معالم جيوسياسية لافتة في زيارة مودي المتزامنة إلى فرنسا والولايات المتحدة

رغم روائح الحرب التجارية المنبعثة من مطابخ القرار الأميركية

ترمب يرحب بمودي في البيت الأبيض (آ ب)
ترمب يرحب بمودي في البيت الأبيض (آ ب)
TT

معالم جيوسياسية لافتة في زيارة مودي المتزامنة إلى فرنسا والولايات المتحدة

ترمب يرحب بمودي في البيت الأبيض (آ ب)
ترمب يرحب بمودي في البيت الأبيض (آ ب)

لقد أكد الرئيس دونالد ترمب مجدداً، إبان زيارة الزعيم الهندي ناريندرا مودي لواشنطن أنه يعني الأعمال التجارية... حرفياً.

عبارة «أرني المال» قد تكون شعار الولاية الثانية لترمب، وهذا النهج لا يصب بالضرورة في مصلحة الهند. ولأن اقتصادها سريع النمو مع ارتفاع المطالب، فإن الهند في وضع يسمح لها بعرض صفقات على الولايات المتحدة إذا كان لها أن تستفيد من جوانب أخرى.

استقبال مميز

منذ اللحظة التي وصل فيها مودي إلى واشنطن، بدا كل شيء سلساً. وقبل اجتماعه مع الرئيس ترمب، التقى مودي مع إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، الذي حضر رفقة أطفاله الثلاثة. وكذلك التقاه مايكل والتز، مستشار الأمن القومي الأميركي الجديد، وفيفيك راماسوامي رجل الأعمال الهندي الأميركي المقرّب من ترمب الذي من المقرّر أن يترشح لمنصب حاكم ولاية أوهايو. وزارته أيضاً بعد وقت وجيز من وصوله إلى واشنطن تولسي غابارد، المديرة الجديدة للاستخبارات الوطنية الأميركية، التي تربطها بمودي علاقة وطيدة.

جورح سوروس (آ ب)

المحلل السياسي الهندي إم دي نالابات قال معلقاً: «لدى الرئيس ترمب فهم عميق للحقائق الجيوسياسية، وهي السمة التي يتشاركها مع رئيس الوزراء مودي. فكلا الزعيمين يدرك أن الحرب الباردة الثانية هي معركة وجودية بقدر ما كانت الحرب الباردة في نسختها الأولى. وقد التزم الزعيمان بسياستَي (الهند أولاً) و(الولايات المتحدة أولاً) على التوالي...».

ولفت المحلل إلى أنه «بعد مباحثات الزعيمين الثنائية، استعار مودي شعار ترمب (جعل أميركا عظيمة مرة أخرى) ليضفي عليه لمسته الخاصة (جعل الهند عظيمة مرة أخرى)... وفي المقابل، لم يكن ترمب ممن يمتنعون عن الإشادة بذلك، بل أعرب عن إعجابه بالمهارات (التفاوضية) التي يتمتع بها مودي... وقال إنه (مفاوض أكثر صرامة مني، إنه مفاوض أفضل مني بكثير. ولا مجال حتى للمنافسة في ذلك)».

وتابع نالابات: «من ناحية ثانية، قال محللون آخرون إن مودي كان ودوداً مع ترمب. لمّح بكل الإشارات والتصريحات الصحيحة، لكنني بصفتي شخصاً درس شخصية مودي وحكمه من كثب، كان واضحاً لي أنه كان محتاطاً لأمره أو ربما حذراً».

فيفيك راماسوامي (رويترز)

وحقاً، من المثير للاهتمام أن ترمب رفض مرتين الإجابة عن أسئلة حول الدور المحتمل للهند في الوساطة من أجل السلام بين روسيا وأوكرانيا، وبدلاً من ذلك أكد على دور الصين. أيضاً عرض التوسط في المناوشات الهندية - الصينية، متجاهلاً حقيقة أن عرضه السابق للتوسط مع باكستان إبان فترة ولايته الأولى لم يلق قبولاً جيداً من قبل الهند.

وحول الصين، قال ترمب في لقاء صحافي عُقد في أعقاب اجتماعه بمودي إنه مستعد للمساعدة إذا أدت مساعدته إلى تخفيف التوتر المزمن بين بكين ونيودلهي. وتابع أن للصين الآن نفوذاً عالمياً، وبإمكانها لعب دور في إنهاء حرب أوكرانيا.

