بيت هيغسيث وزير دفاع ترمب الجديد... يُعد لإبعاد الذين «أنّثوا» الجيش الأميركي

دعا إلى إلغاء «ناتو»... معتبراً دوله «متغطرسة» و«عاجزة»

TT

بيت هيغسيث وزير دفاع ترمب الجديد... يُعد لإبعاد الذين «أنّثوا» الجيش الأميركي

هيغسيث
هيغسيث

قبيل تصويت مجلس الشيوخ الأميركي بهيئته العامة، على تثبيت بيت هيغسيث في منصب وزير الدفاع الجديد في إدارة الرئيس دونالد ترمب، تسلمت لجنة القوات المسلحة في المجلس، إفادة خطية من أخت زوجته السابقة، تتحدث عن «سلوك عدواني وإفراط في تناول الكحول». ومع أن هذا الادعاء الجديد لم يؤد إلى تأخير عملية تثبيته، فإنه أضاف مزيداً من القتامة والغموض إلى صورة القائد الجديد لأكبر مؤسسة فيدرالية، فضلاً عن الإشكاليات الأخلاقية التي تنتظر أقوى جيش في العالم؛ إذ إن الترشيح المثير للجدل لمقدم البرامج السابق في قناة «فوكس نيوز» لإدارة وزارة الدفاع، كان قد غرق في مزاعم إساءة استخدام الكحول، وسوء السلوك الجنسي والمالي، بما في ذلك التقارير التي تفيد بأنه اعتدى جنسياً على امرأة في عام 2017.

اعتبر العديد من المراقبين اختيار بيت (بيتر) هيغسيث لمنصب وزير الدفاع، كونه عسكرياً محارباً وشخصية إعلامية محافظة شهيرة لها عدد كبير من المتابعين، خطوة متوافقة تماماً مع سياسات دونالد ترمب وخططه «غير التقليدية» التي ينوي تنفيذها في ولايته الثانية، متجاوزاً كل العقبات والمطبات التي شهدتها ولايته الأولى.

وبعدما نجح هيغسيث في تطوير علاقة وثيقة مع ترمب، الذي ورد أنه فكّر بتعيينه لمنصب في إدارته الأولى، فإنه حضه على الإفراج عن أفراد الخدمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب عام 2019.

وبالفعل، دافع هيغسيث عن قضايا بعض العسكريين المتهمين في برنامجه التلفزيوني وعلى الإنترنت، وأجرى مقابلات مع أقاربهم، قائلاً إن العفو من ترمب عنهم «سيكون مذهلاً». ونجحت جهوده، حين أصدر ترمب في ذلك العام عفواً عن جندي سابق في الجيش الأميركي كان من المقرر محاكمته بتهمة قتل صانع قنابل أفغاني مشتبه به، فضلاً عن ملازم سابق في الجيش أدين بالقتل لإصداره الأمر لرجاله بإطلاق النار على ثلاثة أفغان، ما أسفر عن مقتل اثنين منهم. كذلك أمر ترمب بترقية جندي من قوات النخبة البحرية أدين بالتقاط صورة مع جثة أسير من تنظيم «داعش» في العراق.

وفي نهاية المطاف، وقّع ترمب في اليوم الأول من تسلمه الرئاسة للمرة الثانية، أمراً تنفيذياً يمنع محاكمة أفراد الجيش عن أنشطتهم العسكرية، داخل الولايات المتحدة وخارجها.

من هو هيغسيث؟

يتحدّر بيت (بيتر) هيغسيث من أصل نرويجي من كلا جانبي الأسرة، والده برايان وهو مدرب كرة السلة، ووالدته بينيلوبي. ولقد ولد عام 1981 في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، ونشأ في فورست ليك القريبة، والتحق بمدرستها الثانوية، حيث لعب كرة القدم وكرة السلة، وتخرج بتفوق على دفعته عام 1999.

حصل على درجة البكالوريوس في السياسة من جامعة برينستون العريقة عام 2003، وكتب أطروحة بعنوان «الخطاب الرئاسي الحديث وسياق الحرب الباردة». وفي أثناء دراسته كتب في الصحيفة الطلابية المحافظة لجامعة برينستون، وأصبح ناشرها، ومما كتبه عام 2002 أنه «سعى جاهداً للدفاع عن ركائز الحضارة الغربية ضد عوامل تشتيت الانتباه الناجمة عن التنوع». وأيضاً في برينستون، انضم إلى فيلق تدريب ضباط الاحتياط بالجيش عام 2001.

