«لندنستان»... قصة الجدل البريطاني حول «الحوار مع المتشددين»

وثائق تكشف عما ساد أروقة الحكومة البريطانية من تباين في شأن التعامل مع مسألة الإسلاميين في بداية تسعينات القرن الماضي (1من 3)

عمر بكري يلقي كلمة في مؤتمر لجماعة إسلامية متشددة... وبجواره أبو حمزة المصري (غيتي)
عمر بكري يلقي كلمة في مؤتمر لجماعة إسلامية متشددة... وبجواره أبو حمزة المصري (غيتي)
TT

«لندنستان»... قصة الجدل البريطاني حول «الحوار مع المتشددين»

عمر بكري يلقي كلمة في مؤتمر لجماعة إسلامية متشددة... وبجواره أبو حمزة المصري (غيتي)
عمر بكري يلقي كلمة في مؤتمر لجماعة إسلامية متشددة... وبجواره أبو حمزة المصري (غيتي)

مثّل هذان الرجلان في الصورة (أعلاه)، وعلى مدى سنوات، رمزاً لتحوّل العاصمة البريطانية إلى معقل للمتشددين الإسلاميين في تسعينات القرن الماضي. يقضي الأول، أبو حمزة المصري (يمين الصورة)، حكماً بالسجن مدى الحياة في الولايات المتحدة بعد إدانته بالإرهاب.

أما الآخر، السوري عمر بكري، فسجن بدوره لسنوات في لبنان بتهم إرهاب أيضاً (خرج من السجن في مارس / آذار الماضي). ولكن قبل أن يجد هذان الرجلان نفسيهما وراء القضبان، شكّلا، مع آخرين، لنحو عقدين من الزمن تقريباً، وجهاً لما يسميه منتقدون «لندنستان». وفي حين أن هناك من سيجادل بأن هذه الصفة ليست صحيحة تماماً وبأن لندن هي في الواقع تجربة بريطانية ناجحة للتعايش بين الديانات والثقافات المختلفة، فإن ما يبدو مؤكداً في الحقيقة هو أن العاصمة البريطانية تحوّلت منذ تسعينات القرن الماضي إلى ساحة ينشط فيها خليط واسع من مؤيدي تيارات الإسلام السياسي والجماعات التي تُطلق على نفسها وصف «الجهادية» لكنها مصنّفة إرهابية أو متشددة من قِبل الكثير من الحكومات، بدايةً في العالم العربي ولاحقاً في الدول الغربية نفسها.

ولكن كيف تحوّلت لندن إلى «لندنستان»؟ هل كانت الحكومة البريطانية واعية لهذا التحوّل نحو التشدد الذي يتم على أراضيها؟ هل كانت تستضيف الإسلاميين لاستخدامهم «ورقة» في تعاملاتها مع قضايا الشرق الأوسط، كما يعتقد بعضهم؟ أم أنها لم تعرف بمدى خطورة «ضيوفها» المتشددين سوى في وقت متأخر وبعدما تجذّر هؤلاء على أرضها وبدأوا ينخرطون في عمليات عنف وإرهاب في بلدانهم الأصلية وفي البلدان الغربية أيضاً؟

تسلّط «الشرق الأوسط» الضوء على هذه القضية من خلال نشرها سلسلة وثائق حكومية بريطانية كانت مصنفة سرية وباتت متاحة في الأرشيف الوطني بلندن. تكشف هذه الوثائق عن أن جدلاً داخلياً ساد أروقة الحكومة البريطانية في شأن التعامل مع مسألة الإسلاميين في بداية تسعينات القرن الماضي. دعا تيار في الحكومة إلى الحوار معهم، بما في ذلك مع المتشددين منهم، على أساس أن التحدث معهم يمكن أن يحل أي إشكالية بين الطرفين، خصوصاً أنه «ليس هناك تضارب ضروري بين المصالح الغربية والإسلام»، بحسب ما جادل أنصار هذا الرأي.

في المقابل، كان هناك تيار آخر ينتقد هذا المنطق ويعدّ أن هناك محاولة متعمدة من بعض المسؤولين البريطانيين لمحو الفوارق الموجودة مع الإسلاميين المتشددين، ويشير إلى ضرورة أخذ مثالَي السودان وإيران في الحسبان عند التعامل مع تيارات الإسلام السياسي، في إشارة إلى أن وصول الإسلاميين للسلطة سيعني رفضهم التخلي عنها لاحقاً، مثلما فعل نظام الرئيس عمر البشير بعد استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري في الخرطوم عام 1989، وكما فعل من قبل الإسلاميون الإيرانيون بقيادة آية الله الخميني بعد إطاحتهم نظام الشاه في طهران عام 1979.

وفي الواقع، بدأ هذا الجدل بين المسؤولين البريطانيين على خلفية النزاع الأهلي الذي بدأ في الجزائر عقب إلغاء الجيش، في يناير (كانون الثاني) 1992، انتخابات كان الإسلاميون على وشك الفوز بها. فقد لاحظ البريطانيون أن مناصرين لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، الحزب الذي حظرته السلطات الجزائرية عقب إلغاء الانتخابات، بدأوا يطلبون تأشيرات للمجيء إلى المملكة المتحدة، قبل طلبهم اللجوء السياسي على الأرجح، وهو أمر لم تعرف سفارة المملكة المتحدة في الجزائر طريقة التعامل معه، فطلبت الحصول على تعليمات من وزارة الخارجية في لندن. وكان لافتاً أن رد الخارجية أشار إلى أن وزير الداخلية البريطاني فقط هو من يستطيع منع أشخاص معينين من الدخول إلى المملكة المتحدة، وإلى أن أي حظر يجب أن يشمل أشخاصاً بأسمائهم وليس منظمات؛ إذ إن «جبهة الإنقاذ» كانت آنذاك محظورة فقط في الجزائر وليس في بريطانيا. كما كشفت المداولات البريطانية الداخلية عن أن حكومة لندن أبلغت السفارة في الجزائر بأنه ممنوع عليها أن تشارك الأوروبيين في معلومات مستقاة من طلبات التأشيرة (الفيزا) التي يتقدم مناصرو «الإنقاذ» للحصول عليها، لكنها سمحت بإبلاغ الأوروبيين فقط بأن شخصاً ما رُفض أو قُبل، وبشرط ألا تكون المعلومة المقدمة للدول الأوروبية عن هذا الشخص (وهل هو من إسلاميي «جبهة الإنقاذ» أم لا) مستقاة من أوراق طلب التأشيرة التي قدّمها.

