ألكسندر ستاب... يتولى رئاسة فنلندا وعلى رأس همومه العلاقات مع موسكو وواشنطن

سياسي طموح ذو شخصية دولية الأبعاد والخبرات

بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
TT

ألكسندر ستاب... يتولى رئاسة فنلندا وعلى رأس همومه العلاقات مع موسكو وواشنطن

بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال

بعدما طوت فنلندا بشكل نهائي صفحة «الحيادية» بين الغرب وروسيا بانضمامها لحلف شمال الأطلسي «ناتو» العام الماضي، فإنها انتخبت رئيساً جديداً للجمهورية يتماشى مع دورها المتغير ليقودها في المرحلة المقبلة. إذ فاز ألكسندر ستاب Stubb - مرشح يمين الوسط - الذي قاد بلاده رئيساً للحكومة خلال فترة وجيزة بين يونيو (حزيران) 2014 ومايو (أيار) 2015 بالرئاسة، إثر تغلبه على منافسه وزير الخارجية السابق بيكا هافيستو، مرشح حزب «الخضر» ويسار الوسط، بفارق ضئيل، إثر حصوله عل نسبة 51.6 في المائة من الأصوات. ومع أن الرجلين عبّرا خلال حملتيهما الانتخابيتين عن مواقف سياسية متشابهة حيال روسيا، بدا ستاب أكثر تشدداً في الأفكار التي طرحها لمواجهة روسيا، «جارة» فنلندا الشرقية التي تتشارك معها حدوداً طويلة تزيد على 1300 كلم. من ناحية أخرى، رغم كون رئيس الجمهورية في فنلندا لا يقود الحكومة فإن دوره بعيد عن «الصوَرية»؛ فهو مسؤول عن السياسة الخارجية للبلاد إلى جانب الحكومة، كما أنه دستورياً القائد الأعلى للقوات المسلحة. وكان واضحاً أهمية دور الرئيس في فنلندا خلال السنوات الماضية خاصة، من خلال أداء الرئيس المنتهية ولايته سولي نينيستو عام 2018 بوصفه «وسيطاً» بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب (آنذاك) والروسي فلاديمير بوتين، واستضافته لقاء قمة جمع الرجلين الرئيسين. وهذا يعني، بالتالي، أن على الرئيس الجديد ستاب - الذي بدأ عهده للتو - مجابهة تحديات خارجية كبيرة تتمثل بإدارة العلاقة مع موسكو من جهة، ومع واشنطن أكثر تشدداً من جهة أخرى في حال عودة ترمب إلى الرئاسة... في ظل المخاوف من تأثيره عودته على مستقبل «ناتو»، الذي هو الآن مظلة الحماية الأساسية لفنلندا ضد أي هجوم روسي محتمل على أراضيها.

يتناقل الصحافيون الذين يغطون أخبار الحكومة والسياسة في فنلندا نكتة مؤداها أن المكان الأخطر في فنلندا الذي يمكن لشخص الوقوف فيه... هو بين الرئيس المنتخب ألكسندر ستاب والكاميرا، في إشارة واضحة إلى شغفه بأن يكون دائماً في دائرة الضوء.

ليس ثمة خلافات على أن ما دفع ستاب البالغ من العمر 55 سنة إلى العودة للسياسة بعدما كان تركها عام 2016، هو تعاظم أهمية ملف السياسة الخارجية الفنلندية، ولا سيما، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وانضمام فنلندا إلى «ناتو». وهو نفسه صرّح بأن غزو روسيا لأوكرانيا كان دافعاً مهماً لعودته للسياسة بعدما كان قد ظن أن تلك المرحلة انتهت؛ إذ نقل عنه إبان حملته الانتخابية قوله إن فنلندا تدخل «حقبة جديدة من السياسة الخارجية»، وأن هذا ما دفعه للدخول في السباق الرئاسي.

