الملكة مارغريته الثانية... حقبة فاصلة في تاريخ الدنمارك امتدت 52 سنة

تنحيها يعني أنْ لا نساء على عروش أوروبا حالياً

الملكة مارغريته الثانية
الملكة مارغريته الثانية
TT

الملكة مارغريته الثانية... حقبة فاصلة في تاريخ الدنمارك امتدت 52 سنة

الملكة مارغريته الثانية
الملكة مارغريته الثانية

عام 2016 وقبيل زيارة لها لألمانيا، سُئلت ملكة الدنمارك مارغريته الثانية، خلال مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» عمّا إذا كانت لديها خطط للتخلي عن العرش لصالح ابنها الأمير فريدريك، وكان ردها آنذاك أنه «سيصبح ملكاً عندما لا أعود موجودة». ثم إن رفض الملكة مارغريته التنحي عن العرش قبل مماتها كررته أكثر من مرة منذ تنصيبها في مطلع عام 1972، ولهذا كان إعلانها في خطاب ليلة رأس السنة الماضية أنها قرّرت التخلى عن العرش لصالح ابنها، مفاجئاً لكثيرين وتبعته حملة تخمينات حول الأسباب التي دفعتها إلى هذا القرار. ذلك أنها ما زالت بصحة جيدة نسبياً لسيدة في عمرها البالغ 83 سنة. وواقع الأمر أنها لا تزال نشيطة في تلبية التزامات رسمية، ولقد أعلنت أنها ستبقى تؤديها حتى بعد تنحيها عن العرش. كثيرون قالوا إن المخاوف من انفصال وشيك بين ولي العهد فريدريك، وزوجته الأميرة ماري، الأسترالية الأصل، كان السبب الأساسي الذي دفع الملكة إلى التنحي. وما يجدر ذكره هنا، أن شائعات الخيانة تلاحق الأمير منذ أشهر، وبالأخص بعدما التُقطت صورٌ له مع الممثلة المكسيكية جينوفيفا كازانوفا. وعلى الرغم من نفي الممثلة وجود علاقة بينها وبين الأمير، ورفض القصر الملكي التعليق على «الشائعات»، ازدادت المخاوف من قرب نهاية زواجه ومغادرة الأميرة ماري عائدةً إلى أستراليا... حتى جاء إعلان الملكة مارغريت المفاجئ تنحيها عن العرش لصالحه. ولقد فسّر كثيرون الخطوة بأنها جاءت لإنقاذ زواجه.

أياً تكن الأسباب التي دفعت مارغريته الثانية إلى إعلان اعتزامها التنحّي عن العرش في آخر أيام العام المنصرم، فإنها ستكون آخر ملكة تحكم حالياً في أوروبا، فبمغادرتها موقعها لن يتبقى في «القارة العجوز» إلا الملوك، وإن كانت ولاية العهد في السويد، «جارة» الدنمارك، تشغلها الأميرة فيكتوريا، بكر أبناء الملك كارل الـ16 غوستاف، وفي هولندا للأميرة كاترينا آماليا، بكر بنات الملك فيلهلم ألكسندر.

52 سنة على العرش

تغادر الملكة مارغريته موقعها بعد 52 سنة أمضتها على العرش الدنماركي، وهي ما زالت محبوبة من الدنماركيين الذين يعدّونها «والدة الأمة». ومع أن العائلة المالكة في الدنمارك لا تتدخل في السياسة، مثلها في ذلك مثل كل العائلات المالكة في أوروبا، فإن مارغريته الثانية لم تتردّد في الانضمام إلى النقاش الدائر منذ سنوات في الدنمارك حول الهجرة، الذي تحول إلى مادة سياسية أساسية توصل الأحزاب أو تُسقطها.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه حتى الحزب الاشتراكي الحاكم تبنّى سياسات يمينية متطرفة مناوئة للهجرة منذ وصوله إلى السلطة عام 2019، على الرغم من أن أحزاب يسار الوسط –مثله- تعتمد تاريخياً سياسات منفتحة ومتعاطفة تجاه المهاجرين واللاجئين. ففي ظل حكومة ميته فريدريكسون الاشتراكية تحوّلت الدنمارك إلى إحدى أكثر دول أوروبا تشدداً فيما يتعلق بالهجرة، إذ تبنت قوانين صارمة مثل سحب الإقامات من السوريين وإعادة ترحيلهم إلى بلادهم.

