ميشيل أونيل... أول شخصية «قومية» تقود آيرلندا الشمالية

تتوقّع تنظيم استفتاء على وحدة الجزيرة خلال 10 سنوات

تزامن دخول أونيل عالم السياسة عام 1998 مع توقيع «اتفاقية الجمعة العظيمة» التي ساهمت في إنهاء 30 سنة من العنف والخراب
تزامن دخول أونيل عالم السياسة عام 1998 مع توقيع «اتفاقية الجمعة العظيمة» التي ساهمت في إنهاء 30 سنة من العنف والخراب
TT

ميشيل أونيل... أول شخصية «قومية» تقود آيرلندا الشمالية

تزامن دخول أونيل عالم السياسة عام 1998 مع توقيع «اتفاقية الجمعة العظيمة» التي ساهمت في إنهاء 30 سنة من العنف والخراب
تزامن دخول أونيل عالم السياسة عام 1998 مع توقيع «اتفاقية الجمعة العظيمة» التي ساهمت في إنهاء 30 سنة من العنف والخراب

إن كان للمفارقات التاريخية تعريف، فإنه يتجسّد بلا شك في وزيرة آيرلندا الشمالية الأولى ميشيل أونيل. أونيل، التي باتت أول «قومية آيرلندية» وأول كاثوليكية تتولى هذا المنصب في تاريخ آيرلندا الشمالية، كرّست حياتها السياسية لإنهاء وجود هذا الكيان بشكله الحالي وإعادة توحيده مع جمهورية آيرلندا، وها هي اليوم تتبوّأ أعلى مناصبه التنفيذية. وللعلم، رغم انتخابها في مايو (أيار) 2022، لم تتسلم أونيل مهامها إلا مطلع الشهر الحالي بعد انجلاء أزمة سياسية عرقلت العمل التشريعي والتنفيذي في آيرلندا الشمالية قرابة سنتين. وعبر خطابها في قصر ستورمونت (مقر البرلمان الآيرلندي الشمالي) التاريخي، أكّدت أونيل أنها تسعى لخدمة جميع مواطني آيرلندا الشمالية؛ في مسعى لطمأنة «الاتحاديين» الداعمين للمملكة المتحدة. فهل ستنجح أونيل في تمثيل «المجتمع بأطيافه كافة»؟ وكيف ستسهم نشأتها وتاريخ أسرتها في بلورة سياساتها؟

منذ دخول ميشيل أونيل عالم السياسة، ارتبطت صورتها بتاريخ انخراط أسرتها في أحداث العنف الأهلي الدامية التي عرفت بـ«الاضطرابات»، التي أودت بحياة أكثر من 3600 شخص وامتدّت 30 سنة، قبل أن تلجمها «اتفاقية الجمعة العظيمة» المبرمة عام 1998 بين «الاتحاديين» (وجلهم من البروتستانت) و«القوميين» (وجلهم من الكاثوليك).

النشأة والعائلة

وُلدت ميشيل دوريس أونيل (دوريس اسم عائلتها) يوم 10 يناير (كانون الثاني) 1977 في بلدة فيرموي بأقصى جنوب جمهورية آيرلندا، لكنها تنحدر من كلونوي في محافظة تايرون، لعائلة من خلفية جمهورية آيرلندية.

سُجن والدها برندان دوريس، قبل ولادتها، بسبب انتمائه لميليشيا «الجيش الجمهوري الآيرلندي» المحظورة في بريطانيا والمتهمة بنحو نصف ضحايا الصراع وآلاف الانفجارات إبان فترة «الاضطرابات». وأصبح برندان بعد ذلك عضو مجلس محلي ممثلاً حزب «شين فين» في بلدة دونغانون خلال الثمانينات. أما عمها، بول دوريس، فكان رئيساً لمجموعة «نورايد»، وهي مجموعة جمهورية ناشطة في جمع التبرعات.

بل إن ابن عمّها توني دوريس، كان أحد ثلاثة مسلحين تابعين لـ«الجيش الجمهوري الآيرلندي» قُتلوا في كمين نصبته الخدمة الجوية الخاصة التابعة للجيش البريطاني عام 1991. وكان توني يقود فرقة اغتيالات في قرية بمحافظة تايرون، وتعرّض لإطلاق رصاص كثيف جعل من الصعب التعرف على جثّته. وفي حادثة أخرى عام 1997، أصيب قريب آخر لميشيل أونيل، هو المتطوّع في «الجيش الجمهوري الآيرلندي» غاريث ملاكي دوريس، بالرصاص.

