10 سنوات من حُكم الملك سلمان تصعد بالسعودية إلى قمة العالم

خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)
TT

10 سنوات من حُكم الملك سلمان تصعد بالسعودية إلى قمة العالم

خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

«منّي عليكم يا هل العوجا سلام». يتكرر هذا المقطع من قصيدة سعودية واسعة الانتشار أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أنها قيلت بعد معركة البكيرية التي خاضها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن قبل أكثر من قرن.

في عام 1436ه، وفي الشهر ذاته من تلك المعركة، تولى الملك سلمان مقاليد الحكم في السعودية، وما زال لتلك الأبيات وقعها وما زال السعوديون، يتداولون باستمرار تلك الصور والفيديوهات التي تظهر تأثر مليكهم بمعانيها وتاريخها، وجادل الكثير من المؤرّخين بأن الملك سلمان أحد المراجع التاريخية الأكثر رصانة في سرد تاريخ البلاد منذ تأسيسها قبل 3 قرون وحتى مرور 10 سنوات من حكمه لها.

ضمان المستقبل باختيار ولي عهد شاب

بعد أيام من احتفاء السعوديين باليوم الوطني الـ94 لبلادهم، تحلّ اليوم ذكرى وطنية خاصة تتمثل بالذكرى العاشرة لتولّي الملك سلمان مقاليد الحكم في البلاد، في فترةٍ مفصلية بتاريخها، قاد خلالها مؤسسة الحكم السعودية للانتقال من جيل أبناء المؤسس إلى جيل أحفاده.

بدأت البلاد بذلك دورة حياة جديدة انطلقت معها نهضة اقتصادية واجتماعية ورافقها ثقل سياسي، وإعادة إحياء للمكتسبات ومكامن القوة التاريخية، وأصبح عنوان المرحلة «الابتكار والتمكين والنهضة الاقتصادية والاجتماعية» بعد أكثر من 55 عاماً قضاها الملك سلمان حاكماً للعاصمة الرياض، في مدة من أطول فترات الخدمة لحاكم محلي قبل أن يتولى ولاية العهد ووزارة الدفاع في 2012 ثم الحكم في العام 2015.

دبلوماسية فعّالة بـ160 زيارة و29 قمة

نظراً للدورين الإقليمي والدولي اللذين أثبتت الرياض قدرتها على قيادتهما خلال حكم الملك سلمان، حيث ركّزت السعودية على التعاون متعدد الأطراف فأسّست مع عدد من الدول عدداً من التحالفات لأول مرة، مثل التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب، ويضم في عضويته 42 دولة، بالإضافة إلى تحالف دعم الشرعية في اليمن، كما أصبحت السعودية وجهة لكثير من زعماء العالم للتنسيق والتشاور وتعزيز التعاون نظير الدور المتصاعد للبلاد على المسرحين الإقليمي والدولي.

الملك سلمان بن عبد العزيز لدى زيارته أندونيسيا ولقاء رئيسها جوكو ويدودو في أبريل 2019 (واس)

وإلى جانب الزعماء وقادة الدول الذين استقبلهم الملك سلمان خلال القمم والمناسبات الكبرى التي استضافتها البلاد، أو على هامش الفعاليات الدولية الكبرى، فقد استقبل الملك سلمان منذ توليه الحكم ما يزيد على 160 زيارة من قادة الدول والحكومات، في رقم قياسي أظهر أهميّة السعودية وثقلها خلال المرحلة التي تولى فيها الحكم والسياسات التي تنتهجها البلاد تجاه المنطقة، كما احتضنت السعودية منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، أكثر من 29 قمة تعدّدت ظروفها ما بين قمم اعتيادية ولقاءات تشاورية، وطارئة، توزّعت في أربع مدن ومحافظات (الرياض، جدة، مكة المكرمة، الظهران، العُلا).

كما أجرى الملك سلمان أكثر من جولة خارجية في زيارات رسمية أو تمثيل بلاده في مناسبات دولية أو إجازات خاصة، وشملت في البداية الولايات المتحدة ثم دول مجلس التعاون الخليجي، كما زار عدداً من الدول الآسيوية في جولة شملت ماليزيا، وإندونيسيا، وبروناي، واليابان، والصين، والمالديف، بالإضافة إلى الأردن، ومصر، وتركيا، وروسيا، والصين والمغرب.

وشهدت السياسة الخارجية السعودية حراكاً دبلوماسياً متصاعداً خلال السنوات الماضية من عهد الملك سلمان؛ إذ أخذت السعودية على عاتقها حماية أمنها القومي الذي كان يواجه تهديداً بالغ التعقيد آنذاك في ضوء التحركات الإيرانية التي أكّد عليها آنذاك رئيس الوزراء الإسرائيلي بالقول إن إيران تسيطر على أربع عواصم عربية، وبرّر مسؤول إيراني ذلك بأنه دليل تنامي نفوذ بلاده في المنطقة.

خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لدى استقباله الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني وأعضاء المجلس في جدة خلال شهر مايو 2022 (واس)

وأعلنت السعودية تأسيس تحالف دعم الشرعية في اليمن بقيادة السعودية لمواجهة انقلاب الحوثيين على الحكومة اليمنية في مطلع عهد الملك سلمان، ونجحت في حماية حدود البلاد الجنوبية ودعم الشرعية اليمنية في مسعاها لمنع الحوثيين من السيطرة على كامل الأراضي اليمنية.

وفي يوليو (تموز) 2017، أعلن الديوان الملكي السعودي أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أجرى خلال الأيام الماضية الاتصالات اللازمة بالكثير من زعماء العالم، بمن فيهم الرئيس الأميركي (آنذاك) دونالد ترمب، لبذل مساعيهم لعدم إغلاق المسجد الأقصى في وجه المسلمين، وعدم منعهم من أداء فرائضهم وصلواتهم فيه، وتكلّلت هذه الجهود بالنجاح وأعلنت الشرطة الإسرائيلية حينها إزالة كل الإجراءات الأمنية التي استحدثتها في الحرم القدسي، وأوضح لـ«الشرق الأوسط» باسم الآغا، سفير فلسطين في الرياض، أن «تواصل وتحركات الملك سلمان بن عبد العزيز وتضحيات أبناء الشعب الفلسطيني ودعم مخلصي الأمة، أفشل المخطط الصهيوني، وهو ما سيقود لانتصارات قادمة»، على حد تعبيره.

وفي سبتمبر (أيلول) 2018، رعى الملك سلمان اتفاق إنهاء الصراع بين إثيوبيا وإريتريا وتوقيع مصالحة بينهما في قمة ثلاثية بمحافظة جدة، غرب السعودية، بعد نزاع دموي استمر لأكثر من عقدين.

