام وأحجار كريمة خاصة.

طقم «غي» يُعبّر بدقّة عن الرمزيّة القويّة لنبات الهدّال وهو يتكوّن من 7 قطع: قلادة مكوّنة من شريط مزدوج ومتشابك من الماس (شوميه)

في الفصل الأول تبدأ الرحلة بطقم «غي» حيث تقول القصة إنه مستلهَم من غابة تغطيها شجيرات كثيفة تنمو تحت أقدامها نباتات مثل الهدّال والسراخس، وهو ما يبرز في طقم يتكوّن من سبع قطع: قلادة مكوّنة من شريط مزدوج ومتشابك من الماس والزمرد. تبدو أوراقه كأنها مرشوشة باللآلئ على مستوى خط العنق. يتزايد هذا التأثير من خلال تفاعل الضوء مع الماس واللون الأخضر لزمرد كولومبيّ يبلغ وزنه 21.59 قيراط. الخاتم بدوره قابل للتحوّل يتوسطه حجر يفوق وزنه 10 قراريط، فيما يتميّز البرعم الذي يبدو كأنه نبت على المعصم بالتدرجات المخمليّة لحجر كابوشون يبلغ وزنه 10.53 قيراط.

طقم «فوجير» المكوَّن من 8 قطع تتألق فيها أوراق السراخس في خليط من الظلال والأنوار (شوميه)

ضمن نفس الفصل، هناك طقم «فوجير» المكون من ثماني قطع تتألق فيها أوراق السراخس في خليط من الظلال والأنوار يلعب فيها الماس دور البطولة. يتميز بتعقيدات كبيرة تطلبت من الحرفيين العمل عليها بعقلية علماء النبات. قسّموا الذهب الأبيض إلى أقسام رقيقة جداً تأخذ شكل طبقات، واستعانوا بتقنيتين استثنائيتين لاستحضار فكرة ظهور قطرات الندى على الأوراق، مما أعطى انطباعاً بأن الأحجار تكاد تكون مرفوعة عن الإطار، سواء تعلق الأمر بالعقد أو التاج الذي يستقرّ على الشعر مثل جناح الطائر، أو البروش الذي يمكن استعماله كمشبك شعر. الأقراط أيضاً يمكن تفكيكها.

طقم «إيكورس» مرصّع بالياقوت الأزرق والأوبال الأسترالي النادر (شوميه)

أما طقم «إيكورس» فيتألف من أربع قطع: قلادة من عدة مفاصل ومُزيّنة بالياقوت الأزرق والأوبال الأسترالي الذي يبلغ وزنه 50.61 قيراط. لا تكمن أهمية هذا النوع من الأوبال في حجمه فحسب بل في تدرجاته اللونيّة التي تجمع بين الأزرق والأخضر والأحمر، وهو ما يُعد نادراً. نفس الحجر رصَّع الخاتم وأقراط الأذن. طقم «بوبلييه» لا يقل إبداعاً وفخامة، لا سيما أنه يشهد على براعة «شوميه» في صياغة الذهب وترصيعه بأحجار الماس بقطع الماركيز مستحضراً مشهد الشمس وهي تخترق الشجيرات فيما يأتي الذهب الأبيض ليحدّد الأفق بخطوط على شكل أوردة متلألئة ومرصوفة بالماس. يتوّج هذه القطعة الاستثنائيّة حجر ماسّي باللون الأصفر.

طقم «فوجير» يجسّد قوة الدار في إضفاء الواقعية على أي تصميم (شوميه)

الفصل الثاني من هذه الملحمة الطبيعية جاء على شكل لوحة مستوحاة من حقول القمح بلونها الذهبي وصفوف الكروم التي تنتظر الحصاد، وهو ما يجسده طقم «بلي» أي القمح، الذي يتكون من خمس قطع. وتشير الدار باعتزاز إلى أنها كانت من أولى دور المجوهرات التي أدخلت أشكال سنابل القمح في تيجانها. منها تاج للإمبراطورة جوزفين وآخر للإمبراطورة ماري - لويز مرصَّع بمائة وخمسين سنبلة من الماس للإمبراطورة ماري - لويز. فالاثنتان كانتا تتفاءلان بالقمح.