تعليمها ومسيرتها المهنية

تلقت ميشيل تعليمها في مدرسة «أكاديمية سانت باتريك» للفتيات في دونغانون. وفي سن الخامسة عشرة، عندما كانت لا تزال تلميذة، حملت أونيل بطفلها الأول. وهي تستذكر تلك الفترة بألم ممزوج بالامتنان. إذ قالت في إحدى المقابلات الصحافية مع «ذي آيريش تايمز» إنها كانت تُعامل في المدرسة كما لو كانت «مصابة بالطاعون». وأضافت: «لن أنسى تلك التجربة أبداً. والتزمت بيني وبين نفسي أن أحداً لن يعاملني بهذه الطريقة مرة أخرى».

وفي مقابلة مع شبكة «سكاي نيوز»، تحدّثت أونيل عن الصعوبات التي واجهتها في تربية ابنتها «سيرسي» في مجتمع آيرلندا الشمالية الكاثوليكي المحافظ في التسعينات. وقالت: «تم وضعي في خانة: أم عازبة وغير متزوجة، تم شطبها (من المجتمع) تقريباً. لكنني كنت مصممة على ألّا أشطب اسمي، وأن أعمل بجد وأعيش حياة جيدة من أجل ابنتي». وفي وقت لاحق، رُزقت بابن، وأصبحت في عام 2023 جدة.

في المقابل، عبّرت ميشيل أونيل عن امتنانها الشديد لأسرتها، وخاصة لأمها التي استقالت من عملها كي تهتم بحفيدتها وتتيح لابنتها استكمال دراستها. وقالت أونيل في فيديو نشرته على حساباتها بمنصات التواصل الاجتماعي «لقد تخلت أمي عن العمل حتى أتمكن من العودة إلى المدرسة... لقد بقيت في المنزل، وتولت مجالسة طفلتي ورعايتها وبذا سمحت لي بالعودة وإكمال تعليمي...».. وبالفعل، عادت إلى «أكاديمية سانت باتريك» لإكمال اختبارات التخرج GCSE. وبعد ذلك، بدأت تدريبها لتصبح محاسبة.

دخول عالم السياسة

تزامن دخول ميشيل أونيل عالم السياسة عام 1998، مع توقيع «اتفاقية الجمعة العظيمة»، وهي اتفاق السلام الذي ساهم في إنهاء 30 سنة من العنف والخراب في آيرلندا الشمالية. وآنذاك انضمّت أونيل إلى حزب «شين فين»، الحزب السياسي القومي المنتشر في عموم الجزيرة الآيرلندية، أي في كل من آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا. وما يذكر أنه لطالما عدّت السلطات البريطانية هذا الحزب «الجناح السياسي» لميليشيا «الجيش الجمهوري الآيرلندي».

وبعد انضمامها، صارت أونيل مقرّبة من نائب زعيم الحزب مارتن ماكغينيس، الذي كان آنذاك مرشّحاً في دائرة ميد آلستر الانتخابية، وأصبح عرّاباً لها في مسيرتها السياسية. وأيضاً، بينما كانت أونيل تعمل مع ماكغينيس وزميله عضو مجلس ميد آلستر فرانسي مولوي، عملت كذلك مستشارة لحقوق الرعاية الاجتماعية.

وفي أعقاب تنحّي والدها برندان عن مقعده في المجلس المحلي (البلدي) لدونغانون وساوث تايرون قبل انتخابات 2005، عقب تشخيصه بمرض مزمن، فازت بمقعده. ولقد توفي الأب بعد أشهر من فوز ابنته بالانتخابات وشغلها مقعده.

على الأثر، انطلقت مسيرة ميشيل أونيل صعوداً وبسرعة، فغدت بعد ذلك أول امرأة تتولى منصب عمدة دونغانون وساوث تايرون. وهذا إنجاز أسعدها جداً، إذ قالت خلال حديث لها عن أبيها «أنا متأكدة أنه لو كان على قيد الحياة، لكان نظر إلي بالرضا والاعتزاز... وافتخر كثيراً بابنته الصغيرة».