ومن ثم، بعد التخرج في برينستون، بدأ هيغسيث حياته المهنية بالعمل محلّلاً في شركة بير ستيرنز، من عام 2003 إلى عام 2014، ومرة أخرى من عام 2019 إلى عام 2021. وخدم كضابط مشاة في الحرس الوطني للجيش، وحصل على رتبة رائد، كما نال «النجمة البرونزية» في أثناء خدمته في قوات العمليات الخاصة خلال مهمة قتالية في العراق عام 2005.

في عام 2014، تطوّع هيغسيث في مهمة تدريب لقوات الأمن الأفغانية في أفغانستان. وبعد خدمته العسكرية، أصبح شخصية نشطة في دوائر السياسة اليمينية المحافظة والجمهورية، وكان المدير التنفيذي لمنظمة «قدامى المحاربين من أجل الحرية»، ومنظمة «قدامى المحاربين المعنيين بأميركا». ومنذ عام 2014، عمل معلقاً سياسياً في قناة «فوكس نيوز» المحافظة، ومضيفاً مشاركاً في برنامج «فوكس آند فريندز» من عام 2017 إلى عام 2024.

حياة عائلية صاخبة

عائلياً، عام 2004، تزوّج زوجته الأولى، ميريديث شوارتز، التي كانت صديقته في المدرسة الثانوية من مينيسوتا؛ إلا أنهما انفصلا في عام 2009 بعدما اعترف بخمس علاقات خارج الزواج. ثم في عام 2010 تزوّج من زوجته الثانية، سامانثا ديرينغ وأنجبا ثلاثة أبناء.

وعلى الرغم من هذا، عام 2017، وبينما كان لا يزال متزوجاً من ديرينغ، حملت منه زميلته في «فوكس نيوز»، جينيفر راوشيت وأنجبت له ابنة. وفي ذلك العام تقدمت ديرينغ بطلب الطلاق، ليتزوج هيغسيث من راوشيت، التي لديها ثلاثة أطفال من زواجها الأول، عام 2019.

في عام 2018، في أثناء إجراءات طلاقه من زوجته الثانية، أرسلت والدته بينيلوبي رسالة إلكترونية تنتقد معاملته للنساء. وقالت له: «أنت مسيء للنساء، هذه هي الحقيقة القبيحة، وليس لديّ أي احترام لأي رجل يستخفّ بالنساء ويكذب ويخدع، ويستخدمهن لملذاته وتحقيق سلطته وأنانيته. أنت ذلك الرجل (وكنت كذلك لسنوات). وبصفتي والدتك، يؤلمني ويحرجني أن أقول ذلك، لكنها الحقيقة الحزينة... لقد حان الوقت لشخص ما (أتمنى لو كان رجلاً قوياً) للوقوف في وجه سلوكك المسيء وفضحه، وخاصة ضد النساء». ولقد نشرت صحيفة الـ«نيويورك تايمز» هذه الرسالة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعدما أعلن ترمب عزمه ترشيح هيغسيث لمنصب وزير الدفاع. وعلى الأثر، قالت والدته للصحيفة، إنها كتبت الرسالة «بغضب وانفعال»، و«اعتذرت في رسالة أخرى قائلة إن وصفها السابق له لم يكن صادقاً أبداً».

