إبراهيم تراوري... رئيس بوركينا فاسو وقائد حربها الشرسة ضد «الإرهاب»

تولّى الحكم عبر «انقلاب عسكري» ومدَّد سلطته الانتقالية 5 سنوات

 تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة
تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة
TT

إبراهيم تراوري... رئيس بوركينا فاسو وقائد حربها الشرسة ضد «الإرهاب»

 تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة
تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة

رغم تعهّد النقيب إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، بألا يبقى في السلطة، فإنه مدّد فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، راهناً إجراء الانتخابات التي كان من المقرّر عقدها في يوليو (تموز) الماضي، بـ«سماح الظروف الأمنية». تراوري كان قد تولّى السلطة عبر انقلاب عسكري في سبتمبر (أيلول) 2022، متعهداً بـ«إنقاذ البلاد»، غير أنه لا يزال يخوض وجيشه «حرباً شرسة» ضد الجماعات «الإرهابية» المتطرّفة، التي تشن هجمات شِبه يومية على مناطق عدة من البلاد. وهذا، وسط مخاوف من أن «يرسّخ تراوري حكماً عسكرياً في بوركينا فاسو - التي كانت تُعرَف سابقاً باسم جمهورية أعالي الفولتا - يعزّز حالة اللااستقرار السياسي والأمني»، التي تشهدها بلاده الحبيسة والواقعة في الغرب الأفريقي، منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960.

وُلد إبراهيم تراوري يوم 14 مارس (آذار) عام 1988، لعائلة مسلمة من شعب الديولا «الجولا»، تقطن بلدة بوندوكوي، الواقعة في محافظة موهوم، شمال غربي العاصمة واغادوغو. ولقد نشأ في بيئة ريفية متواضعة، حيث أنهى تعليمه الابتدائي ثم الإعدادي في بلدته الريفية الصغيرة بمدرسة بوندوكوي الابتدائية العامة، قبل أن ينتقل إلى بوبو ديولاسو، ثاني كبرى مدن بوركينا فاسو؛ لإكمال تعليمه الثانوي في مدرسة ليسيه ميكست داكارت.

في عام 2006 التحق تراوري بجامعة جوزيف كي زيربو «جامعة واغادوغو سابقاً»، حيث حصل على درجة البكالوريوس في الجيولوجيا عام 2010.

بيد أن طموح ذلك الشاب كان أبعد من الجيولوجيا، إذ التحق، في العام نفسه، بأكاديمية جورج نامونو العسكرية، حيث تخرَّج بعد سنتين برتبة ملازم ثان.

في الواقع، لا تذكر سيرة تراوري الذاتية، المنشورة على موقع الرئاسة البوركينية، كثيراً عن تلك الفترة، إلا أن تقارير محلية وغربية عدة نقلت عن مقرَّبين منه، خلال مرحلة الدراسة العسكرية، وصفهم إياه بأنه كان تلميذاً «خجولاً ومتحفظاً وذكياً في آن».

التدرّج العسكري

انضمّ تراوري إلى الجيش، وبدأ رحلة صعود وتدرُّج سريعة داخل صفوفه، إذ خدم، فور تخرجه في المنطقة العسكرية الأولى بمحافظة كايا، لمدة سنتين حتى عام 2014، ثم رقّي إلى رتبة ملازم أول.

سنوات خدمة تراوري العسكرية الأولى تركّزت في المناطق المتضررة من «الإرهاب». وفي عام 2019 شارك في عملية أطلق عليها مسمى «سحب النار» ضد الجماعات المسلَّحة في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من البلاد. وعلى الأثر، رقّي إلى رتبة نقيب عام 2020، لكن نشاطه العسكري لم يقتصر على العمليات الداخلية، بل شارك في عمليات دولية، ضمن إطار قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، كما التحق بدورات تدريبية عسكرية عدة، مِن بينها تدريب متخصص في الدفاع الجوي بالمغرب. ومع أن الرجل لا يحمل أوسمة عسكرية، فإنه وفْق الإعلام المحلي، معروف في أوساطه بأنه «قوي وشجاع».

داميبا... من الشراكة إلى الانقلاب

في يناير (كانون الثاني) 2022، شارك إبراهيم تراوري في انقلاب عسكري قاده العقيد بول هنري سانداوغو داميبا، وأطاح بنظام الرئيس المدني المنتخَب روك كابوري.