الرسوم الجمركية وترمب

ولكن تحت سطح آيات الإعجاب والثناء المتبادل، كمنت الحقائق الثابتة للتجارة والرسوم الجمركية. فقبل ساعات من اجتماع ترمب بمودي، أعلن ترمب فرضه رسوماً جمركية متبادلة شاملة... وهذه المرة لا تستثني الهند.

وهنا، ذكر الصحافي الهندي أبيشيك دي أن «الاجتماع بين مودي وترمب كان متوقعاً أن يكون ذا أهمية كبيرة من الناحية المرئية. إذ تبع العناق الحار المصافحة الحازمة عندما دخل رئيس الوزراء مودي إلى البيت الأبيض، لكن البرودة كانت ملموسة عقب إعلان الرئيس الأميركي عن الرسوم الجمركية المتبادلة الشاملة. وحقيقة أن درجة حرارة الطقس لم تتجاوز درجة واحدة فقط في العاصمة واشنطن لم تساعد في حل هذه المسألة».

ثم إن ترمب قال في مؤتمر صحافي إن الهند «في صدارة المجموعة» عندما يتعلق الأمر بالرسوم الجمركية. وعلى الرغم من وقوف مودي إلى جانبه، ترمب بأسلوبه الفج الأميل للعداء «أياً كانت الرسوم الهندية، فإننا نفرض رسومنا سواءً بسواء. لذا، وبكل بصراحة، لم يعد ما يفرضونه من رسوم مهماً بالنسبة لنا».

للعلم، الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأول للهند، ومعها تتمتع الهند بفائض تجاري. ولذا كانت الرسوم الجمركية نقطة خلافية رئيسة، إذ انتقد ترمب مراراً الرسوم الجمركية الهندية «المرتفعة» - ووصفها بأنها «ملك الرسوم الجمركية» - وبالذات الرسوم على السلع الأميركية كالدراجات النارية والمنتجات الزراعية. لكن أحدث ميزانية في الهند شهدت خفض الرسوم الجمركية من 13 في المائة إلى 11 في المائة في محاولة لتجنب أي رسوم يفرضها ترمب. ومع هذا، واصل ترمب الضغط بشدة على الهند لشراء المزيد من الغاز والنفط الأميركي، فضلاً عن المعدات الدفاعية الأميركية.

تحدّي «بريكس» للدولار

من جانب آخر، شن ترمب هجوماً لاذعاً على دول مجموعة «بريكس» قبل اجتماعه مع رئيس الوزراء الهندي، بسبب محاولات إلغاء الدولار، إذ قال إن «البريكس قد ماتت». واتهم المجموعة بأنها أسست «لغرض سيئ»، زاعماً أنه حذّر دول المجموعة من أنها «ستتعرض لرسوم جمركية بنسبة 100 في المائة... إذا أرادت اللعب بالدولار». ومضى قائلاً: «في اليوم الذي يذكرون أنهم يريدون فعل ذلك، سوف سيعودون ليقولوا: نتوسّل إليكم، إننا نتوسل إليكم!.. لقد ماتت مجموعة البريكس منذ أن ذكرت ذلك».

«مكاسب سياسية» للهند على حساب «جاراتها»

في المقابل، رأى أنيل تريغونايات، السفير الهندي السابق لدى الأردن وليبيا ومالطا، أن «بين ما جاء لمصلحة للهند وقف المساعدات البالغة 20 مليون دولار في إطار عملية (ديمقراطية الظل) الهادفة إلى تصوير الهند على أنها دولة مارقة، جنباً إلى جنب مع نمط مستمر من التدخل في شؤون الهند وتجاهل (مصالحها الاستراتيجية). وعلاوة على ذلك، لا يبدو أن ترمب يميل إلى الاستثمار في أي من بنغلاديش أو باكستان، وسيكون راضياً إذا تعاملت الهند كما تشاء مع كليهما. وبدا أنه مستعد لتعزيز موقف الهند عبر تصريحات تعتبر باكستان مركزاً للإرهاب بشأن الهجمات عبر الحدود في البيان المشترك، أو قوله: سأترك بنغلاديش لرئيس الوزراء (أي لمودي). ثم إنه مع وجود ترمب في واشنطن، وتجميد التمويل الأجنبي، والتفكيك المستمر للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، جرى تحييد التدخل الأميركي في بنغلاديش إلى حد كبير».