وخليجيّاً، أجرى الملك سلمان جولة خليجية شملت الإمارات، وقطر، والبحرين والكويت، في ديسمبر (كانون الأول) 2016، لقيت الترحيب والإشادة وانعكست على العلاقات الخليجية – الخليجية وفقاً لمراقبين فيما بعد، أحرزت رؤية خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، لتعزيز وتفعيل العمل الخليجي المشترك، التي أقرّها المجلس الأعلى في دورته الـ36 عام 2015، تقدّماً في تنفيذها وفقاً لبيان القمة الخليجية الماضية.

وأعاد «بيان العُلا» الخليجي في مطلع عام 2021، العمل الخليجي المشترك إلى مساره الطبيعي، والحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، مؤكداً على وحدة الصف والتماسك بين دول المجلس والحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، لتعود بذلك العلاقات الكاملة بين السعودية ومصر والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى بعد قطعها في يونيو (حزيران) 2017.

«لا مكان للتطرف والانحلال»

ومع الصعود الذي بدأت تشهده البلاد على أكثر من صعيد بعد أشهر من تولي الملك سلمان الحكم، وضع الملك النقاط على الحروف وأكّد في كلمة تاريخية أمام مجلس الشورى عام 2017 أنه «لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالاً ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحلٍّ يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال»، ووضعت هذه الكلمة التاريخية الأنظمة والتشريعات في السعودية على أبواب التطوير لتتوافق مع ما ينتظر البلاد من مستقبل اقتصادي تعيشه اليوم، وانفتاح على العالم ومختلف الثقافات.

تعزيز الهويّة الوطنية

وسعت السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى تعزيز الهوية الوطنية بزخم غير مسبوق، في ضوء برامج تعزيز الثقافة والتراث وتمكين «وزارة الثقافة»، فضلاً عن البرامج والمشروعات الاقتصادية ذات البعد الذي يعزّز الهوية التاريخية، على غرار منطقتي العُلا شمال البلاد، والدرعية العاصمة الأولى للدولة السعودية، وأصبحت الهوية السعودية في أفضل أحوالها اليوم وفقاً لمراقبين محلّيين ودوليّين للشأن السعودي.

ويظهر ذلك المسعى في معرض إجابة ولي العهد عن سؤال حول مشروع «الصحوة» الذي كان سائداً: «استطعنا خلال سنة واحدة أن نقضي على مشروع آيديولوجي صُنع على مدى 40 عاماً، وسنعود بالسعودية إلى الإسلام المعتدل». وأضاف في تصريحٍ آخر، أن «الهويّة السعودية قويّة وتزداد قوة وتطوراً بالانفتاح، وإن أصحاب الهوية الضعيفة هم من يقلقهم الانفتاح على العالم».

تقوية مركز الدولة

وصدر عدد من التشريعات في سبيل تعزيز مركز الدولة الذي بات وفقاً لمتابعين في حالةٍ أقوى بوضوح معالم رؤية البلاد عند إطلاق «رؤية 2030» آنذاك، لتتكامل فيها جهود هياكل الدولة، واستدل على ذلك ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، خلال مقابلة تلفزيونية في أواخر أبريل (نيسان) من عام 2021، قائلاً: «بسبب ضعف مركز الدولة، وعدم وجود سياسة عامة، لم تتمكّن وزارة الإسكان من أن تحول مبلغ 250 مليار ريال رُصدت لها في 2011 و2015 إلى مشروعات على الأرض». واستطرد: «لا يستطيع وزير الإسكان النجاح دون أن تكون هناك سياسة عامة للدولة بالتنسيق مع البلديات، والبنك المركزي، والمالية، وسن التشريعات والقطاع الخاص إلى آخره، فمثلاً الـ250 ملياراً أُعيدت للخزينة وصرفت ميزانية سنوية؛ لكن كانت نتائج ذلك ارتفاع نسبة الإسكان من 47 في المائة إلى 60 في المائة في 4 أعوام فقط، وهذا يشير إلى أين نحن متجهون».

كما توجهت السعودية خلال السنوات العشر الماضية من حكم الملك سلمان إلى إطلاق عشرات البرامج والاستراتيجيات الوطنية، لإعادة هيكلة وتنظيم القطاعات الحيوية في البلاد، والقطاعات الجديدة والمستحدثة، بما ينعكس على أداء تلك المنظومات، على غرار «الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجيستية، واستراتيجية قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، والاستراتيجية الوطنية للاستثمار، والاستراتيجية الوطنية للسياحة»، فضلاً عن استراتيجيات المناطق وتأسيس هيئات التطوير التي من شأنها استحداث الفرص الاستثمارية والتنموية، وتعزيز الجهود لدعم اقتصاد المدن، بالإضافة إلى إنشاء وزارات جديدة تُعنى بتعزيز إمكانات البلاد في قطاعات غير معزّزة في السابق مثل «وزارة الصناعة» علاوةً على تنظيم وترتيب مهام الكثير من الوزارات الأخرى.

تحقيق 87 % من أهداف «رؤية 2030»

وبجانب التغيّرات التي طرأت على كل ما يرتبط بالبلاد داخليّاً وخارجيّاً، اتّسم الاقتصاد السعودي مع تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، بمستهدفات جريئة مثل (تنويع مصادر الدخل، وترشيد الاعتماد على النفط، وتحسين جودة الحياة) بما ينعكس على كل الجوانب الإنسانية، في ضوء المشروع التنموي للإصلاح الاقتصادي والانفتاح الاجتماعي «رؤية السعودية 2030» التي وافق عليها مجلس الوزراء برئاسة الملك سلمان في أبريل (نيسان) عام 2016، وأوشكت على أن تكمل 87 في المائة من أهدافها بعد 8 سنوات من إطلاقها، وفقاً لوزير الاستثمار السعودي خالد الفالح، رغماً عن الطوارئ الاقتصادية والسياسية التي عصفت بالعالم في أكثر من مكان، وأهمها جائحة «كوفيد - 19».

عقد من الزمن يُضاعف حجم الناتج المحلي

وفي برهان على نجاح الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة السعودية خلال السنوات الـ10 الماضية من حكم الملك سلمان، قفز الناتج المحلي الإجمالي وفقاً للهيئة العامة للإحصاء من 2.4 تريليون ريال (654 مليار دولار) في العام الأول لحكم الملك سلمان إلى نحو 4 تريليونات ريال سعودي (أكثر من تريليون دولار) في العام الماضي 2023، بينما زاد حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى أكثر من 17.6 مليار دولار في 2022، وهو الأعلى منذ عقد؛ ما يكشف ثقة المستثمرين العالميين في الاقتصاد السعودي.

ولتدعيم التوجّه نحو تنويع مصادر الدخل الوطني، عمل «صندوق الاستثمارات العامة»، على تنفيذ توجيهات خادم الحرمين الشريفين، بتأسيس منظومات وقطاعات جديدة باسم «المشروعات الكبرى»، وهي تعتمد على التقنية والمعرفة وتعزز من استخدامها في السعودية، وتُسهم في اكتساب الهوية السعودية والإرث المحلي التاريخي زخماً غير مسبوق، وتوسّع دور الصندوق ليصبح أحد أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، حيث استثمر في الكثير من المشاريع المحلية والعالمية وبات لدى السعودية خمسة مشاريع كبرى.