وفي مارس من العام نفسه، عيّن تراوري قائداً لفيلق «فوج المدفعية»، المتركز في كايا بالمنطقة الشمالية الوسطى، وهو موصوف بأنه «فيلق قوي جداً ومحترف»، لكن الأمور لم تستقرَّ طويلاً، إذ بعد نحو تسعة أشهر، قاد تراوري انقلاباً عسكرياً ضد داميبا في سبتمبر (أيلول).

وعقب نجاح الانقلاب، ألقى خطاباً قال فيه إن «هدفه إنقاذ البلاد من الأوضاع الأمنية المتدهورة»، بعد «فشل» القيادة السابقة في حماية البلاد من الإرهاب. وفي 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، أدى تراوري اليمين الدستورية رئيساً للبلاد، ليصبح، وفق مراقبين، «أصغر» رئيس دولة في العالم. ويومذاك، قال تراوري، مخاطباً مسؤولي حكومة بوركينا فاسو: «أعلم أنني أصغر سناً من معظمكم هنا. نحن ما كنا نريد ما حدث، لكن لم يكن أمامنا خيار».

حازم وجادّ

كثيرون شبّهوا تراوري بزعيم بوركينا فاسو الثوري الراحل توماس سانكارا، ونقلت الـ«بي بي سي» عن وسائل إعلام بوركينية محلية قولها إن «تراوري تولّى زعامة البلاد بعد انقلاب عسكري، وهو نقيب بالجيش يبلغ من العمر 34 سنة، تماماً مثل سانكارا».

وبالفعل، يستخدم الإعلاميون المحليون أوصافاً عدة لتراوري؛ بينها «الحَزم»، و«الجِدية»، والقدرة على تحفيز الجنود، وأحياناً الجرأة والعنف. ويروون عنه - موقع «أفريكا ريبورت» - أنه عندما كان قائداً لوحدة عسكرية، قال لجنوده: «الجهاديون لا يرتدون سترات واقية من الرصاص، لذا نحن لا نحتاج إليها أيضاً».

والواقع أنه منذ تولَّى تراوري السلطة، ركّز على تعزيز قدرات الجيش عبر تدريبه وتجهيزه بأحدث المُعدّات، والتعاون إقليمياً ودولياً بهدف مكافحة «الإرهاب»، ثم إنه وضع «خطة وطنية للتحول الاقتصادي» تُشدد على تنويع مصادر الدخل، ودعم قطاعات مثل الزراعة والطاقة. واجتماعياً، أطلق تراوري برامج لدعم تمكين المرأة، وزيادة مشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية.

الحرب على الإرهاب

تأتي رئاسة تراوري في فترة تُواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية، بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة. لذا لا تخلو خطابات تراوري من تأكيد «أهمية تعزيز القدرات العسكرية لمواجهة التهديدات الأمنية». ومن جهة ثانية، تُعدّ بوركينا فاسو «نموذجاً مصغّراً» للأزمات العميقة الجذور المتعلقة بالحكم وتوطيد أركان الدولة، التي تتكرر في جميع أنحاء غرب أفريقيا ومنطقة الساحل. وهذه أزمات استبعد «مجلس العلاقات الخارجية الأميركي»، في تقرير له نُشر عام 2022، امتلاك تراوري الأدوات الكافية لحلها.

إعادة هيكلة الجيش... والتعبئة العامة

للتذكير، فور وصول تراوري إلى الحكم أعلن أن هدفه الوحيد هو الانتصار على «الإرهاب». وفي هذا السياق أعاد هيكلة الجيش، وأعلن «تعبئة عامة» يوم 19 أبريل (نيسان) 2023، مدَّدها أخيراً لمدة سنة أخرى. و«التعبئة العامة» تشبه «حالة الطوارئ»، وتنص على «استدعاء الشباب من سن الـ18 سنة فما فوق، والذين يتمتعون باللياقة البدنية، إلى التجنيد، وفقاً للاحتياجات التي تُعبر عنها السلطات المختصة».