تحريك «البنتاغون»... وزعزعته

غير أن الإشكالات التي تحيط بهيغسيث تتجاوز المسائل الأخلاقية، وقلة خبرته النسبية مقارنة بوزراء الدفاع السابقين، الذين كان لمعظمهم عقود من الخبرة في الجيش أو الكونغرس أو صناعة الدفاع. ذلك أنه يجلب إلى المنصب نظرته السياسية والآيديولوجية تجاه قضايا جوهرية في كيفية إدارة أقوى جيش في العالم. وهذا ما دافع عنه صراحة السيناتور الجمهوري روجر ويكر، عضو لجنة القوات المسلحة، التي ثبتت في البداية هيغسيث بعد تصويت حزبي، حيث حصل على أصوات كل الجمهوريين مقابل اعتراض كل الديمقراطيين (14 مقابل 13). وما قاله ويكر إنه «ليس قلقاً من تلك الإشكاليات ومن قلة خبرته؛ لأن لديه كثيراً من المعرفة، وبصراحة، نحن بحاجة إلى تحريك الأمور في البنتاغون (وزارة الدفاع)». وأردف: «هناك الكثير من البيروقراطية، والكثير من العقبات، والكثير من الصناديق التي يجب التحقق منها... أصبحت البيروقراطية متداعية بمرور الوقت، ولذا فإن هذا جزء من تفويض إدارة ترمب لزعزعة الأمور والقيام بالأشياء بشكل مختلف».

سيطرة ترمب تترسّخ

وحقاً، يؤكد تثبيت هيغسيث في منصبه، على الرغم من كل الجدل الذي أحاط بترشيحه، رسوخ سيطرة ترمب على الحزب الجمهوري، الذي طالما كرّر مطالبة القادة العسكريين الرئيسيين بالولاء، وأعلن نيته نشر الجيش في مواجهة أي اضطرابات داخلية.

هذا الأمر، عدّه البعض محاولة لتغيير حيادية المؤسسة العسكرية غير الحزبية لمصلحة الولاء له، وسط تسليم كامل من الجمهوريين. وفي حين يُعتبر الإشراف على «البنتاغون» وظيفة أساسية في أي إدارة، كان منصب وزير الدفاع منصباً مضطرباً إبان فترة ولاية ترمب الأولى، عندما شغل خمسة رجال المنصب في سنوات ترمب الأربع. وأيضاً كانت علاقة ترمب بقادته المدنيين والعسكريين خلال تلك السنوات محفوفة بالتوتر والارتباك والإحباط، حيث كافحوا لتهدئة أو حتى تفسير التغريدات والتصريحات الرئاسية التي فاجأتهم بقرارات سياسية مفاجئة ما كانوا مستعدين لتفسيرها أو الدفاع عنها.

عودة إلى هيغسيث، فإنه بينما يصف اليسار السياسي بـ«أعداء أميركا المحليين» و«مخرّبي أميركا»، يحتقر السياسات والقوانين والمعاهدات التي تقيّد المقاتلين في ساحة المعركة، من قواعد الاشتباك التقييدية إلى «اتفاقيات جنيف»، التي يرى أنه «عفّى عليها الزمن ضد الأعداء الذين لا يلتزمون بها». وهو، بجانب ذلك، لا يتحلّى بالصبر الكافي للتعامل مع الأسئلة الأخلاقية المحيطة بالحرب؛ إذ قال ذات مرة عن إسقاط القنبلة النووية على اليابان: «لقد انتصرنا، مَن يهتم (بغير هذا)»، كما دعا إلى إعادة تسمية وزارة الدفاع باسمها الأصلي وزارة الحرب، وتنفيذ حظر لمدة 10 سنوات على عمل الجنرالات لدى المقاولين الدفاعيين بعد تقاعدهم من الجيش.

«المستيقظون» أسقطوا الجيش

من جهة أخرى، شكا هيغسيث، الذي سيتولى قيادة 3 ملايين جندي ومدني في البنتاغون، وميزانية قدرها 850 مليار دولار، وقوات منتشرة في جميع أنحاء العالم - لمواجهة خصوم يتزايدون جرأة كالصين وروسيا، وتهديدات كوريا الشمالية وإيران النووية، ومواجهة الإرهاب - في كتابه «الحرب على المحاربين» عام (2024)، من أن الجنرالات «المستيقظين» (أي: المنفتحين والمتيقّظي الضمير) وقادة الأكاديميات الخدمية النخبوية تركوا الجيش ضعيفاً بشكل خطير و«أنثوياً» من خلال تعزيز التنوع والمساواة والشمول.

