لم تعبأ هانا تيتيه، المبعوثة الأممية إلى ليبيا، بكمّ «الانتقادات والاتهامات» التي توجَّه إلى البعثة، وأحياناً إلى شخصها، بقدر ما تركّز على إحداث اختراق في الأزمة السياسية المستعصية، أو تفكيكها على نحو يسمح بوضع البلد على مسار الانتخابات العامة. ربما ما يميّز الدبلوماسية الغانية المخضرمة تيتيه – التي هي الشخصية العاشرة التي تتولّى هذا المنصب منذ عام 2011 – أنها جاءت من خلفية قانونية وسياسية، قبل أن تراكم خبرة دبلوماسية تمتد لعقود على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. فمنذ أن تسلّمت مهام منصبها في 20 فبراير (شباط) 2025، وهي تقرأ في كفّ الأزمة بتمهل شديد، وتُطالع ملفاتها المعقّدة، وتجالس أقطابها المتنافرين بابتسامة هادئة علّها تعثر على خيط أو قاسم مشترك يعيد الأُلفة بين أركان البلد المتشظّي.
قد تكون هذه هي المعركة الأهم في حياة الدبلوماسية الغانيّة هانا تيتيه، والمرحلة الأكثر أهمية لدى الليبيين الذين ملّوا الفترات الانتقالية و«الإخفاق الأممي». ذلك أن تيتيه التي شغلت حقيبتي التجارة الخارجية في بلدها غانا بين عامي 2009 و2017، تعمل راهناً، وأمامها تجارب أسلافها من المبعوثين مع ملفّ معقّد، ولذا فإنها تريد بالتأكيد تحقيق نجاح يكلّل مشوارها الأممي.
خلال خمسة أشهر منذ حلّت على ليبيا، نال تيتيه شيء من غبار المعارك الكلامية واتهامات بـ«الانحياز»، ومبعث ذلك، القاعدة التي تعتمدها «الأطراف الفاعلة» بلسان حال يقول «من ليس معي فهو ضدي». لكن، رغم الصعاب، تمضي تيتيه إلى حيث مجلس الأمن الدولي هذا الشهر، لإعلان «خريطة طريق» سياسية، آملة في تفكيك أزمة استعصت على أسلافها التسعة، وكان آخرهم السنغالي المخضرم عبد الله باتيلي الذي ترك منصبه في مايو (أيار) 2024، متهماً قادة ليبيا بأنهم «أنانيون».
ما بين غانا والأمم المتحدة
ولدت هانا سيريوا تيتيه في مدينة سيغيد بجنوب شرقي المجر، لأب غانيّ وأمّ مجرية، يوم 31 مايو عام 1967. وتدرجّت في المراحل التعليمية في غانا وصولاً إلى مدرسة ويزلي الثانوية للبنات في مدينة كيب كوست الساحلية.
وبعدها، حصلت على درجة البكالوريوس في القانون من جامعة غانا، وانضمّت إلى نقابة المحامين في عام 1992 بعد إكمال الدراسات القانونية العليا في كلية الحقوق بالعاصمة الغانية أكرا. مع الإشارة إلى أن تيتيه قبل بداية حياتها المهنية السياسية، مارست المحاماة في قطاع الشركات. وأيضاً عُيّنت ميسِّرة مشاركة في «المنتدى السامي» لإحياء اتفاقية حل النزاع في جنوب السودان.
تشمل مسيرة تيتيه المهنية بصفتها سياسية وإدارية انتخابها نائباً في البرلمان عن حزب المؤتمر الوطني الديمقراطي (يسار الوسط) لدائرة أوتو سينيا من عام 2000 إلى عام 2005، ثم عن دائرة أوتو سينيا الغربية من عام 2013 إلى عام 2017.
وللعلم، فإن تيتيه التي تتكلّم بطلاقة اللغاتِ الإنجليزية والمجرية والفانتي (إحدى اللغات القبلية في غانا)، عيّنت قبل التحاقها بجهاز منظمة الأمم المتحدة عضواً بارزاً في مجلس وزراء حكومة غانا، حيث شغلت منصب وزيرة للتجارة والصناعة من عام 2009 إلى عام 2013، ثم وزيرة الخارجية حتى عام 2017، وكانت عضواً في مجلسي الأمن القومي والقوات المسلحة.
الخبرة السياسية
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش سلّط الضوء في إعلانه عن تعيين تيتيه مبعوثة أممية إلى ليبيا، على خبرتها الواسعة وشخصيتها القيادية، بعدّهما أساساً في مواجهة التحديات المعقدة في ليبيا. ويُذكر أن جانباً لا بأس به من هذه الخبرة جمعته تيتيه في أثناء عملها وزيرة للخارجية، إذ تقلّدت منصب رئيسة مجلس الوزراء ومجلس الوساطة والأمن في الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بين عامي 2014 و2015.
ثم إن للمبعوثة الأممية إلى ليبيا إسهامات ضمن صفوف فريق الإدارة الاقتصادية في غانا، حيث أسندت لها مناصب رئيسية مختلفة، بينها عضويتها في مجلس إدارة هيئة تنمية الألفية، ولجنة التخطيط الإنمائي الوطني، فضلاً عن تعيينها رئيسة مجلس المناطق الحرة في غانا. وفي الفترة الأخيرة، شغلت تيتيه منصب المبعوثة الخاصة للأمين العام لمنطقة القرن الأفريقي من عام 2022 إلى عام 2024. إلا أنها قبل ذلك كانت الممثلة الخاصة للأمين العام لدى الاتحاد الأفريقي ورئيسة مكتب الأمم المتحدة لدى الاتحاد الأفريقي من عام 2018 إلى عام 2020، وفي وقت سابق من حياتها المهنية، شغلت منصب المدير العام لمكتب الأمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي.
