أندريه بيلوسوف... خبير اقتصادي ناجح يتربّع على مقعد وزير الدفاع في روسيا

«رجل المرحلة» الذي اختاره بوتين لإعادة تأهيل الجيش وضمان النصر في أوكرانيا

يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية
يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية
TT

أندريه بيلوسوف... خبير اقتصادي ناجح يتربّع على مقعد وزير الدفاع في روسيا

يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية
يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية

العنوان الرئيسي الذي لفت الأنظار في المناقلات والتعيينات التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فور تسلمه رسمياً مهام ولايته الرئاسية الخامسة، لم يكن إقالة سيرغي شويغو وزير دفاعه لسنوات طويلة وصديقه المقرب، بل تعيين أندريه بيلوسوف رجل الاقتصاد الذي عمل لسنوات طويلة بصمت، بعيداً عن الأضواء، حتى إن كثيرين من الروس لا يكادون يعرفون على وجه الدقة طبيعة المهام الكبرى التي كُلّف بتنفيذها في مرحلة تُعد الأصعب في تاريخ روسيا المعاصر. وهكذا انهالت التعليقات، من كل صوب وحدب، وسارع مسؤولون ووسائل إعلام بارزة لإطلاق وصفات جاهزة، لتفسير قرار وضع الخبير الاقتصادي على مقعد وزير الدفاع. بعضهم رأى في القرار دليلاً على «يأس» فلاديمير بوتين، وفق واشنطن. في حين انبرى محللون لتكرار مقولة إن إسناد الكرملين وزارة الدفاع إلى رجل «لم يلبس قط البدلة العسكرية» يضع علامات استفهام كبرى حول قدرته على قيادة الجيش في ظروف معركة مصيرية بالنسبة إلى روسيا.

خلافاً للتكهنات الكثيرة خارج الحدود، وبعيداً عن مصنع القرار الروسي، بدا الكرملين واثقاً من خياراته الأخيرة، ومقتنعاً بأن من شأن اختيار أندريه بيلوسوف لقيادة وزارة الدفاع «إعادة تشغيل» القطاعات الصناعية والاقتصادية كلها في إطار «اقتصاد الحرب» وتحت شعار توجيه مقدرات البلاد لـ«خدمة المعركة».

ولكن مَن بيلوسوف؟ ولماذا حظيَ بثقة بوتين الواسعة، وبات بين الأسماء البارزة على لوائح العقوبات الغربية؟ وفي التساؤلات أيضاً: ماذا سيفعل خبير الاقتصاد الذي فضَّل طويلاً أن يعمل بصمت خلف الأضواء، في منصب وزير الدفاع الروسي؟

خبير ابن خبير

كان أندريه بيلوسوف، وهو نجل خبير اقتصادي سوفياتي بارز، يعمل في الأوساط الأكاديمية قبل ضمه إلى الحكومة عام 1999، واستمر في مناصب اقتصادية، منها وزير التنمية الاقتصادية، والمستشار الاقتصادي لبوتين، حتى شغل عام 2020 منصب النائب الأول لرئيس الوزراء، في مرحلة صعبة للغاية خلال مواجهة تداعيات تفشي «كوفيد - 19» على المجتمع والاقتصاد. وطوال تلك الفترة، دعا بيلوسوف باستمرار إلى دور قوي للدولة في الاقتصاد، وإلى تحفيز نموها عبر الاستثمارات، وأسعار الفائدة المنخفضة، والسياسات المالية والائتمانية الناعمة.

وُلد أندريه بيلوسوف عام 1959 في موسكو لعائلة الاقتصادي ريم ألكساندروفيتش بيلوسوف، وعالمة الكيمياء الإشعاعية أليسا بافلوفنا بيلوسوفا. وكان الأب خبيراً اقتصادياً مرموقاً يُعد -وفقاً لتقارير- «مؤسس» المدرسة العلمية السوفياتية في مجال التسعير والإدارة، وكان أحد المشاركين في إعداد «إصلاحات كوسيغين»، نسبةً إلى رئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كوسيغين الذي قاد مرحلة من التغييرات الاقتصادية هدفت إلى توسيع اللامركزية في تبني القرارات الاقتصادية. أما الأم فكانت عالمة في مجال الكيمياء الإشعاعية، ودرّست لسنوات طويلة كيمياء العناصر النادرة.