وإضافة إلى النهضة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، ساهمت المشروعات الكبرى في جعل السعودية في مقدّمة الدول الجاذبة للاستثمارات والسياح؛ ونتيجةً لذلك فازت البلاد خلال السنوات العشر الماضية بتنظيم واستضافة مناسبات دولية كبرى مثل «إكسبو 2030» و«كأس العالم 2034» و«كأس العالم للأندية» و«كأس آسيا لكرة القدم 2027» و«دورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029» في تروجينا بنيوم وغيرها من المناسبات الكبرى، كما استضافت الكثير من القمم والمؤتمرات والمنتديات التي لم تستضفها بهذا القدر من قبل في مجالات الاقتصاد والتنمية والبيئة والطاقة والذكاء الاصطناعي مثل الاجتماع الخاص الأول من نوعه للمنتدى الاقتصادي العالمي، ومنتدى مبادرة مستقبل الاستثمار.

كما حققت الرياضة السعودية نهضة غير مسبوقة، خصوصاً على صعيد كرة القدم، مع استقطاب «دوري روشن السعودي» عدداً من كبار النجوم العالميين من لاعبين ومدربين، ضمن مشروع رياضي ساهم في جذب الأنظار إلى السعودية والقطاع الرياضي فيها.

مكافحة الفساد

ودخلت البلاد منذ انطلاق «رؤية 2030» التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بإشراف من خادم الحرمين الشريفين، في ورشة عمل تنموية وبرامج إصلاح اقتصادي جذرية، كان في مقدّمتها فعلياً خطط مكافحة الفساد المالي والإداري، ومكافحة الهدر المالي في أروقة الحكومة على أعلى مستوى.

ولأجل ذلك؛ أصدر الملك سلمان في نوفمبر 2017، أمراً ملكياً بتشكيل «اللجنة العليا لمكافحة الفساد» برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهي أول لجنة عليا لمكافحة الفساد في السعودية، وجعل للّجنة أن تقوم «استثناءً» من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات والأوامر والقرارات بحصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، وبالتحقيق وإصدار أوامر القبض والمنع من السفر، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام، مع رفع تقرير مفصّل إلى خادم الحرمين الشريفين عند إكمال اللجنة مهامها وما توصلت إليه.

وأنجزت اللجنة في أيامها الأولى إحدى أشهر قضايا مكافحة الفساد التاريخية فيما عُرف بـ«قضية الريتز» بعد احتجاز عدد من الموقوفين من أمراء ومسؤولين كبار وسابقين بتهم الفساد، أسفرت عن تسويات أوّلية تقدر بنحو 50 مليار ريال، وفقاً لمصدر سعودي تحدّث لـ«رويترز».

المرأة إلى جانب الرجل في التنمية... و6 سفيرات

وفضلاً عن إماطة ملف «قيادة المرأة للسيارة» عن طريق الإصلاح الداخلي، من خلال الأمر الملكي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، فقد توسّعت مساهمة المرأة في التنمية، وتبوّأت مناصب حكومية ودبلوماسية كبرى لأول مرة في البلاد، فأصبح لدى السعودية 6 سفيرات في دول مهمّة، وتضاعفت مشاركتها في سوق العمل، لتحقق السعودية أسرع نسبة نمو في مشاركة المرأة في العالم، فقد قفزت نسبة المنشآت التي تقودها النساء من 21.5 في المائة لعام 2016، لتبلغ 45 في المائة لعام 2022، من إجمالي الشركات الناشئة، وفقاً لإحصاءات رسمية.

الحوكمة ورقمنة الخدمات

وانتقلت الحكومة السعودية إلى تأسيس واقع جديد لتعاملاتها عبر مبدأين: الأول الحوكمة في مجالس إدارات القطاعات المستحدثة والبرامج الجديدة المنبثقة عن «رؤية 2030»، والآخر «الحكومة الرقمية» التي غيّرت من شكل التعاملات القديمة، وساهمت في التقليل من البيروقراطية التقليدية التي كانت سمة قديمة في القطاعين العام والخاص، وفقاً للمستخدمين.

ووافق مجلس الوزراء على إنشاء «هيئة الحكومة الرقمية» في مارس (آذار) عام 2021، في نقلة نوعية نحو تعزيز الأداء الرقمي داخل الجهات الحكومية، ورفع جودة الخدمات المقدمة، وتحسين تجربة العملاء مع الجهات الحكومية، وحققت البلاد تقدماً كبيراً في تبني الحكومة الإلكترونية، ليصل إجمالي إنفاق الحكومة على التحول الرقمي العام الماضي أكثر من 3 مليارات دولار، وفقاً لأرقام رسمية.

وفي سياق مواجهة جائحة كورونا، أحرزت السعودية نجاحاً في التحول الرقمي، حيث طوّرت تطبيق «توكلنا» الذي بات فيما بعد جزءاً أساسياً من الحياة اليومية للمواطنين والمقيمين، كما فعّلت منصات التعليم عن بعد لضمان استمرار العملية التعليمية لجميع المراحل الدراسية، واستفاد من هذه المنصة أكثر من 6 ملايين طالب، وفق وزارة التعليم.

«كورونا»... التزام داخلي وقيادة دولية

كانت جائحة كورونا (كوفيد - 19) إحدى أكبر الأزمات العابرة للقارّات والتي عانى منها العالم خلال القرن الحالي، كما كانت أحد أكبر التحديات التي واجهتها السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين، خصوصاً أنها كانت تترأس «مجموعة العشرين» حينها؛ ما يجعلها في موقف قيادة دولي بارز لمواجهة الجائحة، ودعا خادم الحرمين الشريفين إلى عقد جلسة طارئة لقادة دول مجموعة العشرين لمناقشة مبادرة السعودية لمساعدة الدول المتضررة من تداعيات جائحة كورونا (كوفيد - 19)، وتبنّى القادة المبادرة السعودية وعملوا على تنفيذها، وأكد المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية الدكتور عبد الله الربيعة، أن السعودية قدمت 713 مليون دولار خلال 2020، لدعم الدول لمواجهة جائحة كورونا (كوفيد - 19).

داخليّاً، أخذ الملك سلمان وحكومته زمام المبادرة، وفي كلمةٍ موجّهة للمواطنين والمقيمين في السعودية طمأن الجميع بثقة منقطعة النظير، قائلاً: «إن بلادكم مستمرة في اتخاذ كل الإجراءات الاحترازية لمواجهة هذه الجائحة، والحد من آثارها، مستعينةً بالله تعالى، ثم بما لديها من إمكانات، في طليعتها عزيمتكم القوية في مواجهة الشدائد بثبات المؤمنين العاملين بالأسباب». ووضعت هذه الكلمات الإطار العريض لكيفية مواجهة البلاد هذه الجائحة فيما بعد.