لكن، بينما يقود تراوري حرباً على الإرهاب، ثمة ملامح أزمة تتفاقم بصمت، ذلك أن فترة حكم تراوري القصيرة نسبياً لتاريخه تُواجه انتقادات بسبب «تعزيز قبضة الجيش على السلطة»، وتأجيل الانتخابات التي تستهدف إعادة الحكم المدني. ففي مايو (أيار) الماضي، مُدّدت فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، وزعم تراوري أن «التمديد ضروري لإعادة بناء الدولة على أسس قوية، وضمان الاستقرار قبل العودة إلى الحكم المدني». وأضاف أن «الانتخابات ستُجرى عندما تسمح الظروف الأمنية بذلك».

الواقع أن ملامح الأزمة ظهرت عبر بيانات متكررة أعلنت فيها الحكومة عن محاولات انقلاب تدّعي أنها «مموَّلة ومدعومة من الخارج». و«كشفت» أولى تلك المحاولات بعد سنة من تولّي تراوري الحكم يوم 27 سبتمبر 2023. ومع أن المحاولات «كلها باءت بالفشل»، فإنها أثارت مخاوف بشأن استقرار الحكم.

بل أثّرت هذه المحاولات على تراوري إلى درجةٍ دفعت البعض للقول إنه «بات مهووساً بالمؤامرات المحتملة ضده، ومقتنعاً بضرورة مراقبة الجميع». وبالفعل، اتخذ الرجل إجراءات أمنية «صارمة» لحماية حكمه وأركانه، وكفَّ عن الخروج ليلاً، وقلَّص دائرة خُلصائه لتنحصر في إخوته وبعض المقرَّبين.

«حليف روسيا»

تقارير غربية عدة تُصنّف تراوري، اليوم، «حليفاً لروسيا»، وبخاصة أنه طالب القوات الفرنسية، في مارس 2023، بالانسحاب من البلاد، ما دفع البعض للقول إنه يسعى لقطع علاقاته مع باريس، مقابل تعزيزها مع موسكو، في سياق الصراع بين الدولتين على النفوذ بأفريقيا.

لكن تراوري أكد، في تصريحات صحافية، أنه «لا قطع للعلاقات الدبلوماسية، ولا حقد تجاه دولة معينة». ونفى وجود ميليشيا «فاغنر» الروسية في بلاده، قائلاً: «نسمع مراراً أن (فاغنر) باتت في واغادوغو... هذه الشائعة خُلقت لكي ينأى الجميع بأنفسهم عنا». وجاء النفي رغم تأكيده «تعزيز العلاقات مع روسيا»، وقوله، عام 2022، إن «بلاده ترتبط بعقد عسكري مع روسيا، وتستخدم عتادها بكثرة».

أيضاً «فاغنر» نفسها أكدت وجودها، في تصريحات تزامنت مع إعلانها، يوم 30 أغسطس (آب) الماضي، رحيل جزء من قواتها في بوركينا فاسو، ونقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عن قائد «لواء الدببة» الروسي، فيكتور يرمولاييف، في مقابلة عبر تطبيق «تلغرام»، أن «نحو مائة من أصل نحو 300 مرتزق روسي غادروا بوركينا فاسو». في المقابل، ووفق «أ.ف.ب»، أكد يرمولاييف «بقاء بعض القوات»، قبل أن يوضح: «لدينا قواعد وممتلكات ومُعدات وذخيرة. لن نعيد كل شيء إلى روسيا».

وما يستحقّ هنا أنه كان لإحباط محاولة الانقلاب على تراوري، في سبتمبر 2023، «دور في تسارع التقارب بين واغادوغو وموسكو»، إذ «أرسلت روسيا بعدها، عشرات من الأفراد العسكريين والمرتزقة إلى بوركينا فاسو، بعضهم توجَّه مباشرة إلى مقر الرئاسة»، وفق موقع «أفريكا ريبورت» الذي أشار إلى «نشر نحو 200 شخص، ضمن إطار الشراكة الروسية الجديدة مع أفريقيا». ونقل الموقع عن مصدر عسكري بوركيني قوله إن «القوات الروسية شكّلت نوعاً من الفقاعة الأمنية ذات الدوائر المتداخلة حول تراوري لحمايته».ختاماً، يرى مراقبون تراوري نموذجاً متناقضاً ومعقّداً، بين قائد عسكري شاب بادر لتولّي زمام أمور بلاده بهدف «إنقاذها» و«إصلاحها»، ورئيس يسعى لترسيخ نظام حكم عسكري فردي، مؤجِّلاً أي خيارات لحكم مدني ديمقراطي. وتثير مسيرته العسكرية القصيرة جدلاً وتساؤلات بشأن قدرته على تحقيق الاستقرار في بوركينا فاسو، وما إذا كان سيقود البلاد نحو المدنية أم نحو حكم عسكري طويل الأمد.