أكثر من هذا، أصبحت الدنمارك أول دولة أوروبية ترحّل إلى سوريا، رغم المخاطر هناك، وشملت أوامر الترحيل نحو 100 لاجئ كانوا قد حصلوا على إقامات في الدنمارك. وأيضاً، تبنى البرلمان قوانين جديدة أدت إلى وقف العمل باتفاقيات الأمم المتحدة الخاصة بقبول عدد معين من اللاجئين. وجرى تشديد قوانين لمّ الشمل للاجئين، و«شرعنة» سحب ممتلكات مثل الذهب والأموال من المتقدّمين للحصول على طلبات لجوء لدفع نفقاتهم.

موجة رفض الهجرة

في هذا الصدد، لا بد من القول، إنه حتى قبل وصول الاشتراكيين إلى السلطة وإدخالهم هذه التغييرات الجذرية، كان المزاج الشعبي العام في الدنمارك قد تحوّل إلى عداء واضح تجاه المهاجرين طالبي اللجوء. ولقد ركبت الملكة مارغريته الثانية نفسها الموجة لتنضم في التعبير عن المزاج السلبي تجاه المهاجرين وتتبناه علانية.

إذ أعلنت الملكة في عام 2016 خلال مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية أن «الدنمارك ليس بلداً متعدد الثقافات، بل هو بلد يعيش فيه أشخاص لديهم جذور وخلفيات وديانات مختلفة، منذ أكثر من 30 سنة».

وجاء هذا الكلام تعليقاً على سؤال حول ما إذا كانت ترى بلادها بالشكل نفسه الذي يرى ملك النرويج هارالد بلاده، كما وصفه في خطاب قبل فترة بأنه «حديث» ويضم مَن «يؤمن بالرّب ومَن يؤمن بالله» في إشارة إلى المسلمين.

مقابلة صريحة جداً

وتبع ذلك بأيام كتاب نشره الصحافي توماس لارسن، استناداً إلى مقابلات مع الملكة انتقدت فيها إخفاق بعض اللاجئين والمهاجرين في الاندماج في المجتمع الدنماركي. إذ قالت: «ليس قانون الطبيعة أن يصبح المرء دنماركياً بمجرد العيش في الدنمارك». وأردت القول إن «بعض الجماعات» أفضل من غيرها على صعيد الاندماج، وعدّدت على سبيل المثال المهاجرين الوافدين من جنوب شرقيّ آسيا، بينما «نجد آخرين يجدون صعوبة أكبر في التأقلم وإيجاد إيقاعهم في الدنمارك».

ومن ثمّ وصفت الملكة الدنماركيين بأنهم كانوا «سذّجاً» عندما توهموا أن «الاندماج ليس صعباً على الطرفين... لقد اعتقدنا أن هذه الأمور تحصل بشكل تلقائي، وأنه إذا سار المرء في شوارع كوبنهاغن وشرب من مياه البلدية وركب الحافلة، فإنه سيصبح دنماركياً. لقد كان الأمر بدهياً بالنسبة إلينا واعتقدنا أنه سيكون أيضاً بدهياً للوافدين إلينا من أجل العيش هنا، لكنّ الأمر لم يكن كذلك».

وفيما يمكن عدّه تحريضاً ضد المهاجرين، تابعت مارغريته الثانية كلامها، حسب الكتاب، قائلةً إنه «لا يجوز للمرء الاستسلام للمبالغة في الآداب، بل يجب أحياناً التجرؤ على إبداء ملاحظات إرشادية... ويجب من وقت إلى آخر أن تضع الأشخاص جانب الحائط وتقول: إنَّ هذا غير مقبول!». واستطردت: «عندما تصل أعداد كبيرة من الأشخاص بخلفيات مختلفة وديانة معينة، فإنهم يخاطرون بأن يعزلوا أنفسهم بغضّ النظر عن الإرادة».