من إرث الدار قُدمت نسخ تجسِّد حقولاً من القمح الناضح تحت أشعة الشمس (شوميه)

من هذا التاريخ والإرث قدمت «شوميه» نسخة تجسِّد حقلاً في فترة نضج عندما يتشقّق القمح تحت أشعة الشمس انتظاراً لحصاده. يمكن ارتداء القلادة أيضاً بثلاثة أساليب مختلفة، فقد تتحول إلى هيكل تاج بشكل حرف V مرصّع بالماس أو كعصابة للرأس تزيّنها مجموعة من سنابل القمح ترافقها أقراط وخاتم على شكل حزمة من القمح.

يعتمد طقم «فوي دو فينيو» على الياقوت الموزمبيقي ويجسد شكل كرمة قبل الحصاد (شوميه)

يتكوَن طقم «فوي دو فينيو» من أربع قطع تعتمد على الياقوت الموزمبيقي. فيه تمّ تجسيد كرمة مكتنزة بالجمال والحداثة. جسدت هذه الصورة باستعمال أحجار الياقوت متعدّد الأوجه، والتي ظهرت على قلادة تُرصِعها ثلاثمائة حجرة بأحجام مختلفة وأبعاد ثلاثية. نفس التقنيات أُدخلت على الخاتم وأقراط الأذن اللذين تأكدت فيهما واقعّية الأغصان والأوراق بفضل دمج الذهب الأبيض والماس بالإسبنيل الأسود والإسبنيل الرمادي، والياقوت الأحمر، فيما تبدو فتحات على ظهر الأوراق مخرَّمة لكي تحاكي الدانتيل.

من وحي الطبيعة بورودها وأشجارها وسنابلها وُلدت حديقة غنّاء (شوميه)

في الفصل الثالث كانت اللوحة مبنية على باقة مكونة من أزهار البانسي والتوليب والسوسن والآروم. طقم «بانسي» الذي يتألف من 12 قطعة، مثلاً، تعود قصته كما تقول الدار إلى عام 1850 مع أول تاج زهرة البانسي ابتكره جان - بابتيست فوسان. أدهش الكل بواقعيته. لهذا عندما قررت «شوميه» إعادة تقديم هذا التصميم، اعتمدت أسلوباً شاعريّاً عصرياً بتقنيات دقيقة أعطت الانطباع بوجود شبكة مرنة تشبه الحرير تكشف عن عملية تفتح قلادة على شكل زهرة بانسي. غنيٌّ عن القول: إن التاج قابل للتحول إلى بروش، وهو ما أرادته الدار أن يكون لفتة للتاج الذي ابتكره فوسان منذ زمن بعيد، والذي يمكن هنا ارتداؤه بطريقتين حسبما تُمليه المناسبة: التاج المزيّن بزهرته مناسب لحضور حفل رسمي ومن دونها لإطلالة بسيطة غير رسميّة. الخواتم وأقراط الأذن أيضاً خضعت لنفس العملية واستُعمل فيها ماس باللون الأصفر.

في طقم «أيريس» تحتفل قطعه الأربع بزهرة السوسن باستعمال حجر إسبنيل تنزانيّ باللون الوردي (شوميه)

في طقم «أيريس» تحتفل قطعه الأربع بزهرة السوسن برقّتها وحجمها. استُعمل فيها حجر إسبنيل تنزانيّ باللون الوردي زيّن عقداً قابلاً للتحويل وبصورة تحاكي لوحة مائيّة. تظهر زهرة السوسن أيضاً على ساعة سرية وخاتم غير متماثل يزيّنه حجر إسبنيل وردي يبلغ وزنه 8.14 قيراط.

لا تكتمل هذه الباقة من دون طقم «توليب» الذي يتكوّن من سبع قطع. عقده يُشبه شريطاً من الماس تتألق فيه أحجار الإسبنيل الأحمر مع العقيق البرتقالي على شكل أوراق متفتحة واكتمل جماله في خاتم يستحضر زهرة تنمو في تركيا تحمل اسم «تولباند» تيمناً بالعمامة.

طقم «آروم» يتألف من 4 قطع متحولة منها بروش يمكن أن يُزيِن طيّة سترة رجّالية (شوميه)

طقم «آروم» يتألف من أربع قطع تغلب عليها لمسة ذهبيّة تُسلط الضوء على اهتمام «شوميه» بفن الخط نظراً لانسيابيتها وانحناءاتها. هي الأخرى تقوم فيها القطعة بوظائف متنوعة. يمكن مثلاً للرجل أن يستعمل جزءاً منها كبروش لتزيين طيّة سترته، فيما يمكن للمرأة تحويل العقد إلى تاج على شكل حرف V.