ورأى السفير أن «التزام ترمب بإزالة عناصر (الدولة العميقة)، بمَن فيهم شخصيات مثل جورج سوروس، يمكن أن يخفف من المخاوف (الهندية) وموقفه (أي ترمب) السلبي تجاه محمد يونس، ونظرة مُرشح ترمب لشؤون جنوب آسيا إلى باكستان على أنها دولة خطيرة بصورة استثنائية، مقابل موقف وزير خارجيته الإيجابي من الهند... كلها إجمالاً مكاسب صافية للهند على حساب جاراتها بجنوب آسيا. كما منح ترمب مودي نصراً آخر بالإعلان عن تسليم المطلوب في هجمات 26 نوفمبر (تشرين الثاني) في مومباي».

من جهة أخرى، قالت ليزا كيرتيس، التي كانت جزءاً من إدارة ترمب الأولى، في برنامج حواري على قناة «الهند اليوم»، إن اجتماع مودي وترمب أرسى جدول أعمال الشراكة بين الولايات المتحدة والهند خلال السنوات الأربع المقبلة، وأضافت: «لقد كان اجتماعاً ناجحاً. وكونه حصل حدث في وقت مبكّر للغاية من رئاسة ترمب الثانية يُظهر أهمية الهند بالنسبة للولايات المتحدة. لقد أراد مودي اكتساب قدر من الحصانة من سياسات ترمب الإشكالية في مجال التجارة. لقد كانت زيارة بشعار (مودي يصنع السحر)، لأنه من الصعب للغاية نزع سلاح شخصية مثل ترمب. ومن خلال مشاهدة تفاعلاتهما خلال المؤتمر الصحافي، أعتقد أنه حقق ما اعتزم القيام به».


مقالات ذات صلة

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

حصاد الأسبوع من القمة (رويترز)

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

«محطة أولى في مسار طويل»، هكذا وصف الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط «قمة فلسطين» غير العادية التي استضافتها القاهرة، الثلاثاء الماضي، التي عكست توافقاً عربياً واضحاً على رفض «التهجير» أياً كان شكله أو اسمه، مع التأكيد على أن السلام خيار استراتيجي للمنطقة. جاءت قرارات القمة لتلبي الكثير من التوقعات والآمال، لا سيما مع تبينها «خطة عربية جامعة» لـ«إعمار دون تهجير». إلا أنها في الوقت نفسه قرارات تحتاج إلى «خطوات إجرائية» لتنفيذها على أرض الواقع، مستفيدة من حالة الزخم الحالية بشأن القضية الفلسطينية، وإلا انتهت ككثير من القرارات والمبادرات السابقة في الصدد نفسه «حبراً على ورق».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جامعة للقادة العرب المشاركين قي القمة (إكس)

قمم عربية تاريخية دعمت فلسطين

تعدُّ القضية الفلسطينية «قضية العرب المركزية»، ومنذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 كانت القضية الفلسطينية بنداً رئيساً على جدول أعمال القمم العربية.

حصاد الأسبوع ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

بدّد تشكيل الحكومة اللبنانية وحصولها على ثقة البرلمان في الأسبوع الماضي، كل الاعتراضات السابقة على تعيين ياسين جابر وزيراً للمالية. فالاعتراض لم يتخطَّ «تكريس…

نذير رضا (بيروت)
حصاد الأسبوع د غازي وزني (أ ف ب/غيتي)

وزير المال... «التوقيع الثالث» في السلطة التنفيذية اللبنانية

استحوذت عقدة وزارة المال، على ثلاثة أسابيع من النقاشات والاتصالات خلال فترة تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة، ويعود ذلك إلى إصرار «الثنائي الشيعي» (حزب الله.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع الاجتماع التاريخي العاصف بين زيلينسكي وترمب وأركان إدارته (رويترز)

رهان الكرملين على سياسة ترمب في أوكرانيا يصطدم بالتحدي الأوروبي

فتحت خطوات الرئيس الأميركي دونالد ترمب للضغط على سلطات كييف، بهدف حملها على الانخراط في تسوية سياسية للصراع في أوكرانيا، «شهية» موسكو لتسريع تطبيع العلاقات مع واشنطن، واستغلال الوضع الذي نشأ بعد الاستقبال المُهين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، لحصد أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل انطلاق العملية التفاوضية المحتملة. ومع تصعيد اللهجة الروسية، بالتوازي مع خطوات ترمب السريعة والحادة تجاه كييف، بما في ذلك على صعيد توسيع الحديث عن ضرورة إطاحة زيلينسكي كشرط ضروري لإطلاق حوار فعّال يفضي إلى تسوية سياسية نهائية، بدا أن التحدي الأكبر الذي يواجه الكرملين ينطلق من القارة الأوروبية. وفي مقابل مشهد تراجع الحماسة الأوروبية لدعم كييف قبل أسابيع قليلة، يخشى الكرملين من أن تسفر سياسة الضغط الأقصى التي يمارسها ترمب عن تحوّلات تعزّز تماسك الموقف الأوروبي. الأمر الذي يضع عراقيل إضافية أمام مسار الحل النهائي الذي يتطلع إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

رائد جبر (موسكو)

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
TT

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)

كشف عبد الجليل البدوي، الخبير الاقتصادي والمسؤول السابق في اتحاد نقابات العمال التونسية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «الأزمة الاقتصادية والمالية ومضاعفاتها الاجتماعية والأمنية أمر واقع»، داعياً السلطات إلى فتح مفاوضات مع النقابات والأطراف الاجتماعية والاقتصادية الوطنية لاحتوائها وتجنّب «الخطوط الحمراء».

مصالح رؤوس الأموال

وفي المقابل، البدوي عدّ أن بعض الأوساط في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأوروبي تتعمّد «تضخيم» أزمات تونس المالية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف «ابتزاز» السلطات وفرض شروط جديدة عليها خدمة لمصالح العواصم الغربية، وبينها تلك التي لديها علاقة بملفات الهجرة وحرية تنقل المسافرين والسلع ورؤوس الأموال بين بلدان الشمال والجنوب.

البدوي رأى أيضاً أن الأزمات المالية الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس، وعدة دول عربية وأفريقية اليوم، استفحلت منذ عدة سنوات بسبب «انصياع الحكومات المتعاقبة لـ(توصيات) صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وبينها اتباع سياسات رأسمالية لا تتلاءم واقتصادات دول في طريق النمو». وبالتالي، وفق البدوي، كانت النتيجة سياسات «منحازة إلى مصالح أقليات من رؤوس الأموال، وفشلاً في تحقيق التوازن بين الجهات والفئات والقطاعات التنموية».

خطر «الانهيار الشامل»

غير أن خبراء ماليين واقتصاديين تونسيين آخرين، منهم عز الدين سعيدان، المشرف سابقاً على بنوك ومراكز دراسات اقتصادية ومالية عربية، حذّروا من «تجاوز الخطوط الحمراء» بسبب اختلال التوازنات المالية للدولة والبنوك التونسية العمومية وارتفاع أعباء نِسَب التداين.

وحذّر سعيدان، بالذات، من تراجع فرص «خلق الثروة» وترفيع الاستثمار الداخلي والدولي، مع ما يعنيه ذلك من استفحال «الأزمة الاقتصادية الهيكلية» الموروثة، وبروز «أزمة ظرفية» من مظاهرها التضخم المالي وتراجع فرص التشغيل ونقص مداخيل الدولة من الصادرات ومن الضرائب.

وفي سياق متصل، توقّف الكثير من وسائل الإعلام والملتقيات العلمية والاقتصادية أخيراً عند تحذيرات وجّهتها أطراف تونسية وأجنبية من سيناريوهات «استفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق» في تونس. واستدلّت هذه الجهات بالإحصائيات الرسمية التي تقدّمها تقارير البنك المركزي والمعهد الوطني عن الإحصاء، والتي تكشف «مزيداً من العجز المالي والتجاري والفوارق بين الطبقات...».

مقر البنك المركزي التونسي (غيتي)

وأعاد هؤلاء إلى الأذهان ما أورده تقرير صدر قبل نحو سنتين في صحيفة «نيويورك تايمز» عن «اتجاه الاقتصاد التونسي نحو الانهيار». حقاً، كان ذلك التقرير قد أورد أن تونس «تعاني فشلاً اقتصادياً» بسبب سوء التسيير وتداعيات جائحة «كوفيد-19» والحرب الدائرة في أوكرانيا، التي ضاعفت حجم نفقات الدولة تحت عنوان تمويل وارداتها من المحروقات والحبوب، وحرمتها من مداخيل نحو مليون سائح روسي وأوكراني كانوا يزورون البلاد سنوياً.

ديون المؤسسات العمومية المفلسة

ويستدل الخبراء التونسيون والأجانب الذين يحذّرون من استفحال الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الحالية بتقارير أصدرها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وحذّرت بدورها من «تضخّم نسبة أجور العاملين في القطاع العمومي التي تبتلع نحو 18 في المائة من الناتج المحلي، وهي من أعلى النسب في العالم».

بل تزداد التحديات بالنسبة إلى السلطات بسبب بروز مثل هذه الإحصائيات في وقت تزايدت فيه احتجاجات النقابات على بعض القرارات «الموجعة» التي اتخذتها الحكومة، وبينها تجميد المفاوضات الاجتماعية حول زيادات الأجور ومنح التقاعد والتوظيف.

ولقد نبّهت المصادر نفسها أيضاً من تداعيات إخفاق الحكومات المتعاقبة في البلاد خلال السنوات الـ15 الماضية في تسوية معضلة ديون الشركات العمومية المفلسة التي تكلف الدولة نحو 40 في المائة من الناتج المحلي، في حين تمثّل أعباء دعم المواد الغذائية والمحروقات ما بين 8 و10 في المائة منه. ويُضاف إلى ما سبق، أن الأوضاع تغدو «أكثر خطورة» -وفق المصادر ذاتها- بسبب معضلة عجز الميزان التجاري وتراجع قدرة الصادرات على تغطية الواردات، على الرغم من الضغط الكبير الذي تمارسه مؤسسات الحكومة والبنك المركزي على حركة التوريد، بما في ذلك بالنسبة إلى الأدوية وقطع الغيار والمواد الخام التي يستحقها المصنّعون والمستثمرون.

مخاطر وتحذيرات

في خضم ذلك، أعد الخبيران الاقتصاديان التونسيان حمزة المؤدّب وهاشمي علية، والخبير اللبناني إسحاق ديوان، تقريرَيْن لفائدة مؤسسة دولية عن «المخاطر الاقتصادية والسياسية الاجتماعية التي تهدّد تونس». واستخلص الخبراء الثلاثة أن «تونس تعيش منذ عام 2011 بما يتجاوز إمكاناتها».

إذ سجل هؤلاء الخبراء أن القروض والمساعدات الخارجية تدفّقت إلى البلاد بعد الانتفاضة الشبابية والشعبية عام 2011، «لدعم عملية الانتقال السياسي الديمقراطي»، وقدّرت تلك «المساعدات» بنحو 20 مليار دولار خلال العقد الماضي. إلا أن عوامل عديدة أدت إلى تسبّب المليارات التي حصلت عليها الدولة بإحداث «طفرة استهلاكية غير مستدامة»، مقابل تراجع القدرة الإنتاجية للبلاد بسبب غياب الاستقرار السياسي وانعدام توازن الاقتصاد الكلّي، فكانت الحصيلة ازدياد إمكانية حدوث «انهيار مالي خطير».

ومن ثم، طالب الخبير الهاشمي علية ورفيقاه بـ«إصلاحات للنظام السياسي التونسي، كي يغدو قادراً على تفادي النتائج الكارثية لأزمة موروثة ازدادت تعقيداً وتفاقماً».

«الإصلاحات الموجعة»

في المقابل، يحذّر الخبير رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» من المخاطر التي تحفّ بـ«تطبيق تدابير إصلاحية قاسية وموجعة قد تؤدّي إلى اندلاع أزمة اجتماعية سياسية»، على الرغم من تحذيرات الخبراء الماليين التي تورد أن «التلكؤ في تنفيذ الإصلاحات سيفضي على الأرجح إلى حدوث انهيار اقتصادي ومالي واضطرابات اجتماعية وأمنية في المستقبل القريب».

وفي السياق ذاته، يدعو الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل»، نور الدين الطبوبي، ورفاقه في القيادة النقابية العمالية إلى القطع مع سياسات «المماطلة وكسب الوقت»، وإلى تنظيم حوار وطني اجتماعي-اقتصادي-سياسي يسفر عن تعزيز «الثقة في مشروع وطني يُعدّ مقبولاً سياسياً، ويستطيع النهوض بالبلاد نحو مستقبلٍ واعد».