خلفية ثرية التنوع

في الواقع، يبدو منصب الرئيس مناسباً جداً لألكسندر ستاب، الذي تدور اهتمامه في فلك السياسة الدولية وليس الداخلية منذ أيام دراسته. ولقد ساعدت خلفيته الشخصية في بناء صورته «الدولية». فهو أولاً متزوج من بريطانية، ويتكلّم عدة لغات منها الإنجليزية والألمانية والفرنسية، إلى جانب اللغتين الأم اللتين كبر وهو يتكلمهما في الييت... أي الفنلندية والسويدية. كذلك ينتمي ستاب إلى الأقلية السويدية في فنلندا، التي ينظر إليها على أنها تعيش وفقاً لـ«سلوك نخبوي». ولقد كبر في منزل يتكلم فيه والده السويدية ووالدته الفنلندية. لكن ستاب يقول إنه كبر في منزل «ثنائي اللغات»، ولا يتطرّق إلى انتمائه للأقلية السويدية، بل يشدد على أنه نشأ في بيئة منزلية بشكل «طبيعي» مع أنه يحمل شهادات من جامعات دولية، وكان يلعب الغولف بشكل احترافي منذ كان مراهقاً قبل أن يغدو رياضياً محترفاً.

وثانياً، درس ستاب في 4 دول مختلفة، بدءاً من الولايات المتحدة ومروراً بفرنسا وبلجيكا ثم انتهاءً ببريطانيا. من الأولى، بفضل منحة لإجادته رياضة الغولف؛ إذ درس وتخرّج في جامعة فورمان الراقية الخاصة في ولاية ساوث كارولاينا بشهادة البكالوريوس في العلوم السياسية بعدما أدى الخدمة العسكرية التي لم تُلغ يوماً في فنلندا. وبعد حصوله على دبلوم في اللغة والحضارة الفرنسيتين من جامعة باريس - السوربون، تابع دراساته العليا في كلية أوروبا بمدينة بروج في بلجيكا، حيث تخرج بشهادة الماجستير في الشؤون السياسية الأوروبية. وأخيراً حاز على دكتوراه الفلسفة من مدرسة لندن للاقتصاد العريقة في بريطانيا.

أما بالنسبة لطبعه، فيتعرض ستاب للانتقاد بسبب شخصيته التي يراها البعض «متعجرفة»، فيما يرى آخرون أنه يتلهى عن مسؤولياته بانشغالاته بوسائل التواصل الاجتماعي والرياضة. وهنا نشير إلى أنه تعرّض لانتقادات عندما كان رئيساً للحكومة «لانشغاله» بنشر تعليقات وصور له عن مشاركته في «ترياتلون» (سباق يتضمن الركض وركوب الدراجة والسباحة) في ظل حرب روسيا في أوكرانيا عام 2014. غير أنه خلال الأشهر الماضية، وقبيل انتخابه رئيساً، بدا حريصاً على تغيير صورته تلك. وفعلاً، كتبت وسائل الإعلام الفنلندية أنه غيّر في لهجته بعض الشيء كي لا يظهر متعالياً، وأنه بذل جهداً كي يظهر «قريباً» من نبض الناخبين. وعلى سبيل المثال، صوّر شريط فيديو لصحيفة «إيلتاسانومات» الشعبية يبدو فيه وهو يحضر الفطائر.

الأبعاد الدولية لشخصيته

دراسة ستاب وخبرته الدولية أثرتا إيجابياً في بدايات انخراطه في السياسة؛ إذ انطلق في مشواره السياسي نائباً في البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2008، قبل أن ينتقل إلى معترك السياسة الداخلية في فنلندا، حيث عُيّن بشكل مفاجئ وزيراً للخارجية عام 2008، ثم وزيراً لشؤون أوروبا والتجارة الخارجية عام 2011.

بعدها، في عام 2014 أصبح ستاب رئيساً لحزبه المحافظ المعتدل «التحالف الوطني» بعد استقالة زعيم الحزب في أثناء وجوده في السلطة، وقبل عام على الانتخابات التالية. وشكل ستاب حكومة قادت فنلندا لفترة أقل من سنة انتهت بخسارة حزبه الانتخابات العامة عام 2015. ولكن، مع هذا وجد السياسي الطموح طريقاً للعودة إلى الحكم بفضل مشاركة حزبه في الائتلاف الحكومي، حيث عُين وزيراً للمالية.

