بيت هيغسيث وزير دفاع ترمب الجديد... يُعد لإبعاد الذين «أنّثوا» الجيش الأميركي

دعا إلى إلغاء «ناتو»... معتبراً دوله «متغطرسة» و«عاجزة»

TT

بيت هيغسيث وزير دفاع ترمب الجديد... يُعد لإبعاد الذين «أنّثوا» الجيش الأميركي

هيغسيث
هيغسيث

قبيل تصويت مجلس الشيوخ الأميركي بهيئته العامة، على تثبيت بيت هيغسيث في منصب وزير الدفاع الجديد في إدارة الرئيس دونالد ترمب، تسلمت لجنة القوات المسلحة في المجلس، إفادة خطية من أخت زوجته السابقة، تتحدث عن «سلوك عدواني وإفراط في تناول الكحول». ومع أن هذا الادعاء الجديد لم يؤد إلى تأخير عملية تثبيته، فإنه أضاف مزيداً من القتامة والغموض إلى صورة القائد الجديد لأكبر مؤسسة فيدرالية، فضلاً عن الإشكاليات الأخلاقية التي تنتظر أقوى جيش في العالم؛ إذ إن الترشيح المثير للجدل لمقدم البرامج السابق في قناة «فوكس نيوز» لإدارة وزارة الدفاع، كان قد غرق في مزاعم إساءة استخدام الكحول، وسوء السلوك الجنسي والمالي، بما في ذلك التقارير التي تفيد بأنه اعتدى جنسياً على امرأة في عام 2017.

اعتبر العديد من المراقبين اختيار بيت (بيتر) هيغسيث لمنصب وزير الدفاع، كونه عسكرياً محارباً وشخصية إعلامية محافظة شهيرة لها عدد كبير من المتابعين، خطوة متوافقة تماماً مع سياسات دونالد ترمب وخططه «غير التقليدية» التي ينوي تنفيذها في ولايته الثانية، متجاوزاً كل العقبات والمطبات التي شهدتها ولايته الأولى.

وبعدما نجح هيغسيث في تطوير علاقة وثيقة مع ترمب، الذي ورد أنه فكّر بتعيينه لمنصب في إدارته الأولى، فإنه حضه على الإفراج عن أفراد الخدمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب عام 2019.

وبالفعل، دافع هيغسيث عن قضايا بعض العسكريين المتهمين في برنامجه التلفزيوني وعلى الإنترنت، وأجرى مقابلات مع أقاربهم، قائلاً إن العفو من ترمب عنهم «سيكون مذهلاً». ونجحت جهوده، حين أصدر ترمب في ذلك العام عفواً عن جندي سابق في الجيش الأميركي كان من المقرر محاكمته بتهمة قتل صانع قنابل أفغاني مشتبه به، فضلاً عن ملازم سابق في الجيش أدين بالقتل لإصداره الأمر لرجاله بإطلاق النار على ثلاثة أفغان، ما أسفر عن مقتل اثنين منهم. كذلك أمر ترمب بترقية جندي من قوات النخبة البحرية أدين بالتقاط صورة مع جثة أسير من تنظيم «داعش» في العراق.

وفي نهاية المطاف، وقّع ترمب في اليوم الأول من تسلمه الرئاسة للمرة الثانية، أمراً تنفيذياً يمنع محاكمة أفراد الجيش عن أنشطتهم العسكرية، داخل الولايات المتحدة وخارجها.

من هو هيغسيث؟

يتحدّر بيت (بيتر) هيغسيث من أصل نرويجي من كلا جانبي الأسرة، والده برايان وهو مدرب كرة السلة، ووالدته بينيلوبي. ولقد ولد عام 1981 في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، ونشأ في فورست ليك القريبة، والتحق بمدرستها الثانوية، حيث لعب كرة القدم وكرة السلة، وتخرج بتفوق على دفعته عام 1999.