طقم «أغابانت» يتكون من 5 قطع وهو احتفال بالطبيعة الأفريقية وخطوطها الهندسية (شوميه)

في الفصل الرابع والأخير، هناك دعوة صريحة لاستكشاف عوالم بعيدة. باقات بألوان وأشكال منتقاة من مختلف أنحاء العالم تجتمع فيها أزهار الآغابانت والمغنوليا والأقحوان لتخلق تناغماً مثيراً. طقم آغابانت المكون من خمس قطع مثلاً، هو احتفال بالطبيعة الأفريقية وخطوطها الهندسية، من العُقد المرصّع بالياقوت السيلاني إلى الخواتم وأقراط الأذن.

طقم «مغنوليا» يتميز بالابتكار واحترام تاريخ الدار (شوميه)

أما طقم «كريزانتيم» فيتألف من خمس قطع تمثّل اتحاد الثقافات بين منشأها في كوريا منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد مروراً بالحدائق الفارسيّة وزهرة اليابان الرسمية. بينما يتكوّن طقم «مغنوليا» من ثلاث قطع من الذهب والماس ترتكز على ذكريات من الماضي تُرجمت في تصاميم جديدة تحترم تاريخ الدار، من خلال عقد لا يعادل حجمه سوى سهولة ارتدائه رغم شكله الذي تلتفّ فيه خطوط الذهب الأصفر بشكل حلزوني. الأقحوان كان حاضراً من خلال عقد ببتلات تبدو فيه كأنها منحوتة بالعقيق الوردي، بينما استُعمل الماس لتسليط الضوء على رؤوس الزهور وحجر الياقوت السيلاني ليلقي بظلاله الزرقاء على أوراقها. تظهر بتلات الزهرة على خاتمين يتزيّن الأول بحجر من الياقوت الأزرق يبلغ وزنه 12.17 قيراط، أما الآخر فهو من الياقوت الأصفر الذهبي الذي يميل إلى البرتقالي ويزن أكثر من 15 قيراطاً. يتكرّر عدم التماثل اللوني هذا على الأقراط وعلى ساعة سريّة.


مقالات ذات صلة

لقاء الموضة بالنفوذ والصورة

لمسات الموضة الهوت كوتور... من العصر المذهب إلى عُرس القرن

لقاء الموضة بالنفوذ والصورة

مقولة منسوبة لرجل الأعمال الأميركي جي. بول غيتي مفادها أن «المال هو القوة الحقيقية في هذا العالم، ولا شيء يتحرك من دونه» تُلخص حال الموضة بشكل أو بآخر

جميلة حلفيشي (لندن)
يوميات الشرق مما سُرِق (مكتب التحقيقات الفيدرالي)

أكبر سرقة للمجوهرات في أميركا: 100 مليون دولار خلال ليلة واحدة

وُجِّه الاتهام إلى 7 رجال من ولاية كاليفورنيا، في إطار ما وُصفت بأنها «أكبر عملية سطو على مجوهرات في تاريخ الولايات المتحدة»، إليكم التفاصيل...

«الشرق الأوسط» (كاليفورنيا)
لمسات الموضة زادت أناقة النجوم ومعها جرأتهم (أ.ف.ب)

النجوم يستعينون بالمجوهرات الثمينة لمزيد من البريق

إلى عهد قريب كانت إطلالات النجوم على السجادة الحمراء متكررة وتفتقد إلى أي خيال إبداعي مقارنة بإطلالات النجمات. كانت دائماً عبارة عن بدلة سوداء مع قميص أبيض،…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة تعد المجوهرات سلاحاً سياسياً ناعماً ومؤثراً (خاص)

بروش ورقة القيقب الكندي... دلالات ثقافية وسياسية تنتقل عبر الأجيال

يُجسّد البروش الولاء الرمزي والارتباط العاطفي بين التاج البريطاني وكندا، ويُستخدم لإبراز الحس الدبلوماسي والاحترام العميق لثقافة الشعوب ضمن دول الكومنولث.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة كان حجمه مناسباً ومتناسقاً مع كثافة شعرها (خاص)

تمساح ماسي يجمع المصممة بيبي فان دير فلدن والنجمة بيونسيه

كانت مصممة المجوهرات الهولندية الأصل، بيبي فان دير فلدن، في قمة السعادة، وهي تكشف عن قرط «Queen B» الماسي الذي تألقت به بيونسيه في جولتها «Cowboy Carter».