تلك الفترة لم تطل؛ إذ خسر مجدّداً المنصب عندما صوّت حزبه لإبعاده عن قيادة الحزب، محملاً إياه المسؤولية في تدهور شعبيته، وبالفعل، خرج ستاب كذلك من الحكومة ليتولّى منصباً بعيداً عن السياسة في بنك الاستثمار الأوروبي عام 2017. بيد أنه، على الرغم من ابتعاده عن السياسة وتعهده آنذاك بألا يعود إليها، حاول قبل انتخابه رئيساً العودة من باب السياسة الأوروبية. وكان في الحقيقة يطمح لأن يقود التحالف اليميني الوسطي في البرلمان الأوروبي في انتخابات عام 2018، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على التأييد الكافي لترؤس الكتلة التي كان قد جرى التوافق على أن يرأسها الألماني مانفريد فيبر.

الحرب الأوكرانية

بعد تفجّر الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع اقتراب نهاية الولاية الثانية للرئيس الفنلندي سولي نينيستو، وجد ألكسندر ستاب فرصة مواتية للعودة إلى السياسة المحلية، ولكن من بابها الدولي هذه المرة.

وخلال الحملة التي نظمها وقادها لانتخابه رئيساً للجمهورية، تعهد ستاب باتخاذ مواقف متشددة من روسيا التي يرفض استعادة العلاقات الطبيعية معها قبل انتهاء الحرب في أوكرانيا. وبالمناسبة، هذا هو أيضاً الموقف الذي كان يتبناه نينيستو الذي قاد انضمام فنلندا إلى «ناتو» على الرغم من علاقته الطيبة سابقاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والثابت أن ستاب من المؤمنين بأحادية مواقف فنلندا وتماشيها مع الموقف الأوروبي والموقف الأطلسي في علاقتها إزاء موسكو.

أيضاً، مثل نينيستو، لم يكن ستاب دوماً من الداعين لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً مع الروس. ففي عام 2018، نشر تغريدة على موقع «إكس» - الذي ينشط عليه بشكل كبير - مرفقة بصورة له ولوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وهما يتعانقان ويبتسمان، وكتب معلقاً: «كم أن العالم صغير! انظروا بمن التقيت في مينسك: صديقي القديم وزميلي سيرغي لافروف. قد لا نتفق على كل شيء، لكنه واحد من أكثر وزراء الخارجية الذين التقيت، مهنيةً وخبرة».

إشكالية العلاقة مع موسكو

ولكن، عاد ستاب ليندم على هذه التغريدة وغيرها من السياسات حول العلاقة مع موسكو، التي روّج لها خلال أيامه في الحكومة. هذا، وروى ستاب خلال حملته الانتخابية أنه بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف الحرب، كتب فيها بحسب روايته: «رجاء سيرغي، افعل شيئاً!... أنت الوحيد القادر على وقفه!». وأضاف أن الرد جاءه خلال دقيقة كالتالي: «من الذي تقصد؟ (الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي أم (الرئيس الأميركي جو) بايدن؟».

على هذا علّق ستاب بأن وزير الخارجية الروسي «كان يعرف عمّن كنت أتكلّم. إلا أنه (أي لافروف) رد بسرد مجموعة كبيرة من الادعاءات التي تعتمدها البروباغاندا الروسية مثل تطهير أوكرانيا من النازية وقتل الروس». وعلى الأثر، قرر ستاب - وفق روايته - وقف التواصل مع وزير الخارجية الروسي بعدما رأى أن الحرب تقدّمت كثيراً، وما عاد في الإمكان التراجع عنها.

وبالفعل، تغيرت مواقف ستاب من روسيا بشكل كبير عبر السنوات، حتى إنه غدا الآن من الداعين إلى سياسة استخدام القوة مع روسيا. فقد قال ضمن فعاليات «مؤتمر ميونيخ للأمن» الذي انعقد منتصف فبراير (شباط) المنقضي، وشارك فيه ستاب، «الأمر الوحيد الذي يفهمه بوتين، هو القوة. إذا أظهرت أي ضعف، أي نقاط ضعف، سيهاجم».