اتخذت السعودية الكثير من الإجراءات الفعالة وحققت إنجازات بارزة للحد من آثار الجائحة وضمان سلامة المواطنين والمقيمين على أراضيها، وكشف وزير الصحة السعودي، فهد الجلاجل، عن أن بلاده بقيادة الملك سلمان وفّرت العلاج للجميع دون استثناء للمواطنين والمقيمين بما فيهم مخالفو نظام الإقامة، وكذلك رفع الطاقة الاستيعابية لجميع الخدمات الصحية، في غرف العناية المركزة والمستشفيات، وتوفير كل الإمكانات اللازمة من الأدوية واللقاحات والمختبرات والأدوات والتجهيزات في وقت قياسي، وتسخير الأنظمة التقنية لمواجهة الجائحة.

وفي آخر مؤتمر صحافي دوري حول «كوفيد - 19»، كشف المتحدث باسم وزارة الصحة محمد العبد العالي، عن أن الإجراءات التي اتخذتها السعودية كانت عالية التأثير لحماية المجتمع بتضافر الجهود الحكومية وتغطية أكثر من 99 في المائة من المستهدفين بالتطعيم.

 

وكان من أبرز العوامل التي أسهمت في احتواء انتشار الفيروس استعداد السعودية المبكر، وقوة نظامها الصحي، حيث بلغ معدل الإصابة في السعودية 9 إصابات لكل 1000 نسمة، ووصل التوصل في إجراء الفحوص معدل 13 ألف فحص لكل 100 ألف نسمة، في حين وصل معدّل الإماتة بين المصابين إلـى 1 في المائة، بالمقارنة مع المعدل العالمي الذي بلغ 3.47 في المائة حتى نهاية أغسطس (آب) 2020.

واقتصاديّاً، أطلقت السعودية برامج دعم مالي للشركات الصغيرة والمتوسطة المتضررة من الجائحة، وشمل ذلك تخصيص ما يربو على 18 مليار دولار لمساعدة الشركات على تجاوز آثار الجائحة، وحزمة تحفيز اقتصادي بلغت 32 مليار دولار لدعم الاقتصاد خلال الجائحة، وتضمّن الدعم إعفاءات وتأجيلات للرسوم والضرائب، وأقرَّ البنك المركزي برنامجاً بـ13 مليار دولار، شمل تأجيل المستحقات لستة أشهر وتقديم التمويل الميسر للشركات الصغيرة والمتوسطة، إلى جانب الكثير من البرامج والمبادرات النوعية لمساعدة المجتمع على التعافي ومواجهة التأثيرات الاقتصادية والانعكاسات السلبية.

إلى جانب ذلك، نجحت السعودية في تأمين الحج والعمرة، فخلال موسم حج 2020، طبَّقت إجراءات وقائية صارمة، لتتمكّن البلاد من إدارة الحج بنجاح مع تقليل عدد الحجاج إلى 10000 فقط مقارنة بملايين الحجاج في السنوات السابقة، كما استخدمت التقنية وجميع الأدوات المتاحة لمساعدة الحجاج والمعتمرين على إتمام شعائرهم خلال تلك المرحلة.

إلى جانب ذلك، شرعت السعودية بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين في إجراءات تهدف إلى توطين إنتاج اللقاحات والتقنيات الطبية بالتعاون مع شركات عالمية؛ لتعزيز أمنها الصحي المستقبلي.

السياحة والترفيه

لم يكن قطاع الترفيه مفعّلاً في السعودية، وقد يكون ملغيّاً بالكامل من أجندة الحكومة في العقود السابقة، حتى مايو (أيار) 2016، حينما أمر خادم الحرمين الشريفين بإنشاء «هيئة عامة للترفيه» تختص بكل ما يتعلق بنشاط الترفيه، لتنطلق الهيئة في إحداث واقع جديد للسعوديين بتنويع مصادر ترفيههم وتستقطب الكثير من الزوار والسياح من مختلف مناطق العالم إلى الكثير من مناطق السعودية، حتى وصل عدد الزوار في الفعاليات والأنشطة الترفيهية خلال العام الماضي 2023 إلى أكثر من 72 مليون زائر بزيادة 17 في المائة مقارنة بعام 2022، في حين بلغ عدد التراخيص الصادرة أكثر من 6 آلاف ترخيص مُنحت في 117 مدينة.

 

خادم الحرمين الشريفين في احتفال بمناسبة وضعه حجر أساس مشروع القدية في العام 2018 (واس)

وافتتحت السعودية مسارحها واستعرضت مخزونها الثقافي والأدائي، واستقطبت الإمكانات اللازمة كافة لتصبح وجهة عالمية في هذا القطاع.

أما في قطاع السياحة، فقد أصبحت السعودية رقماً سعباً على الساحة الدولية في هذا القطاع وفقاً لجميع الأرقام المحلية والدولية، حيث أُطلقت الاستراتيجية الوطنية للسياحة في 2019، وخلال شهر من ذلك التاريخ أُطلقت التأشيرة السياحية، التي فتحت أبواب السعودية للزوار من مختلف دول العالم؛ للتعرف على البلاد التي توصف بالقارة، وتضم مواقع تاريخية مسجلة في قائمة «يونيسكو» ومواقع سياحية متنوعة وواعدة.

وكان أحمد الخطيب، وزير السياحة السعودي، أعلن مؤخراً أنه مع نهاية النصف الأول من العام الحالي وصلت مساهمة المنظومة في الناتج المحلي 5 في المائة، وأن القطاع يسير بخطى ثابتة إلى تحقيق نسبة 10 في المائة، بما يعادل 600 إلى 700 مليار ريال من دخل السياحة في الاقتصاد السعودي.

واحتلت السعودية الترتيب الـ11 بين دول العالم في استقبال سياح الخارج، وأصبحت الدولة الأسرع نمواً بين دول مجموعة العشرين في هذا الشأن، كما حقّقت البلاد نمواً نسبته 153 في المائة في القطاع، مقارنة بعام 2019، وبلغ حجم الإنفاق 255 ملياراً بنهاية عام 2023، وبنهاية عام 2023 استقبلت السعودية أكثر من 100 مليون سائح دولي ومحلي، محقّقة مستهدف «رؤية السعودية 2030» ليصبح المستهدف الجديد لعام 2030 الوصول إلى 150 مليون زائر، وارتفاع مساهمة القطاع السياحي بـ750 مليار ريال في الاقتصاد.