وتسارعت المسيرة منذ 2007، عندما انضمت أونيل إلى ماكغينيس ومولوي بصفتها «نائباً» في برلمان آيرلندا الشمالية عن دائرة ميد آلستر. ومن ثم، عُيّنت ناطقة باسم حزبها لشؤون الصحة، كما شغلت مقعداً في لجنة التعليم البرلمانية.

وبعد أربع سنوات من نشاطها في مقر البرلمان بقصر ستورمونت، عيّنها حزب «شين فين» وزيرة للزراعة عام 2011. وفي عام 2016 أصبحت وزيرة للصحة، التي تعدّ واحدة من أكثر الحقائب الوزارية صعوبة وتحديات في آيرلندا الشمالية.

ترقية تاريخية

حصلت أونيل في 2017 على ترقية داخل «شين فين» حملتها خلال فترة قياسية إلى منصب نائب الوزير الأول لآيرلندا الشمالية.

ذلك أنه في يناير من ذلك العام، أعلن مارتن ماكغينيس استقالته من منصب نائب الوزير الأول إثر خلافه مع «الحزب الديمقراطي الاتحادي» (البروتستانتي) حول مخطّط للطاقة. وأدّت هذه الاستقالة إلى انهيار السلطة التنفيذية التي تتقاسم السلطة بين الحزبين الكبيرين في ستورمونت، ما نتج عنه فترة جمود سياسي استمرت ثلاث سنوات.

بل إن ماكغينيس توفي بعد استقالته بوقت قصير، وعندها اختار الحزب ميشيل أونيل لتحل محله نائباً لزعيم «شين فين»، في خطوة وصفتها بـ«أكبر شرف وامتياز» في حياتها.

وبعد ذلك، عندما تجاوز نواب ستورمونت أزمة الفراغ التنفيذي في يناير 2020، مُنهين ثلاث سنوات من الجمود، عُينت أونيل نائبتاً للوزيرة الأولى آرلين فوستر من الحزب الديمقراطي الاتحادي، وجاءت هذه الخطوة عندما كانت جائحة «كوفيد - 19» تعصف بمناطق المملكة المتحدة.

غير أن حدثاً لافتاً سجّل في مايو 2022، عندما أصبح «شين فين» أكبر حزب في برلمان ستورمونت لأول مرة في تاريخ آيرلندا الشمالية. ولقد كرّر هذه النتيجة في انتخابات المجالس المحلية في عام 2023. وحول هذا الأمر، وصفت أونيل الحدثين الانتخابيين بـ«التاريخيين».

ولكن على الرغم من هذا الإنجاز، لم تتمكّن أونيل من شغل منصب الوزيرة الأولى إلا يوم 3 فبراير (شباط) 2024؛ وذلك بسبب فترة جديدة من الجمود فرضها «الديمقراطيون الاتحاديون» على برلمان ستورمونت. ذلك أن الحزب الموالي للدولة البريطانية قرّر مقاطعة حكومة «تقاسم السلطة» لفترة استمرت سنتين، احتجاجاً على اتفاقات «بريكست» التي فرضت عبئاً جمركياً إضافياً على السلع المتبادلة بين آيرلندا الشمالية وبريطانيا.

معادلة دقيقة

اليوم تواجه ميشيل أونيل في منصبها الجديد، بصفتها وزيرة أولى، تحدّياً كبيراً يحتّم عليها المواءمة بين ولائها لأمل «الوحدة الآيرلندية» وتعهدها بخدمة أفراد المجتمع الآيرلندي الشمالي بكل أطيافه.

وحقاً، قالت أونيل في خطاب تنصيبها أمام برلمان ستورمونت متعهدة: «سأخدم الجميع بالتساوي، وسأكون الوزيرة الأولى للجميع... مهما كانت تطلعاتنا، بإمكاننا ويجب علينا أن نبني مستقبلنا معاً. علينا أن نجعل تقاسم السلطة ناجحاً لأننا بشكل جماعي مكلفون بالقيادة وتقديم الخدمات لجميع أفراد شعبنا».