وأردف في سياق كلامه عن إمكانيات المفاوضات وشروطها مع روسيا في نهاية الحرب مع أوكرانيا، قائلاً: «عندما نبدأ في الاتجاه صوب المفاوضات، علينا أن نفهم أنه يتوجب علينا أن نبقى صارمين مع روسيا، وخاصة مع بوتين؛ لأنه أوقف عدداً من الاتفاقيات مع أوكرانيا، عامي 1991 و1994 ولم يحترمها».

من جهة أخرى، على الرغم من أن احتمال عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يؤرّق الأوروبيين، كما أنه هيمن على جزء كبير من مباحثات ميونيخ، فإن ستاب لا يبدو قلقاً من إدارة دفة العلاقة مع واشنطن في ظل أي رئيس. وفي هذا الشأن قال معلقاً: «أنا شخصياً أعتقد أنه بغض النظر عمن سيُصار إلى انتخابه رئيساً، من المستبعد أن تتوقّف الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا. والسبب في ذلك هو أن التكلفة ستكون باهظة. فبغض النظر عن هوية الرئيس، فهو أو هي... سيفهم أو ستفهم أن دعم أوكرانيا في هذه المرحلة أساسي لأمن الولايات المتحدة».ختاماً، هذه المواقف من الرئيس الفنلندي الجديد تتناقض ومواقفه السابقة قبل الحرب الأوكرانية، إذ عندما كان ستاب وزيراً للخارجية عام 2009، دافع عن مشروع خط «نورد ستريم» للغاز الروسي الذي يمر في المياه الفنلندية، وكان بحاجة لموافقة حكومة هلسنكي، ورأى حينذاك أن ليس للمشروع الروسي أي تبعات أمنية، مشدّداً على أنه بيئي واقتصادي بحت. كذلك، تعرض ستاب لانتقادات شديدة إبان فترة توليه رئاسة الحكومة الفنلندية بسبب تأخيره للعقوبات الأوروبية على روسيا، وزيادة اعتماد بلاده على موارد الطاقة الروسية.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
TT

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، ستنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان، في ظل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يخوض «حرباً ستكون طويلة لتغيير خريطة الشرق الأوسط». ومع ذلك، كانت معظم التحليلات تتكلّم عن «مأزق» إسرائيل «المأزومة»، وعن خلافاتها في الداخل ومع الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة، ما سمح للبعض بالترويج أن أهداف هذه الحرب لم تتحقق، وقد لا تتحقق، سواء في غزة والأراضي الفلسطينية، أو في لبنان. لكن على أرض الواقع، كان من الواضح أن ما حقّقته إسرائيل حتى الآن من حربها على غزة يتجاوز كثيراً الردّ على «هجوم أكتوبر».

بعدما نجحت إسرائيل في تعزيز «صورة» ربط حربها التهجيرية في غزة بأنها «صراع وجود» مع إيران وأذرعها الساعين إلى تدميرها، وفّرت تلك الحرب للإسرائيليين أيضاً غطاءً دولياً واسعاً، ليس لإطالة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين فقط، بل الانتقال أيضاً إلى حرب إبادة أخرى ضد لبنان.

هذا الأمر طرح تساؤلات عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه أهداف إسرائيل، وعمّا إذا كانت حربها لتغيير «المشهد الإقليمي» ممكنة من دون موافقة أميركية. بيد أن الوقوف على المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على سياسة واشنطن يظهر تغييراً كبيراً في مقاربتها ونظرتها تجاه إيران، مع التغييرات التي طرأت على المشهد الدولي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

