ألكسندر ستاب... يتولى رئاسة فنلندا وعلى رأس همومه العلاقات مع موسكو وواشنطن

سياسي طموح ذو شخصية دولية الأبعاد والخبرات

بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
TT

ألكسندر ستاب... يتولى رئاسة فنلندا وعلى رأس همومه العلاقات مع موسكو وواشنطن

بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال

بعدما طوت فنلندا بشكل نهائي صفحة «الحيادية» بين الغرب وروسيا بانضمامها لحلف شمال الأطلسي «ناتو» العام الماضي، فإنها انتخبت رئيساً جديداً للجمهورية يتماشى مع دورها المتغير ليقودها في المرحلة المقبلة. إذ فاز ألكسندر ستاب Stubb - مرشح يمين الوسط - الذي قاد بلاده رئيساً للحكومة خلال فترة وجيزة بين يونيو (حزيران) 2014 ومايو (أيار) 2015 بالرئاسة، إثر تغلبه على منافسه وزير الخارجية السابق بيكا هافيستو، مرشح حزب «الخضر» ويسار الوسط، بفارق ضئيل، إثر حصوله عل نسبة 51.6 في المائة من الأصوات. ومع أن الرجلين عبّرا خلال حملتيهما الانتخابيتين عن مواقف سياسية متشابهة حيال روسيا، بدا ستاب أكثر تشدداً في الأفكار التي طرحها لمواجهة روسيا، «جارة» فنلندا الشرقية التي تتشارك معها حدوداً طويلة تزيد على 1300 كلم. من ناحية أخرى، رغم كون رئيس الجمهورية في فنلندا لا يقود الحكومة فإن دوره بعيد عن «الصوَرية»؛ فهو مسؤول عن السياسة الخارجية للبلاد إلى جانب الحكومة، كما أنه دستورياً القائد الأعلى للقوات المسلحة. وكان واضحاً أهمية دور الرئيس في فنلندا خلال السنوات الماضية خاصة، من خلال أداء الرئيس المنتهية ولايته سولي نينيستو عام 2018 بوصفه «وسيطاً» بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب (آنذاك) والروسي فلاديمير بوتين، واستضافته لقاء قمة جمع الرجلين الرئيسين. وهذا يعني، بالتالي، أن على الرئيس الجديد ستاب - الذي بدأ عهده للتو - مجابهة تحديات خارجية كبيرة تتمثل بإدارة العلاقة مع موسكو من جهة، ومع واشنطن أكثر تشدداً من جهة أخرى في حال عودة ترمب إلى الرئاسة... في ظل المخاوف من تأثيره عودته على مستقبل «ناتو»، الذي هو الآن مظلة الحماية الأساسية لفنلندا ضد أي هجوم روسي محتمل على أراضيها.

يتناقل الصحافيون الذين يغطون أخبار الحكومة والسياسة في فنلندا نكتة مؤداها أن المكان الأخطر في فنلندا الذي يمكن لشخص الوقوف فيه... هو بين الرئيس المنتخب ألكسندر ستاب والكاميرا، في إشارة واضحة إلى شغفه بأن يكون دائماً في دائرة الضوء.

ليس ثمة خلافات على أن ما دفع ستاب البالغ من العمر 55 سنة إلى العودة للسياسة بعدما كان تركها عام 2016، هو تعاظم أهمية ملف السياسة الخارجية الفنلندية، ولا سيما، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وانضمام فنلندا إلى «ناتو». وهو نفسه صرّح بأن غزو روسيا لأوكرانيا كان دافعاً مهماً لعودته للسياسة بعدما كان قد ظن أن تلك المرحلة انتهت؛ إذ نقل عنه إبان حملته الانتخابية قوله إن فنلندا تدخل «حقبة جديدة من السياسة الخارجية»، وأن هذا ما دفعه للدخول في السباق الرئاسي.

خلفية ثرية التنوع

في الواقع، يبدو منصب الرئيس مناسباً جداً لألكسندر ستاب، الذي تدور اهتمامه في فلك السياسة الدولية وليس الداخلية منذ أيام دراسته. ولقد ساعدت خلفيته الشخصية في بناء صورته «الدولية». فهو أولاً متزوج من بريطانية، ويتكلّم عدة لغات منها الإنجليزية والألمانية والفرنسية، إلى جانب اللغتين الأم اللتين كبر وهو يتكلمهما في الييت... أي الفنلندية والسويدية. كذلك ينتمي ستاب إلى الأقلية السويدية في فنلندا، التي ينظر إليها على أنها تعيش وفقاً لـ«سلوك نخبوي». ولقد كبر في منزل يتكلم فيه والده السويدية ووالدته الفنلندية. لكن ستاب يقول إنه كبر في منزل «ثنائي اللغات»، ولا يتطرّق إلى انتمائه للأقلية السويدية، بل يشدد على أنه نشأ في بيئة منزلية بشكل «طبيعي» مع أنه يحمل شهادات من جامعات دولية، وكان يلعب الغولف بشكل احترافي منذ كان مراهقاً قبل أن يغدو رياضياً محترفاً.