حصل على درجة البكالوريوس في السياسة من جامعة برينستون العريقة عام 2003، وكتب أطروحة بعنوان «الخطاب الرئاسي الحديث وسياق الحرب الباردة». وفي أثناء دراسته كتب في الصحيفة الطلابية المحافظة لجامعة برينستون، وأصبح ناشرها، ومما كتبه عام 2002 أنه «سعى جاهداً للدفاع عن ركائز الحضارة الغربية ضد عوامل تشتيت الانتباه الناجمة عن التنوع». وأيضاً في برينستون، انضم إلى فيلق تدريب ضباط الاحتياط بالجيش عام 2001.

ومن ثم، بعد التخرج في برينستون، بدأ هيغسيث حياته المهنية بالعمل محلّلاً في شركة بير ستيرنز، من عام 2003 إلى عام 2014، ومرة أخرى من عام 2019 إلى عام 2021. وخدم كضابط مشاة في الحرس الوطني للجيش، وحصل على رتبة رائد، كما نال «النجمة البرونزية» في أثناء خدمته في قوات العمليات الخاصة خلال مهمة قتالية في العراق عام 2005.

في عام 2014، تطوّع هيغسيث في مهمة تدريب لقوات الأمن الأفغانية في أفغانستان. وبعد خدمته العسكرية، أصبح شخصية نشطة في دوائر السياسة اليمينية المحافظة والجمهورية، وكان المدير التنفيذي لمنظمة «قدامى المحاربين من أجل الحرية»، ومنظمة «قدامى المحاربين المعنيين بأميركا». ومنذ عام 2014، عمل معلقاً سياسياً في قناة «فوكس نيوز» المحافظة، ومضيفاً مشاركاً في برنامج «فوكس آند فريندز» من عام 2017 إلى عام 2024.

حياة عائلية صاخبة

عائلياً، عام 2004، تزوّج زوجته الأولى، ميريديث شوارتز، التي كانت صديقته في المدرسة الثانوية من مينيسوتا؛ إلا أنهما انفصلا في عام 2009 بعدما اعترف بخمس علاقات خارج الزواج. ثم في عام 2010 تزوّج من زوجته الثانية، سامانثا ديرينغ وأنجبا ثلاثة أبناء.

وعلى الرغم من هذا، عام 2017، وبينما كان لا يزال متزوجاً من ديرينغ، حملت منه زميلته في «فوكس نيوز»، جينيفر راوشيت وأنجبت له ابنة. وفي ذلك العام تقدمت ديرينغ بطلب الطلاق، ليتزوج هيغسيث من راوشيت، التي لديها ثلاثة أطفال من زواجها الأول، عام 2019.

في عام 2018، في أثناء إجراءات طلاقه من زوجته الثانية، أرسلت والدته بينيلوبي رسالة إلكترونية تنتقد معاملته للنساء. وقالت له: «أنت مسيء للنساء، هذه هي الحقيقة القبيحة، وليس لديّ أي احترام لأي رجل يستخفّ بالنساء ويكذب ويخدع، ويستخدمهن لملذاته وتحقيق سلطته وأنانيته. أنت ذلك الرجل (وكنت كذلك لسنوات). وبصفتي والدتك، يؤلمني ويحرجني أن أقول ذلك، لكنها الحقيقة الحزينة... لقد حان الوقت لشخص ما (أتمنى لو كان رجلاً قوياً) للوقوف في وجه سلوكك المسيء وفضحه، وخاصة ضد النساء». ولقد نشرت صحيفة الـ«نيويورك تايمز» هذه الرسالة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعدما أعلن ترمب عزمه ترشيح هيغسيث لمنصب وزير الدفاع. وعلى الأثر، قالت والدته للصحيفة، إنها كتبت الرسالة «بغضب وانفعال»، و«اعتذرت في رسالة أخرى قائلة إن وصفها السابق له لم يكن صادقاً أبداً».