أيضا، عدّت أونيل تعيين وزير أول «جمهوري» «فجراً جديداً» لم تكن تتصوّره الأجيال السابقة من الكاثوليك. وسعت لتأكيد موقفها التصالحي مع لندن عبر حضورها جنازة الملكة إليزابيث الثانية وحفل تتويج الملك تشارلز الثالث، وذلك على الرغم من مواقفها - ومواقف حزبها الجمهوري القومي الآيرلندي - الرافضة لشرعية التاج البريطاني في آيرلندا الشمالية.

هذا، وكانت أونيل قد أثارت حفيظة «الاتحاديين» في آيرلندا الشمالية وبعض السياسيين البريطانيين غير مرة خلال السنوات الماضية. فقد أثارت جدلاً كبيراً في عام 2017، عندما ألقت كلمة أمام تجمع حاشد بمناسبة الذكرى الثلاثين لمقتل ثمانية مسلحين من «الجيش الجمهوري الآيرلندي» على أيدي القوات البريطانية الجوية الخاصة. ويومذاك قُتل الرجال في هجوم شنوه على مركز شرطة يوم 8 مايو 1987. وبمواجهة الغضب العارم بين «الاتحاديين» دافعت أونيل عن حضورها، وقالت إنها «جمهورية آيرلندية»، وإنها حريصة على «إحياء ذكرى موتانا».

كذلك في عام 2022، أصرّت على موقف أزعج كثيرين من «الاتحاديين» بقولها في «بودكاست» لـ«البي بي سي» إنه لم يكن للجمهوريين الآيرلنديين «بديل» عن اللجوء إلى العنف، قبل عملية السلام في التسعينات.

إلى ذلك، تعمد أونيل – مثل معظم «القوميين» والجمهوريين – إلى استخدام عبارة «شمال آيرلندا» بدلاً من «آيرلندا الشمالية»، وإن كانت قد كسرت هذه العادة في بعض المرات منذ تسلمها منصب الوزيرة الأولى.

ثم إنه، بدا أن أونيل لا تزال متمسّكة بتنظيم استفتاء حول «الوحدة الآيرلندية». إذ توقّعت في حوار ببرنامج على قناة «آر. تي. إي» الآيرلندية، أن تشهد السنوات العشر المقبلة تطوّراً في اتّجاه «إصلاحات دستورية» تقود إلى تنظيم استفتاء حول الوحدة الآيرلندية.

وعن قدرتها على تحقيق توازن بين هويتها السياسية ومهامها بصفتها وزيرة أولى لجميع ناخبي آيرلندا الشمالية، قالت أونيل لشبكة «سكاي نيوز» البريطانية: «من الواضح أنني جمهورية بل وجمهورية فخورة. لكنني أعتقد أنه من المهم حقاً أن أتطلع إلى الجمهوريين الآيرلنديين، وإلى أصحاب هوية بريطانية اتحادية على حد السواء، وأن أخبرهم أنني أحترم قيمهم وثقافتهم».

تحدي المنصب

تقود أونيل في منصبها الجديد الذراع التنفيذية للسلطة في آيرلندا الشمالية، وإلى جانبها نائبتها «الاتحادية» إيما ليتل - بينغيلي.

ومثل أونيل، تُحسب ليتل - بينغيلي على «جيل الجمعة العظيمة»، الذي شهد على تداعيات عقود من الانقسام الطائفي والقتال المسلّح... إلا أنها تنتمي إلى الفريق «الاتحادي» البروتستانتي. ومثل أونيل، كان والد ليتل - بينغلي منخرطاً في النشاط العسكري للميليشيات البروتستانتية، ونُقل عنه في ذروة نشاط حركة «ألستر المقاومة»، معارضته الشديدة لأي تسوية مع الجمهوريين «حتى النهاية المريرة... حتى الموت».هذا موقف تجاوزته ابنته إيما ولكن من دون التخلي عن قيمها «الاتحادية» وانتمائها البريطاني. واليوم بينما تعمل «الزعيمتان» على تحييد خلافاتهما الآيديولوجية جانباً، والتركيز على تحسين الاقتصاد ومكافحة البطالة وإصلاح النظام الصحي، يخشى كثيرون من فشل هذه المغامرة السياسية... والعودة من جديد إلى فترات الجمود والتعطيل.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.