وثانياً، درس ستاب في 4 دول مختلفة، بدءاً من الولايات المتحدة ومروراً بفرنسا وبلجيكا ثم انتهاءً ببريطانيا. من الأولى، بفضل منحة لإجادته رياضة الغولف؛ إذ درس وتخرّج في جامعة فورمان الراقية الخاصة في ولاية ساوث كارولاينا بشهادة البكالوريوس في العلوم السياسية بعدما أدى الخدمة العسكرية التي لم تُلغ يوماً في فنلندا. وبعد حصوله على دبلوم في اللغة والحضارة الفرنسيتين من جامعة باريس - السوربون، تابع دراساته العليا في كلية أوروبا بمدينة بروج في بلجيكا، حيث تخرج بشهادة الماجستير في الشؤون السياسية الأوروبية. وأخيراً حاز على دكتوراه الفلسفة من مدرسة لندن للاقتصاد العريقة في بريطانيا.

أما بالنسبة لطبعه، فيتعرض ستاب للانتقاد بسبب شخصيته التي يراها البعض «متعجرفة»، فيما يرى آخرون أنه يتلهى عن مسؤولياته بانشغالاته بوسائل التواصل الاجتماعي والرياضة. وهنا نشير إلى أنه تعرّض لانتقادات عندما كان رئيساً للحكومة «لانشغاله» بنشر تعليقات وصور له عن مشاركته في «ترياتلون» (سباق يتضمن الركض وركوب الدراجة والسباحة) في ظل حرب روسيا في أوكرانيا عام 2014. غير أنه خلال الأشهر الماضية، وقبيل انتخابه رئيساً، بدا حريصاً على تغيير صورته تلك. وفعلاً، كتبت وسائل الإعلام الفنلندية أنه غيّر في لهجته بعض الشيء كي لا يظهر متعالياً، وأنه بذل جهداً كي يظهر «قريباً» من نبض الناخبين. وعلى سبيل المثال، صوّر شريط فيديو لصحيفة «إيلتاسانومات» الشعبية يبدو فيه وهو يحضر الفطائر.

الأبعاد الدولية لشخصيته

دراسة ستاب وخبرته الدولية أثرتا إيجابياً في بدايات انخراطه في السياسة؛ إذ انطلق في مشواره السياسي نائباً في البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2008، قبل أن ينتقل إلى معترك السياسة الداخلية في فنلندا، حيث عُيّن بشكل مفاجئ وزيراً للخارجية عام 2008، ثم وزيراً لشؤون أوروبا والتجارة الخارجية عام 2011.

بعدها، في عام 2014 أصبح ستاب رئيساً لحزبه المحافظ المعتدل «التحالف الوطني» بعد استقالة زعيم الحزب في أثناء وجوده في السلطة، وقبل عام على الانتخابات التالية. وشكل ستاب حكومة قادت فنلندا لفترة أقل من سنة انتهت بخسارة حزبه الانتخابات العامة عام 2015. ولكن، مع هذا وجد السياسي الطموح طريقاً للعودة إلى الحكم بفضل مشاركة حزبه في الائتلاف الحكومي، حيث عُين وزيراً للمالية.

تلك الفترة لم تطل؛ إذ خسر مجدّداً المنصب عندما صوّت حزبه لإبعاده عن قيادة الحزب، محملاً إياه المسؤولية في تدهور شعبيته، وبالفعل، خرج ستاب كذلك من الحكومة ليتولّى منصباً بعيداً عن السياسة في بنك الاستثمار الأوروبي عام 2017. بيد أنه، على الرغم من ابتعاده عن السياسة وتعهده آنذاك بألا يعود إليها، حاول قبل انتخابه رئيساً العودة من باب السياسة الأوروبية. وكان في الحقيقة يطمح لأن يقود التحالف اليميني الوسطي في البرلمان الأوروبي في انتخابات عام 2018، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على التأييد الكافي لترؤس الكتلة التي كان قد جرى التوافق على أن يرأسها الألماني مانفريد فيبر.

الحرب الأوكرانية

بعد تفجّر الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع اقتراب نهاية الولاية الثانية للرئيس الفنلندي سولي نينيستو، وجد ألكسندر ستاب فرصة مواتية للعودة إلى السياسة المحلية، ولكن من بابها الدولي هذه المرة.