«الشرق الأوسط» (لندن)

أسبوع الموضة الرجالية لربيع وصيف 2026 في مواجهة التغيير

من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)
من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)
TT

أسبوع الموضة الرجالية لربيع وصيف 2026 في مواجهة التغيير

من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)
من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)

الأضواء مسلطة هذا الأسبوع على عروض الـ«هوت كوتور» في باريس. الكل ينتظر أول تشكيلة يقدمها ماثيو بلايزي لدار «شانيل»، والأولى لجوناثان سوندرز لـ«ديور» وبدايات أخرى تزيد من عنصر التشويق والإثارة. لكن ماذا عن عروض الأزياء الرجالية لربيع وصيف 2026. شهدتها كل من ميلانو وباريس منذ أسابيع قليل، ومرت مروراً خافتاً يعكس حجم التغيرات التي تشهدها ساحة الموضة في الوقت الراهن. بيد أنه من الصعب القول إنها خلت تماماً من الإثارة والجديد، حتى وإن لعب هذا الجديد على القديم والمضمون. يشفع له في ميلانو تركيزه على الحرفية الإيطالية وتقاليدها، إلى جانب تطوير الأقمشة وغزلها بأساليب غير مسبوقة. أما في باريس، فكان اللعب على الإبهار والمبتكر بفضل إمكاناته الضخمة.

ميلانو... حضور الغياب

في ميلانو بدا الأسبوع وكأنه يختصر حكاية القطاع كله. تقلصت مدة فعالياته إلى ثلاثة أيام فقط، في ظل غياب أسماء كبيرة مثل «زينيا» التي اختارت تقديم تشكيلتها في دبي منتصف يونيو (حزيران) الماضي في بادرة غير مسبوقة. قالت إنها لأسباب استراتيجية وثقافية ترتبط بإرثها.

ثم جاء غياب السيد جيورجيو أرماني. لم يحضر لتحية ضيوفه كعادته في عرضيه: «جيورجيو أرماني» و«أمبوريو أرماني». السبب «وعكة صحية لا يزال يتعافى منها في بيته» وفق بيان صدر عن داره. غني عن القول أن هذا الغياب أثار موجة من القلق حول مصيره رغم أن الدار حاولت التخفيف من وقع الخبر وطمأنة محبيه بأن وعكته لم تمنعه من العمل «هو من أشرف وعمل بتفانٍ على المجموعات التي عُرضت، ويتابع من كثب كل مرحلة من مراحل العروض»، وفق ما أفاد البيان.

هذا الغياب أعاد إلى الواجهة سؤالاً يدور في أوساط الموضة منذ سنوات حول من سيخلفه؛ إذ إنه رغم سنواته الـ90 لم يعين خليفة له بعد، وكان حتى الأمس القريب يُصرّ على لقاء ضيوفه وتحيتهم بعد كل عرض رغم آثار السن والمرض البادية على وجهه وخطواته. أعاد أيضاً إلى الواجهة أهمية دعم مصممين شباب وإفساح المجال لهم لضخ الأسبوع بدماء جديدة.

بين الحنين والحداثة

من عرض «زينيا» لربيع وصيف 2026 في دبي (زينيا)

رغم كل هذا، لم يفتقد الأسبوع حيويته فيما يخص الأزياء، أبرزها الحرص على مفهوم «صنع في إيطاليا». ركزت معظم البيوت والمصممين على طرح قطع عملية بتفصيل مدروس، وألوان حيادية، كان الهدف منها ربط القطع ببعضها؛ الأمر الذي منح الرجل إطلالة موحدة بسيطة وأنيقة. والأهم من هذا منحته راحة وانتعاش مستمدين من الخامات والأقمشة.

وهذا تحديداً ما جسدته تشكيلة «زينيا» لربيع وصيف 2026. عُرضت في دبي لأول مرة خارج حدودها المعتادة، لكنها تنبض بالهوية الإيطالية. كانت أقمشتها المتطورة الأداة التي استعملها مصمم الدار أليساندرو سارتوري لاستعراض قدراته الفنية. لم ينس أن يذكرنا بأن قوة الدار تكمن في هذه الصناعة، أي الأقمشة. اللافت فيها هذه المرة أنها خرجت عن السيناريو الكلاسيكي الذي تعوَدناه: أن تكون منمقة ومحبوكة بعناية شديدة.