مقالات ذات صلة

القيادة السعودية تعزي ملك البحرين في وفاة إبراهيم بن حمد

الخليج الملك سلمان بن عبد العزيز والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي (الشرق الأوسط)

القيادة السعودية تعزي ملك البحرين في وفاة إبراهيم بن حمد

بعث الملك سلمان بن عبد العزيز، والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، ببرقيتي عزاء ومواساة، للعاهل البحريني الملك حمد بن عيسى في وفاة الشيخ إبراهيم بن حمد.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من ملك البحرين

تلقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، رسالة خطية، من العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، تتصل بالعلاقات الثنائية بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لدى ترؤسه جلسة مجلس الوزراء في الرياض الثلاثاء (واس)

السعودية: زيارة محمد بن سلمان إلى أميركا تعزز الشراكة الاستراتيجية

أكد مجلس الوزراء السعودي أن زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس المجلس، إلى الولايات المتحدة، تأتي في إطار تعزيز العلاقات الثنائية والشراكة الاستراتيجية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل

دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى إقامة صلاة الاستسقاء في جميع أنحاء السعودية يوم الخميس المقبل.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (الشرق الأوسط)

القيادة السعودية تعزي أمير الكويت في وفاة صباح جابر الصباح

بعث الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان برقيتي عزاء ومواساة للشيخ مشعل الأحمد الصباح أمير الكويت في وفاة الشيخ صباح جابر فهد الصباح.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
TT

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)

عندما دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثاني، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. كان مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية السابق، جوزيب بورّيل، يتناول طعام العشاء في العاصمة البلجيكية مع مجموعة ضيّقة من الصحافيين، وقال: «هذه حرب طويلة قد تنتهي بحصول الفلسطينيين على الدولة، أو تقضي نهائياً على حل الدولتين. لكنها في الحالتين ستكشف ضعف السياسة الخارجية للاتحاد وعجز الدول الأعضاء عن التوافق حول موقف موحَّد من القضايا المصيرية التي تمسّ أمنها بشكل مباشر».

وها هي أوروبا اليوم، بعد عامين على حرب مدمرة رفعها تقرير دولي مستقل إلى مرتبة الإبادة، تقف عاجزة حتى عن فرض الحد الأدنى من العقوبات التجارية التي تطالب بها عدة دول أعضاء وتنادي بأكثر منها الحشود الشعبية التي تخرج كل أسبوع في المدن الأوروبية، احتجاجاً على جمود الحكومات والمؤسسات أمام المجازر والانتهاكات الإسرائيلية.

في الأشهر الأولى من الحرب كان الاصطفاف الأوروبي واضحاً بجانب الموقف الإسرائيلي، خصوصاً من الدول الوازنة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ومن رئيسة المفوضية، أورسولا فون در لاين، التي كانت تتعرض لانتقادات شديدة بسبب انحيازها السافر إلى جانب إسرائيل، وعدم تجاوبها مع دعوات حكومات إسبانيا وآيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا إلى تعليق اتفاقية الشراكة الموقعة بين الاتحاد والدولة العبرية.

واشتدّت تلك الانتقادات بعد صدور تقرير، وضعته أجهزة الاتحاد، ويؤكد الانتهاكات الإسرائيلية لبنود أساسية في الاتفاقية تتعلق باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. لكن رئيسة المفوضية بقيت على موقفها المماطل، مدعومة من بعض الدول الأعضاء، خصوصاً ألمانيا التي صرحّت غير مرة بأنها ترفض مجرد طرح موضوع العقوبات على إسرائيل، الذريعة التي كانت تلجأ إليها رئيسة المفوضية، رغم انتقادات بعض كبار المسؤولين، هو نظام التصويت المعمول به في اجتماعات المجلس، الذي يقتضي للموافقة على العقوبات أغلبية موصوفة غير متوفرة من غير ألمانيا وإيطاليا والمجر.

لكن بعد صدور التقرير الدولي الذي وضعته مجموعة من الخبراء المستقلين، الذي خلص إلى أن الارتكابات الإسرائيلية في غزة تستوفي شروط توصيفها بالإبادة، وفقاً لأحكام القانون الدولي، وبعد تنامي الاحتجاجات الشعبية في العديد من البلدان الأوروبية، خصوصاً بعد قرار الحكومة الألمانية حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وجدت رئيسة المفوضية نفسها مضطرة لطرح موضوع العقوبات على إسرائيل، وتعليق بعض بنود اتفاقية الشراكة معها على المجلس.

ويقال إن التغيير الذي طرأ على الموقف الألماني، الذي بدوره دفع فون در لاين إلى تغيير موقفها وقلب المعادلة داخل المجلس، لم يكن غريباً عن التحول في موقف الكنيسة الكاثوليكية الألمانية الوازنة في تحديد مواقف الفاتيكان في القضايا الكبرى.

وكان البابا ليو الرابع عشر أشار، في أول حديث صحافي مطوَّل له كشف عنه، مطلع الشهر الماضي، أن الفاتيكان ليس جاهزاً بعد لاتخاذ موقف رسمي في صدد وصف حرب غزة بالإبادة، ثم أضاف: «يزداد عدد الذين يستخدمون هذا المصطلح، بمن فيهم منظمتان تدافعان عن حقوق الإنسان في إسرائيل نفسها».

لكن بعد طرحها خطة مشتركة لفرض عقوبات على إسرائيل، تتضمن رسوماً جمركية على سلع مستوردة منها كانت حتى الآن معفاة من الرسوم، وإنهاء المعاملة التفضيلية التي تحظى بها الدول العبرية مع شريكها التجاري الأول في العالم، فضلاً عن عقوبات على اثنين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وتجميد أصولهما على الأراضي الأوروبية، ألقت المفوضية الكرة في ملعب الدول الأعضاء الذين سيعود لهم قرار تفعيل هذه العقوبات في المجلس.

ولم يتحدد إلى اليوم موعد مناقشة هذه الخطة في المجلس الأوروبي تمهيداً للموافقة عليها وتفعيلها؛ ما يتركها مجرد حبر على ورق النيات الأوروبية المتأرجحة بين التواطؤ، وعقدة الذنب، والرضوخ للضغوط الإسرائيلية والأميركية التي نادراً ما تخرج دولة أوروبية من شباكها. وعند مشارف انقضاء عامين على مقتلة غزة التي أحدثت تغييراً جذرياً في الخطاب السياسي والشعبي الأوروبي حيال الصراع في الشرق الأوسط، لكن من غير تغيير يُذكر حتى الآن في القرار الرسمي لحكومات الدول الأعضاء، عاد جوزيب بورّيل ليقول في حديث هاتفي من برشلونة: «في غزة، خسر الاتحاد الأوروبي روحه».


رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
TT

رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

مع مرور عامين على الحرب الإسرائيلية على غزة إثر هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، على المواقع والبلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، لا يزال الغزيون يدفعون من حياتهم وأعمارهم ثمناً لم يكن لأحد أن يحتمله في ظل مأساة تتفاقم من يوم إلى آخر.

وعلى مدار هذه الفترة، يقف الغزي أشرف الحليقاوي (46 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والنازح حالياً في دير البلح وسط القطاع، يومياً في طابور طويل للحصول على بعض اللترات من المياه القابلة لـ«الاستخدام الآدمي»، ثم يقف في طابور آخر لساعات إضافية من أجل تأمين مياه الشرب، فيما يتناوب هو وأبناؤه وأحفاده على هذه الطوابير وغيرها من طوابير التكيات التي تقدم بعض الطعام.

