تعود اللغة النووية اليوم لتتصدّر الخطاب السياسي العالمي، في مشهد يعيد إلى الذاكرة سنوات التوتر الكبرى إبان «الحرب الباردة»، لكن بملامح جديدة تماماً، وبقوى مختلفة، وبسياقات لا يمكن اختزالها في «ثنائية واشنطن-موسكو» التي حكمت العالم طوال النصف الثاني من القرن الماضي. إذ عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ونائبه جي دي فانس، نيّة الإدارة «البدء بالتجارب النووية من جديد»، بدا أن العالم يقف أمام تحوّل استراتيجي واسع قد يعيد خلط المفاهيم والالتزامات والمعاهدات، ويدفع القوى الكبرى إلى سباق تسلّح غير معلن تتقاطع فيه الرسائل، والمصالح، وحسابات الردع. وبينما كانت أروقة القرار في واشنطن تناقش حول جدوى العودة إلى التفجيرات تحت الأرض، كانت الصين تعمل بصمت في قلب صحراء شينجيانغ (سنكيانغ – في غرب الصين) لتوسيع منشأة «لوب نور» التاريخية، وتواصل روسيا الإيحاء بأنها قادرة على الرد فوراً على أي تغيير أميركي، حتى إن لم تنفذه بنفسها. وهكذا يتشكّل مشهد نووي جديد، مختلف عن كل ما سبق، عنوانه الأساسي: عودة الردع إلى نقطة الصفر!

منذ اللحظة الأولى لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب اعتزامه استئناف التجارب النووية، اندلع جدل واسع في الأوساط الأميركية والدولية. إذ جاء الإعلان في سياق سياسي حسّاس، تزامن مع اجتماعات رفيعة المستوى بين واشنطن وبكين، ومع تدهور الثقة بين القوى النووية الكبرى، ومع انهيار أجزاء كبيرة من منظومة الحد من التسلح التي بُنيت خلال عقود.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تُجرِ أي تفجير نووي منذ عام 1992، فإن الرئيس الأميركي ربط قرار العودة إلى التجارب بضرورة «التعامل بندّية» مع روسيا والصين، ملمحاً إلى أن الدولتين «ربما تنفّذان اختبارات منخفضة العائد» أو تعملان على تحديث رؤوسهما النووية من دون قيود مماثلة. وكان بعض المسؤولين الأميركيين قد لمّحوا، على مدى سنوات، لشكوك حول منشآت صينية وروسية، لكن من دون أدلة قاطعة.
من جهته، أوضح جي دي فانس نائب الرئيس الأميركي، أن الاختبارات ستكون «علمية وتقنية قبل أن تكون سياسية»، وأن الغاية منها «التحقّق من سلامة الترسانة الأميركية». غير أن هذا الطرح لم يُقنِع خبراء المختبرات الأميركية الكبرى، لوس آلاموس ولورنس ليفرمور وسانديا، الذين يؤكدون أن التقنيات الحديثة، من المحاكاة الحاسوبية الفائقة الدقة إلى أجهزة الليزر العملاقة، مروراً بتجارب المواد غير الحرجة، توفر بيانات تُغني عن أي تفجير فعلي.
ومن ثم، في حين يقول مؤيدو الخطوة إن واشنطن تدخل مرحلة جديدة من التنافس الاستراتيجي، ولا تستطيع إبقاء برامجها في حالة «جمود طوعي» بينما تتحرّك القوى المنافسة بوتيرة متسارعة، يصف معارضو القرار بأنه «سياسي أكثر منه علمي»، وأنه قد يطلق سباقاً نووياً يتجاوز بكثير حدود المقارنة التقنية.
ترسانة ضخمة... وقلق من الشيخوخة
تملك الولايات المتحدة اليوم ما يقرب من 3700 رأس نووي، بينها نحو 1700 رأس في حالة نشر. ولكن على الرغم من توافر هذه القوة الكاسحة، تتزايد المخاوف بشأن تقادم المواد الانشطارية التي صُنعت في السبعينات والثمانينات. ولهذا، يُعاد فتح النقاش حول حاجات المختبرات لاختبار بعض النماذج.