نور الدين الطبوبي (رويترز)

وضع صعب... ولكن

في هذه الأثناء، حذّر وزير التجارة التونسي السابق والخبير الاقتصادي، محسن حسن، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من «الإفراط في تضخيم مؤشرات الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد»، غير أنه حثّ على الإقرار بوجود أزمة اقتصادية ومالية، وطنياً وقطاعياً، تحتاج إلى إجراءات فورية للإصلاح والتدارك، بما في ذلك في قطاعات الزراعة والتجارة والخدمات. ومن جهته، لفت الخبير الاقتصادي والأكاديمي، رضا الشكندالي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الكلام عن «انهيار» اقتصاد تونس «مبالغ فيه». ورأى أن تونس «ليست في مرحلة انهيار اقتصادي اجتماعي شامل، وإن كانت تعيش أزمة مالية تعمّقت مع تراجع الموارد المالية الخارجية، وتعثّر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية التي تقرض بنسب فائض منخفضة نسبياً». ومع إقرار الشكندالي بأن «الوضع الاقتصادي متأزم وخطير»، فإنه نبه إلى ضرورة تجنّب «المبالغات» والبعد عن «التقييمات المتشائمة جداً التي تُوحي بقرب الوصول إلى حالة انهيار شامل».

تسديد الديونوسط هذه المناخات، نوّه الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال جلسة عمل جديدة مع محافظ البنك المركزي فتحي زهير النوري، بـ«نجاح الدولة في الإيفاء بالتزاماتها الدولية وتسديد معظم ديونها»، واعترض على «تضخيم» مشكلات البلاد والصعوبات الاقتصادية والمالية التي تواجهها.

وأورد بلاغ رسمي لرئاسة الجمهورية بأنّ «تونس تمكّنت خلال يناير (كانون الثاني) الماضي من تسديد خدمة الدين العمومي بنسبة 40 في المائة من مجموع خدمة الدين العمومي المتوقعة لكامل عام 2025. ونجحت أيضاً في السيطرة على نسبة التضخم في حدود 6 في المائة بعدما كانت في العام السابق 7.8 في المائة. وتمكّنت من تحقيق استقرار ملحوظ لسعر صرف الدينار مقابل أبرز العملات الأجنبية في نهاية سنة 2024».

ومجدّداً، انتقد الرئيس سعيّد الخبراء الذين يطالبون بـ«الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والأطراف المانحة الدولية». وذكّر بأن تلك الشروط تسبّبت مراراً في اضطرابات اجتماعية وأمنية وسياسية وصدامات عنيفة مع النقابات والعاطلين عن العمل منذ سبعينات القرن الماضي.

كذلك، أصدر الرئيس التونسي أوامر إلى الحكومة والبنك المركزي بالمضي قدماً في سياسة «الاعتماد على الذات» و«الموارد الذاتية للتمويل»، والتحرر من «إملاءات» الصناديق الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني العالمية.

معضلة «التصنيفات» والقطيعة وهنا أثار الخبراء تقييمات متباينة لسياسة «القطيعة» مع صندوق النقد الدولية والمانحين، وأيضاً مع مؤسسات «التصنيف الائتماني» العالمية، وبينها وكالة «موديز» التي خفّضت تصنيف تونس خلال السنوات الماضية، مما أدّى إلى امتناع المانحين الدوليين التقليديين عن منح قروض للحكومة بنسب فائدة منخفضة بحجة غياب «ضمانات مالية وسياسية كافية».

ومع أن «موديز» حسّنت يوم 28 فبراير (شباط) الماضي نسبياً التصنيف الائتماني لتونس من «Caa2» إلى «Caa1»، فإنها أبقت على ملاحظاتها «السلبية». وحول هذه النقطة، رحّب الخبير بسام النيفر بالخطوة، وأورد أن عام 2024 كان عاماً قياسياً في سداد الديون الخارجية للدولة. وتوقع أن يكون عام 2027 عام «الانفراج الشامل».

إلا أن رضا الشكندالي يرى أنه على الرغم من هذا التحسّن في التصنيف فلا تزال تونس مصنّفة «دولة ذات مخاطر ائتمانية عالية جداً مع عجزها عن سداد الديون الخارجية قصيرة الأجل».

وأوضح أنه يلزمها التقدّم 6 درجات كاملة في تصنيف «موديز»، كي تخرج من المنطقة الحمراء، وهي «درجة المضاربة»، وحتى تحظى بثقة المستثمرين في السوق المالية الدولية. الحكومة والبنك المركزي يؤكدان أن الوضع تحت السيطرة