التجوُّل بملف القضية
بدا لكثير من الليبيين أن دراسة هانا تيتيه القانون أكسبتها روحاً تفاوضية محايدة. فهي متمسّكة بابتسامتها الهادئة ونبرات صوتها الخفيضة في مواجهة اتهامات بأنها «تدير الأزمة ولا تسعى إلى حلّها كباقي أسلافها؛ فتحوّلت بالتبعية من وسيط نزيه إلى جزء من الأزمة».
غير أن تيتيه، التي تراهن على وحدة الليبيين وتماسكهم، تتغاضى وكأن شيئاً لم يكن، وتتجوّل بملف القضية محلياً وإقليمياً ودولياً، سعياً لإيجاد سبيل لتحييد الداعمين الخارجيين ودفعهم إلى دعم تحركها لخلخلة المعضلات التي أفشلت المسار الانتخابي قبل قرابة أربع سنوات.
والواقع أن المبعوثة الأممية تعتقد أن حلاً قريباً يلوح في الأفق، لكنه يتطلّب شروطاً، وهي مع ذلك تحذّر من مرور ليبيا بـ«منعطف حاسم». إذ لا تمنعها لا دبلوماسيتها ولا حساسية موقعها وحسابات الربح والخسارة من القول إن «العديد من الليبيين يشعرون بخيبة أمل عميقة من طول الفترة الانتقالية، وفقدوا الثقة في المؤسسات والقيادة الحالية».
شدّدت المبعوثة على أهمية ملف المصالحة الوطنية، والحاجة الماسة إلى استقرار الوضع الأمني وتجاوز الجمود السياسي
مواجهة المتنفّذين
من جهة أخرى، ربما تعجّلت تيتيه في توجيه الانتقادات إلى الأطراف السياسية المتنفذة. فقبل ثلاثة أشهر مدّت يدها إلى «عشّ الدبابير» ونكأت جرحاً يخشونه عندما قالت إن «المؤسسات الليبية كافة تجاوزت ولاياتها المتعلقة بالشرعية»، وهذه سيرة يكرهها مَن هم في سدّة الحكم كراهة التحريم.
بكلام آخر، أسلوب المكاشفة الذي تتبعه تيتيه، وهي متكئة على جدار الأمم المتحدة، لا يرغب به جلّ الليبيين ولا ساستهم. غير أنها مع ذلك، تعرضت أيضاً في إحاطة سابقة لمجلس الأمن إلى ميزانية «صندوق إعادة الإعمار»، الذي يترأسه بلقاسم، نجل المشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني»... والنتيجة مطالبة البعثة بمغادرة ليبيا «تواً».
ولأن هذه هي المرحلة الأهم في حياة تيتيه السياسية والدبلوماسية، فهي تقاتل بصفتها يد الأمم المتحدة لتفكيك الأزمة وتيسير الحل بين الأفرقاء، متحمّلة في سبيل ذلك اتهام البعثة بالإخفاق في تقديم «حلول للأزمة».
ومن ثم، تراهن المبعوثة - التي تتحضّر لطرح «خريطة» طريق سياسية أمام مجلس الأمن هذا الشهر- على مُخرجات اللجنة الاستشارية التي رعت أعمالها سابقاً، وتحديداً، لجهة قبول الأطراف السياسية بمسار قانوني يسمح بعقد الانتخابات العامة في توقيتٍ قريبٍ لإنهاء دوامة الفترات الانتقالية.
الأشهر الحاسمة
ولكن، قبل التوجه إلى مجلس الأمن، استخدمت تيتيه أسلحتها بصفتها خبيرة قانونية ودبلوماسية مخضرمة، ودقّت جرس الإنذار من على منصة الاتحاد الأفريقي ليعلم الجميع عِظَم الأمر الذي تعيشه ليبيا في ظل الانقسام.
لقد شدّدت المبعوثة على أهمية ملف المصالحة الوطنية، والحاجة الماسة إلى استقرار الوضع الأمني وتجاوز الجمود السياسي، بما يمكّن المواطنين الليبيين من التقدّم نحو بناء دولة مزدهرة وآمنة للجميع.
وفي إحاطة إلى مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي عبر «الإنترنت» الأسبوع الماضي من العاصمة طرابلس، قالت تيتيه إن نجاح خريطة الطريق المرتقبة «يتطلّب دعم الاتحاد الأفريقي، فضلاً عن مجلس الأمن والمنظمات الأخرى والدول الأعضاء الحاضرة في لجنة المتابعة الدولية (عملية برلين)».
بناءً عليه، ستكون الأشهر المقبلة حاسمة في المشوار المهني للمبعوثة الأممية؛ فهي من جهة تبتغي تجاوز الانقسام الجهوي في ليبيا بتوافق الأطراف على خريطة سياسية... فتضيف بذا إلى سجلها الأممي نجاحاً جديداً، ومن جهة ثانية تسعى إلى خلع «اتهام بالإخفاق» يلاحق الأمم المتحدة.