ويقول الحليقاوي لـ«الشرق الأوسط»: «حياتنا تحولت إلى جحيم حقيقي، كنا أعزاء في بيوتنا وأصبحنا أذلاء بسبب هذه الحرب القاسية جداً والتي لا تصفها كل الكلمات».

يضيف الحليقاوي بعد تنهيدة طويلة: «نحن هنا نُطحن يومياً على مدار عامين بين طوابير المياه والتكيات والمساعدات، وزحمة الطرق ومركباتها المهترئة التي بالكاد تسير في شوارع باتت وعرة ومدمرة تقسو بكل تفاصيلها على حياة أي مواطن في غزة».

يرى الحليقاوي أنه مع مرور عامين على الحرب، حان الوقت لأن تتوقف هذه «المقتلة» كما وصفها، داعياً «حماس» والفصائل الفلسطينية لترك الحكم والنظر في خيارات يمكن أن تنقذ ما تبقى من السكان وإبقائهم على قيد الحياة، قائلاً: «كل دقيقة تمر هي صعبة وقاسية علينا».

صبي جالس على قبر بينما أقام نازحون فلسطينيون مخيماً مؤقتاً في أرض المقبرة في خان يونس جنوب قطاع غزة 25 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)

أهوال كيوم القيامة

توافق الغزية ناريمان أبو عاصي من سكان حي الصبرة جنوب مدينة غزة، الحليقاوي، الرأي بضرورة أن تقف «حماس» عند مسؤولياتها تجاه سكان القطاع بعدما دفعت بهم إلى حرب لم يرها أي فلسطيني منذ أن وطئت إسرائيل هذه الأرض، كما تقول.

وأضافت أبو عاصي (51 عاماً) وهي نازحة في دير البلح وسط القطاع بعد أن خرجت من مدينة غزة في الأسبوعين الماضيين: «خلال عامين من الحرب شاهدنا أهوالاً كثيرة وكأنها من أيام القيامة، وعشنا ظروفاً لا يتحملها بشر، وحان الوقت لأن تقبل (حماس) بما هو مطروح عليها؛ لأنه لم يعد هناك ما يحتمل أكثر مما احتملناه».

وتشير أبو عاصي إلى أن أكثر فصول الحرب قسوة هو النزوح، قائلةً: «كلمة النزوح قد تكون كلمة عابرة بالنسبة للكثيرين، لكنها بالنسبة لكل فلسطيني في غزة، تحمل كل معاني الألم والوجع الذي يفوق الاحتمال».

وتابعت: «آن الأوان لأن تقف هذه الحرب إلى الأبد حتى ولو تنازلت المقاومة عن سلاحها في سبيل أن نعيش ونواجه ما تبقى من مصيرنا بأنفسنا بعيداً عن حكم (حماس) أو أي فصيل آخر».

وواصلت بغضب ويأس: «يحلّوا عنا (فليرحلوا)، زهقنا وتعبنا، حتى من يموت يرتاح من الهم الذي يتآكلنا. حتى إننا فقدنا الشعور بمن يموت فبالكاد يتسنى لمن يبقى على قيد الحياة أن يفكر بنجاته... تبلّدت مشاعرنا».

أعلنت الأمم المتحدة رسمياً في 22 أغسطس المجاعة في غزة (أ.ف.ب)

الخيارات الضيقة

ويقول الشاب جاسر وادي (33 عاماً)، وهو موظف في القطاع الخاص، من سكان بلدة القرارة شمالي خان يونس ونازح إلى مواصي بلدتهم، إن الحرب أنهكته كما بقية أفراد عائلته، ليس اقتصادياً أو حياتياً فحسب، وإنما حتى جسدياً وصحياً.

ورغم كل هذا الواقع والظروف القاسية، لكن وادي يرى أن تسليم السلاح من قبل «حماس» والفصائل الأخرى، هو بمثابة رفع راية بيضاء أمام إسرائيل بعد كل هذه الدماء والتضحيات الكبيرة التي عانى منها الغزيون، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الخيارات ضيقة أمام الجميع، ونهاية الحرب تبدو مرتبطة بذلك، وحقن الدماء هو السبيل والحل الوحيد لذلك.

وأضاف: «الحياة هنا صعبة وقاسية، وقد تكون فكرة الهجرة مناسبة لكثيرين، لكن هناك أيضاً من لا يزال يرى في غزة المكان الأنسب للحياة، فكل ما نريده هو أن يتوقف قتلنا، ونشعر ببعض الأمان حتى لو أمضينا سنوات أخرى في الخيام».

وتابع وادي قوله: «الحصول على المياه، والطعام، وحتى التنقل في الطرقات لساعات طويلة من أجل الوصول من مكان إلى آخر، أمر منهك. والأطفال بلا مدارس وبلا حياة، أصبحوا يقفون في الطوابير مثل الكبار، أجسادهم منهكة من الجوع والقتل وقسوة الحياة عليهم حتى أصبحوا ينامون باكراً ليس استعداداً للذهاب إلى مدارسهم، بل لجدول طويل من المشقة. كل هذه الصور من المعاناة تفرض على السكان القبول بأي حل من أجل التوصل إلى اتفاق يخفف معاناتهم لكن نهايتها لن تكون سهلة وبحاجة لسنوات حتى يستعيد كل مواطن جزءاً يسيراً من حياته».

وتؤكد مؤسسات حقوقية ودولية أن سكان قطاع غزة يواجهون ظروفاً قاهرة، في ظل نقص المياه والطعام وتراجع فرص العمل، وعدم توفر الأموال، إلى جانب تدهور الواقع الصحي والبيئي الذي يفاقم سوء ظروفهم.

نازحون فلسطينيون في مخيم في خان يونس جنوب قطاع غزة... 29 سبتمبر 2025 (أ.ب)

استغلال التجار والصيارفة

بعض أبناء قطاع غزة ممن لهم دخل ثابت مثل الموظفين التابعين للسلطة الفلسطينية، يعانون بدورهم من عدم توفر السيولة النقدية بسبب تعطل البنوك، الأمر الذي دفعهم لسحب مستحقاتهم من تجار وصرّافين، مقابل عمولة مالية تراوحت خلال الحرب من 20 إلى 50 في المائة أحياناً.

ويقول الموظف في السلطة وسام عودة، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة: «اضطرارنا لسحب رواتبنا عبر مكاتب صرافة أو التجار وغيرهم، جعلنا لقمة سائغة لهؤلاء. فقد نهبوا أموالنا بطريقة يرونها مشروعة في ظل تعطل عمل المصارف قسراً بفعل الحرب الإسرائيلية».

وأضاف عودة في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الظروف أنهكتنا اقتصادياً وحولتنا من موظفين كنا نعيش حياة مستقرة نسبياً، إلى أناس بالكاد يملكون ما يسدون به رمق أطفالهم بالقليل القليل مما يتوفر من مواد غذائية».