تحريك «البنتاغون»... وزعزعته

غير أن الإشكالات التي تحيط بهيغسيث تتجاوز المسائل الأخلاقية، وقلة خبرته النسبية مقارنة بوزراء الدفاع السابقين، الذين كان لمعظمهم عقود من الخبرة في الجيش أو الكونغرس أو صناعة الدفاع. ذلك أنه يجلب إلى المنصب نظرته السياسية والآيديولوجية تجاه قضايا جوهرية في كيفية إدارة أقوى جيش في العالم. وهذا ما دافع عنه صراحة السيناتور الجمهوري روجر ويكر، عضو لجنة القوات المسلحة، التي ثبتت في البداية هيغسيث بعد تصويت حزبي، حيث حصل على أصوات كل الجمهوريين مقابل اعتراض كل الديمقراطيين (14 مقابل 13). وما قاله ويكر إنه «ليس قلقاً من تلك الإشكاليات ومن قلة خبرته؛ لأن لديه كثيراً من المعرفة، وبصراحة، نحن بحاجة إلى تحريك الأمور في البنتاغون (وزارة الدفاع)». وأردف: «هناك الكثير من البيروقراطية، والكثير من العقبات، والكثير من الصناديق التي يجب التحقق منها... أصبحت البيروقراطية متداعية بمرور الوقت، ولذا فإن هذا جزء من تفويض إدارة ترمب لزعزعة الأمور والقيام بالأشياء بشكل مختلف».

سيطرة ترمب تترسّخ

وحقاً، يؤكد تثبيت هيغسيث في منصبه، على الرغم من كل الجدل الذي أحاط بترشيحه، رسوخ سيطرة ترمب على الحزب الجمهوري، الذي طالما كرّر مطالبة القادة العسكريين الرئيسيين بالولاء، وأعلن نيته نشر الجيش في مواجهة أي اضطرابات داخلية.

هذا الأمر، عدّه البعض محاولة لتغيير حيادية المؤسسة العسكرية غير الحزبية لمصلحة الولاء له، وسط تسليم كامل من الجمهوريين. وفي حين يُعتبر الإشراف على «البنتاغون» وظيفة أساسية في أي إدارة، كان منصب وزير الدفاع منصباً مضطرباً إبان فترة ولاية ترمب الأولى، عندما شغل خمسة رجال المنصب في سنوات ترمب الأربع. وأيضاً كانت علاقة ترمب بقادته المدنيين والعسكريين خلال تلك السنوات محفوفة بالتوتر والارتباك والإحباط، حيث كافحوا لتهدئة أو حتى تفسير التغريدات والتصريحات الرئاسية التي فاجأتهم بقرارات سياسية مفاجئة ما كانوا مستعدين لتفسيرها أو الدفاع عنها.

عودة إلى هيغسيث، فإنه بينما يصف اليسار السياسي بـ«أعداء أميركا المحليين» و«مخرّبي أميركا»، يحتقر السياسات والقوانين والمعاهدات التي تقيّد المقاتلين في ساحة المعركة، من قواعد الاشتباك التقييدية إلى «اتفاقيات جنيف»، التي يرى أنه «عفّى عليها الزمن ضد الأعداء الذين لا يلتزمون بها». وهو، بجانب ذلك، لا يتحلّى بالصبر الكافي للتعامل مع الأسئلة الأخلاقية المحيطة بالحرب؛ إذ قال ذات مرة عن إسقاط القنبلة النووية على اليابان: «لقد انتصرنا، مَن يهتم (بغير هذا)»، كما دعا إلى إعادة تسمية وزارة الدفاع باسمها الأصلي وزارة الحرب، وتنفيذ حظر لمدة 10 سنوات على عمل الجنرالات لدى المقاولين الدفاعيين بعد تقاعدهم من الجيش.