تميُّز أكاديمي وبحثي

في هذا الوسط الأكاديمي العلمي شبّ الابن أندريه، مما ترك انعكاسات مهمة على كل مراحل حياته العملية لاحقاً، لجهة الرصانة في أداء عمله والاهتمام بكل التفاصيل، فضلاً عن روح الابتكار في نشاطه المهني.

وبعد التخرّج في المدرسة الثانية للفيزياء والرياضيات، التحق أندريه بكلية الاقتصاد في جامعة موسكو الحكومية، وتخرّج فيها بمرتبة الشرف عام 1981 متخصصاً بـ«التحكم الآلي الاقتصادي». وهناك برزت مواهبه باكراً جداً، ففي أثناء دراسته، بدأ التعاون مع مجموعة من الاقتصاديين البارزين تحت قيادة ألكسندر أنشيشكين، الذي كان في 1977 - 1981 رئيساً لقسم تخطيط الاقتصاد الوطني لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو الحكومية.

ولاحقاً، عمل بيلوسوف في «معهد الاقتصاد وتوقّع التقدم العلمي والتكنولوجي» التابع لأكاديمية العلوم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، الذي أُسس عام 1986 على أساس عديد من الأقسام العلمية لمعهد الاقتصاد المركزي، وفيه شغل على التوالي مناصب باحث مبتدئ، فباحث، فباحث كبير. ولقد تركّزت أولوياته البحثية على رصد اتجاهات الاقتصاد الكلي، فضلاً عن التضخّم والأزمة الهيكلية في الاقتصادات على النمط السوفياتي. وبهذا المعنى أدرك باكراً مشكلات الاقتصاد الاشتراكي، لكنه في الوقت ذاته، ظل مؤمناً بنظريات سيطرة الدولة على المقدرات الاقتصادية والتشغيلية.

عام 1991 المفصليّ

كان عام 1991 حاسماً لبيلوسوف كما كان حاسماً لمصير البلاد كلها. وحينذاك عُيّن رئيساً لمختبر التحليل وتوقُّع عمليات الاقتصاد الكلي في معهد الاقتصاد والتكنولوجيا التابع لأكاديمية العلوم، وسرعان ما أصبح عضواً في المجموعة التحليلية لجمعية السياسة الخارجية التي شُكلت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، وعُرفت باسم «مجموعة بيسميرتنيخ»، (على اسم مؤسسها وزير خارجية اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق ألكسندر بيسميرتنيخ).

في تلك المرحلة كان الاتحاد السوفياتي قد لفظ أنفاسه الأخيرة. لكن الرجل واصل مساره بشكل ثابت، وأسس عام 2000 «مركز الدراسات والتوقّع (أو الرصد)» الذي لعب أدواراً مهمة في المرحلة اللاحقة، رشّحته بقوة ليغدو أحد أبرز رجال الاقتصاد في عهد بوتين. إذ أعدَّ تقريراً بالغ الأهمية عام 2005 حول «الاتجاهات طويلة المدى في الاقتصاد الروسي: سيناريوهات التنمية الاقتصادية لروسيا حتى عام 2020». وتوقّع التقرير حدوث الأزمة الاقتصادية عام 2008، كما أشار إلى احتمال حدوث ركود اقتصادي في 2011 - 2012 وفشل نظام الإدارة العامة. وكلها توقّعات جسّدتها التطوّرات اللاحقة.

ولكن، لعل من المفارقات هنا أن الرجل الذي يحظى حالياً بثقة مطلقة من جانب بوتين، عمل لسنوات طويلة بمنح مالية من جانب الولايات المتحدة؛ إذ تلقى بيلوسوف منحاً من «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية». والمفارقة الأهم، أن الذين يحصلون على هذه المنحة اليوم يُدرجون فوراً على لائحة «العملاء الأجانب» ويُحظر تعيينهم في مناصب حكومية.

في عام 2004، نشر بيلوسوف بأموال أميركية تقريراً بعنوان: «تنمية الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط: تحليل التهديدات»، محللاً حالة الدفاع عن روسيا. وفي العام التالي، عُيّن مديراً لمشروع «شروط تحقيق المزايا التنافسية للاقتصاد الروسي (النهج الهيكلي الكلي)» الذي أُطلق أيضاً بأموال أميركية.

بيد أن تلك المرحلة من حياته لم تؤثر في مسيرته السياسية. فعام 1999 أصبح عضواً في مجلس إدارة وزارة الاقتصاد، وعمل مستشاراً لعدد من رؤساء الحكومة الروسية: يفغيني بريماكوف، وسيرغي ستيباشين، وميخائيل كاسيانوف، وميخائيل فرادكوف.