«فرصة استراتيجية» لأميركا

قبل الدخول في ما عدّه البعض «تجاهلاً» من تل أبيب للمساعي الأميركية لفرض وقف لإطلاق النار في حربها المتصاعدة ضد «حزب الله»، روّجت تحليلات العديد من الصحف الأميركية ولا تزال لـ«خلافات» بين واشنطن وتل أبيب. إلا أن دينيس روس، المبعوث الرئاسي السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، رأى أن ما جرى حتى الآن «يُعد فرصة استراتيجية لأميركا، ليس لتغيير المنطقة فقط، بل تغيير الوضع في لبنان أيضاً بعد اغتيال حسن نصر الله وإضعاف (حزب الله)». وخلال ندوة في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، حضرتها «الشرق الأوسط»، يوم الأربعاء، وشاركت فيها دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب، أضاف روس: «بات بمقدور أميركا اتخاذ إجراءات رادعة مباشرة، ليس ضد إيران فقط، بل المشاركة قبل ذلك في ضرب أذرعها مباشرة وملاحقتهم».

وبحسب روس، فإنه بعدما تمكّنت إسرائيل من ضرب و«تحييد» الخطر الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»، يمكن لواشنطن الآن «ضرب وملاحقة الحوثيين، كإشارة إلى أننا قادرون على تعريض ما نعتقده نحن مصالح مهمة لها، وخصوصاً برنامجها النووي، وليس المصالح التي تعتقد إيران أنها مهمة بالنسبة لها فقط».

تغيير مسار المنطقة

من جهتها، قالت سترول، إن إرسال الأصول العسكرية الأميركية، منذ اندلاع الحرب قبل نحو سنة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة «لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً». وأضافت: «كل الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى الآن، بما فيها تصفية قوة (حماس) وضرب (حزب الله) وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها. لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد 7 أكتوبر».

من ناحيته، قال شينكر: «ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة». وأردف أنه بمعزل عن الإدارة الجديدة التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترمب، لا شك أنه «سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي». وأكد أن أميركا «ستلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان».

وهكذا، أمام هذه «الرؤية» التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على اعتباره إذعاناً وارتباكاً أميركياً أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة «التحولات» التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.

تقديرات مختلفة للحرب في لبنان

كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها «العملية» العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد «حزب الله»، وعن قدراته العسكرية الحقيقية التي جرى تضخيمها. ولكن، بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات، انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها - بزخم مذهل - إلى إضعاف «حزب الله». وهو ما بدا أنه يتناسب مع نمط إدارة بايدن، التي لطالما تدرّجت في التعبير عن مواقفها من الأحداث السياسية الخارجية.

إذ بعدما تحثّ إسرائيل على لجم اندفاعاتها، كانت لا تلبث أن تتراجع لاحقاً. وبعدما أوضح بايدن رغبته في «الوقف الفوري» للقتال في لبنان، وتحفّظه عن التوغّل البرّي، ظهر انقسام بين المسؤولين الأميركيين حول «الحكمة» من الحملة الإسرائيلية ضد «حزب الله»، خاصة منذ مقتل زعيمه حسن نصر الله، في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي. ففي حين ركّز البعض كثيراً على المخاطر، قال آخرون إنه إذا أمكن توجيه ضربة قوية للحزب من دون إثارة صراع إقليمي أوسع يجذب إيران فإن ذلك قد يُعدّ نجاحاً.

واليوم، يذهب كثيرون إلى القول إن وجهة النظر الأخيرة هي التي تغلبت في النهاية، وعبّرت عنها تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، «غير المعهودة» من كبير الدبلوماسيين، حين تكلّم عن «العدالة» التي نفّذت بحق نصر الله.

الضغط العسكري يدعم الدبلوماسية

يوم الاثنين الماضي، قال ماثيو ميللر، الناطق باسم الخارجية للصحافيين: «نحن بالطبع نواصل دعم وقف إطلاق النار، ولكن في الوقت نفسه، هناك أمران آخران صحيحان أيضاً: الضغط العسكري يمكن في بعض الأحيان أن يمكّن الدبلوماسية. وطبعاً، قد يؤدي أيضاً إلى سوء التقدير... يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة، ونحن نتحادث مع إسرائيل حول كل هذه العوامل الآن».