«المستيقظون» أسقطوا الجيش

من جهة أخرى، شكا هيغسيث، الذي سيتولى قيادة 3 ملايين جندي ومدني في البنتاغون، وميزانية قدرها 850 مليار دولار، وقوات منتشرة في جميع أنحاء العالم - لمواجهة خصوم يتزايدون جرأة كالصين وروسيا، وتهديدات كوريا الشمالية وإيران النووية، ومواجهة الإرهاب - في كتابه «الحرب على المحاربين» عام (2024)، من أن الجنرالات «المستيقظين» (أي: المنفتحين والمتيقّظي الضمير) وقادة الأكاديميات الخدمية النخبوية تركوا الجيش ضعيفاً بشكل خطير و«أنثوياً» من خلال تعزيز التنوع والمساواة والشمول.

وتابع أن الجنود العاديين يقوّضهم «القادة المدنيون غير المبالين والضباط الحمقى»، وأن على «القائد الأعلى القادم تطهير البيت». وهو، في المقابل، يسخر من أفراد الخدمة المتحوّلين جنسياً ويسيء إليهم، زاعماً أن الجيش يُنفّر المجندين... و«أن أبناء وبنات أميركا البيض يبتعدون، ومن يستطيع أن يلومهم على ذلك؟!».

وهكذا، يتبنى هيغسيث آراءً مغالية بيمينيتها المحافظة، حتى إنه وُصف بأنه «قومي مسيحي»، ولديه مثل ترمب، وجهة نظر تقليدية عن الرجولة، وكتب «أن الرجال ينجذبون بطبيعتهم إلى القتال والتنافس وإثبات قوتهم».

وبالفعل، يحمل هيغسيث العديد من الوشوم، من بينها «صليب القدس» على صدره، وآخر باللاتينية «يريد الله ذلك» الذي رفعه مثيرو الشغب في 6 يناير (كانون الثاني) 2021، ما تسبب بإبعاده عن المشاركة في الترتيبات الأمنية لحفل تنصيب جو بايدن.


مقالات ذات صلة

السلطات الأميركية تشدد حملتها ضد المهاجرين وتعتقل طالبة تركية

الولايات المتحدة​ وزير العدل والأمن العام السلفادوري هيكتور فيلاتورو يرافق وزيرة الأمن الداخلي الأميركية كريستي نويم في أثناء إلقاء نظرة على السجناء في زنزانة تابعة لمركز احتجاز الإرهابيين في تيكولوكا (أ.ب)

السلطات الأميركية تشدد حملتها ضد المهاجرين وتعتقل طالبة تركية

زارت وزيرة الأمن الداخلي الأميركية كريستي نويم سجناً ذائع الصيت في السلفادور، في وقت شددت فيه إدارة الرئيس دونالد ترمب حملتها على المهاجرين غير الشرعيين.

علي بردى (واشنطن)
العالم خلال لقاء سابق بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)

ماكرون: أبلغت ترمب أن الرسوم الجمركية فكرة سيئة

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم (الخميس)، إنه أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن اقتراح الرسوم الجمركية ليس فكرة جيدة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم صورة عامة من نوك ومناطق محيطة بها في غرينلاند يوم 11 مارس 2025 (أ.ف.ب)

الدنمارك تندد «بتصعيد خطاب ترمب» عن غرينلاند

ندد وزراء الحكومة الدنماركية بما وصفوه بتصعيد الرئيس الأميركي دونالد ترمب لخطابه، اليوم الخميس، بشأن غرينلاند.

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
شؤون إقليمية مستشار المرشد الإيراني في حوار سابق مع وكالة «أرنا» الرسمية

إيران تفتح باب التفاوض «غير المباشر» مع واشنطن بشروطها

قال كمال خرازي، مستشار المرشد الإيراني، الخميس، إن طهران لم تغلق جميع الأبواب لحل خلافاتها مع الولايات المتحدة، وإنه مستعدة لإجراء محادثات غير مباشرة مع واشنطن.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
الاقتصاد زوارق القطر تساعد ناقلة نفط على مغادرة الرصيف في ميناء بحري في لونغكو مقاطعة شاندونغ بالصين (أرشيفية - أ.ب)

صناعة النفط الأميركية تحذر من الرسوم المقترحة على السفن الصينية

حذّر معهد البترول الأميركي من أن رسوم المواني الأميركية المقترحة على السفن الصينية قد تضر بمكانة الولايات المتحدة بصفتها أحد أكبر مصدّري النفط في العالم.