وأشار إلى أنه يضطر كل شهر لتحويل ما في رصيده البنكي عبر التطبيق الإلكتروني لأحد التجار، مقابل أن يحصل على نحو نصف المبلغ أو أقل قليلاً، ليعتاش منه، مشيراً إلى أن تجار المواد الغذائية وغيرها من المواد يفضلون دوماً الدفع نقداً على أن تدفع لهم إلكترونياً.

وبحسب جهات تتابع هذه العمليات، فإن تجار المواد الغذائية يتعمدون فرض البيع بالسيولة النقدية لجمع أموال يعيدون تدويرها عبر مكاتب الصرافة، ما يدر عليهم أرباحاً مضاعفة.

في المقابل، تجبر عوائل فقيرة تتلقى دعماً مالياً غير منتظم من قبل بعض المؤسسات الدولية أو من أقرباء مهاجرين على دفع أكثر من نصف المبلغ أحياناً كعمولة مقابل الحصول نقداً على ما تبقى.

دخان يتصاعد جراء قصف إسرائيلي لأحياء في مدينة غزة (أ.ب)

«موت وخربان ديار»

وتقول المواطنة نهال أبو عبدو، من سكان حي النصر بمدينة غزة، والنازحة في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، إنها تتلقى دعماً شهرياً يصل إلى نحو 270 دولاراً، من مؤسسة دولية، ولكنها عندما تضطر لسحب المبلغ نقداً من أحد التجار، تحصل على ما يقارب 140 دولاراً فقط.

وتضيف أبو عبدو (43 عاماً) والتي دمر منزلها وتعيل 4 أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة: «الحياة في غزة موت ودمار وخربان ديار».

وتابعت متسائلةً: «إلى متى سيبقى هذا الحال؟ نحن تعبنا ونريد لهذه الحرب أن تقف، وأن نشعر بالأمان ونجد مالاً لنعيش ونطعم أطفالنا... فهم بحاجة للحفاضات والحليب والغذاء».

وتابعت قولها: «إن أرادوا تهجيرنا، فليهجروننا، ولكن فليوفروا الأمان والأكل والمياه والكهرباء حتى نستطيع العيش مثل البشر، وليس كالحيوانات في بلدان منكوبة أصلاً».

فلسطينيون نازحون يتجهون جنوباً في قطاع غزة خلال وقت سابق (أ.ف.ب)

هجرة طوعية لا قسرية

بينما تخشى غالبية سكان قطاع غزة من التهجير القسري، تؤيد غالبية منهم الهجرة الطوعية إلى دول أوروبا أو دول مستقرة سياسياً واقتصادياً للبحث عن حياة أفضل، وخاصةً بين الجيل الشاب الذي لم يعد يملك مستقبلاً حقيقياً في القطاع نتيجةً للظروف الحالية.

ويقول الشاب نور البحيصي، من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، إنه لا مشكلة له في الهجرة من القطاع للبحث عن حياة ومستقبل أفضل.

ورأى أن خطة ترمب قاسية على سكان القطاع، لكنها تمنحهم فرصة الهجرة الطوعية وليس القسرية، مؤكداً أنه مثل عشرات الآلاف من الشبان يرغب في الخروج بلا عودة بسبب تكرار الحروب.


معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

TT

معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)

«بعد 7 أكتوبر كل شيء تغير في الشرق الأوسط»، جملة قالها المبعوث الأميركي توم براك تختصر المشهد المعقد الذي خيّم على المنطقة والسياسات الأميركية فيها منذ الهجمات في 2023.

اليوم وبعد مرور عامين على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، يزداد المشهد تعقيداً، فهذه هي الذكرى الأولى في العهد للثاني الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كان بدأه متأملاً بانفراجات في الأزمة، وواعداً باستعادة الرهائن ووقف الحرب، ناهيك عن رفع سقف تطلعاته بإبرام الاتفاقات الإبراهيمية.

لكنها طموحات كبيرة لم تأخذ تعقيدات الوضع في المنطقة في الحسبان، زادها تعقيداً قرارات مثيرة للجدل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو الذي جر ترمب معه في دوامة قراراته من حرب غزة وخطط ضم الضفة الغربية إلى مواجهة إيران وتحدي سوريا بعد سقوط نظام الأسد. ومعها تلاشت الطموحات والخطط الكبيرة التي أعدها الرئيس الأميركي، بل يذهب البعض إلى حد القول إن «تهور نتنياهو وتساهل الإدارة الأميركية معه قد يقضيان كلياً على اتفاقات إبراهام».

إلا أن ترمب سعى جاهداً لتدارك الوضع، معلناً عن خطة من 20 نقطة لإنهاء حرب غزة، ورؤيته للمنطقة، متأملاً بكلماته الخاصة بأنها ستنقذ الاتفاقات العزيزة عليه.

لا اتفاق بلا اعتراف

شكّلت اتفاقات إبراهام التي كان ترمب عرّابها في عهده الأول لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، الهيكل الأساس لرؤيته للمنطقة والتي وضع من خلالها بصمته على سياسة خارجية كانت لتلقب الموازين وتغير المعادلات. وسعى ترمب جاهداً للاستمرار بمسار التغيير هذا، فكانت أول زيارة خارجية رسمية له إلى المملكة العربية السعودية، في إشارة صريحة إلى أهميتها الاستراتيجية.

لكن حرب غزة ألقت بظلالها على هذه الطموحات، وبدا أن أي تحرك لتوسيع الاتفاقات سيفشل قبل انطلاقه؛ فالسعودية كانت واضحة أيضاً في موقفها الرافض لأي توجه من هذا النوع مع الحرب المستعرة، ومن دون اعتراف دولي وأميركي بحل الدولتين، وهو ما رفضته كل من أميركا وإسرائيل.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجية المملكة العربية السعودية يترأسان قمة الاعتراف بفلسطين وحل الدولتين في الجمعية العامة في نيويورك (إ.ب.أ)

وكأن ذلك كله لم يكن كافياً لتشتيت آماله، ليأتي الهجوم الإسرائيلي على قطر استهدافاً لقادة «حماس» فيصب الزيت على نار الأزمة، ومسلطاً الضوء على الشرخ بين المواقف الأميركية وتلك الإسرائيلية. فمن جهة يؤكد مسؤولون إسرائيليون أنهم أبلغوا أميركا مسبقاً بنواياهم، من دون معارضة تذكر، ومن جهة أخرى ينفي ترمب نفياً قاطعاً أن نتنياهو أبلغه بالضربة قبل وقوعها.

وبغض النظر عمن هو محق في هذا الجدل العلني، تبقى النتيجة واحدة، ولا تصب في مصلحة أميركا ولا إسرائيل، وتمثلت بإجماع دولي على الاعتراف بدولة فلسطين في دورة أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة رغم المعارضة الأميركية، في مبادرة بدأتها السعودية وفرنسا، وتوسعت لتشمل أكثر من 100 دولة.