وتابع أن الجنود العاديين يقوّضهم «القادة المدنيون غير المبالين والضباط الحمقى»، وأن على «القائد الأعلى القادم تطهير البيت». وهو، في المقابل، يسخر من أفراد الخدمة المتحوّلين جنسياً ويسيء إليهم، زاعماً أن الجيش يُنفّر المجندين... و«أن أبناء وبنات أميركا البيض يبتعدون، ومن يستطيع أن يلومهم على ذلك؟!».

وهكذا، يتبنى هيغسيث آراءً مغالية بيمينيتها المحافظة، حتى إنه وُصف بأنه «قومي مسيحي»، ولديه مثل ترمب، وجهة نظر تقليدية عن الرجولة، وكتب «أن الرجال ينجذبون بطبيعتهم إلى القتال والتنافس وإثبات قوتهم».

وبالفعل، يحمل هيغسيث العديد من الوشوم، من بينها «صليب القدس» على صدره، وآخر باللاتينية «يريد الله ذلك» الذي رفعه مثيرو الشغب في 6 يناير (كانون الثاني) 2021، ما تسبب بإبعاده عن المشاركة في الترتيبات الأمنية لحفل تنصيب جو بايدن.


مقالات ذات صلة

«نيبون» اليابانية تدرس «تعديلاً جريئاً» لخطة شراء «يو إس ستيل» الأميركية

الاقتصاد مصنع لشركة «يو إس ستيل» في ولاية بنسلفانيا الأميركية (أ.ف.ب)

«نيبون» اليابانية تدرس «تعديلاً جريئاً» لخطة شراء «يو إس ستيل» الأميركية

قال مسؤول ياباني رفيع يوم الاثنين إن شركة «نيبون ستيل» تدرس اقتراح «تغيير جريء» في خطتها «يو إس ستيل» الأميركية

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الولايات المتحدة​ يحمل أحد الحضور عَلم فلسطين مكتوباً عليه «السودان» و«غزة» خلال استراحة الشوط الأول من مباراة كرة القدم الأميركية السوبر بول (أ.ب)

اعتقال راقص في «السوبر بول» بعد رفعه عَلمي فلسطين والسودان (فيديو)

احتُجز أحد الراقصين في استراحة الشوط الأول بحفل السوبر بول بعد رفعه عَلميْ فلسطين والسودان.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد حبيبات من الذهب النقي في مصنع كراستسفيتميت للمعادن الثمينة بكراسنويارسك (رويترز)

تهديدات ترمب تمدد الارتفاع القياسي للذهب بوصفه ملاذاً آمناً

قفزت أسعار الذهب بأكثر من 1 % يوم الاثنين لتسجل مستوى قياسياً مرتفعاً حيث ارتفع الطلب على الملاذ الآمن بسبب المخاوف من حرب تجارية عالمية

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي المتحدث باسم «الكرملين» ديمتري بيسكوف يتحدث خلال المؤتمر الصحافي السنوي للرئيس بوتين يوم 19 ديسمبر 2024 (د.ب.أ) play-circle

الكرملين ينتظر مزيداً من التفاصيل حول خطة ترمب بشأن «تملُّك» غزة

قال ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، الاثنين، بشأن خطة ترمب لتملُّك أميركا قطاع غزة، إنه «علينا أن ننتظر التفاصيل بشأن هذا الأمر».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
الاقتصاد دي غويندوس في مؤتمر صحافي عقب اجتماع السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي في فرنكفورت (أرشيفية - رويترز)

«المركزي الأوروبي»: رسوم ترمب الجمركية تؤدي إلى حالة من عدم اليقين الاقتصادي

قال نائب رئيس البنك المركزي الأوروبي لويس دي غويندوس إن التعريفات التجارية التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد تؤدي إلى حالة من عدم اليقين الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (مدريد)

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
TT

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)

تراقب موسكو خطوات الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب بمزيج من الترقّب لردّات الفعل في مناطق مختلفة من العالم، وحساب معدلات الربح والخسارة، لا سيما في إطار انعكاسات تصرفات الرئيس الأميركي على تماسك المواقف الأوروبية ووحدة حلف شمال الأطلسي «ناتو» وسياساتها تجاه روسيا... ولكن بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، على التوقعات المتعلقة بآليات تسوية الصراع حول أوكرانيا.