شعار «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر

إشكالية التأشيرات... إسلاميو «جبهة الإنقاذ»

كان موضوع التأشيرات محور مراسلات بين الخارجية البريطانية والسفارة في الجزائر. ففي ديسمبر (كانون الأول) 1992، كتب د. آي. ليوتي، المسؤول بقسم الهجرة والتأشيرات، إلى كريستوفر باتيسكوم، سفير المملكة المتحدة في الجزائر (من عام 1990 إلى 1994) يرد فيها على برقية وجّهها الأخير إلى قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بالخارجية البريطانية بعنوان «طلبات التأشيرة لناشطي الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (مؤرخة بتاريخ 8 نوفمبر/تشرين الثاني). قال ليوتي في رسالته إلى السفير:

1- لقد أكد المستشارون القانونيون أننا، من منطلق (مبدأ) الخصوصية، ممنوعون أن نكشف عن معلومات واردة في طلبات الحصول على التأشيرة. ولكن، لن يكون هناك اعتراض على أن تبلغ زملاءك في المجموعة الأوروبية (التي تحوّلت لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي)، على سبيل المثال، أن ناشطاً معروفاً في الجبهة الإسلامية للإنقاذ تقدم بطلب تأشيرة للمملكة المتحدة، وأن تخبرهم بنتيجة هذا الطلب. (أفترض هنا أن معلوماتنا عن أن مقدّم الطلب هو ناشط في الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تأت من طلب التأشيرة نفسه).

2- قد يبدو لزملائك في المجموعة الأوروبية أننا نضع عراقيل بطريقة غير ضرورية لأننا لا نستطيع أن ننضم إلى حظر (أوروبي) شامل على إصدار تأشيرات لأعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولكن القرارات في خصوص استبعاد أفراد من القدوم إلى المملكة المتحدة على أساس أن مجيئهم لا يخدم الصالح العام (الفقرة 86 من قوانين الهجرة) لا يمكن أن تؤخذ سوى بالنسبة إلى أشخاص محددة أسماؤهم (سلفاً). وهذه القرارات تؤخذ دائماً من وزير الداخلية شخصياً. ليس هناك بند في القواعد يتعلق بحظر تام على منظمات.

3- إذا تلقيت طلب تأشيرة زيارة من ناشط معروف في الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتعتقد أنه/أنها سيطلب اللجوء بعد وصوله إلى المملكة المتحدة، فيجب رفض الطلب بموجب القواعد المعتمدة (كونه ليس زائراً حقيقياً). وإذا تلقيت طلبات تأشيرة من ناشطين يمكن أن يسبب وجودهم هنا ضرراً خطيراً للعلاقات الثنائية (مع الجزائر)، رجاء عدم التردد في إحالتهم إلى قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا وقسم الهجرة واللجوء في وزارة الخارجية

التوقيع: د. آي. ليوتي

الأصولية الإسلامية وانعكاستها على السياسة البريطانية (الشرق الأوسط)

«الأصولية الإسلامية وتداعياتها على السياسة البريطانية»

الجدل حول موضوع التأشيرات فتح باباً لجدل أكبر عن حدود التعامل مع الإسلاميين وأطيافهم، رصدته الوثائق التي سجلت مكاتبات بين مسؤولين بريطانيين، تعقيباً على خلاصات ورشة عمل تناولت الموضوع، لكن لم تتضح تفاصيل عقدها من الوثائق.

الوثيقة الأولى التي سجلت هذا الجدل كانت برقية من السفير باتيسكوم إلى مارك إيليوت، نائب وكيل وزارة الخارجية (عمل لاحقاً سفيراً في إسرائيل والنرويج)، بتاريخ 3 نوفمبر، جاء فيها:

رسالتكم المؤرخة في 9 أكتوبر (تشرين الأول): الأصولية الإسلامية وتداعياتها على السياسة البريطانية

1- شكراً لكم لإرسالكم نسخة من رسالتكم في 9 أكتوبر إلى ميغ روثويل ولدعوتكم إلى تلقي تعليقات عليها. أعتذر مسبقاً لخوضي محاولة ثانية في هذه المسألة، ولكن آمل أن أكون معذوراً بما أن الأصولية كان لها هذا التأثير المؤلم على الجزائر على مدى السنوات الأربع الماضية.

2- يبدو لي أن علينا أن نكون حذرين جداً في خصوص المصطلحات وماذا نعني بها. الإسلامي والإسلاموي (الذي أضعه مرادفاً للأصولي) يبدوان متشابهين كثيراً ولكنّ هناك فارقاً كبيراً جداً بينهما، وهذا الفارق حقاً هو ما تدور حوله هذه المشكلة. ورقة قسم الأبحاث والتحليل تقرّ بوجود هذا الفارق، لكنه يبدو كمن يحاول محوه من خلال وصفاته، مثلاً عندما يقول إنه ليس هناك تضارب ضروري بين التطلعات الأوروبية والإسلامية (الفقرة 8) وبحديثه عن كيفية التعامل مع الأقليات المسلمة في أوروبا (الفقرة 6). وعن الدول المسلمة إلى جنوبنا وشرقنا (الفقرة 8). لست واثقاً كلياً من أنك لا تفعل الشيء نفسه في الفقرة 2 من رسالتك عندما تتحدث عن الترويج للتفاهم المتبادل والتعايش سوياً والمساهمة في تنمية الاقتصاد وأسواق الصادرات. على الأقل، في هذا الجزء من العالم الإسلاميون ليسوا في السلطة بعد وليس لديهم أسواق صادرات.

