نكسة اليسار في البرتغال تعيد ترتيب أولويات اليمين المعتدل الأوروبي

هل يصرّ لويس مونتينغرو على إبقاء متطرفي «شيغا» خارج ائتلافه؟

لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
TT

نكسة اليسار في البرتغال تعيد ترتيب أولويات اليمين المعتدل الأوروبي

لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)

القراءة الأولى لنتائج الانتخابات البرتغالية، و«مفصليتها» في المشهد السياسي البرتغالي، ضرورية، ولا سيما مع إمكانية أن تتكرر عناوينها في الانتخابات الأوروبية، مطلع يونيو (حزيران) المقبل. وفي مقدم الاعتبارات أن الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة على الصعيد الداخلي، والظروف الخارجية - من تضخّم وارتفاع في أسعار الفائدة وحروب - كانت وراء تراجع الاشتراكيين الذين، على الرغم من ذلك، تعادلوا تقريباً مع مُنافسهم الرئيس.

الفائز في هذه الانتخابات كان لويس مونتينغرو، زعيم «التحالف الديمقراطي» الذي يضمّ مجموعة من الأحزاب اليمينية المحافظة والوسطية، إلا أن فوزه بفارق ضئيل ينذر بوضع سياسي مضطرب وضبابي، ذلك أن حصوله على الغالبية المطلقة في البرلمان مشروط بائتلاف مع الحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي أسّسه آندريه فنتورا عام 2019، والذي كان المنتصر الأكبر في هذه الانتخابات.

ومع أن كثيرين في «التحالف الديمقراطي» يؤيدون مثل هذا الائتلاف؛ رغبة بإعطاء الحكومة المقبلة «قاعدة برلمانية» تؤمّن لها الاستقرار والاستدامة حتى نهاية ولايتها - وأيضاً لأسباب عقائدية - أوضح مونتينغرو، ليلة صدور النتائج الأولى للانتخابات، أنه سيبقى على الوعد الذي قطعه في الحملة الانتخابية برفض الائتلاف مع المتطرفين. لكن مونتينغرو يعرف أيضاً أن مثل هذه الوعود التي قطعتها قبله أحزاب أوروبية أخرى سقطت أمام التعقيدات التي كانت تعترض تشكيل الحكومات. وبالتالي، فمهمته ستكون في غاية الصعوبة من غير الاعتماد على دعم اليمين المتطرف.

آنا مينديس (موقع الحكومة البرتغالية)

تقدم «شيغا» الكبيرالنصر الواضح الذي حصده حزب «شيغا»، يوم الأحد الماضي، بحصوله على ما يزيد عن مليون صوت، قد لا يعني بالضرورة أن 18 في المائة من البرتغاليين عنصريون ويكرهون الأجانب، بل إن ثمة نسبة عالية من الناخبين ناقمة على الأحزاب السياسية التقليدية التي تتعاقب على الحكم منذ عودة الديمقراطية.

من ناحية ثانية، ليس واضحاً حتى الآن ما سيكون عليه موقف فنتورا من الحكومة الجديدة، خصوصاً أنه سارع بعد ظهور النتائج إلى شنّ هجوم عنيف على رئيس الجمهورية مارسيلو دي سوسا، والصحافة ومؤسسات استطلاع الرأي، مشدّداً على حق حزبه بالمشاركة في الحكومة.

أما الزعيم الاشتراكي بيدرو نونو سانتوس فقد اعترف بالهزيمة، عندما اتضحت نتيجة التعادل بين حزبه وبين «التحالف الديمقراطي»، مع الإشارة إلى أن نتائج المقاعد الأربعة المخصصة للمهاجرين لن تظهر قبل بضعة أسابيع، ومن غير المستبعد أن تحمل مفاجأة تضع الحزب الاشتراكي في الطليعة. ولكن، في أي حال، قال سانتوس إن حزبه سينتقل إلى المعارضة، وأنه لن يقف حجر عثرة في وجه تشكيل «التحالف الديمقراطي» حكومةً أقلية دون «شيغا».