وحقاً، حتى الاتفاق الذي قيل إنه حصل بين أميركا وفرنسا وإسرائيل ودول عدة توصُّلاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، لمدة 3 أسابيع، بدا أن واشنطن قد تخلت عنه.

هذا ما بدا بعدما رأى مسؤولون في إدارة بايدن أن إسرائيل تحاول توجيه ضربة حاسمة لـ«حزب الله» عبر اغتيال زعيمه، بعد الضربات الساحقة التي نفّذتها على امتداد الأشهر الماضية، وتوجّت بما سُمي بهجوم «البيجر»، وبتصفية العديد من قياداته العليا والوسطى.

ورغم اتهام بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي عاد عن الاتفاق الذي وافق عليه، فإن «الصمت» الأميركي الذي تلا اغتيال نصر الله، كاد يؤدي إلى تأجيل حتى إلغاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، التي أصرّ قصر الإليزيه عليها في نهاية المطاف، تعبيراً عن «غضب» فرنسا، الذي قابلته إسرائيل بقصف هدف في العاصمة بيروت، للمرة الأولى يوم الأحد الماضي.

الحسم في تفكيك بنية «حزب الله»

بعدها، يوم الاثنين، في إشارة واضحة لحسم التردد ودعم العملية الإسرائيلية، قال «البنتاغون» إن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «على ضرورة تفكيك البنية التحتية الهجومية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، لضمان عجز (حزب الله) عن شنّ هجمات على غرار هجمات 7 أكتوبر على المجتمعات الإسرائيلية في تلك المنطقة». وأردف «البنتاغون» أن أوستن «راجع التطورات الأمنية والعمليات الإسرائيلية» مع غالانت، وأكد مجدداً «دعم الولايات المتحدة لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران و(حزب الله) و(حماس) والحوثيين وغيرها من المنظمات الإرهابية المدعومة من إيران».

ورغم تأكيد أوستن على أهمية «التحول في نهاية المطاف من العمليات العسكرية إلى المسار الدبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن»، فإنه أوضح أن واشنطن في وضع جيد للدفاع عن أفرادها وشركائها وحلفائها في مواجهة تهديدات إيران والمنظمات الإرهابية المدعومة منها، وأنها عازمة على منع أي جهة فاعلة من استغلال التوترات أو توسيع الصراع. كذلك ناقش أوستن مع غالانت ما سمّاه «العواقب الوخيمة» التي ستتحمّلها إيران في حال اختارت شنّ هجوم عسكري مباشر ضد إسرائيل.

ومقابل تركيز إدارة بايدن كثيراً من مساعيها منذ ما يقرب من سنة على منع التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»، أعجب بعض المسؤولين بالإنجازات الإسرائيلية. ومع شلل الحزب وتراجع قدراته «الإقليمية»، بات هؤلاء يعتقدون أن الوضع بات الآن مختلفاً تماماً، مشيرين إلى أن إسرائيل في أقوى موقف لها منذ بدأ الجانبان تبادل إطلاق النار منذ 8 أكتوبر بعد فتح «جبهة الإسناد» لغزة.

ولكن، مع ذلك، قال مسؤولون كبار إنهم كانوا ينصحون إسرائيل بألّا تشنّ غزواً برّياً للبنان، ويحذرون من أن خطوة كهذه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، تتمثّل ببناء الدعم السياسي لـ«حزب الله» داخل لبنان وإطلاق العنان لعواقب غير متوقعة على المدنيين والتدخل الإيراني.

لا كلام عن وقف التصعيد

من جهة ثانية، مع الهجمات الصاروخية الإيرانية «المحسوبة» ضد إسرائيل، رداً على قتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله، بدا لافتاً أن الرئيس بايدن لم يتكلّم - للمرة الأولى - عن ضرورة «وقف التصعيد» و«ضبط النفس». بل العكس، أكّد أن واشنطن «تدعم بالكامل» إسرائيل بعد الهجوم الذي جرى صدّه بدعم أميركي و«أثبت انعدام فاعليته»، وأن المناقشات مستمرة مع إسرائيل بشأن الردّ، مضيفاً أن «العواقب على إيران لم تُحدد بعد».