من الوثائق البريطانية بخصوص الأصولية وانعكاستها على السياسة البريطانية (الشرق الأوسط)

3- قد يبدو هذا كمن يتصيّد الأخطاء، لكن النقطة التي أثيرها بالغة الأهمية. طمس الفوارق يهدد بطمس أحكامنا ويساهم في الوصول إلى خلاصة يبدو أنني ألحظها في رسالتكم وفي ورقة قسم الأبحاث والتحليل بأنه ليس هناك شيء خبيث أو معادٍ لنا في الأصولية لا يمكن أن يشفيه حديث طيب مع الأصوليين. يبدو لي هذا الأمر تساهلاً خطيراً. على المرء أن ينظر فقط إلى إيران والسودان ليرى ماذا يحصل عندما تأتي أنظمة إسلاموية إلى السلطة. ربما لا يمكننا أن نوقف تقدم الأصولية، وحيث تستحكم فإن علينا بلا شك أن نتعايش معها كما نتعايش مع قوى أخرى غير مرحب بها حول العالم. ولكن لا يجب أن نقوم بأي شيء من أجل الدفع بها إلى الأمام، بل علينا حقاً أن نقوم بكل ما يمكننا أن نقوم به من أجل وقف تقدمها من خلال تشجيع الأنظمة الإسلامية على تبني سياسات ديمقراطية وليبرالية ستجلب لها تأييداً شعبياً وتقلل من الدعم للإسلاميين، وإلى الدرجة التي يمكننا أن نقوم بها، علينا أن ندعمهم بمساعدات مالية أكبر.

التوقيع: كريستوفر باتيسكوم قسم الأبحاث والتحليل...

أبو حمزة المصري يؤم المصلين أمام أحد مساجد لندن (غيتي)

الإسلام السياسي

وكانت برقية السفير باتيسكوم، المؤرخة في 3 نوفمبر، محور رد مطول من باسيل إيستوود، مدير قسم الأبحاث والتحليل بوزارة الخارجية. فقد كتب الأخير إلى مارك إيليوت، المسؤول في وزارة الخارجية، رسالة من ورقتين بتاريخ 9 نوفمبر تحت عنوان:

«الإسلام السياسي - برقية السيد باتيسكوم في 3 نوفمبر». وجاء في رسالة إيستوود:

1- السيد باتيسكوم يؤنبنا على عدم تعريفنا لمصطلحاتنا. إنني أقرّ بذنبي: لقد سعيت عمداً إلى تجنب بدء ورشة عملنا بدرس في التعريفات لأنني شعرت بأن ذلك سيعني أن البداية ستغرق في حذلقة لغوية (نقاش لغوي عميق). غالبية المتحدثين وأنا معهم سعينا إلى تجنب استخدام مصطلح «الأصولية الإسلامية» الذي يأتي منه معظم المشاكل (بما في ذلك برقية السيد باتيسكوم).

2- للتعويض عن هذا النقص، يمكن للمرء ربما أن يقوم بهذا التفريق داخل الطائفة الإسلامية الواسعة:

أ‌- العلمانيون: هم أولئك الذين يعترفون ويؤكدون على هويتهم الإسلامية، لكنهم يعتقدون في شكل إيجابي أن الإسلام من الأفضل أن يبقى خارج السياسة.

ب‌- المؤمنون لكنهم غير المسيّسين: هم أولئك الذين يكونون متدينين ويؤمنون نظرياً بتطبيق التعاليم الإسلامية على تنظيم المجتمع، لكنهم جوهرياً غير مسيسين.

ت‌- المتدينون المسيّسون لكنهم غير عنيفين: هم أولئك الذين يكون لديهم توجّه سياسي ويكونون متدينين، لكنهم يؤمنون بمسار تطوري والذين يسعون إلى تغيير الاتجاه السياسي للدول التي يعيشون فيها بوسائل غير عنيفة. الرجاء الانتباه إلى أن معظم من هم في هذه المجموعة سيكون لديهم صعوبات، من منطلق فقهي، بافتراض أنهم متى ما وصلوا إلى السلطة بوسائل ديمقراطية أو سلمية فإنهم يمكن أن يتخلوا عنها.

ث‌- الثوريون: هم أولئك الذين يدافعون عن استخدام العنف والثورة لتحقيق قيام نظام إسلامي في المجتمع. ربما في هذه الفئة يجب أن يُدرج «الأصوليون الإسلاميون»، على رغم أن المصطلح مفتوح على تفسيرات عدة، كلها من منطلق شخصي وكثير منها ينمّ عن ازدراء.

3- ناقشنا في ورشة العمل كل هذه الفئات. «الإسلام السياسي» يشملها جميعها، بما في ذلك، على سبيل المثال، المواقف الإسلامية التي تجد أنظمة علمانية نفسها مضطرة إلى تبنيها تجاه المسألة البوسنية مثلاً (أي أنه على هذا المستوى باتت – أي قضية البوسنة - اتجاهاً سائداً في الدبلوماسية الدولية). إن مصطلح «الإسلاميين» يمكن أن يشمل أشخاصاً من الفئات (ب وت وث).

بعض أتباع أبو حمزة المصري خلال صلاة أمام مسجد في شمال لندن في سبتمبر 2004 (أ.ف.ب / غيتي)

4- أعتقد أن ورشة العمل التي عقدناها خرجت بشعور أن:

- أولاً، أن هناك صعوداً عاماً للحماسة الإسلامية.

- ثانياً، أنه ليس هناك تضارب ضروري بين المصالح الغربية والإسلام.