هذه التصريحات غير الاعتيادية للملكة أثارت انتقادات وتساؤلات حول ما إذا كانت قد بدأت تتدخل في السياسة، وهو ما يشكّل خروجاً عن العُرف بل حتى عن الدستور. وفي حينه، صرّح لارس هوفباكي سورنسن، أستاذ التاريخ المتخصص في العائلة الملكية الدنماركية، في تصريحات تلفزيونية، بأن «الملكة أصبحت حادة أكثر فأكثر في تعليقاتها»، وباتت «تتحرك مباشرة نحو حافة التدخل السياسي، وأنها تشير بالإصبع إلى بُعد المشكلات الاجتماعية وتدفعنا إلى التفكير بها بطرق جديدة من دون أن تتكلّم عن حلول لهذه المشكلات. وإذا بدأت ذلك فعلاً، فإنها ستكون قد تجاوزت الخط نحو التدخل السياسي الصريح».

في المقابل، ثمة جهات ودوائر أيّدت كلام الملكة، ورأت فيه تعبيراً عن توجهات الدنماركيين. فقد كتبت صحيفة «برلينسكه» اليمينية افتتاحية تساءلت فيها عما إذا كانت الملكة «تتشارك الآراء حول الاندماج مع حزب الشعب الدنماركي (وهو حزب يميني متطرف)». وتابعت الصحيفة لترد على سؤالها بالقول: «على الأرجح لا، غير أن الملكة تعبّر عن صوت معظم الدنماركيين... وآراؤها تدلّ على موهبة متميزة لجهة قياس درجة الحرارة السياسية».

عائلة متنوعة الأصول

والمفارقة في مواقف الملكة مارغريته من الهجرة أن عائلتها المالكة نفسها -مثل سائر العائلات المالكة الأوروبية - متنوعة الأصول بشكل كبير. ذلك أن زوجها الملك هنريك (توفي عام 2018) مواطناً فرنسياً، وغيّر اسمه من هنري إلى هنريك ليصبح أكثر «دنماركية»، والأميرة ماري زوجة ابنها فريدريك، ولي العهد، أسترالية، والزوجة الأولى لابنها الثاني يواكيم، من هونغ كونغ، وزوجته الثانية والحالية فرنسية. ثم إن الملكة نفسها تتحدر من عائلة كلوغسبورغ المتفرعة من عائلة أولدنبورغ الألمانية التي تنتمي إليها معظم العائلات الملكية في أوروبا ومنها العائلات المالكة في بريطانيا والنرويج والسويد واليونان.

ومع أن زوج الملكة مارغريته تعلّم اللغة الدنماركية بسرعة نسبياً، فإن الدنماركيين لطالما سخروا من لكنته وانتقدوه بسبب قلة إتقانه اللغة الدنماركية كما يجب بنظرهم، والحال أن الملك هنريك كان يتكلمها بلكنة فرنسية ثقيلة.

تعارُف الزوجين

عندما تعرّفت مارغريته على زوجها عام 1965، كان هنري دو لابورد دو مونبيزا -وهذا اسمه الأصلي- دبلوماسياً يعمل في السفارة الفرنسية بالعاصمة البريطانية لندن. وكانت مارغريته يومذاك تبلغ من العمر 25 سنة وتدرس العلوم السياسية في «معهد لندن للاقتصاد والعلوم السياسية»، وكانت قبلاً قد درست في جامعتَي كمبريدج والسوربون.

وبعد سنتين من لقائهما، تزوّجا وانتقل هنري إلى الدنمارك متخلياً عن مهنته ومتفرغاً لتمضية بقية حياته إلى جانب ولية العهد آنذاك. وخلال هذه الفترة تعلم اللغة الدنماركية وغيّر اسمه إلى هنريك واعتنق مذهب العائلة الملكية، وهو البروتستانتية اللوثرية، متخلياً عن مذهبه الكاثوليكي. وأنجب الزوجان ولدَين هما فريدريك (المولود عام 1968) ويواكيم (عام 1969).

... مارغريته ملكة

جرى تنصيب مارغريته ملكة وهي في سن الـ31، بعد وفاة أبيها الملك فريدريك التاسع في يناير (كانون الثاني) 1972، لتغدو أول ملكة للدنمارك. ولكن، ما يجدر ذكره أنه عندما وُلدت مارغريته ما كان من المفترض أن تَخْلُف أباها، إذ إن القوانين آنذاك لم تكن تسمح للإناث بتولي العرش. بل كان من المفترض أن يعتلي العرش عمُّها (شقيق الملك). لكنَّ فريديريك عوضاً عن ذلك، عمل مع الحكومة على تغيير القوانين وهو ما استغرق موافقة من برلمانَين متتاليين ثم استفتاءً شعبياً. وبعد تغيير القانون تمكن فريديك من أن يورِّث ابنته العرش، لتصبح أول امرأة تحكم الدنمارك، ويصير هنري أول أمير من دون مهام واضحة، وهو ما عقّد عليه تقبّله دوره زوجاً للملكة من دون لقب ملك ولا وظائف واضحة ومحدّدة.