مقالات ذات صلة

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

حصاد الأسبوع جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

استكملت موسكو تحضيراتها لاستقبال «الحدث الأكبر على صعيد السياسة الخارجية»، وفقاً لوصف الكرملين. إنها قمة مجموعة «بريكس» التي أعدت لها موسكو طويلاً، ورتّبت بدقة تفاصيلها وفعالياتها، بصفتها رئيساً للمجموعة هذا العام. وستستضيف القمة مدينة قازان (عاصمة تتارستان) الواقعة على نهر الفولغا، وسيشارك فيها عشرات الزعماء والمسؤولين. المشهد أراد منه الكرملين أن يُظهر للعالم فشل سياسة عزل الرئيس فلاديمير بوتين الذي سيكون أمامه يومان طويلان جداً في الفترة بين 22 و24 أكتوبر (تشرين الأول)؛ إذ يحفل جدول أعماله بلقاءات على أعلى مستوى مع عشرين زعيماً مشاركاً في أعمال القمة.

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخلفه أعلام الدول الأعضاء في مجموعو "بريكس" (آ فب/غيتي)

«بريكس»... عملاق اقتصادي يواجه تحدّيات كبرى

> مما لا شك فيه أن مجموعة «بريكس»، التي تعقد قمتها هذا العام للمرة السادسة عشرة بصيغتها الموسّعة، تحوّلت إلى كتلة اقتصادية عملاقة، وبالأخص مع انضمام خمسة بلدان.

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع بارو

جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

عُيّن أخيراً جان نويل بارو، البالغ من العمر 41 سنة والمنتمي إلى تيار الوسط اليميني، وزيراً للخارجية الفرنسية في الحكومة الجديدة برئاسة ميشال بارنييه. ويتولى بارو المنصب خلفاً لستيفان سيجورنيه الذي لم يمكث فيه سوى ثمانية أشهر. بارو هو رابع رئيس للدبلوماسية الفرنسية منذ انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون لأول مرة، في عام 2017، والثالث منذ بداية ولايته الثانية في عام 2022؛ وذلك أن الأزمة السياسية التي أثارها حلّ «الجمعية الوطنية (مجلس النواب في البرلمان)» خلطت الأوراق وأنهت مهام أعضاء الحكومة السابقة بطريقة عاجلة. ومن ناحية ثانية، جاء استقبال خبر تعيين الوزير الجديد متبايناً، ففي حين عَدَّ البعض أن وزير الخارجية الجديد «كُوفئ» على ولائه للرئيس ماكرون، واستفاد من تاريخ والده السياسي البارز، رأى آخرون أنه سياسي كفء على دراية تامّة بالملفات المهمّة، وخاصّة الأوروبية منها، إضافة إلى علاقته الجيّدة مع رئيس الحكومة بارنييه.

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع سيباستيان ليكورنو

حكومة بارنييه: تشكيلة وزارية ذات توجه يميني

بعد أكثر من أسبوعين من المباحثات المُضنية، التي قادها رئيس الوزراء ميشال بارنييه، تشكلّت الحكومة الفرنسية الجديدة، المكوّنة من 41 وزيراً، بعضهم لا يتمتع بخبرة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
حصاد الأسبوع هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)

النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

انضمت النمسا إلى قافلة دول أوروبية سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً مهماً في الانتخابات العامة.

راغدة بهنام (برلين)

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)
جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)
TT

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)
جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)

يكاد الاهتمام السياسي والإعلامي في روسيا يكون منصباً بالكامل على مجريات قمة «بريكس» المنتظرة والنتائج المتوقعة منها؛ ذلك أنها «الحدث الأكبر فعلاً»، كما قال مساعد الرئيس لشؤون السياسة الدولية يوري أوشاكوف. وفضلاً عن منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الذي تراجعت أهميته بعض الشيء خلال السنوات الأخيرة، فإن قمة «بريكس» تُعد المناسبة الوحيدة التي تنظمها موسكو على هذا المستوى منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.