تحريك قنوات الاتصال

مع تكرار الإعلان في موسكو عن استعداد مباشر للجلوس إلى طاولة مفاوضات شاملة مع فريق ترمب، تبحث كل الملفات المتراكمة بين الطرفين، وتتوّج تفاهمات على القضايا الرئيسية، فضّل الكرملين تجنب التعليق مباشرة على كثير من التحركات الصارخة للرئيس الأميركي، في مسعى لتقدير آفاق تطورها أولاً، وأيضاً معرفة مستوى وآليات ردات الفعل عليها.

لكن في الشأن الأوكراني بدا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تحريك قنوات الاتصال بشكل قوي ومتسارع بين موسكو وواشنطن. وبعد مرور ساعات فقط على إعلان ترمب أن الاتصالات مع الكرملين «تجري بنشاط»، ووصفها بأنها «مفاوضات بناءة»، أكّد الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف استئناف عمل قنوات حوار على مستويات عدة، لتشكل هذه الخطوة الأولى العملية التي يجري تنفيذها على أرض الواقع، وكانت متوقعة منذ فوز ترمب في الانتخابات.

بيسكوف قال إن «الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة عبر الوزارات المختلفة قد تكثفت». ومن دون أن يعطي تقييمه لسير المفاوضات، قال الناطق إن الحوارات تجري على مستويات عدة. ومع التأكيد على أن الحوار الجاري مع واشنطن لا ينعكس حتى الآن على استعداد موسكو لفتح قنوات للتفاوض مباشرة مع أوكرانيا، فأكد أن «ديناميكيات العملية (العسكرية) الخاصة تظهر أن الاهتمام بالحوار السلمي يجب أن يأتي من جانب كييف».

الاشتراطات الروسية

هنا بدا أن أول الاشتراطات الروسية لإحراز تقدُّم يفضي إلى إحياء العملية السلمية حول أوكرانيا ينطلق من حسم الوضع حول «شرعية» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإدارة المفاوضات. ومعلوم هنا أن موسكو تصرّ على أن زيلينسكي «لم يعد رئيساً شرعياً، وأنه وقّع في وقت سابق مرسوماً بحظر التفاوض مع موسكو. وهو ما يعني أنه يجب حل هذا الموضوع بظهور إدارة أوكرانية جديدة تتمتع بالشرعية، وتلغي المرسوم السابق قبل إطلاق عملية التفاوض. يكتسب هذا الجدل أهمية إضافية على ضوء تلميحات بعض أركان الإدارة الأميركية بضرورة إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا قبل نهاية العام الحالي، ومثل تلك التصريحات صدرت عن قيادة حلف «ناتو» أيضاً.

ويبدو على هذه الخلفية أن الاتصالات الأولى بين الإدارة الأميركية وموسكو لا تتناول قضايا مثل ترتيب قمة قريباً، وأجندتها المحتملة، بل تتطرق أيضاً إلى بعض الجوانب التفصيلية المتعلقة بمساعي إعادة إطلاق مسار سلمي ينهي الحرب في أوكرانيا.

مستقبل أوكرانيا على الطاولة

العنصر الثاني المتعلق بأوكرانيا، الذي يبدو أنه يشكل مادة للنقاش في المرحلة التي تسبق لقاء ترمب الأول منذ عودته إلى البيت الأبيض مع الرئيس فلاديمير بوتين، يتبلور - كما يبدو - من خلال السعي إلى تحديد سقف مصالح واشنطن في الصراع المستمر منذ نحو 3 سنوات.

اللافت هنا أن التصريحات الأولى الصادرة عن البيت الأبيض لم تتكلّم عن الأراضي الأوكرانية «المحتلة»، ومعلوم أن موسكو تسيطر راهناً على نحو خُمس أراضي أوكرانيا. ويشترط الكرملين لأي تسوية أن يحصل على إقرار أوكراني وغربي بقرارات ضم مقاطعات أوكرانيا إلى روسيا. واستمرار الصمت الأميركي حيال هذا الملف يوجّه رسالة مريحة لموسكو حالياً.

غير أن إشارات ترمب الأولى اتجهت نحو ملف مختلف تماماً؛ ذلك أنه تطرّق إلى امتلاك أوكرانيا ثروات مهمة من المعادن النادرة، ورأى أن بوسع واشنطن مواصلة حماية أوكرانيا إذا حصلت على حقوق استثمار هذه الثروات الضخمة.

في هذا الملف ركّزت التعليقات الروسية على فكرة تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا تتعلق بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ولأوروبا، وعن فكرة «العدوان الروسي» لتغدو منحصرة أكثر في «المصالح التجارية المباشرة» للانخراط في هذا الصراع. وكانت ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم «الخارجية الروسية»، قد أعربت عن أنها «غير مندهشة» من طلب مجلس الأمن القومي الأميركي الحصول على المعادن من أوكرانيا تعويضاً عن الدعم المالي الذي قدمته واشنطن لكييف.

زاخاروفا رأت أن هذا المسار «طبيعي»، وأنه «يجب أن يتحقق المرء من سعر الوجبة قبل أن يأكلها». بينما رأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن مثل هذا الاقتراح سيعني أن كييف مستعدة لتسليم جميع الموارد الطبيعية الأوكرانية إلى «ملكية أسيادها الغربيين». أما بيسكوف فرأى أن خطط ترمب بشأن المعادن الأرضية النادرة تمثل عرضاً تجارياً «لشراء المساعدة»... وأن «أفضل شيء بالنسبة لواشنطن سيكون عدم مساعدة كييف على الإطلاق، ومن ثم المساهمة في إنهاء النزاع». والملاحَظ في التعليقات الروسية أنها لا تنتقد ترمب، بل وجهت سهامها إلى زيلينسكي «المستعد لبيع ثروات بلاده للغرب».

بنما وكندا ... بعيدتان جداً

في المستوى نفسه من تعمّد تحاشي توجيه انتقادات إلى الإدارة الأميركية في خطواتها المتسارعة التي شكلت استفزازاً لعدد من الأطراف في العالم، تجاهل الكرملين عمداً إعلانات ترمب الصارخة تجاه كندا وقناة بنما.

بل حتى وسائل الإعلام الحكومية الروسية تعاملت مع الموضوع من زاويته الخبرية من دون إبداء رأي في تأثيراته المحتملة. ونشرت بكثافة الخرائط التي وضعها ترمب على منصات التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها كندا ملونة بألوان العلم الأميركي وتحتها عبارة الرئيس: «أوه كندا». ولقد قال خبراء روس إن كندا وبنما «بعيدتان جداً»، ومن المهم لموسكو أن تراقب فقط ما يجري.

أما موضوع قناة بنما فيبدو بالنسبة إلى موسكو «خلافاً تجارياً» تكلم عنه ترمب من خلال استنكاره «التعريفات الجمركية المُبالغ فيها» التي تفرضها بنما على عبور القناة. وللعلم، هذا أمر يخص الولايات المتحدة التي توفر أكثر من 72 في المائة من عائدات الممرّات عبر القناة.

وتقريباً التعاطي نفسه ملحوظ إزاء التهديدات تجاه المكسيك، وبملف العلاقة مع كندا. واللافت أن وسائل الإعلام الروسية شاركت الملياردير إيلون ماسك تهكّمه على رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، الذي أعلن استقالته، الشهر الماضي ثم غرّد معارضاً خطط ترمب. ولكن من دون صدور أي تعليق رسمي، بدا أن موسكو تراقب بارتياح المشكلات الداخلية في الغرب. ولا تخفي أوساط روسية «شماتةً» بالسلطات في كندا التي كانت بين أوائل الداعمين لأوكرانيا في الحرب.

غرينلاند... التهديد الروسي

الأمر مختلف قليلاً مع التلويح الأميركي بضم غرينلاند... فهنا يظهر مباشرة نوع من التهديد المستقبلي على الأمن الروسي.

وعموماً، فإن ما وُصف بأنه التهديد المحتمل من جانب روسيا والصين هو على وجه التحديد ما أشار إليه ترمب أكثر من مرة عندما ناقش فكرته للاستيلاء على غرينلاند، وفي إطار تكراره الحديث عن رغبته في جعل أميركا «عظيمة مرة أخرى».

ذلك أنه منذ عام 2019، قال ترمب بضرورة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، لكن الدنمارك التي تمتلك الأراضي حالياً عارضت بيع الجزيرة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، أثار ترمب المسألة مرة أخرى، وقال: «نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي. لقد قيل لي ذلك قبل فترة طويلة من ترشّحي». وهنا يعتقد الرئيس الأميركي الجمهوري أن غرينلاند كجزء من الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في تجنب «التهديد الذي تشكله روسيا على العالم أجمع». وبحسب قوله فإن «روسيا والصين تزيدان من وجودهما في منطقة القطب الشمالي»، وهو يخشى من ذلك. وأضاف أن ابنه دونالد ترمب «الابن» سيزور غرينلاند شخصياً.

هنا أيضا لم تعلّق موسكو رسمياً على الحدث مع أنه يتعلق مباشرة بما وُصف بـ«التهديد الروسي»، إلا أن تعليقات برلمانيين روس أظهرت وجود نوع من القلق لدى أوساط روسية. وقال أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (النواب) إن «ضم غرينلاند للولايات المتحدة يشكل تهديداً عسكرياً لروسيا، لأن لدى الجزيرة إمكانية أن تصبح قاعدة استراتيجية لواشنطن في حالة نشوب صراع عابر للقارات».

ورأى البرلماني الروسي أيضاً أن السيطرة على الجزيرة التي تحتل مساحة كبيرة جداً في منطقة القطب الشمالي، «ليست الخيار الأفضل بالنسبة إلى روسيا... وبما أنه لا يوجد شيء مستحيل في العالم، وفي أي صدام قاري افتراضي مستقبلي، فإن هذا يشكل نقطة انطلاق جيدة لأميركا».

مع هذا، اللافت أن تعليقات المحللين ذهبت ليس باتجاه فحص الانعكاسات على روسيا وأمنها في حال فرض ترمب فعلاً السيطرة الأميركية على الجزيرة القطبية، بل باتجاه تأثيرات تحركات ترمب على مصير «ناتو» ككتلة متماسكة.

ورأى محللون أن استيلاء ترمب على المنطقة إذا كُتب له النجاح، سيكون «بمثابة نهاية للحلف» ليس فقط لكون الدنمارك، التي تعارض خطط ترمب بشدة عضواً فيه، بل أيضاً لأن أعضاء التكتل الآخرين سيدركون على الفور أنهم «جميعاً تحت التهديد». وهنا استعاد البعض مقولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما دعا أوروبا إلى «الاستيقاظ وتعزيز أمنها بشكل أكثر نشاطاً».

اتفاق على عالم متعدد

في المقابل، بدا أن بعض الأفكار التي تطرحها الإدارة الأميركية الجديدة تحظى بقبول عند الكرملين. ولقد امتدح الناطق الرئاسي بيسكوف تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بشأن التعددية القطبية، قائلاً إن تلك العبارة «تتوافق مع رؤية موسكو، وروسيا ترحب بذلك بالطبع». كما وصف حديث روبيو بشأن الاعتراف بالتعددية القطبية في العالم بأنه «مثير للاهتمام». وأيضاً في هذا السياق نفسه، لم تُخْف موسكو ارتياحها لقرار إدارة ترمب تقليص نشاط «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، التي تتهمها موسكو بدعم «الثورات الملونة» وبمحاولة التأثير أكثر من مرة على الحياة السياسية والاجتماعية داخل روسياً. وللعلم، هذه الوكالة حالياً من المنظمات الأجنبية المحظورة في روسيا.

ورأى مسؤولون روس أن خطوات ترمب لتفكيك الوكالة تحظى بترحيب في مناطق عدة في العالم، كون الوكالة، بحسب الناطقة باسم «الخارجية» ماريا زاخاروفا «تروّج للثورات، وتتحدى القيم المجتمعية، وتعمل على نشر الشذوذ الجنسي، والدفاع عن حقوق المثليين».

وهذا الموضوع يفسر أيضاَ «الارتياح» الروسي للتخلص من وكالة أنفقت ملايين الدولارات في روسيا التي تنتهج خطاً محافظاً اجتماعياً لنشر أفكار وُصفت بأنها «معادية للمجتمع الروسي». ركّزت التعليقات الروسية على تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا الأمن إلى «المصالح التجارية»