«الشرق الأوسط» (هيوستن)

باكستان في مواجهة أخطار التمرد المسلح من جديد

من آثار هجمات المتمردين في إقليم بلوشستان (آ ب)
من آثار هجمات المتمردين في إقليم بلوشستان (آ ب)
TT

باكستان في مواجهة أخطار التمرد المسلح من جديد

من آثار هجمات المتمردين في إقليم بلوشستان (آ ب)
من آثار هجمات المتمردين في إقليم بلوشستان (آ ب)

تواجه باكستان تصاعداً حاداً في حركة التمرد داخلها مع شن جماعات مسلحة سلسلة من الهجمات العنيفة استهدفت بشكل رئيس قوات الأمن ما أثار اضطرابات سياسية غير مسبوقة وألحق أضراراً بالاستقرار الاقتصادي بالبلاد. والواقع أن التداعيات لا تقتصر على الصعيد الداخلي وحده، بل قد يكون لهذه الأحداث تأثيرات محتملة عبر جنوب آسيا، ما يؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية وإعاقة التعاون بين دول المنطقة.

عبر الأسبوع الماضي، لقي العشرات حتفهم، من جراء هجمات عنيفة شنّها متمردو البلوش وحركة «طالبان» الباكستانية، الذين يتحدّون بشكل مباشر سلطة حكومة إسلام آباد داخل إقليمي بلوشستان وبشتونخوا في البلاد.

جغرافياً تشكل بلوشستان الواقعة في جنوب غربي باكستان، أكبر أقاليم البلاد. إلا أنها رغم تغطيتها 44 في المائة من مساحة باكستان، فإنها تظلّ الأقل كثافة من حيث السكان، إذ يقدر عدد سكانها بـ14.8 مليون نسمة فقط، من أصل 240 مليون نسمة. ثم إنها رغم مواردها الطبيعية الغنية وموقعها الاستراتيجي، لا تزال من أكثر أقاليم باكستان افتقاراً إلى التنمية، وعرضة للتقلبات. بل لطالما كانت بلوشستان محور توترات بين الحكومة الفيدرالية والحركات القومية البلوشية.

ومن وقت إلى آخر، تتصاعد هذه التوترات لتتحول إلى مواجهات مسلحة. وبالفعل اكتسبت حركة التمرد الراهنة زخماً كبيراً، وشهدت مهاجمة مسلحين للقطارات وقوافل الجيش الباكستاني.

ميناء غوادار الباكستاني ... ذو اهمية خاصة للصين (آ ب)

البلوش والبشتون

من جهة أخرى، فإن وجود الصين ونفوذها، بعدّها قوة عظمى وحليفاً وثيقاً لباكستان، يعنيان أنها تملك القدرة على تخفيف أو تصعيد حدة الصراعات الداخلية والخارجية المختلفة بالمنطقة. ويذكر هنا أن بلوشستان، ذات المساحة الشاسعة، تقع على حدود أفغانستان وإيران، وتتوزّع بين البلدان الثلاثة العرقية البلوشية التي تتهم إسلام آباد باستغلال ثروات المقاطعة الطبيعية.

في الوقت نفسه، يُشير مصطلح «أزمة بشتونخوا» (أو بختونخوا) إلى الصراع المسلح المستمر وحالة غياب الاستقرار السياسي في إقليم خيبر بختونخوا الباكستاني ذي الغالبية البشتونية (الباثان/الأفغان)، الناجم في المقام الأول عن جماعة إسلامية مسلحة تضم تحت لوائها العديد من الجماعات الأخرى، ويشار إليها باسم «طالبان باكستان». وتشن هذه الجماعة حرباً على الدولة في محاولةٍ للإطاحة بالنظام.