32 دولة مشاركة

يشارك في القمة ممثلو 32 دولة، بينهم وفقاً لأوشاكوف 24 رئيساً أو رئيس وزراء، علماً أن الدعوة وُجهت إلى 38 بلداً، هي البلدان التي تتمتع بعضوية المنظمة أو أبدت رغبة بالتعاون معها. وفي هذا الشأن تقول موسكو إن واشنطن مارست ضغوطاً كبرى على بعض البلدان لمقاطعة القمة، أو على الأقل لتقليص مستوى الحضور فيها.

بيد أن روسيا، باعتبارها البلد المستضيف لهذا الحدث، دعت زعماء بلدان «رابطة الدول المستقلة»، وجميعهم أكدوا مشاركتهم. كذلك وجهت الدعوات للدول التي ترأس اتحادات التكامل الإقليمي في جنوب شرقي آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.

وبناءً عليه، يُنتظر حضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والأمين العام لـ«منظمة شنغهاي للتعاون» تشانغ مينغ، والأمناء العامّين لـ«رابطة الدول المستقلة» و«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» و«دولة الاتحاد» مع بيلاروسيا، بالإضافة إلى رئيسة بنك التنمية الجديد ديلما روسيف. ويعتقد أوشاكوف أن «التمثيل الجغرافي الرفيع المستوى والواسع النطاق في قمة قازان يشهد على دور (بريكس) ومكانتها على الساحة الدولية، وأيضاً الاهتمام المتزايد بهذه الرابطة من جانب الدول التي تنتهج سياسة خارجية مستقلة».

أبعاد السياسة... وحوار الاقتصاد

يبرز في التحضيرات التي قامت بها موسكو التركيز على البُعد السياسي للحدث، على الرغم من أن أجندة الحوار في القمة تبدو مخصّصة أكثر للقضايا الاقتصادية.

وإلى جانب اللقاءات الثنائية التي تعوّل عليها موسكو كثيراً، رتّب الكرملين متعمّداً شقّين للقمة يحمل كل منهما دلالات مهمة.

الشق الأول، بطبيعة الحال، هو اجتماع الدول الأعضاء في المنظمة، وهي عشرة بلدان حالياً بعدما توسّعت المجموعة العام الماضي بضم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر وإيران وإثيوبيا. وهو سيخصص لموضوع «تعزيز التعدّدية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين»، وهذا في الواقع شعار الرئاسة الروسية لمجموعة «بريكس» في عام 2024.

أما الشق الثاني فهو اجتماع بصيغة «بريكس بلس»، الذي يضم أيضاً ضيوف القمة وممثلين عن دول أعربت عن رغبة في الانضمام إلى المجموعة، وهنا يبرز أكثر البُعد السياسي الذي تتطلّع إليه موسكو، لكون اللقاء يعقد تحت شعار «بريكس والجنوب العالمي... بناء عالم أفضل بشكل مشترك».

توسيع المجموعة

موسكو سعت إلى تجاوز التباينات الداخلية في المجموعة حول ملف التوسيع المحتمل لـ«بريكس»، وكان قد برز الخلاف سابقاً بشكل واضح بين الصين، المتحمسة للتوسيع، والهند التي وضعت تحفّظات على التعجّل في هذا الشأن. لكن الرئاسة الروسية توصلت، على ما يبدو، إلى «حل وسط» يرضي الطرفين الكبيرين، ثم إنه خلال الاستعدادات للقمة نوقشت فكرة إطلاق مستوى من التعاون من دون ضم بلدان جديدة حالياً... عبر ابتكار صيغة «الدول الشريكة» لمجموعة «بريكس». وتشير التقديرات الروسية إلى أن عدد البلدان التي ترغب بالانضمام رسمياً إلى المجموعة يبلغ اليوم 34 بلداً، الأمر الذي يعني أن مستقبل المجموعة ماضٍ نحو تعزيز حضورها بشكل واثق على الصعيدين السياسي والاقتصادي في العالم.