- ثالثاً، أن الفئة (ث) ما زالت أقلية قليلة.

- رابعاً، أنه إذا لم يلعب الغرب أوراقه بذكاء فإننا نخاطر بدفع الأعداد الأكبر بكثير من الفئتين (ب وت) إلى الفئة (ث).

5- لم ألحظ في ورشة العمل اتجاهاً للمجادلة بأنه «ليس هناك أي شيء خطأ في الفئة ث لا يمكن لحوار جيد (أو لحديث طيب) أن يجد له حلاً» (بحسب ما جاء في الفقرة 3 من برقية السيد باتيسكوم). إنني أعتذر إذا كان غياب تعريف المصطلحات في ملاحظاتي ترك القرّاء بهذا الانطباع.

التوقيع: باسيل إيستوود

جدل بريطاني داخل في شأن التعامل مع الأصوليين (الشرق الأوسط)

«اختلافات مهمة في المصطلحات»

«اعتذار» باسيل إيستوود، مدير قسم الأبحاث والتحليل بوزارة الخارجية، جاء في ضوء مراسلات بين السفير باتيسكوم في الجزائر ووزارة الخارجية في لندن، بخصوص الإسلام السياسي والتعامل مع المتشددين. ففي 10 نوفمبر 1992، كتب مارك إيليوت في برقية إلى السفير البريطاني في الجزائر قائلاً:

عزيزي كريستوفر،

الأصولية الإسلامية

1- شكراً جزيلاً لمراسلتكم المؤرخة في 3 نوفمبر. إنني أتفهم في شكل كامل وأتعاطف إلى حد كبير مع النقاط التي أثرتها، وسنأخذها في الحسبان.

2- ربما ستودّ أن تطلع على ورقة باسيل ايستوود (المحضر المؤرخ في 9 نوفمبر، نسخة منه مرفقة بهذه الرسالة). لا أعتقد أن هناك في الحقيقة الكثير من الجدل بيننا، ولكن لا ضير من إبراز هذه الاختلافات المهمة في المصطلحات.

التوقيع: مارك ايليوت

«جبهة الإنقاذ» تطلب لقاء مع الحكومة البريطانية

نقاش في «الخارجية» حول استقبال قيادي في حزب مصنّف إرهابياً بالجزائر

الوثيقة المتعلقة بأنور هدام وطلب اللقاء مع الحكومة البريطانية

في ظل هذا الجدل حول الإسلام السياسي، تكشف وثائق الحكومة البريطانية عن نقاش حول عقد لقاء مع قيادي إسلامي جزائري فرّ من بلاده عقب إلغاء الانتخابات وبات أحد ممثلي «جبهة الإنقاذ» في المنفى. والجدل حول مثل هذا اللقاء الذي تم بطلب من أنور هدام، أحد النواب المنتخبين عن «جبهة الإنقاذ» في الدورة الأولى الملغاة من الانتخابات التشريعية عام 1992، هو أن هذا الحزب الإسلامي بات محظوراً في الجزائر بحجة تورطه في الإرهاب، ومثل هذا اللقاء بين ممثل لحزب «إرهابي» والحكومة البريطانية يمكن أن يسبب أزمة مع الحكومة الجزائرية التي كانت تأخذ على بريطانيا استضافتها الإسلاميين المتشددين وفتح أبوابها أمامهم.
في رسالة مؤرخة بتاريخ 12 أكتوبر 1992، كتب أف. جي. مارتن، من دائرة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية، رسالة إلى «السيد ريتشموند» المسؤول في القسم ذاته، مشيراً إلى تلقيه طلباً بعقد لقاء مع أنور هدام أحد المسؤولين البارزين في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». جاء في الرسالة:
«الجبهة الإسلامية للإنقاذ»
1- تلقيت اليوم اتصالاً من كارولين داتون من المجلس الإسلامي (رقم الهاتف...) تطلب مني أن تعرف هل بإمكان أنور هدام أن يزورني. شرحت لها أنها اتصلت بي في وقت غير ملائم وأنني سأتصل بها لاحقاً. وصفت السيد هدام بأنه «رئيس البعثة البرلمانية لـ(جبهة الإنقاذ) في أوروبا وأميركا».
2- انتُخب السيد هدام نائباً عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ عن دائرة تلمسان في 26 ديسمبر. وبحسب تقرير صحافي أخير، رفض خرق القانون واللجوء إلى العنف، لكنه يتفهم لماذا اختار بعض أتباع الجبهة الإسلامية للإنقاذ اللجوء إلى الخيار الأخير (العنف). وهكذا يبدو السيد هدام ينتمي إلى الفرع المعتدل في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. في رسالة بتاريخ 11 أبريل (نيسان)، وصف السيد بلومفيلد (القائم بالأعمال في الجزائر) السيد هدام بأنه المتحدث باسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الخارج، وبأن مقرّه فرنسا. أعتقد أن السيد هدام زار المملكة المتحدة في أبريل. (لديه تأشيرة تسمح بدخول متعدد للولايات المتحدة ويُعتقد أنه سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا في وقت سابق من هذه السنة).
3- الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بالطبع، تم حظرها من السلطات الجزائرية في الربيع. وتبعاً لذلك؛ السفارة حُرمت من الوصول إلى ما بقي من قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ. سيكون هناك، تبعاً لذلك، مبرر للقاء السيد هدام، خصوصاً كوننا دعونا في السابق إلى أن يعاود النظام (الجزائري) الحوار السياسي مع المعتدلين في الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
4- (الفقرة الرابعة ما زالت الرقابة البريطانية تمنع نشرها)
5- السيد هدام موجود في لندن كل هذا الأسبوع».
وعلى الورقة نفسها، تم الرد من السيد ريتشموند (السير ديفيد ريتشموند لاحقاً، وقد عمل في مناصب كثيرة من دول عربية وفي وزارة الخارجية، قبل الانتقال للعمل سفيراً لدى الاتحاد الأوروبي ولاحقاً إلى القطاع الخاص). كتب ريتشموند بخط يده قائلاً: إن «إحدى الخلاصات الأولية للعمل الذي قمنا به عن الإسلام السياسي هو أن علينا أن نقيم حواراً مع الإسلاميين، لكن لا يمكننا أن نتجاهل «أكس» (إشارة رمزية إلى شخص لم يذكر اسمه). وبما أن هذا هو أول اتصال، أتساءل عما إذا لم يكن من الأفضل أن نبدأ بالسيد شيبمان (أحد المسؤولين في وزارة الخارجية) ونرى ماذا سيحصل. علينا أن نشدد (أمام هدام) على (ضرورة) معارضة العنف».


مقالات ذات صلة

القطاعات الاقتصادية واللوجيستيات تدفع جدة السعودية لمنافسة المدن العالمية

الاقتصاد جانب من جلسات غرفة جدة حول ريادة الأعمال (الشرق الأوسط)

القطاعات الاقتصادية واللوجيستيات تدفع جدة السعودية لمنافسة المدن العالمية

تشهد مدينة جدة، غرب السعودية، حراكاً كبيراً في القطاعات الاقتصادية والسياحية كافة، فيما يدفع قطاع اللوجيستيات المدينة للوصول لمستويات عالية في تقديم هذه الخدمة.

سعيد الأبيض (جدة)
الخليج الأمير عبد العزيز بن سعود خلال مشاركته في الاجتماع الـ41 لوزراء الداخلية بدول الخليج في قطر (واس)

تأكيد سعودي على التكامل الأمني الخليجي

أكد الأمير عبد العزيز بن سعود وزير الداخلية السعودي، الأربعاء، موقف بلاده الراسخ في تعزيز التواصل والتنسيق والتكامل بين دول الخليج، خصوصاً في الشأن الأمني.

«الشرق الأوسط» (الدوحة)
الخليج الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي خلال إلقائه كلمته في الجلسة الثالثة لقمة دول مجموعة العشرين (واس)

السعودية تدعو إلى تبني نهج متوازن وشامل في خطط التحول بـ«قطاع الطاقة»

أكدت السعودية، الثلاثاء، أن أمن الطاقة يمثل تحدياً عالمياً وعائقاً أمام التنمية والقضاء على الفقر، مشددة على أهمية مراعاة الظروف الخاصة لكل دولة.

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو)
يوميات الشرق التنوع البيئي وجماليات الشعب المرجانية في البحر الأحمر (واس)

ابيضاض الشعب المرجانية يضرب العالم... والبحر الأحمر الأقل تضرراً

تعدّ الشُّعَب المرجانية رافداً بيئياً واقتصادياً لكثير من الدول؛ فقد نمت فيها عوائدها لمليارات الدولارات؛ بسبب تدفّق السياح للاستمتاع بسواحلها وبتنوع شعبها.

سعيد الأبيض (جدة)
الخليج الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي خلال مباحثاته مع نظيره البريطاني جون هيلي في الرياض (واس)

نقاشات سعودية - بريطانية لتطوير التعاون الدفاعي

استعرض الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي مع نظيره البريطاني جون هيلي، الخميس، الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، وسبل تعزيزها وتطويرها عسكرياً ودفاعياً.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
TT

ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)

بعد أسابيع من تصويت الكونغرس الأميركي على حظر تطبيق «تيك توك» الإلكتروني الصيني، قرّر المستشار الألماني أولاف شولتس أن يفتح حساباً رسمياً في التطبيق. وكانت الصدفة أن حساب شولتس الذي كانت بداياته بـ«فيديو» لحقيبته التي ترافقه حيثما سافر، انطلق قبل أيام من زيارة للمستشار إلى الصين. ثم إنه على الرغم من أن الناطق باسم شولتس أكد أن الحدثين غير مرتبطين، بل جاءا بمحض «المصادفة»، فإنهما بلا شك يشيران إلى مقاربتين متناقضتين لعلاقات كل من الإدارة الأميركية والحكومة الألمانية مع بكين. تأتي زيارة شولتس الصينية، وهي الثانية له منذ تسلّمه منصبه عام 2021، لتوضح أن التبادل التجاري هو في طليعة اهتمامات برلين في علاقتها مع بكين، فالمستشار الألماني ترأس وفد شخصيات أعمال كبيراً ورافقه 3 وزراء للتكنولوجيا والبيئة، كما خصّص اليومين الأوّلين من الزيارة التي امتدت 3 أيام للقاءات تتعلّق بالأعمال. وكان لافتاً أن البحث لم يتطرّق إلى السياسة إلا في اليوم الثالث، حين التقى شولتس بالرئيس الصيني شي جينبينغ ورئيس الحكومة لي كيانغ. من جهة ثانية، بدت هذه الزيارة شبيهة بالزيارات التي كانت تُجريها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، مركّزة فيها على التجارة والأعمال، مع أن تبنّي حكومة شولتس الائتلافية استراتيجية جديدة تجاه الصين العام الماضي يتمحوَر حول «تخفيف المخاطر» من مغبة الإفراط في اعتماد الصناعة الألمانية على الصين. وما يُذكر أن هذه السياسة تبلوَرت بعد الحرب في أوكرانيا، و«الأخطاء» التي قالت ألمانيا إنها تعلمتها من تلك الحرب بسبب اعتمادها السابق على الغاز الروسي الذي أوقفت موسكو إمداداته بعد الحرب رداً على العقوبات الأوروبية. وفي المقابل، لم تعكس زيارة شولتس لبكين، على الإطلاق، الاستراتيجية الألمانية الجديدة تجاه الصين، ولا الاستراتيجية الأوروبية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي العام الماضي... التي تعكس أيضاً المخاوف من زيادة اعتماد السوق الأوروبية على البضائع الصينية.