«طالبان باكستان» تسعى إلى حكم باكستان بوصفها «دولةٍ إسلامية» وفق تفسيرها المتشدد للإسلام. وتنسجم هذه الجماعة آيديولوجياً مع «طالبان» الأفغانية، التي استولت على السلطة في أفغانستان المجاورة عام 2021، بينما كانت القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) في المراحل الأخيرة من الانسحاب من البلاد بعد 20 سنة من الحرب.

في غضون ذلك، حمّلت باكستان كلاً من الهند وأفغانستان مسؤولية أنشطة المتمردين الأخيرة على أراضيها. وقال الجنرال الباكستاني أحمد شريف شودري، خلال مؤتمر صحافي في إسلام آباد: «كان الإرهابيون يتواصلون مع مُوَجِّهين لهم في أفغانستان، بينما لعبت الهند دور العقل المدبر وراء ذلك».

بيد أن وزارة الخارجية الهندية ردت التهم، وأعلنت نيودلهي أن على إسلام آباد أن «تنظر إلى نفسها أولاً، بدلاً من توجيه أصابع الاتهام وإلقاء اللوم على الآخرين فيما يتعلق بمشكلاتها الداخلية وإخفاقاتها». كذلك رفضت السلطات الأفغانية الاتهامات الباكستانية.

في هذا الصدد، علق الجنرال الهندي السابق سيد عطا حسنين بقوله: «لدى باكستان خبرة في التعامل مع الحركات المسلحة الانفصالية والإرهاب. ومع ذلك، فإنها لم تنجح قط في تحييد هذه الحركات بشكل كامل. والمثال الأبرز على ذلك باكستان الشرقية سابقاً (بنغلاديش حالياً)... ولطالما غرقت قيادة الجيش الباكستاني في ثقافة التسلط، معتقدةً أن استخدام قوة أكبر من الخصم سيحل جميع المشاكل».

وأضاف أن «تصاعد العنف في بلوشستان يهدد بعرقلة الاستثمارات الصينية بالمنطقة، التي تُعدّ أساسيةً لـ(مبادرة الحزام والطريق) العالمية التي أطلقتها بكين». في الوقت ذاته، يعمل آلاف المواطنين الصينيين داخل باكستان، التي تضم كذلك مشروع «الممر الاقتصادي الصيني ـ الباكستاني»، الذي تقدر قيمته بـ60 مليار دولار، والذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من «مبادرة الحزام والطريق».

استهداف المصالح الصينية

يستهدف تنظيم «جيش تحرير بلوشستان» وجماعات بلوشية أخرى، الجيش الباكستاني والمنشآت الحكومية والعمال الصينيين. ويشكل ميناء غوادار في إقليم بلوشستان محور «مبادرة الحزام والطريق» الطموح للرئيس الصيني شي جينبينغ، باستثمارات تقدر بـ65 مليار دولار، في إطار مشاريع «الممر الاقتصادي الصيني ـ الباكستاني».

كذلك لبكين مصالح تتصل بمناجم النحاس، إذ تتعاون الصين وباكستان في مشروع ساينداك للنحاس والذهب في بلوشستان، ويتولى مئات المهندسين والمشرفين الصينيين الإشراف على مواقع البناء داخل المقاطعة.

وتكشف إحصاءات الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب بباكستان، عن أنه منذ عام 2021، لقي 20 مواطناً صينياً حتفهم، وجُرح 34 آخرون داخل المقاطعة. ومع تكثيف المتمردين البلوش تمرّدهم داخل باكستان، واستهدافهم الجيش الباكستاني والمصالح الصينية، يساور إسلام آباد قلقاً بالغاً إزاء التداعيات المحتملة لهذه الهجمات على «الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني». كما تعرّض عشرات الصينيين لهجمات بمختلف أرجاء باكستان على يد متمردين.

وحقاً، يشكّل أمن العمال الصينيين قضيةً مقلقة ومُستمرة، خاصة في ظل تعرضهم لهجماتٍ مُتعددة عبر السنوات الأخيرة. وأثار هذا التهديد المُستمر تقارير استخباراتية، تُشير إلى احتمالية أن تنشر بكين قوات لها قريباً في باكستان، وهذه خطوةٌ من شأنها أن تشكل تحولاً هائلاً في الوجود الأمني لبكين بالمنطقة.