الحصيلة بالأرقام...في حسابات الأرقام نال «التحالف الديمقراطي» 79 مقعداً، مقابل 77 للحزب الاشتراكي، ما يترك المشهد البرلماني البرتغالي موزّعاً على ثمانية أحزاب (ثلاثة يمينية وخمسة يسارية)، مع ترجيح واضح لكفّة القوى اليمينية. أما حزب «شيغا» فقد ارتفع عدد نوابه من 12 إلى 48، وأصبح ممثلاً في جميع المحافظات، باستثناء واحدة في الشمال، لا، بل حلّ هذا الحزب المتطرف أولاً في مقاطعة «الغربي» المعقل التاريخي للحزب الاشتراكي، واليسار عموماً. لذا عدّ فنتورا أن نتائج هذه الانتخابات «كرّست نهاية ثنائية الأحزاب في البرتغال»، وأظهرت رغبة واضحة لدى المواطنين في تشكيل ائتلاف حكومي بين التحالف «الديمقراطي» وحزبه، كما تعهّد بـ«تحرير» البلاد من اليسار المتطرف الذي قال عنه إنه «اختطف المؤسسات الديمقراطية».

بهذه النتيجة يغدو «شيغا» - الذي خاض هذه الانتخابات تحت شعار «تنظيف البرتغال» - القوة الثالثة في البرلمان البرتغالي، علماً بأنه أُسس منذ خمس سنوات فقط، ويكاد تمثيله في الحكومات المحلية والبلديات يكون معدوماً.

في الواقع، بينما أظهرت هذه النتائج أن «شيغا» من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأسرع صعوداً في أوروبا، وتجمعه أوجه شبه كثيرة بحزب «إخوان إيطاليا» - الذي رفع نسبة أصواته من 8 في المائة إلى 29 في المائة في الانتخابات الأخيرة التي حملت نتائجها مؤسِّسته جورجيا ميلوني إلى رئاسة الحكومة، توقّف المراقبون عند تزامن صعود «شيغا» مع الاحتفالات بـ«اليوبيل الذهبي» لـ«ثورة القرنفل» التي أطاحت الديكتاتورية البرتغالية في العام 1974.

في هذا السياق، دعت وزيرة الداخلية الاشتراكية آنا مينديس إلى حشد الجهود من مقاعد المعارضة للحكومة الجديدة؛ «لمنع سقوط الديمقراطية بيد اليمين المتطرف». أما رئيس الوزراء السابق أنطونيو كوستا، الذي توقّع، إبّان الحملة الانتخابية، ألا يحقق اليمين المتطرف النتائج الكبيرة التي كانت تتوقعها استطلاعات الرأي، فقد دعا، مطلع هذا الأسبوع، إلى تحليل الأسباب التي أدّت إلى حصول «شيغا» على هذه النتيجة. وأضاف: «يجب أن نحاول معرفة نسبة الأسباب البنيوية، وتلك التي أفرزتها ظروف مرحلية استثنائية ناجمة عن التضخم وارتفاع كبير في أسعار الفائدة؛ أي أن نتبيّن مدى التحوّل العميق في المجتمع البرتغالي من الأصوات المعبّرة عن الاحتجاج والاستياء العميق».

أيضاً، داخل المعسكر الاشتراكي، قالت آنا غوميش، مسؤولة التنسيق بالحزب الاشتراكي، إن «المسؤولية الرئيسة عن صعود اليمين المتطرف تقع على عاتق الحزب الاشتراكي الذي أخفق في معالجة المشاكل الكبرى التي تعاني منها البلاد، خصوصاً في مقاطعة (الغربي) التي كان دائماً معقل الأحزاب اليسارية». ثم تساءلت: «كيف نفسّر فشل الحكومة الاشتراكية في تأمين المياه لمقاطعات الجنوب، طيلة هذه السنوات، علماً بأن ذلك سيؤدي إلى قطعها بشكل جذري لأغراض الزراعة والسياحة اللذين يشكّلان عماد الاقتصاد في هذه المناطق...».

ووصفت غوميش، الزعيم اليميني المتطرف آندريه فنتورا بأنه «انتهازي يدافع عن الشيء وضده بهدف استقطاب الدعم». وهذا رأي يشارك غوميش فيه نونو ألفونسو، نائب الرئيس السابق لحزب «شيغا»، الذي استقال من الحزب عام 2022 على خلاف مع فنتورا، إذ يقول عنه: «ليس يمينياً ولا يسارياً، بل يتحرك بدافع السلطة فقط».

إعلام ومناصرون ... من الانتخابات البرتغالية الأخيرة (رويترز)

تسمية مونتينغرو أمام المشاورات الرئاسيةبعد صدور النتائج النهائية بدأ رئيس الجمهورية البرتغالي مارسيلو دي سوسا مشاوراته مع الأحزاب السياسية؛ تمهيداً لتكليف لويس مونتينغرو بتشكيل الحكومة العتيدة، وهذه مهمة أقرّ زعيم «التحالف الديمقراطي» بأنها ستكون تحدياً كبيراً يتطلب منه قدرات حوارية وإرادة جامعة.