شولتز في مدينة تشونغكينغ، إحدى المحطات الاقتصادية المهمة في زيارته (رويترز)

 

احتاج اعتماد الحكومة الألمانية استراتيجية جديدة تجاه الصين، العام الماضي، إلى فترة طالت عدة أشهر، وشهدت اندلاع خلافات داخل أحزاب الائتلاف الحاكم - الذي يقوده اشتراكيو الحزب «الديمقراطي الاجتماعي»، ويضم كلاً من ليبراليي الحزب ««الديمقراطي الحر»، وبيئيي حزب «الخضر». وفي حين كانت وزارة الخارجية التي يديرها حزب «الخضر»، تشدّ باتجاه تبنّي سياسة متشددة تجاه بكين، كانت المستشارية (أي رئاسة الحكومة) التي يديرها الاشتراكيون تدفع في الاتجاه المعاكس. ولقد ظهر هذا الخلاف في المسوّدة الأولى التي خطتها وزارة الخارجية للاستراتيجية الجديدة مع الصين، والتي تضمنت تعابير مثل «فصل» الاقتصاد الصيني عن نظيره الألماني. بيد أن مكتب المستشار أولاف شولتس رفض استخدام تعبير «فصل»، وطلب الاستعاضة عنه بـ«تنويع»... ومن ثم «تخفيف» الاعتماد على السوق الصينية في كثير من المنتجات، خاصة المتعلقة بالتكنولوجيا والبيئة.

استراتيجية «صديقة» للصين

في الحقيقة، منذ اعتماد الاستراتيجية الجديدة، حرض شولتس على تكرار القول إن ألمانيا لا تسعى إلى «فصل» الاقتصاد الصيني عن الاقتصاد الألماني، وهذا الكلام أعاد تكراره غير مرة خلال محطات زيارته الأخيرة للصين. وللعلم، لم تواجه الخارجية، آنذاك، اعتراضاً من المستشار فقط، بل من أصحاب الأعمال كذلك. بل، عندما حاولت وزيرة الداخلية (الاشتراكية) نانسي فيزر، العام الماضي، إجبار شركات الاتصالات على التخلّي عن بعض القطع الصينية في تحديث شبكات الاتصالات، فإنها وُوجهت بموجه عارمة من الاعتراضات، ليس فقط من شركات الهواتف التي طالبت بتعويضات من الحكومة، بل أيضاً من داخل الحكومة - وتحديداً من وزير التحديث الرقمي فولكر فيسينغ المنتمي إلى الحزب الديمقراطي الحر - والذي رافق شولتس في رحلته إلى الصين. وأرسلت كبرى شركات الاتصالات في ألمانيا مثل «تيليكوم» و«فودافون» و«تيليفونيكا»، رسالة إلى وزيرة الداخلية وصفت فيها مطالبها بأنها «أشبه بمصادرة جزئية»، وبأنها ستكلّف الشركات المليارات، وتعيد إلى الوراء تحديث الشبكات بسنوات.

هذه الشركات الثلاث كانت قد اختارت منذ سنوات، في ظل حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المحافظة، شركة «هواوي» الصينية لتحديث شبكة الإنترنت وبناء شبكة الـ«5 جي». وهنا تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا كانت قد رفضت «النصائح» والضغوط الأميركية التي مارسها الرئيس السابق دونالد ترمب على ألمانيا ودول أوروبية أخرى لكي ترفض السماح لشركة «هواوي» بالعمل فيها. والمعلوم أن ذريعة ترمب في حينه قامت على الزعم بأن «هواوي» مرتبطة بالنظام الحاكم في الصين، وبالتالي، ستكون قادرة على مراقبة الاتصالات من خلال شبكاتها. وها هي ألمانيا، حتى اليوم، مستمرة بانتهاج السياسة نفسها رغم استراتيجيتها الجديدة مع الصين.

من جانب آخر، تُعدّ الصين الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، تليها الولايات المتحدة. وخلال العام الماضي 2023، بلغ حجم التجارة بين البلدين أكثر من 253 مليار يورو، لتكون الشريك الأول للعام الثامن على التوالي. ولم يختلف حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في العام نفسه كثيراً؛ إذ بلغ أكثر من 252 مليار يورو، ولكن بفارق كبير في العجز والفائض التجاريَّين. ذلك أنه مع الصين يربو العجز التجاري الألماني على 58 مليار يورو، في حين حققت ألمانيا فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة زاد على الـ63 مليار يورو.

نقاط خلافية مع واشنطن...وبعض الأوروبيين

شكّل التبادل التجاري الألماني مع الصين والولايات المتحدة واحدة من النقاط الخلافية الكثيرة بين برلين وواشنطن إبان عهد ترمب، ساهمت بتوتر العلاقات بين الجانبين، وهي مخاوف ستعود إلى الظهور، من دون شك، إذا ما عاد ترمب إلى البيت الأبيض. ولكن السوق الصينية تُعد سوقاً أساسية بالنسبة لألمانيا، خاصة بالنسبة لقطاع صناعة السيارات الألمانية؛ إذ تبيع شركات «مرسيدس بنز» و«بي إم دبليو» و«فولكسفاغن» من السيارات في الصين أعداداً أكبر مما تبيعه في قارة أوروبا مجتمعة. وعلى الرغم من شكوى ألمانيا من أن الصين لا تعامل شركاءها التجاريين وشركاتهم الصانعة كما تعامل ألمانيا الشركات الصينية، فهي تتخوف من دعم سياسة تجارية متشدّدة تجاه الصين تخوفاً من خسارة سوق أساسية بالنسبة إليها.

وبالتوازي، فإن هذا التردّد الألماني في التشدد مع الصين فجّر خلافات أيضاً بينها وبين شركائها الأوروبيين، وتحديداً فرنسا، التي تدفع باتجاه خطوات «حمائية» إضافية على صعيد الاتحاد الأوروبي. وحقاً، فإن فرنسا ولاعبين أوروبيين آخرين يأملون بالتوافق على إجراءات تحمي أسواقها وتحول دون «إغراقها» بالسلع الصينية الرخيصة، ما يهدد الشركات الأوروبية، ويلغي المنافسة، ويزيد من الاعتماد على الصين. وخلال اجتماع عقد بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس مطلع أبريل (نيسان) الجاري لوزراء اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، قال وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير إن أوروبا «تتلقى كميات ضخمة من السلع الصينية الرخيصة». وأشار إلى أن العجز التجاري بين أوروبا والصين تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الماضية، وعليه، دعا الوزير الفرنسي إلى مناقشة سياسات أشد صرامة لمواجهة ذلك. غير أن وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، الذي كان مشاركاً في الاجتماع، حذّر من «الحمائية» ورفع التعرفات الجمركية... في صدىً لمواقف المستشار شولتس، مع أن هابيك ينتمي إلى حزب «الخضر» الذي يفضل سياسات اقتصادية أكثر تشدداً مع الصين.

 

سيارة بي واي دي صينية... في طريقها لغزو أسواق أوروبا (رويترز)

والاتحاد الأوروبي أيضاً... ميّال إلى التشدّد

وأبعد من ألمانيا، يدفع الاتحاد الأوروبي برئيسة مفوضيته أورسولا فون دير لاين إلى مقاربة متشدّدة مع الصين، ولقد تبين هذا في الاستراتيجية الأوروبية التي أعلنت عنها بروكسل العام الماضي، والتحقيقات التي تفتحها في شركات صينية يشتبه بأنها لا تلتزم بقواعد المنافسة.

وللعلم، تستند بروكسل إلى آليات داخلية لمراقبة الشركات التي تستخدمها الصين غطاءً لإغراق السوق ببضائع رخيصة. وفي العام الماضي، فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقاً في وضع قطاع الآليات الكهربائية الصينية لتحديد ما إذا كانت الصين استخدمت شركات مدعومة بشكل غير شرعي بهدف إلغاء المنافسة. وبناءً على نتائج التحقيق، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفرض رسوماً إضافية على استيراد السيارات الصينية الكهربائية. وكان الاتحاد قد فتح كذلك تحقيقات خلال العام الماضي في عدد من الحالات التي تستهدف شركات لتوربينات الرياح والألواح الشمسية في عدد من الدول الأوروبية مثل اليونان وإسبانيا وفرنسا ورومانيا وبلغاريا، اشتبه بأنها غطاء لشركات صينية. ولكن بروكسل، التي تريد تشديد الخطط الحمائية، تصطدم بمعارضة برلين التي ترفض اتخاذ خطوات عقابية أو فرض رسوم إضافية على البضائع الصينية للإبقاء على المنافسة ورفع أسعارها البخسة، كما تفعل واشنطن بشكل مستمر.

وفي الأسبوع الماضي فقط، أعلنت واشنطن رفع الرسوم على الصلب والألمنيوم الصيني بنسبة 25 في المائة، كما فتحت تحقيقاً فيما ادعت أنه «ممارسات الصين غير النزيهة» في قطاع بناء السفن. إلا أن المستشار الألماني لا يدعم خطوات مماثلة في الاتحاد الأوروبي؛ لأنه يخشى أن تؤدي إلى «حرب تجارية»، ويرى أنه من الأفضل السماح للشركات تحمل مسؤولية تنويع الصادرات بشكل فردي. وبالفعل، نقلت مجلة «دير شبيغل» عن مصادر مقربة من شولتس، أن خطوة «تخفيض الاعتماد» على الصين هي مسألة «سنوات وليست شهوراً». وأردفت المجلة، نقلاً عن المصادر، أن وضع ألمانيا مختلف عن وضعي فرنسا والولايات المتحدة؛ كونها دولة مصدّرة وتبيع كميات ضخمة من السيارات في السوق الصينية.

وفي سياق متصل، إلى جانب التكنولوجيا المتعلقة بالاتصالات، تغرق الصين أسواق أوروبا حالياً بالتكنولوجيا البيئية مثل مضخات التدفئة وتوربينات الرياح وغيرها من المعدات التي تحتاج إليها أوروبا في خططها الانتقالية البيئية لوقف اعتمادها على الغاز والنفط، توصلاً إلى الاعتماد فقط على الطاقة النظيفة. وهنا نذكر، على سبيل المثال، أن أوروبا تستورد مثلاً قرابة 29 في المائة من توربينات الرياح و68 في المائة من مضخات التدفئة من الصين.

 

الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019 في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا

أهمية قطاع السيارات

غير أن قطاع السيارات يظل يشكل التحدّي الأكبر أمام أوروبا في تبادلها التجاري مع الصين، وفق تقرير لـ«معهد الأطلسي» الأميركي للدراسات. ويضيف تقرير المعهد أن الصين لطالما كانت سوقاً أساسية للسيارات التي تنتجها دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة ألمانيا، بيد أنها أضحت أخيراً - كذلك - مصدّراً أساسياً للسيارات إلى أوروبا. ويشير إلى أنه «حتى الآن، ما زال الاتحاد الأوروبي محافظاً على تبادل تجاري إيجابي مع الصين فيما يتعلق بالسيارات، ولكن ارتفاع الواردات الصينية يشير إلى أنه، من دون خطوات حمائية جديدة، قد يصبح الاتحاد الأوروبي مستورداً صافياً».

وضمن هذا الإطار، قارن المعهد بين أرقام الصادرات والواردات بين أوروبا والصين في السنوات الماضية، فذكر أن الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019، في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا خلال الفترة نفسها بنسبة تصل إلى 3000 في المائة، وارتفعت قيمة معدل الواردات الصينية شهرياً من 33 مليون دولار عام 2019 إلى أكثر من مليار يورو عام 2023. وبين الواردات الصينية من السيارات الكهربائية منتجات شركة «إم جي» - البريطانية سابقاً والصينية حالياً. وهنا يورد تقرير المعهد أن واردات السيارات الصينية ساهمت بزيادة حجم الواردات بنسبة 75 في المائة.

ويتفق خبراء اقتصاديون في ألمانيا على أنه منذ اعتماد الاستراتيجية الصينية، لم يحدث تغيير كبير في علاقة ألمانيا والصين. ونقلت مجلة «دير شبيغل» عن نادين غوديهارت، المتخصصة بالشؤون الآسيوية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، قولها إن «الاستراتيجية تجاه الصين لم تؤدِّ بعد إلى شيء ملموس، ولا يوجد هناك أصلاً أي تغيير بنيوي؛ إذ لم يعيّن مفوض للصين ولا هيئة خبراء». غير أن شولتس مصرّ على التمسك بسياسته مع بكين والتي يعتمد فيها على الاقتصاد أولاً، على الرغم من تحذيرات الاستخبارات الألمانية من أن الصين تشكل «تهديداً بعيد المدى لأمن ألمانيا ومصالحها، أكبر من التهديد الذي تشكله روسيا». وكان توماس هالدنفانغ، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني، قد أعطى إحاطة وافية لـ«البوندستاغ» (مجلس النواب) عام 2022 حول المخاطر التي تشكلها الصين، وقال آنذاك: «إذا كانت روسيا العاصفة، فإن الصين التغير المناخي!».

شعار شركة هواوي (أ ف ب/غيتي)

الضغط على الروس

هنا، لا ينكر المستشار الألماني أن تصرفات الصين التجارية «مقلقة»، وصرّح بأنه تكلم مع المسؤولين الصينيين «بوضوح» حول مسائل تتعلق بالمنافسة المنصفة وحقوق الاختراع وغيرها. لكنه حتى الآن يبدو مكتفياً بالتحاور مع الجانب الصيني من دون التهديد بعواقب أو دعم خطوات تصعيدية ضد بكين داخل الاتحاد الأوروبي. ذلك أنه مقتنع بأن «الشراكة مع الصين تحمل بعداً سياسياً بالغ الأهمية»، خاصة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا وتأثير الصين على روسيا.

وحقاً، في ختام زيارته إلى الصين، قال شولتس إن مسألة الحرب في أوكرانيا كانت «نقطة محوَرية» خلال اللقاءات التي أجراها في بكين. وأضاف أنه طلب من القيادة الصينية المشاركة في عملية السلام بشكل أكثر فاعلية؛ لأن «كلماتها تحمل ثقلاً» في موسكو. وتابع المستشار الألماني أنه طلب من الرئيس الصيني المشاركة في مؤتمر يونيو (حزيران) للسلام الذي تستضيفه سويسرا من دون روسيا. وليس واضحاً ما إذا كانت الصين وافقت على ذلك، علما بأنها تعدّ نفسها طرفاً محايداً في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، رغم أنها ترفض إدانة موسكو.

 

إبعاد الأوروبيين عن الصين... هاجس عند واشنطن

> يرى مراقبون سياسيون أن علاقة ألمانيا بالصين قد تصبح إشكالية أكبر بالنسبة إليها قريباً، خصوصاً في حال عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، لا سيما أنه كان يلوّح بشن حرب تجارية على الصين عندما كان رئيساً، وكان ينتقد كلاً من ألمانيا والاتحاد الأوروبي بسبب علاقاتهما التجارية مع الصين. ولكن، حتى في ظل إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، نرى واشنطن تتشدد في مواجهة بكين سياسياً وتجارياً، إذ تعدّ ممارساتها الاقتصادية والتجارية «عديمة النزاهة». وهنا، لا بد من الإشارة، إلى أنه حتى الاتحاد الأوروبي بات يفتح تحقيقاً تلو الآخر بشركات صينية وإغراق الأسواق الأوروبية ببضائع تلغي المنافسة الأوروبية. وأخيراً، فتح الاتحاد تحقيقاً في تطبيق «تيك توك» بعد إطلاقه منصة جديدة في فرنسا وإسبانيا موجهة للمراهقين والأطفال وتقديمه مكافآت مالية لمشاركة الفيديوهات ومشاهدتها. وفي ضوء ذلك، أعرب الاتحاد عن قلقه من أن يتسبب التطبيق في «إدمان» لدى الأطفال والمراهقين وطلب تفاصيل إضافية من «تيك توك» لتقييم المخاطر.أكثر من هذا، على الرغم من أن الخلافات الأوروبية الداخلية - وحتى الألمانية الداخلية - تمنع بروكسل حتى الآن من اتخاذ خطوات إضافية تواجه بصورة أفضل السياسة التجارية الصينية، يعتقد خبراء بوجود حاجة إلى خطط أوروبية بعيدة المدى حول العلاقات مع الصين. وفي تقرير «معهد الأطلسي» الأميركي حول الموضوع، قال إن «أوروبا لن تكون قادرة على تحقيق وقف اعتمادها على الصين في المدى القصير، ولا بالسرعة أو الأشكال التي تريدها واشنطن، لأن الأمر يتطلب استثمارات ضخمة داخل أوروبا تبني اقتصادات أكثر تنافسية، ستستغرق عدة سنوات، وعلى مدى عدة رئاسات أوروبية». وأضاف تقرير المعهد أن إدارة رئيسة مفوضية الاتحاد أورسولا فون دير لاين «تطور خريطة طريق لضمان نجاح خطة كهذه تطبق بعد انتهاء ولايتها». وتابع: «كي يتحقق ذلك، ستبقى ألمانيا، ومعها كبرى الشركات المستفيدة من التجارة مع الصين بسبب انخفاض أسعار البضائع، عقبة كبيرة في طريق تعديلات إضافية تبعد أوروبا عن إدمانها التجاري» على الصين.