ووفق الصحافي الباكستاني آرزو كاظمي، الذي يُدير قناةً عبر موقع «يوتيوب»، فإن «الصين تُؤمن بفكرة الاستثمارات الآمنة، أي أنها لا تُحبّذ الصراعات حول مشروعاتها. وعليه، يشعر الصينيون بإحباط شديد بسبب عجز الحكومة الباكستانية عن توفير الأمن، لدرجة أنهم قرروا تجنب ضخ استثمارات في مشاريع أخرى».

آفاق تعاون أمني

وفي هذا الإطار، اقترحت الصين بناء شركة أمنية بالتعاون مع باكستان، لتوفير حماية أكبر لعمالها في مشاريع «الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني». وعلاوة على ذلك، دأبت بكين على حثّ إسلام آباد على توقيع اتفاقية تعاون لمكافحة الإرهاب، من شأنها أن تمهد الطريق أمام وجود عسكري صيني رسمي بالبلاد.

هذا، وإلى جانب مطالبة المتمردين البلوش بالاستقلال عن باكستان، فإنهم أبدوا معارضتهم الصريحة للمشاريع الصينية في المنطقة. وهم يتهمون الآن بكين باستغلال الموارد الطبيعية الغنية في بلوشستان – مثل الغاز الطبيعي والفحم والنحاس ومعادن أخرى - بالتعاون مع سلطات إسلام آباد، ما أدى إلى تهميش السكان المحليين. وجاءت الهجمات الأخيرة ضد الموظفين الصينيين العاملين في البنية التحتية لمشروع «الممر الاقتصادي الصيني ـ الباكستاني»، في إطار استراتيجية المتمردين الأوسع للرد على ما يعدونه استغلالاً اقتصادياً مجحفاً.

يشكّل أمن العمال الصينيين قضيةً مقلقة ومُستمرة، خاصة في ظل تعرضهم لهجماتٍ مُتعددة عبر السنوات الأخيرة

التوتر بين باكستان و«جيرانها»

التوترات المتصاعدة بين باكستان وأفغانستان تثير بلا شك مخاوف حول احتمال اشتعال صراع بين البلدين، قد يخلّف تداعيات كبرى على جنوب شرقي آسيا بل وسط آسيا أيضاً. ويأتي هذا التطور بعد شنّ باكستان غارة جوية داخل أفغانستان، العام الماضي، وفي المقابل، هاجمت «طالبان» مواقع عدة في باكستان، بينما تراقب الهند تزايد التوتر بين «جارتيها»، لأن اشتعال الحرب بينهما سيثير القلق على أمن نيودلهي على جبهات عدة، مثل أزمة اللاجئين وتصاعد الإرهاب.

وفي تطور مهم، انخرطت الهند في مناقشات متعددة مع «طالبان» خلال العام الماضي، الأمر الذي أثار استياء باكستان. وبجانب ذلك، سمحت الهند لممثل «طالبان» بالعمل من داخل القنصلية الأفغانية في مومباي، في حين التزمت كابل بضمان ألا يصار إلى استخدام أراضيها في شن أنشطة ضد الهند. ولكن في الوقت ذاته، عزّز وجود حكومة «طالبان» في أفغانستان طموح «طالبان باكستان» في بناء «دولة إسلامية» طالبانية في إسلام آباد.

وما يجدر ذكره في هذا السياق أن سلطات إسلام آباد تقول إن الكثير من الأسلحة والأجهزة المتطورة التي تستخدمها الجماعات المتمردة تأتي من أفغانستان، التي تركتها واشنطن وراءها قبل انسحابها من أفغانستان.

وعلى جانب آخر، تتفاقم الأمور بالنسبة للعلاقات بين باكستان وإيران إثر شنّ الجانبين غارات جوية ضد بعضهما، العام الماضي. وقد استخدمت إيران صواريخ وطائرات مسيّرة من دون طيار لقصف غرب باكستان. وفي المقابل، شن سلاح الجو الباكستاني غارات جوية على جنوب شرقي إيران، ويزعم كل من الجانبين أن الأراضي المستهدفة استُخدمت لشن أنشطة تمردية داخل أراضيه.

النظام العالمي الانتقائي والغرب

تحدَّت الهند الدور الحالي للأمم المتحدة تحدياً مباشراً أمام عدد من القوى العالمية الكبرى. ودافع وزير الخارجية الهندي إس. جايشانكار عن إنشاء أمم متحدة «قوية وعادلة»، مشدداً على ضرورة تطبيق المعايير والقواعد العالمية على الجميع بالعدل. وأضاف: «إننا نحتاج إلى أمم متحدة قوية، لكن الأمم المتحدة القوية تتطلب أمماً متحدة عادلة. ويجب أن يتسم النظام العالمي القوي ببعض الاتساق الأساسي في المعايير». ودعا الوزير الهندي من ثمَّ إلى مراجعة النظام العالمي القائم، بقوله: «أعتقد أنه من المهم مراجعة مسيرة العالم على مدى العقود الثمانية الماضية، وأن نكون صادقين بشأن ذلك، وأن نفهم اليوم أن التوازنات، وتقسيم الحصص في العالم قد تغير... نحن الآن بحاجة إلى حوار مختلف. بصراحة، نحن بحاجة إلى نظام مختلف». من جهة ثانية، انتقد جايشانكار الغرب بصورة مباشرة في سياق التطرق إلى موضوع التدخل السياسي فقال: «عندما يتدخل الغرب في دول أخرى، يبدو الأمر كأنه يسعى إلى تحقيق مبادئ الديمقراطية. وعندما تتدخل دول أخرى في الغرب، يبدو كأن لديها مصلحة خبيثة للغاية... أعتقد أنه يجب أن نتحلى بالإنصاف». ومن ثم، أثار الوزير الهندي، طبعاً من زاوية بلاده، قضية كشمير، فقال: «عندما أحالت الهند القضية عام 1947، إلى الأمم المتحدة بعد غزو باكستان للإقليم، حوّلت القوى المتورّطة آنذاك -بريطانيا والولايات المتحدة وبلجيكا وكندا وأستراليا- الأمر إلى نزاع بين نيودلهي وإسلام آباد»! جاء كلام جايشانكار خلال حلقة نقاشية بعنوان «العروش والأشواك: الدفاع عن سلامة الأمم»، كان بين المشاركين فيها رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلت، ووزير خارجية ليختنشتاين دومينيك هاسلر، ووزير الخارجية السلوفاكي يوراي بلانار. ثم تساءل جايشانكار عن تطبيق القواعد العالمية على «طالبان» في أفغانستان، خصوصاً المعايير المختلفة التي اعتمدتها الدول الغربية في المفاوضات مع الجماعة عبر فترات مختلفة، وقال إن مزايا النظام القديم «مبالغ فيها». وعبَّر الوزير عن اعتقاده فيما يخص الوضع في أفغانستان بأنه «إذا كان ذلك يناسب مصلحتك، سواءً كان أحدهم صالحاً أو رديئاً، فسوف تُقرر ما تراه مناسباً وتُطبق ذات المعايير على البلد نفسه، وعلى القضايا نفسها بشكل مختلف». وضرب مثالاً على ذلك بـ«طالبان»، إذ قال «تخيل أفغانستان، (طالبان) نفسها، التي كانت حالة شاذة، جرى الترحيب بها في عملية الدوحة، وفي أوسلو، وكان الناس راضين عنها. لكن، اليوم، يعودون ويقولون إن (طالبان) تُسيء التصرف... وبذا يتضح أنه عندما يناسبك التعامل مع (طالبان)، يكون الأمر مقبولاً، وعندما لا يناسبك يصبح الأمر غير مقبول».