في المقابل، يشدد العديد من المتخصّصين على أن مشروع «تحديث» الترسانة، الذي قد تتجاوز كلفته 1.7 تريليون دولار على مدى ثلاثة عقود، يضمن بقاء الأسلحة الأميركية في وضع متفوق من دون الحاجة إلى تفجير واحد. ويوضح هؤلاء أن الولايات المتحدة تملك أكبر قاعدة بيانات نووية في العالم وأكثرها تعقيداً، وأن أي اختبار جديد لن يضيف معرفة لا يمكن الحصول عليها بالحسابات الرقمية.
مع هذا، تبقى الحسابات السياسية حاضرة بقوة. ذلك أن ترمب يطرح التجربة بعدّها جزءاً من سياسة «إظهار القوة»، في لحظة تتعاظم فيها التحديات مع الصين وروسيا في فضاءات عدة؛ أبرزها: بحر الصين الجنوبي، وأوروبا الشرقية، وقواعد الرّدع في مناطق القطب الشمالي والمحيط الهادئ.
وفي حال اتُخذ القرار فعلياً، فإن الموقع الأكثر ترجيحاً هو موقع نيفادا للتجارب النووية، الذي شهد أكثر من ألف تفجير منذ الأربعينات. بيد أن البنية التحتية فيه تدهورت إلى حد كبير: فالأنفاق مطمورة، والتجهيزات متقادمة، والكوادر المتخصّصة تقاعدت منذ زمن. بل، وتقدّر وزارة الطاقة أن إعادة الموقع للعمل قد تستغرق من سنتين إلى ثلاث سنوات، وبكلفة تصل إلى 150 مليون دولار على الأقل للتجربة الواحدة.
ولكن رغم ذلك، يلوّح بعض «صقور» المحافظين داخل أوساط اليمين الأميركي بخيار «التجربة فوق الأرض» لأهداف رمزية، مع أن هذا محظور دولياً منذ 1963 بسبب الآثار الإشعاعية.
معارضة داخلية... وتبعات دولية
في الداخل الأميركي، يواجه قرار العودة إلى التجارب معارضة سياسية وشعبية قوية في ولايات الغرب، وبخاصةٍ ولاية نيفادا، التي عانت كثيراً من آثار التجارب السابقة. وبالفعل، عدّ ساسة تلك الولايات القرار «قتلاً وتسميماً للشعب الأميركي»، مذكّرين بأن الحكومة دفعت أكثر من 2.7 مليار دولار تعويضات للمتضرّرين من الإشعاعات النووية خلال القرن الماضي.
ثم إن الرأي العام يشكِّك في جدوى المخاطرة بفتح سباق نووي من جديد، تشارك فيه هذه المرة ليس فقط روسيا والصين، بل أيضاً كوريا الشمالية والهند وباكستان، وربما إيران. ويضاف إلى ما سبق، أن واشنطن – التي لم تُصادق على «معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية» مع أنها التزمت بها عُرفياً – ستفقد آخر أوراق ذريعتها الأخلاقية في ملف الحد من الانتشار... ومن ثمّ، تمنح الصين وروسيا وآخرين غطاء مثالياً لأي خطوة مماثلة.
الصين تتوسع وروسيا تراقب
في هذه الأثناء، بينما ارتفعت الأصوات في واشنطن، التزمت بكين الصمت، مكتفية بنفي «أي انتهاكات» لـ«معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية». غير أن صحيفة «وول ستريت جورنال» اليمينية، ذكرت في تقرير لها «أن ما يجري على الأرض، وفق صور الأقمار الاصطناعية وتحليل خبراء مستقلين، يكشف عن واقع آخر».
ووفق التقرير، في قلب صحراء شينغيانغ، حيث تمتد القاعدة النووية الضخمة في منطقة «لوب نور» الصحراوية، ظهرت منذ 2020 أعمال توسع نوعية، منها:
- حفر أنفاق جديدة على الحافة الشمالية للمجمّع.
- إنشاء غرف تفجير أعمق.
- تشييد بنى دعم لوجيستية وكهربائية.
- حفر آبار رأسية يُرجح استخدامها لاختبارات ذات عائد كبير.
- نشاط مستمر للمركبات الثقيلة منذ 2021 وحتى 2025.
- زيادة الحركة في مركز القيادة المركزي داخل القاعدة.