وخلال الحملة التي نظمها وقادها لانتخابه رئيساً للجمهورية، تعهد ستاب باتخاذ مواقف متشددة من روسيا التي يرفض استعادة العلاقات الطبيعية معها قبل انتهاء الحرب في أوكرانيا. وبالمناسبة، هذا هو أيضاً الموقف الذي كان يتبناه نينيستو الذي قاد انضمام فنلندا إلى «ناتو» على الرغم من علاقته الطيبة سابقاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والثابت أن ستاب من المؤمنين بأحادية مواقف فنلندا وتماشيها مع الموقف الأوروبي والموقف الأطلسي في علاقتها إزاء موسكو.

أيضاً، مثل نينيستو، لم يكن ستاب دوماً من الداعين لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً مع الروس. ففي عام 2018، نشر تغريدة على موقع «إكس» - الذي ينشط عليه بشكل كبير - مرفقة بصورة له ولوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وهما يتعانقان ويبتسمان، وكتب معلقاً: «كم أن العالم صغير! انظروا بمن التقيت في مينسك: صديقي القديم وزميلي سيرغي لافروف. قد لا نتفق على كل شيء، لكنه واحد من أكثر وزراء الخارجية الذين التقيت، مهنيةً وخبرة».

إشكالية العلاقة مع موسكو

ولكن، عاد ستاب ليندم على هذه التغريدة وغيرها من السياسات حول العلاقة مع موسكو، التي روّج لها خلال أيامه في الحكومة. هذا، وروى ستاب خلال حملته الانتخابية أنه بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف الحرب، كتب فيها بحسب روايته: «رجاء سيرغي، افعل شيئاً!... أنت الوحيد القادر على وقفه!». وأضاف أن الرد جاءه خلال دقيقة كالتالي: «من الذي تقصد؟ (الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي أم (الرئيس الأميركي جو) بايدن؟».

على هذا علّق ستاب بأن وزير الخارجية الروسي «كان يعرف عمّن كنت أتكلّم. إلا أنه (أي لافروف) رد بسرد مجموعة كبيرة من الادعاءات التي تعتمدها البروباغاندا الروسية مثل تطهير أوكرانيا من النازية وقتل الروس». وعلى الأثر، قرر ستاب - وفق روايته - وقف التواصل مع وزير الخارجية الروسي بعدما رأى أن الحرب تقدّمت كثيراً، وما عاد في الإمكان التراجع عنها.

وبالفعل، تغيرت مواقف ستاب من روسيا بشكل كبير عبر السنوات، حتى إنه غدا الآن من الداعين إلى سياسة استخدام القوة مع روسيا. فقد قال ضمن فعاليات «مؤتمر ميونيخ للأمن» الذي انعقد منتصف فبراير (شباط) المنقضي، وشارك فيه ستاب، «الأمر الوحيد الذي يفهمه بوتين، هو القوة. إذا أظهرت أي ضعف، أي نقاط ضعف، سيهاجم».

وأردف في سياق كلامه عن إمكانيات المفاوضات وشروطها مع روسيا في نهاية الحرب مع أوكرانيا، قائلاً: «عندما نبدأ في الاتجاه صوب المفاوضات، علينا أن نفهم أنه يتوجب علينا أن نبقى صارمين مع روسيا، وخاصة مع بوتين؛ لأنه أوقف عدداً من الاتفاقيات مع أوكرانيا، عامي 1991 و1994 ولم يحترمها».

من جهة أخرى، على الرغم من أن احتمال عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يؤرّق الأوروبيين، كما أنه هيمن على جزء كبير من مباحثات ميونيخ، فإن ستاب لا يبدو قلقاً من إدارة دفة العلاقة مع واشنطن في ظل أي رئيس. وفي هذا الشأن قال معلقاً: «أنا شخصياً أعتقد أنه بغض النظر عمن سيُصار إلى انتخابه رئيساً، من المستبعد أن تتوقّف الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا. والسبب في ذلك هو أن التكلفة ستكون باهظة. فبغض النظر عن هوية الرئيس، فهو أو هي... سيفهم أو ستفهم أن دعم أوكرانيا في هذه المرحلة أساسي لأمن الولايات المتحدة».ختاماً، هذه المواقف من الرئيس الفنلندي الجديد تتناقض ومواقفه السابقة قبل الحرب الأوكرانية، إذ عندما كان ستاب وزيراً للخارجية عام 2009، دافع عن مشروع خط «نورد ستريم» للغاز الروسي الذي يمر في المياه الفنلندية، وكان بحاجة لموافقة حكومة هلسنكي، ورأى حينذاك أن ليس للمشروع الروسي أي تبعات أمنية، مشدّداً على أنه بيئي واقتصادي بحت. كذلك، تعرض ستاب لانتقادات شديدة إبان فترة توليه رئاسة الحكومة الفنلندية بسبب تأخيره للعقوبات الأوروبية على روسيا، وزيادة اعتماد بلاده على موارد الطاقة الروسية.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.