موقف بايدن لم يكن وحيداً، إذ اندفع المشرّعون الأميركيون من الحزبين مؤيدين مواقف أكثر حزماً من إيران، وداعين إلى تبني سلسلة من التدابير المحددة والمصمّمة لشلّ القوى العسكرية لطهران ووكلائها، وإلى تمرير تمويل إضافي لإسرائيل في أعقاب هجوم إيران.

وبالفعل، يرى كثرة من المسؤولين الأميركيين اليوم، أن إدارة بايدن تحوّلت من محاولة منع اتساع حرب غزة إلى إدارة «الحرب الشاملة»، في ظل رؤية غدت موحّدة مع إسرائيل تجاه الأهداف المأمول تنفيذها. وتساءلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن المدى الذي يمكن أن تبلغه الحرب، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستنخرط فيها بشكل مباشر، في ظل مخاوف من احتمال أن ترد إسرائيل على صواريخ إيران باستهداف منشآتها النووية، ما قد يؤدي إلى خروج الحرب عن السيطرة.

لكن بايدن عاد وأوضح، يوم الأربعاء، أنه لا يدعم أي استهداف إسرائيلي للبرنامج النووي الإيراني، فاتحاً المجال أمام تكهنات عن بدء مفاوضات للتوصل إلى تسوية بين الطرفين. وهذا، بالتوازي مع تقديم مزيد من المساعدات لإسرائيل لإنهاء الحرب ضد «حماس» في غزة، والتصدّي للهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في اليمن ضد إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر والمضائق الدولية القريبة، ودعم غزوها البرّي للبنان «لتفكيك البنية التحتية» لـ«حزب الله».

تساؤلات مع تغيير أميركا نبرتها واستراتيجيتها

> وسط تحذيرات من أن يكون لبنان هو ساحة «الحرب الشاملة» بين إسرائيل وإيران، أشار مسؤول أميركي كبير إلى المشاورات الواسعة النطاق مع إسرائيل، بما في ذلك مع مكتب بنيامين نتنياهو لصوغ الاستجابة المناسبة، من دون أن يشير إلى «الخلافات» القديمة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو على طريقة تعامل إسرائيل مع حرب غزة، وانتقال المعركة إلى لبنان. وأضاف المسؤول: «لكن بعد دخول إيران المعركة بشكل مباشر، التي تشكل (تهديداً مدمراً) لإسرائيل، تغيّرت نبرة أميركا واستراتيجيتها». أما «النيويورك تايمز» فنقلت عن جوناثان بانيكوف، مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي»، قوله إن «الحرب الشاملة حتى الحرب الأكثر محدودية، يمكن أن تكون مدمّرة للبنان وإسرائيل والمنطقة. ولكن من خلالها ستأتي فرص غير متوقعة أيضاً لتقويض النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة، من خلال عرقلة جهودها لإعادة تشكيل (حزب الله)، مثلاً. وبالتالي، ينبغي للإدارة الجديدة أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرص». لكن مع المفاجأة التي تعرّضت لها إسرائيل أخيراً خلال «توغّلاتها» البرّية، وسقوط العديد من جنودها بين قتيل وجريح من قبل مقاتلي (حزب الله)، طرح العديد من التساؤلات... منها عمّا إذا كانت ستعيد النظر بخططها العسكرية وبحساباتها فيما يتعلق بكيفية إقامتها «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 1701؟ وأيضاً، هل ستكثّف قصفها الوحشي والتدميري، بما يؤدي بتلك التوغّلات إلى احتلال جديد، أو تحويل المنطقة إلى «أرض محروقة»؟ وهل سيكون متاحاً مرة أخرى أمام الحزب واللبنانيين عموماً، إعادة تنظيم «مقاومة» ما، على قاعدة توافق سياسي ينهي سلطة «حزب الله» لمصلحة الدولة... أم أن المقوّمات مستعصية في ظل الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان؟