ويقدّر مركز «أول سورسز آناليسيز» البحثي أن الموقع «شهد أكبر طفرة تطوير منذ التسعينات»، ما يشير إلى استعداد صيني لمواجهة سيناريو يعيد فتح باب التجارب. كذلك، يشير بعض الخبراء أيضاً إلى ان الصين، التي أجرت أقل عدد من الاختبارات التاريخية، «تفتقر إلى البيانات التجريبية» مقارنة بالولايات المتحدة وروسيا، وهذا ما قد يدفعها إلى عمليات اختبار منخفض العائد لتعويض هذا النقص، خصوصاً، في سياق تطوير رؤوس نووية أصغر وأقل عائداً، ومحركات الصواريخ الحديثة.
ترسانة الصين تُقدر – وفق المصادر – بنحو 600 رأس نووي، وقد تصل إلى ألف بحلول 2030. لكن حتى هذا الرقم لا يُقارَن بالمخزون الأميركي أو حتى المخزون الروسي. ومن جهتها، تربط مصادر دفاعية أميركية توسعة «لوب نور» بأهداف صينية أكبر، أبرزها:
يواجه قرار العودة إلى التجارب معارضة سياسية وشعبية قوية في ولايات الغرب
- زيادة الغموض حول إمكاناتها النووية.
- تطوير رؤوس دقيقة تُستخدم لردع الخصوم في محيطها الإقليمي.
- بناء بنية تحتية تتيح إجراء اختبارات قصيرة وسرية عند الحاجة.
وتشير تقارير «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) إلى أن الصين قد تنتقل من «اختبارات موسمية» إلى «قدرة على التشغيل طوال العام»، مع الحفاظ على مستوى عالٍ من السرّية. ومع أن بكين تؤكد التزامها بمبدأ «عدم الاستخدام الأول»، فإن قلة البيانات المتاحة حول برنامجها النووي تجعل أي تحليل عرضة للتأويل.
أما روسيا فتتخذ موقعاً وسطاً بين الخطابين الأميركي والصيني. فهي لم تُجرِ أي اختبار نووي منذ التسعينات، لكنها انسحبت من «معاهدة الحظر الشامل للتجارب» عام 2023، ورفعت مستوى خطابها النووي، خصوصاً، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
كذلك، في كل مرة تلوّح واشنطن بالاختبارات، يخرج مسؤولون روس للتأكيد على «جاهزية» بلادهم للرد الفوري. ومع أنه توجد مؤشرات على إجراء تفجيرات جديدة، تواصل موسكو تحديث أنظمة صواريخ «سارمات» و«أفانغارد» و«بوريفيستنيك»، مع تكثيف المناورات العسكرية التي تشمل قوات الردع. ويرى محللون غربيون أن روسيا تتعامل مع المسألة ببراغماتية شديدة: فهي لن تبدأ الاختبارات أولاً، لكنها لن تتأخر إذا قامت واشنطن بخطوة مماثلة.
مشهد نووي متعدد الأقطاب
في أي حال، يختلف السياق الحالي جذرياً عن مرحلة «الحرب الباردة». ففي الماضي، كانت الثنائية الأميركية - السوفياتية تجعل الحسابات أوضح، والضوابط قابلة للتفاوض. أما اليوم، فإن المشهد أكثر تعقيداً؛ ذلك أن الولايات المتحدة تبحث عن تعزيز الردع التقليدي والنووي، والصين تبني قدرات صاعدة بسرعة غير مسبوقة، وروسيا تعتمد خطاباً تصعيدياً لتعويض ضعفها التقليدي. أما القوى الأخرى، مثل كوريا الشمالية والهند وباكستان، فتراقب التطورات وتتكيف معها.
هذه البيئة المركبة تجعل أي اختبار، حتى لو كان محدوداً، كفيلاً بتغيير معادلات عدة في وقت قصير.
هنا، يتفق معظم العلماء الأميركيين على أنه لا حاجة إلى اختبارات نووية جديدة، لأن برامج المحاكاة الحديثة توفر دقة تفوق بكثير ما يمكن أن يقدمه تفجير واحد تحت الأرض. وهذا بالإضافة إلى أن البيانات المتراكمة على مدى عقود تجعل الترسانة الأميركية قابلة للتحليل والتقييم من دون الحاجة إلى تجربة فعلية.
لكن المشكلة، بحسب خبراء الحد من التسلح، تكمن في أن «السلاح النووي ليس مجرد منظومة تقنية، بل رمز سياسي». ومجرد إعلان النية بالعودة إلى الاختبارات يحمل في ذاته رسالة ردعية، قد تكون مفيدة للبعض وخطرة للغاية لآخرين.