يُذكر أن مونتينغرو كان قد لجأ إلى استعادة صيغة «التحالف الديمقراطي» التاريخية التي سمحت لحزبه بالفوز، للمرة الأولى في الانتخابات بعد نهاية الحكم الديكتاتوري، إلى جانب كل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وحزب الوسط الديمقراطي، والحزب الشعبي، والحزب الملكي. غير أن مونتينغرو لم يفصح حتى الآن، في تصريحاته، عما إذا كان سيدعو للمشاركة في الحكومة حزب «المبادرة الليبرالية»، المعروف بأفكاره الليبرالية المتطرفة في الاقتصاد والسياسات العامة، والذي تربط زعيمَه روي روشا علاقةٌ متينة وصداقة بزعيم «التحالف الديمقراطي»، وكان قد حصل على ثمانية مقاعد في هذه الانتخابات.

على صعيد آخر، على مسافة ثلاثة أشهر من الانتخابات الأوروبية، مطلع يونيو (حزيران) المقبل، تحمل نتائج الانتخابات البرتغالية رمزية عالية، في ضوء المخاوف المتزايدة من صعود اليمين المتطرف على الصعيد الأوروبي. وبالأخص، ما قد يعنيه ذلك للتحالفات التي ستعقدها الأحزاب والقوى المحافظة والديمقراطية المسيحية لحسم المعارك المقبلة في المؤسسات الأوروبية، ورسم خريطة الطريق أمام الاتحاد في السنوات المقبلة. ولا شك في أن المشهد الذي ستتمخّض عنه تلك الانتخابات سيحدد مصير «التفاهم العريض» الذي ساد بين الكتلتين الشعبية والاشتراكية في البرلمان الأوروبي منذ خمسة عقود، والذي يترنّح على شفا الانهيار منذ سنوات.

إن النتائج التي أسفرت عنها انتخابات البرتغال تضع المحافظين الأوروبيين أمام معضلة العلاقات مع اليمين المتطرف ونسج التحالفات معه. وهذه مسألة تثير بلبلة كبيرة في صفوف القوى اليمينية المعتدلة حول تحديد القوى اليمينية المتطرفة الصالحة للتحالف معها، وتلك التي يجب إبقاؤها داخل دائرة الحجْر الصحي لرفضها المبادئ والقيم الأساسية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي.

وضمن هذا الإطار، نشير إلى أن الحزب الشعبي الأوروبي كان قد وافق، الأسبوع الماضي، خلال المؤتمر الذي عقده في العاصمة الرومانية بوخارست، على «خريطة طريق» جديدة يكاد مضمونها يتماهى مع مواقف اليمين المتطرف من الهجرة وعدد من مطالب تعديل طرائق العمل، واتخاذ القرار في المؤسسات الأوروبية. ومع أن الاستطلاعات ما زالت حتى الآن تتوقع أن يبقى الحزب الشعبي في صدارة المشهد الأوروبي المحافظ، فإن الأحزاب الرئيسة اليمينية المتطرفة تُواصل صعودها السريع منتقلة من مفاجأة إلى أخرى، كما دلّت الانتخابات البرتغالية التي أسقطت من «المجلس الأوروبي» على صوت الاشتراكي أنطونيو كوستا.

بالتوازي، فإن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، الطامحة لتجديد ولايتها بعد الانتخابات الأوروبية، فتحت نيران حملتها الانتخابية على من سمّتهم «أصدقاء بوتين» - أي الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة - مع أنها تدرك جيداً أن شعبية هذه الأحزاب في ارتفاع مطّرد لنسبة تتراوح بين 10 في المائة و40 في المائة.

ولكن، بينما اتهمت فون دير لاين (التي تنتمي إلى الديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا) هذه الأحزاب بأنها «عازمة على تدمير أوروبا»، فإن زعيم الحزب الشعبي الأوروبي مانفريد فيبر (وهو ألماني محافظ أيضاً) لا يتردد في الدعوة إلى عقد تحالفات مع الأحزاب المتطرفة، بما في ذلك لتشكيل حكومات.