من عرض «زينيا» لربيع وصيف 2026 في دبي (زينيا)

يشرح سارتوري أنها خضعت لتقنيات حديثة جعلتها تبدو مكرمشة عن سابق إصرار وتعمد لتكتسب روحاً منطلقة تبدو وكأن صاحبها نسقها بلامبالاة. فالجلود الطبيعية مثلاً خضعت في معامل الدار لمعالجة رائدة جعلتها قابلة للغسل. لم يختلف الأمر في التصاميم والقصات، حيث جاءت أكتافها متحررة تنسدل عنه وتبتعد عن المستوى التقليدي في تمرد صارخ عليه، وجيوب واسعة واضحة للعيان، وسترات بخطوط مربعة ومرنة. فكك سارتوري معظمها ليخفف من وزنها بعد استغنائه فيها عن التبطين. قدم مثلاً بدلة من الحرير لا يتجاوز وزنها 300 غرام.

أرماني... الغائب الحاضر

من اقتراحات جيورجيو أرماني في أسبوع ميلانو لربيع وصيف 2026 (جيورجيو أرماني)

في عرض جيورجيو أرماني غاب بجسده، لكن بصماته كانت حاضرة بقوة. تتجلى في سترات بصدر مزدوج وياقات مفتوحة، وسراويل واسعة ذات طيّات بشكل دمعة، تنحسر عند الكاحل أو تنسدل على نيات عريضة.

كل شيء فيها يتهادى بانسيابيةٍ على الجسد دون أي قيود، حتى المعاطف المصنوعة من الجلد اكتسبت خفة. هذه الإطلالات رسمها المايسترو بألوان استوحيت من أجواء الصحراء أو البحار. الطريف أن حتى طريقة العرض تؤكد حضور المصمم الغائب، من خلال إرسال ثنائيات، شاركت فيها المرأة أحياناً وكأن المصمم يقول إن هذه التصاميم لا تعترف بجنس ولا زمان.

«برادا» و«تودز»... بين الجديد والقديم

هذه التصاميم التي تتوجه إلى رجل معاصر وعملي في الوقت ذاته شملت بيوت أزياء أخرى مثل «برادا». رغم ما تمر به من تغييرات وتعاني منه من إقالات واستقالات لم تفقد بوصلة توازنها. بعد استقالة رئيسها التنفيذي السابق جانفرانكو داتيس بسبب «خلافات بشأن أمور استراتيجية» وفق تصريح له، تم تكليف رئيس مؤقت مكانه.

من عرض «برادا»... أزياء بسيطة بلمسات معاصرة (رويترز)

لكن لا شيء فيما قدمته ميوتشا برادا وشريكها في الإبداع راف سيمونز كان مؤقتاً، باستثناء بعض التفاصيل البسيطة مثل القبعات والجوارب التي كان دورها الإثارة أولاً وأخيراً. أطلقت الدار على العرض شعار «تغيير النغمة»، ليتضح أن النغمة التي اعتمدتها، بسيطة ووظيفية إلى حد كبير، أعادت فيها ميوتشا وراف سيمونز صياغة المفهوم التقليدي للأزياء الرجالية بأسلوب «سبور» وأكثر شبابية. قمصان بيضاء وشورتات عالية الخصر، وبدلات رياضية بسترات بأكمام مثنية، ومعاطف تعطي الانطباع أنها صُممت بعفوية. مثل باقي بيوت الأزياء ظلت الألوان متنوعة، تتراوح بين الرمادي والكحلي مع ومضات صيفية مثل الأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر والبنفسجي. لكن الجرأة الحقيقية ظهرت في الإكسسوارات، مثل القبعات المصنوعة من الرافيا، والأحذية التي تم تنسيقها مع جوارب طويلة.

احتفلت «تودز» بحرفيتها وأيقونتها: حذاء الغومينو (تودز)

أما دار «تودز» فاختارت أن تلعب على ورقة مضمونة أكدت لها عبر العقود أنها رابحة: الـ«غومينو»، الحذاء الأيقوني الذي صار رمزاً للصيف والأسلوب الإيطالي المترف على حد سواء. أطلقت الدار على عرضها عنوان «نادي الغومينو» (Gommino Club)... استوحى ماتيو تامبوريني المدير الإبداعي، منه تشكيلة بخامات متنوعة، وتصاميم تواقة للحياة والهواء الطلق، ميَزتها خطوط ناعمة تنساب على الجسم بحرية، على شكل سترات غير مبطنة، وسراويل واسعة وقمصان خفيفة. الجلد كان حاضراً. لم يعد يقتصر على الخريف والشتاء بعد أن تم ترويضه ليصبح بخفة الحرير وملمسه.