وهكذا، بين مواقع التجارب النووية، يتشكّل اليوم فصل جديد من «سباق الظلال النووية». ومع أن أي دولة لم تضغط بعد على زر التفجير، فإن العالم يقف على مسافة قصيرة من لحظة قد تبدّل ميزان القوى بالكامل. والحقيقة، أن المنظومة التي بُنيت منذ الستينات، من معاهدات الحظر الجزئي والكامل، إلى اتفاقات الحد من التسلح، إلى آليات الشفافية، تتعرّض اليوم لاهتزازات عنيفة. وفي ظل انعدام الثقة، وتزايد الغموض، وتضارب الخطابات، يكفي قرار منفرد من أي قوة كبرى لإطلاق سباق لا يمكن إيقافه بسهولة. في الداخل الأميركي،
حقائق
أبرز المعاهدات والاتفاقات الدولية التي شكّلت لعقود العمود الفقري لمنظومة الحدّ من الأسلحة النووية
رسمت المعاهدات النووية خلال العقود السبعة الماضية الإطار القانوني والأمني الذي حاول ضبط سباق التسلح والحدّ من انتشار الأسلحة النووية. وتعد «معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية»، الموقعة عام 1968، الحجر الأساس في هذا النظام. وقد هدفت إلى منع انتقال السلاح النووي إلى دول جديدة، مقابل التزام الدول النووية بتقليص ترساناتها، وتعهد جميع الأطراف باستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط. ورغم ثغراتها، ما زالت تلك المعاهدة الإطار الأكثر شمولية، إذ انضمت إليها غالبية دول العالم.
في أوروبا، شكّلت «معاهدة الحدّ من القوات النووية المتوسطة المدى» عام 1987 نقطة تحوّل. إذ أنهت سباق الصواريخ الأميركية والسوفياتية في أوروبا بإلغاء فئة كاملة من الصواريخ الباليستية والمجنّحة بمدى بين 500 و5500 كلم. لكن الانسحاب الأميركي منها عام 2019، بحجة الخروق الروسية، واستخدام الروس هذه الأنواع من الصواريخ أخيراً في أوكرانيا، أعاد القارة إلى مرحلة انعدام القيود.
أما معاهدات «ستارت» بين واشنطن وموسكو، بدءاً من «ستارت 1» عام 1991، فقد أسهمت في تقليص ضخم للترسانات الاستراتيجية لكلا البلدين. ومع انتهاء معظم هذه الاتفاقيات، لم يبق قيد التنفيذ اليوم سوى «نيو ستارت» (2010) التي تحدد سقف الرؤوس النووية المنشورة بـ1550 رأساً لكل طرف. ولكن مع تعليق روسيا العمل بها عام 2023 ورفضها التعاون في عمليات التفتيش، تقف المعاهدة على حافة الانهيار.
أما لجهة التجارب النووية، فجاءت «معاهدة الحظر الجزئي للتجارب» (1963) لتمنع التفجيرات في الجو والفضاء وتحت الماء، وتسمح فقط بالتجارب تحت الأرض، رداً على التلوث الإشعاعي الواسع في الخمسينات والستينات، قبل أن يسعى المجتمع الدولي لاحقاً إلى حظر شامل عبر معاهدة الحظر الكامل للتجارب النووية عام 1996. ورغم توقيع معظم الدول الكبرى عليها، لم تدخل حيز التنفيذ لأن دولاً أساسية مثل الولايات المتحدة والصين وإيران وإسرائيل ومصر وكوريا الشمالية والهند وباكستان لم تصادق عليها.
أيضاً، برزت معاهدات أخرى ذات طبيعة إقليمية، مثل «معاهدة تلاتيلولكو» لإنشاء منطقة خالية من السلاح النووي في أميركا اللاتينية، و«معاهدة بليندابا» لأفريقيا، و«معاهدة ريناتشيرو» لجنوب شرقي آسيا، وهي تشكل جزءاً من جهود دولية لمحاصرة الانتشار النووي عبر مناطق منزوعة السلاح. ورغم التراجع الكبير في منظومة الرقابة خلال العقد الأخير، ما زالت هذه المعاهدات تمثل الإطار المرجعي الأساسي لأي مفاوضات مستقبلية لإعادة بناء نظام الردع العالمي وضبط سباق التسلح النووي.