ويقول براين كتوليس، كبير الباحثين في معهد الشرق الأوسط، إن الرسالة الأساسية التي يوجّهها الاعتراف الرمزي بدولة فلسطينية إلى ترمب هي أن «طموحاته في التوصل إلى اتفاق تطبيع أوسع بين إسرائيل والسعودية قد أصبحت في حكم المنتهية ما دام ترمب يواصل هذا النهج السلبي في إدارة ملف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني».

ويضيف كتوليس، في حديث مع «الشرق الأوسط»: «من المهم الإشارة إلى أن السعودية هي الداعم الرئيسي لخطوة الاعتراف بدولة فلسطينية، وأن الرسالة الأساسية التي توجهها هي أن هذا الملف يمثل أولوية بالنسبة لها».

خطة إنهاء الحرب

بمواجهة الإجماع الدولي في الاعتراف بدولة فلسطين بعيداً عن المسار الأميركي، سارع ترمب لاحتوائه طارحاً رؤيته لإنهاء الحرب أمام الزعماء العرب على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ومن أبرز النقاط التي تعهد بها ضمن هذه الرؤية عدم السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية، وذلك حرصاً على عدم انهيار اتفاقات إبراهام وانسحاب دول منها. وهذا ما تحدث عنه المستشار العسكري السابق في الخارجية الأميركية، الكولونيل عباس داهوك، قائلاً إنه رغم أن اتفاقيات أبراهام «ما زالت قائمة من الناحية التقنية، فإن مستقبلها يزداد غموضاً».

ويضيف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «مع أن الاتفاقات لم تصبح بحكم المنتهية بعد، فإن أي خطوة إسرائيلية كبرى لضم الضفة الغربية ستقوّض الأسس التي أُبرمت هذه الاتفاقيات عليها. فخطوات من هذا النوع تتجاوز خطاً أحمر بالنسبة للدول العربية الرئيسية. كما أنها ستعرض جهود الاندماج الإقليمي للخطر، وتنسف الالتزام المشترك بحل الدولتين».

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

علاقة متقلبة

في ظل هذه التجاذبات، تسلط الأضواء على العلاقة بين ترمب ونتنياهو، فمن الواضح أن طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي تقف عائقاً أمام سعي الرئيس الأميركي لتصوير نفسه بمظهر رجل السلام. ولهذا فإن موافقة نتنياهو على خطة ترمب تعد انفراجة في العلاقة التي شهدت تقلبات عدة بين التعاون الوثيق إلى الخلاف العلني منذ وصول ترمب إلى الرئاسة في عهده الثاني. فالتقلب في مواقف ترمب حيال حرب غزة وإصرار نتنياهو على موقفه الرافض لحل دبلوماسي أدّيا في بعض الأحيان إلى توتر العلاقة بين الرجلين.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد انتهاء مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض يوم الاثنين (أ.ب)

كذلك، فإن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا من دون مباركة إسرائيلية فاجأت نتنياهو، على غرار إعلان ترمب عن نيته التفاوض مع إيران قبل أن يقرر ضرب المنشآت النووية الإيرانية في خطوة أشاد بها نتنياهو في خطاب رنان. وحول هذا التفاوت يقول داهوك: «فيما أظهرت واشنطن رغبة في خفض التوتر، جاءت رسائلها الدبلوماسية ومواقفها العسكرية في كثير من الأحيان غامضة. بل إن الإدارة في بعض الأحيان أثنت على العمليات الإسرائيلية التي استهدفت إيران ووكلاءها. وقد فسّر نتنياهو هذا التأييد الانتقائي على أنه موافقة ضمنية على المناورات الهجومية تحت عنوان الدفاع عن النفس، رغم الدعوات الرسمية إلى ضبط النفس».

ومنذ تسلم ترمب سدة الرئاسة في يناير (كانون الثاني)، التقى الرجلان في البيت الأبيض 4 مرات، منها اجتماعات أظهرت قوة العلاقة بينهما، وأخرى أظهرت عمق الانقسامات بين الرجلين، وعن هذه الاجتماعات يقول كتوليس: «لقد استغلّ ترمب ونتنياهو لقاءاتهما الثلاثة الأولى لمغازلة قواعدهما الداخلية ودفع سياسات ألحقت أضراراً كبيرة بخصوم البلدين، خصوصاً إيران وحلفاءها. لكنّ هذين الزعيمين لا يقودان بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يكتفيان بمخاطبة قاعدتهما السياسية من دون أي أفكار كبرى للمستقبل».

وتابع كتوليس: «عمل ترمب ونتنياهو في الغالب وفق تكتيكات عسكرية مصحوبة بجهود اتصالات استراتيجية هجومية، لكن ذلك لا يشكّل نموذجاً لتحقيق السلام والأمن، بل ضربات بلا استراتيجية. إن التوصل إلى اتفاقيات دبلوماسية تعيد البناء وتنتج السلام أصعب بكثير من تصفية الخصوم».

تغير المزاج الأميركي

بعد 7 أكتوبر، اصطف الأميركيون وراء إسرائيل، لكن الحالة اليوم اختلفت مع استمرار حرب غزة، وتعالي أصوات ديمقراطية وجمهورية وصف بعضها ممارسات إسرائيل بالإبادة الجماعية، في مواقف لافتة خاصة من قبل بعض الجمهوريين من قاعدة (ماغا) الشعبية المناصرة لترمب كالنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين التي وجهت كذلك انتقادات لاذعة للوبي الإسرائيلي (إيباك) ونفوذه في واشنطن. مواقف دفعت بترمب إلى القول في مقابلة مع موقع «دايلي كولر» إن اللوبي «لم يعد يسيطر» على الكونغرس كالسابق.

متظاهرون ضد نتنياهو في نيويورك خلال إلقائه كلمة في الأمم المتحدة الجمعة (رويترز)

وترافق هذا مع استطلاعات رأي تظهر تراجع دعم إسرائيل في الرأي العام الأميركي، خصوصاً بين الشباب من الجمهوريين. وأفاد استطلاع لمركز بيو للأبحاث أن 50 في المائة من الجمهوريين تحت سن الخمسين لديهم نظرة سلبية عن إسرائيل خاصة حيال تعاطيها مع حرب غزة.

لكن، ورغم هذه المعارضة الجديدة، تتصدر إسرائيل البلدان التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية؛ إذ تحظى بـ3.8 مليار دولار سنوياً ضمن مذكرة تفاهم لعشرة أعوام وقع عليها الرئيس الديمقراطي باراك أوباما في عام 2019، ولم تواجه هذه المساعدات خاصة الدفاعية أي عرقلة فعلية في الكونغرس، رغم وجود بعض المشرعين الذي يسعون لتأخير المصادقة عليها.

وبالإضافة إلى المساعدات، يقر الكونغرس بشكل دوري صفقات أسلحة مع تل أبيب ما يفيد القطاع الصناعي العسكري الأميركي ويعزز مبيعاته بملايين الدولارات، ليثبت مقولة أميركية واسعة التداول في الأوساط السياسية: «إذا كنت تبحث عن الحقيقة، فاتبع خيط الأموال».