وحقاً، حدّد الكرملين أولوياته في هذا الشأن عبر الإشارة إلى أن «أبواب (بريكس) مفتوحة للدول ذات التفكير المماثل والتي تتشارك في المبادئ والأهداف الأساسية». ولكن مع هذا، أقرّ «صانعو السياسة» الروس بأن المجموعة لم تتبنَّ بعدُ نهجاً موحّداً حيال ملف التوسيع وضم أعضاء جدد.

وهنا أوضح أوشاكوف أن «بعض الدول ترى أن علينا أن نتوقّف عند الأعضاء العشرة وتأجيل التوسع، في حين يؤيد البعض الآخر قبول أعضاء جدد، بل وحتى تسمية دول محددة يمكن أن تصبح أعضاء في المنظمة».

على أي حال، يتركز الخلاف - كما تقول أوساط روسية - حول المخاوف من تشتيت الجهد وظهور عراقيل قوية أمام توحيد المواقف في حال وُسعت عضوية المجموعة بشكل عجول. وبالفعل، يرى البعض أن المطلوب حالياً «بذل أقصى جهدنا لضمان اندماج الدول الأعضاء حالياً بسلاسة في جميع أشكال التعاون»؛ ولذا يبدو أن إحدى نتائج القمة الأساسية ستتركز على إقرار الصيغة الروسية حول «الدول الشريكة».

أولويات اقتصادية

جدير بالذكر أن الكرملين كان قد حدّد منذ مطلع العام أولويات روسيا في فترة رئاستها للمجموعة، وعلى رأسها تطوير آليات الاعتماد على العملات المحلية في التبادل التجاري بين الأعضاء، ودفع مسار إنشاء عملة موحّدة على الرغم من الصعوبات البالغة التي تعترض طريقه.

ولقد أجمل وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، على أبواب القمة، قائمة بالمهام المطروحة حالياً، عبر الإشارة إلى تطوير «نظام مستقل للتسويات المالية» لمجموعة «بريكس». وتكلّم عن «آفاق لصناعة العملات المشفّرة» في روسيا والدول الشريكة. كذلك أشار سيلوانوف إلى أن حزمة القوانين التي اعتُمدت أخيراً في روسيا لتنظيم سوق العملات المشفّرة «تفتح فرصاً جديدة لاستخدام الأصول الرقمية في التجارة الدولية»، وأنه «بات حالياً من الممكن استخدام العملة المشفّرة كوسيلة للدفع في التجارة مع الشركاء الأجانب».

ورأى الوزير الروسي أنه في سياق تجزئة الاقتصاد العالمي والقيود السياسية من الغرب، بات إنشاء نظام مالي مستقل خاص بالمجموعة على رأس المهام المُلحّة.

وفي هذا الإطار أيضاً، تبحث المجموعة إنشاء نظام إيداع مشترك، وإطلاق شركة تأمين خاصة بدول المجموعة لتقديم خدمات التأمين في إطار العلاقات التجارية بين دول «بريكس». وتعوّل موسكو على أن نشاط مجموعة «بريكس» المشترك سيسفر عن دفع جدّي لمعدلات التنمية في بلدانها. وفي هذا الصدد، أشار الوزير سيلوانوف إلى الحصة المتزايدة لدول «بريكس» في الاقتصاد العالمي. ووفقاً لمعطياته، فإن المجموعة باتت تتقدم بالفعل على «مجموعة السبع» من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وسوف تستمر في زيادة نفوذها الاقتصادي.

وفي سياق متصل، فإن العنصر الرئيسي في قوة المجموعة يكمن - كما يقول الكرملين - في كونها «تجمع فرص التجارة والاستثمار وتبادل التكنولوجيات والمعرفة الجديدة». وبحسب الوزير سيلوانوف، فإن هذا الواقع «يعطي زخماً إضافياً لتنمية اقتصاداتنا»، ثم هناك عنصر ثانٍ مهم يكمن في محاربة هيمنة الدولار الأميركي. وهذا العنصر يشكل إحدى ركائز تحرك الكرملين في إطار «بريكس». وعلى الرغم من بطء التقدم في هذا المسار، ترى القيادة الروسية أن تحقيق اختراقات كبرى أمر ممكن، مع وصول حجم التبادل بالعملات المحلية إلى نحو النصف مع بعض بلدان المجموعة.