ابتكرت الدار بحكم خبرتها الطويلة فيها، نوعاً أطلقت عليه اسم «باشمي» (Pashmy)، خضع لعلاجات وتقنيات عدة ليصبح مرناً يمكن تشكيله بسهولة في قطع منسابة. استعمله المصمم تامبوريني في قطع كلاسيكية منها سترة الـ«bomber»، وبلايزر غير المبطن، وسترات أخرى بتصاميم متنوعة.

باريس... تفتل عضلاتها وإمكاناتها

في باريس كانت النغمة مختلفة. أكثر صخباً وبذخاً بالمقارنة، وليس أدل على هذا من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون». لم يحمل جديداً بالمعنى الثوري على صعيد أزياء كانت سمتها الأبرز التنوع لكي تخاطب شرائح كبيرة وتحقق النجاح التجاري، إلى جانب شورتات واسعة وسراويل واسعة يعرف أنها مطلب الشباب. ما افتقدته التصاميم من إثارة عوَّض عنها بما يتقنه أكثر: الموسيقى من خلال جوقة سيمفونية أشعلت الحماس وأشاعت أجواء مفعمة بالطاقة.

من عرض أنتوني فاكاريللو لدار «سان لوران» (إ.ب.أ)

لكن إذا كانت ميلانو قد افتقدت «زينيا»، أحد أهم أعمدتها الرئيسية، فإن باريس كسبت عودة دار «سان لوران» إلى البرنامج الرسمي للموسم الرجالي بعد انقطاعها عنه في يناير (كانون الثاني) 2023. كانت عودة سعيدة أكد فيها المصمم أنطوني فاكاريلو، مدى شغفه بمصمم الدار الراحل إيف سان لوران. في تشكيلاته الأخيرة، لم تغب صورة الراحل. لا من خلال الألوان أو القصات أو حتى الإكسسوارات، بما فيها نظارته ذات الإطار الأسود السميك. هذه المرة أيضاً استلهم منه إطلالاته في سبعينات القرن الماضي، من شورتات قصيرة وبدلات سافاري وغيرها. لكن الدار حرصت على شرح أن إيف الشاب «مجرد ذكرى» لا تزال حية «في عام 1974 انسحب من الضجيج وفي عام 2026 ما زال أثره حياً؛ لأنها ليست تحية. ليست ذكرى... إنها الاستمرارية». يقول المصمم إنه استوحاها من «زمان شكَّلت فيه الرغبة أسلوباً، والجمال درعاً حصيناً»، وبالتالي أرادها أن «تستكشف ذلك الإحساس الخفي ولحظة ضعف يحتاج فيها الإنسان إلى التأنق ليكشف عن هويته ويخفيها في الوقت ذاته».

من هذا المنظور نسَّق فاكاريللو الشورتات مع قمصان بأكمام طويلة، وسترات سمتها الخفة والبساطة، ضيّقة عند الخصر وعريضة عند الأكتاف، مع استخدام أقمشة خفيفة مثل الحرير والنايلون بألوان تهمس برقي هادئ.

من عرض جوناثان أندرسون لدار «ديور» (أ.ف.ب)

عرض «ديور» لربيع وصيف 2026 كان من بين الأكثر ترقباً. ولم يخيب الآمال، حيث قدم فيه جوناثان أندرسون لـ«ديور» تشكيلة توجه فيها نحو مستقبل جديد. التقط خيوطاً خفيفة من الأرشيف نسجها في تصاميم شبابية تعكس روح العصر. بدا واضحاً أنها كانت برؤيته وبصماته، إلا أنها لم تتجاهل رموز الدار تماماً.

ما تجدر الإشارة إليه أن جوناثان أندرسون، عُيِن في أوائل يونيو (حزيران) خلفاً لماريا غراتسيا كيوري في دار «ديور» بعد أسابيع قليلة من انضمامه إلى الدار بوصفه مصمماً رجالياً خلفاً للبريطاني كيم جونز. وبذلك، أصبح أول مصمم أزياء يشرف على خطوط الأزياء النسائية والرجالية على حد سواء منذ كريستيان ديور.