وبالطبع، زاد ذلك من شعور هنري العام بأنه سيبقى دائماً «غريباً» في الدنمارك انتقادات الصحافة الدائمة له، والتركيز المستمر على لكنته. وكان يعبّر عن استيائه بشكل علنيّ بعيد عن الدبلوماسية. وفي عام 2002 غادر إلى فرنسا مستاءً بعد أن كلّفت الملكة ابنها فريدريك بأن يمثّلها في حفل رسمي، الأمر الذي أغضب زوجها الذي قال إنه شعر بـ«الإهانة والإذلال»، وبأنه أصبح «ثالثاً» في العائلة المالكة.

وحقاً، أعلن هنري أنه سيعود إلى فرنسا لـ«التفكير» في دوره ضمن العائلة الملكية. وبقي هناك 3 أسابيع عاد بعدها إلى الدنمارك متغيباً عن حضور حفل زفاف ملكي في هولندا إلى جانب زوجته. وفي عام 2008، أعلنت الملكة «خلق» لقب جديد للذكور في العائلة يأخذ اسم عائلة زوجها هنريك، وهو «كونت مونبيزا»، اعترافاً بجذور زوجها الفرنسية.

مع هذا بقي هنري-هنريك يشكو حرمانه لقب «ملك» لدرجة أنه أعلن في عام 2017 أنه لا يريد أن يُدفَن إلى جانب زوجته في التابوت الزجاجي الذي كلَّفت مارغريته فناناً بتصميمه ليصبح نصباً تذكارياً واستغرق إعداده داخل كاتدرائية روسكيلده 20 سنة. إذ قال في تصريحات لمجلة دنماركية في أغسطس (آب) 2017، إنه لا يريد أن يُدفَن بالقرب من الملكة، «وإذا أرادت أن أُدفن بالقرب منها، عليها أن تمنحني لقب ملك». وبعد شهر من كلامه هذا، أعلن القصر الملكي في سبتمبر (أيلول) أن الأمير هنريك يعاني الخَرَف وأنه سيتوقف عن أداء مهامه الرسمية.

وبعد أشهر قليلة، توفي هنريك في فبراير (شباط) 2018، واحترمت الملكة قراره ألا يُدفن في التابوت الزجاجي، كاسرةً الأعراف الدنماركية السارية بدفن الملك وزوجته متجاورين. وعوضاً عن ذلك، أُحرق جثمانه ونُثر نصف الرماد في البحر ووضع النصف الآخر في مكان خاص داخل حدائق قصر فريدينسبورغ الملكي.

شرخٌ عائليٍّ ثانٍ

أخيراً، لم تُغضب الملكة مارغريته فقط زوجها برفضها منحه لقب ملك طوال حياتها، بل أحدثت أيضا شرخاً مع ابنها الأصغر يواكيم وعائلته عندما أعلنت عام 2022 أن نسل يواكيم، أي أطفاله الثلاثة وأولادهم في المستقبل، لن يتمكنوا من استخدام لقب أمير وأميرة ابتداءً من مطلع عام 2023، وأنه لن يسمح لهم باستخدام إلا لقب «كونت مونبيزا» أو «كونتسية مونبيزا». وبرّرت الملكة قرارها بأنه سيُسمح لأبناء يواكيم بالعيش «حياة طبيعية من دون أن يكونوا مقيّدين باعتبارات وواجبات قد يربطهم بها انتماؤهم للعائلة الملكية». وفي أي حال، تسبب قرار الملكة في غضب يواكيم وعائلته، مما دفع بالملكة إلى إصدار بيان تُعرب فيه عن أسفها لـ«الحزن» الذي تسبب به قرارها، ولكن من دون التراجع عنه. ومن ثمّ، دفع قرار الملكة تجريد أبناء يواكيم من ألقابهم، بيواكيم إلى الإعلان أنه هو وحده الذي سيحضر مراسم تنصيب شقيقه ملكاً، من دون عائلته.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.