في الخدمة العامة

دخل بيلوسوف الخدمة العامة، رسمياً عام 2006، وتولّى منصب نائب وزير التنمية الاقتصادية. وفي هذا المنصب أشرف على كتلة الاقتصاد الكلي، بما في ذلك قضايا تحسين مناخ الاستثمار، وتنفيذ البرامج المستهدفة الفيدرالية، والأنشطة الاستثمارية لـ«مصرف التجارة الدولي» أكبر مصرف حكومي في البلاد. وتحت قيادته طُوّر عام 2020 مفهوم التنمية الاجتماعية والاقتصادية طويلة المدى.

لكنَّ النقلة الرئيسية في الجهاز الحكومي لبيلوسوف جاءت عام 2008، عندما عيّنه بوتين (رئيس الوزراء آنذاك) مديراً لدائرة الاقتصاد والمالية التابع لمجلس الوزراء. وفي تلك الفترة بين 2008 و2012، التي أمضاها بوتين رئيساً للوزراء قبل عودته رئيساً إلى الكرملين، بدأ العمل المباشر مع بيلوسوف، الذي حظي بثقة كبرى من بوتين وصار من الدائرة المقربة إليه، وغدا مع النائب الأول لرئيس الوزراء إيغور شوفالوف، ووزيرة التنمية الاقتصادية إلفيرا نابيولينا، المسؤولين عن صياغة الأجندة الاقتصادية للحكومة. وبالإضافة إلى ذلك، صار مسؤولاً عن القضايا المتعلقة بإعداد الميزانية والاستثمار العام وتحسين مناخ الاستثمار. وبمشاركته، أُسّست وكالة المبادرات الاستراتيجية وأُطلقت ما تسمى «المبادرة الوطنية لريادة الأعمال» على أساسها، هادفةً إلى تحسين ظروف ممارسة الأعمال التجارية في روسيا.

وزيراً للتنمية الاقتصادية

وبعدها، فور عودة بوتين إلى الكرملين عام 2012، عيّن بيلوسوف وزيراً للتنمية الاقتصادية، ثم مساعداً للرئيس الروسي للشؤون الاقتصادية. قبل أن يغدو عام 2020 نائباً أول لرئيس الوزراء ومسؤولاً مباشراً عن القطاع الاقتصادي في الحكومة. ومن هذا المنصب واجه الرجل تفشي «كوفيد - 19»، وأظهر براعةً في تقليص الأضرار على الاقتصاد، كما واجه لاحقاً تداعيات رُزم العقوبات التي انهالت على روسيا بعد قرار إطلاق الحرب في أوكرانيا في 2022.

وبناءً عليه، يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية. فقد تعامل مع مشكلات السوق وعدّل التدابير لدعم الشركات الروسية في ظروف الحصار. وساهم في تحسين مناخ الاستثمار وتقليص تداعيات العقوبات، خصوصاً من خلال برامج أطلقها بشأن حماية وتشجيع الاستثمار في الظروف الراهنة، لا سيما على صعيد الضرائب والرسوم الجمركية وتعويض تكاليف أضرار البنى التحتية.

أيضاً، يُعد بيلوسوف مُطلق مشاريع تعديل مسار سلاسل التوريد، وقد أسهم في «طرح» الهيكل اللوجيستي الجديد، وبناء ممرّات نقل لإعادة توجيه التجارة الخارجية لروسيا ومنها وآليات التعامل مع أسواق جديدة.

وكان أحد مشاريع بيلوسوف الأخيرة، بصفته النائب الأول لرئيس الحكومة، بلوَرة استراتيجية «السيادة التكنولوجية» القائمة على ضمان تنمية الاقتصاد الروسي في المجالات الرئيسية، بالاعتماد على موارده العلمية والتكنولوجية الخاصة. وتحديداً، أعدَّ مفهوماً للتطور التكنولوجي في الاتحاد الروسي ينصّ على تقليص الفجوة بين العلم والإنتاج في إطار مشاريع الابتكار الكبيرة بمشاركة الدولة، وتطوير آليات لدعم الابتكار في الاتحاد الروسي -في مفهوم التقنيات الحيوية (المطلوبة الآن) والتقنيات الشاملة (تقنيات المستقبل الواعدة).

ماذا سيفعل الآن في وزارة الدفاع؟

يرى البعض أن أهمية تعيين بيلوسوف وزيراً للدفاع تكمن في ضرورة التعامل مع متطلبات تسخير موارد الدولة الروسية لخدمة الجبهة، وفي الوقت ذاته تحاشي إهمال القطاعات الأخرى التي تؤثر بشكل مباشر على الجبهة الداخلية. فالدولة تستثمر حالياً موارد هائلة في الصناعة العسكرية وفي بعض قطاعات الصناعة المدنية المرتبطة بها والضرورية جداً لسد الفجوات الحاصلة بسبب العقوبات. وبالتالي، طبيعي أن تتمثل الاستراتيجية العسكرية للسلطات الروسية في تقليص الخسائر على كل المستويات. وكذلك يجب إيلاء أقصى قدر من الاهتمام للخدمات اللوجيستية، مع المحافظة على أعلى درجة ممكنة من الشفافية وخفض مخاطر الفساد في الظروف الراهنة... وهو أمر برع فيه بيلوسوف.

اليوم يقول خبراء إن التكليف أشبه بعملية «إعادة تشغيل» السلطة التنفيذية برمّتها. وقد يكون تعليق ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، الأكثر وضوحاً ودقة عندما قال: «في ساحة المعركة، الفائز الآن هو الطرف الأكثر انفتاحاً على الابتكار والتنفيذ الأكثر كفاءة».

لشرح هذه الفكرة قال بيسكوف: «موازنة وزارة الدفاع والكتلة الأمنية كانت في الآونة الأخيرة في حدود 3 في المائة، ثم ارتفعت إلى 3.4 في المائة. وفي الآونة الأخيرة وصلت إلى 6.7 في المائة. وليس خافياً أن وزارة الدفاع مسؤولة عن تقديم جميع الطلبات للصناعة. وهذا ليس رقماً حاسماً بعد، فهو ماضٍ باتجاه تصاعدي (...) لأسباب جيوسياسية معروفة. إننا نقترب تدريجياً من الوضع الذي كان عليه في منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت حصة الإنفاق على الكتلة الأمنية العسكرية أكثر من 7 في المائة. هذا مهم للغاية، ويتطلّب موقفاً خاصاً لجهة ضرورات الدمج بين متطلبات اقتصاد كتلة القطاع العسكري مع اقتصاد البلاد ككل».

إذاً، مهمة أندريه بيلوسوف، كاقتصادي متخصّص ورؤيوي استراتيجي، هي بناء أساس اقتصادي وبنية تحتية للجيش للقتال على المستوى التكنولوجي المناسب، وإحلال نظم جديدة توازن بين المتطلبات العسكرية في المرحلة الراهنة لخدمة الجبهة مع حاجات القطاعات الاقتصادية والصناعية في البلاد.

ولذا كان بدهياً أن يُجمل بيلوسوف، في أثناء عرض ترشيحه لتولي وزارة الدفاع في مجلس الفيدرالية (الشيوخ)، المهمة الرئيسية التي كُلّف بها في «تحقيق النصر في ساحة المعركة في أوكرانيا بأقل قدر من الخسائر في القوات». فضلاً عن التركيز «على حاجة القطاع العسكري إلى مزيد من الكفاءة والابتكار لتحقيق أهدافه».

وباختصار، يبدو من تعيين بيلوسوف أن بوتين يريد سيطرة أوثق على الإنفاق الدفاعي القياسي في روسيا، وإطلاق عملية إصلاح واسعة تقود إلى تعزيز قدرات البلاد الصناعية في مرحلة الحرب وما بعدها. يمكن القول إن أندريه بيلوسوف «مهندس سياسات التطوير ومواجهة العقوبات» والمخطِّط الأبرز للسياسات الاقتصادية الروسية


مقالات ذات صلة

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

حصاد الأسبوع مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد

حصاد الأسبوع الحبيب الصيد (الشرق الاوسط)

معظم رؤساء الحكومات التونسية ولدوا في منطقة «الساحل»

يتحدّر أغلب رؤساء الحكومات في تونس منذ أواسط خمسينات القرن الماضي من منطقة «الساحل» (وسط الشاطئ الشرقي لتونس)، موطن الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة

«الشرق الأوسط» (تونس)
حصاد الأسبوع مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)

هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

هل يسعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للجلوس على طاولة المباحثات؟ بعد الزيارة

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

في محاولة لسد الفراغ القيادي في بنغلاديش، ولو بصفة مؤقتة، عُيّنَ محمد يونس الحائز على «جائزة نوبل» والخبير الاقتصادي، كبير مستشاري الحكومة المؤقتة المدعومة من

براكريتي غوبتا (نيودلهي)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».