وفي أول تعليق لفيبر على نتائج الانتخابات البرتغالية، قال السياسي الألماني المحافظ إنه يفضّل حكومة يشكّلها «التحالف الديمقراطي» وحده، لكنه لم يعترض على فكرة الائتلاف الحكومي مع «شيغا»، بحجة «تأمين الاستقرار ودوام الحكومة حتـى نهاية الولاية الاشتراعية». وينطلق فيبر في موقفه هذا من «المختبر» الإيطالي والحكومة التي ترأسها ميلوني، زعيمة حزب «إخوان إيطاليا»، الذي ينتمي إلى أسرة «الأوروبيين الإصلاحيين والمحافظين» التي تضمّ عدداً من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي يحاول الحزب الشعبي الأوروبي استمالتها للانضمام إلى الكتلة الشعبية.

مونتينغرو كان قد لجأ إلى استعادة صيغة «التحالف الديمقراطي» التاريخية التي سمحت لحزبه بالفوز للمرة الأولى في الانتخابات بعد نهاية الحكم الديكتاتوري


مقالات ذات صلة

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

حصاد الأسبوع 
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

في إطار الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، يمكن ملاحظة وجود تصعيد تدريجي ومتبادل في الرسوم الجمركية بين البلدين. هذا التصعيد يعكس اتجاهات السياسة الاقتصادية التي تعتمدها الدولتان، حيث تتمثل الولايات المتحدة في دور المبادر في فرض الرسوم الجمركية، بينما تتبع الصين استراتيجية الردّ المتدرج. في البداية، بدأت الولايات المتحدة بزيادة الرسوم الجمركية بشكل حاد وسريع من 10% في فبراير (شباط) الماضي إلى 145% في 10 أبريل (نيسان) الجاري، وهو ما يعكس رغبة الإدارة الأميركية الحالية في ممارسة ضغط اقتصادي كبير على الصين. في المقابل، قامت الصين، في البداية، بالرد بنسب أقل (10% و15% جزئياً) غير أنها رفعت النسبة بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 125% بحلول 11 أبريل، ما يبرز توجهاً أكثر حذراً من جانبها في التعامل مع التصعيد.

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ منهياً جولته الآسيوية الأخيرة وبجواره ملك كمبوديا نورودم سيهاميني في مطار العاصمة الكمبودية بنوم بنه (أ.ب)

دعوة للتعقُّل تجنباً لحرب بلا منتصر

تُشكّل العلاقات الصينية ـ الأميركية اليوم أكبر اختبار لقدرة العالم على التعايش في ظل التحولات الجذرية في موازين القوى. ولا أحد ينكر أن التنافس موجود.

حصاد الأسبوع رياك مشار

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع زمّور (آ ف ب)

إبعاد لوبن... هل تتحوّل المتاعب القضائية منفعةً سياسية؟

أثارت إدانة مارين لوبن، زعيمة رئيسة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف، في قضية الوظائف الوهمية، اضطراباً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي بين مؤيد لقرار العدالة الفرنسية ومعارض لها. وأيضاً فتحت باب النقاش حول مستقبل أقوى قوى اليمين المتطرف وزعيمته التاريخية التي ستمنع - ما لم تتمكن من إلغائه بقرار قضائي جديد - من تقديم ترشّحها لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات؛ وهو ما يعني القضاء على طموحها في خلافة الرئيس إيمانويل ماكرون في 2027. أضف إلى ذلك أن هذا الإبعاد قد يعني أيضاً إضعاف هيمنة «آل لوبن»، الذين سيطروا على المناصب الريادية في ثاني أهم تشكيل سياسي فرنسي منذ أسسه جان ماري لوبن (والد مارين) عام 1972، والاحتمال الآخر هو أن تتحول المتاعب القضائية حجّة مثالية للعب دور «الشهيد السياسي» وحشد التأييد والفوز بالانتخابات. وللعلم، بيّنت دراسة أخيرة لاستطلاع الرأي من معهد «إيلاب» أن لوبن تبقى الأوفر حظاً في الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المقبلة.

حصاد الأسبوع ترمب وقائمة التعرفة الجمركية المفروضة على دول العالم (غيتي)

فوضى الأسواق تمهد لنظام عالمي ينهي حقبة منظمة التجارة «المعادية»

لا يمكن رد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب «المفاجئ» تأجيل فرض الرسوم الجمركية على غالبية الدول لمدة 90 يوماً، إلى نجاح مناشداتها فقط. ثم إنه لا يمكن اعتبار

إيلي يوسف (واشنطن)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين