تريد مصر، ومعها دول عدة، معبر رفح مساراً منتظماً لإنقاذ سكان القطاع ودعم صمودهم على أراضيهم، عبر إدخال مساعدات إغاثية بكميات وأنواع تعين أبناء أكبر مناطق العالم ازدحاماً سكانياً على تحدي إجراءات القتل اليومي والحصار الخانق التي تمارسها بحقهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وفي المقابل، لا تخفي إسرائيل - أو على الأقل قطاعات نافذة فيها - رغبتها في أن يكون عمل ذلك المعبر في اتجاه واحد فقط، يخرج منه سكان غزة بلا عودة، فيما العراقيل والعقبات، بذرائع أمنية غالباً، كفيلة بتعطيل حركة الدخول، وتحويل المعبر إلى شريان متخثر. وهذا «الشريان» لا يمنح غزة حياة ينتظرها الملايين وراء أسوار المعبر الوحيد الذي لا تسيطر عليه سلطات الاحتلال رسمياً، لكنها قادرة على تعطيل الجانب الفلسطيني منه بسلطة الأمر الواقع، وقد فعلت مراراً. وما بين الموقفين، يتردد اسم معبر رفح على ألسنة الساسة والنشطاء، وأولئك الذين يتابعون الأحداث عبر شاشات التلفزيون. وجُل هؤلاء، وإن كانوا لا يستوعبون كثيراً تعقيدات السياسة والاتفاقات القانونية التي تحكم عمل المعبر، يأملون بنية صادقة أن يروا أبوابه مفتوحة في الجانبين، تحمل آمالاً بيضاء لسكان غزة بقرب انتهاء آلامهم الدامية، بعدما اختزلت الأسابيع الماضية اللون الأبيض في عيونهم في لون الأكفان.
معبر... له تاريخ
صنعت المعارك العربية الإسرائيلية، وكذلك تحولات السياسة، تاريخ معبر رفح. وعقب انتهاء حرب فلسطين الأولى عام 1948 ألغيت الحدود بين مصر وغزة، وخضعت المنطقة للسيطرة المصرية. إلا أن إسرائيل عادت لاحتلال المنطقة مع شبه جزيرة سيناء في 1967، وبذلت يومذاك محاولات لتهجير سكان القطاع وتوطينهم في سيناء، إلا أن تلك المحاولات لم تحرز إلا نجاحاً محدوداً.
وبعد توقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 وانسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء عام 1982، أعيد بناء «معبر رفح البري» رسمياً. ثم بموجب «اتفاقية أوسلو» عام 1993 اتفق على إعادة فتح المعبر للأفراد والبضائع. في حينه بقي الجانب الواقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت سيطرة هيئة المطارات الإسرائيلية حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2005، عندما قررت سلطات الاحتلال «إعادة الانتشار» والخروج من القطاع وإغلاق مستوطناتها فيه. وأقرّ الاتفاق نشر مراقبين أوروبيين لمراقبة حركة المعبر بمشاركة مصر، فنصت اتفاقية المعابر الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية عام 2005 على أن «يخضع المعبر للسيطرة الفلسطينية - الإسرائيلية برعاية أوروبية تراقب حق الجانب الفلسطيني في العبور والتبادل التجاري، بما لا يمس الأمن الإسرائيلي».
وفقاً للاتفاقية، ينحصر استخدام المعبر على حاملي بطاقة الهوية الفلسطينية مع استثناء لغيرهم أحياناً، بإشعار مسبق للحكومة الإسرائيلية وموافقة الجهات العليا في السلطة الفلسطينية، بينما تم تحويل كل حركة البضائع إلى معبر كرم أبو سالم الحدودي. وتُعلم السلطة الفلسطينية الحكومة الإسرائيلية حول عبور شخص من الشرائح المتوقعة؛ الدبلوماسيين والمستثمرين الأجانب والممثلين الأجانب لهيئات دولية معترف بها، والحالات الإنسانية، وذلك قبل 48 ساعة من عبورهم. وترد الحكومة الإسرائيلية خلال 24 ساعة في حالة وجود أي اعتراضات مع ذكر أسباب الاعتراض.
في يوم 27 نوفمبر 2005، بدأ العمل باتفاقية المعابر، وفُتح المعبر بشكل جزئي بين 4 و5 ساعات في اليوم، لمدة 3 أسابيع، بحجة عدم استكمال أفراد بعثة المساعدة الحدودية للاتحاد الأوروبي. وفي منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2005، زيد عدد ساعات العمل إلى 8 ساعات يومياً. لكن المعبر الذي أدت تفاهمات السياسة إلى تشغيله، أعادت المواجهات العسكرية إغلاقه. وفي 25 يونيو (حزيران) 2006، صعّدت إسرائيل حصارها على غزة بصورة غير مسبوقة عقب وقوع الجندي جلعاد شاليط في أسر 3 مجموعات فلسطينية مسلحة عند معبر كرم أبو سالم، وكان إغلاق الجانب الفلسطيني من معبر رفح ضمن الردود والضغوط الإسرائيلية على الفلسطينيين لإطلاق سراح الجندي الأسير.
صفحة مليئة بالارتباك
في أعقاب سيطرة حركة «حماس» على غزة في يونيو 2007، كان معبر رفح على موعد مع صفحة جديدة مليئة بالارتباك والخلافات والتغييرات الإدارية بشأن من يتحكم في المعبر ويسيطر عليه. إذ عارضت «حماس» مشاركة إسرائيل في تشغيل المعبر، كما توقفت الرقابة الأوروبية بسبب غياب قوات السلطة الفلسطينية، ورفض الأوروبيين التعامل مع الموظفين المحسوبين على «حماس»، الأمر الذي أدى إلى إبقاء المعبر مغلقاً.
«حماس» من جهتها طالبت بفتح معبر رفح دون قيد أو شرط، وجعلت ذلك أحد شروط التهدئة مع إسرائيل أو الدخول في مصالحة مع السلطة، في حين اعتبرت مصر أن المعبر في ظل غياب السلطة الفلسطينية والرقابة الأوروبية لا تتوافر فيه الشروط الواردة في الاتفاق، ومن ثم اعتبرت نفسها في حِلٍ من تشغيله بشكل طبيعي.
وعلى مدى سنوات ما قبل 2011، تحول المعبر إلى ورقة ضغط متبادلة، يحاول كل طرف توظيفها لخدمة سياساته، لكن مصر عادة ما كانت تفتح المعبر للحالات الإنسانية أثناء المواجهات بين إسرائيل وغزة، بما في ذلك دخول المساعدات الإنسانية، واستقبال الجرحى والمصابين.
في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ورئيس وحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، إن التعامل المصري مع معبر رفح يخضع لاعتبارين أساسيين؛ الاعتبار الأول هو ممارسة السيادة الكاملة على الجانب المصري، وهذه مسألة «لا جدال فيها قانونياً أو سياسياً»، فإدارة الجانب المصري من المعبر «قرار سيادي تحكمه اعتبارات حماية الأمن القومي المصري في الأساس». والاعتبار الثاني كان التزام مصر بتعهداتها الدولية فيما يخصها من اتفاقيات المعابر التي تنظم الحركة على الجانب الفلسطيني من المعبر.
وأضاف فهمي أن مصر لم تتوانَ في أي وقت، رغم توتر العلاقة مع «حماس» أحياناً، في تسهيل الدخول والخروج من المعبر للحالات الإنسانية، ولدعم القطاع بالمساعدات، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن «غياب» إسرائيل بشكل رسمي على الجانب الفلسطيني من المعبر لا يعني انتفاء تأثيرها. ومن هنا تأتي أهمية التفاهمات الدولية التي تنظم حركة الدخول من المعبر وإليه. وهذا أحد الأسباب التي دفعت القاهرة إلى إجراء اتصالات مكثفة لتأمين حركة دخول المساعدات إلى القطاع عقب عملية «طوفان الأقصى»... إذ إن إسرائيل تستطيع عرقلة الحركة على الجانب الآخر، وقد قصفت بالفعل البوابة الفلسطينية عدة مرات، ولم تتوقف عن ذلك إلا عقب اتصالات مصرية وتفاهمات أميركية.
الهروب تحت الأرض
على مدى سنوات، حتى قبل سيطرة «حماس» على قطاع غزة، سعى الفلسطينيون إلى إيجاد وسيلة لتدبير احتياجاتهم، يتحكمون فيها ولا تتحكم هي فيهم، حتى لو كان ذلك البديل «تحت الأرض»، وهذا يعني ترك ما فوق الأرض لتعقيدات السياسة والقانون. وهكذا، وضع الغزيون «قانون الأنفاق»، وتحولت التجارة والتهريب عبرها إلى حركة نشطة ومصدر رزق لكثيرين على الجانبين، بيد أنها صارت لاحقاً أحد أخطر مصادر تهديد الأمن القومي المصري.
كثير من الوقائع رافقت أحداث 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، ومنها ما أشارت إليه تقارير إعلامية مصرية عن مشاركة عناصر من حركة «حماس» في الهجوم على السجون المصرية، وتهريب كثير من العناصر المطلوبة أمنياً عبر الأنفاق، بل وصول كثير من السيارات المصرية المسروقة خلال فترة الانفلات الأمني آنذاك عبر الأنفاق إلى قطاع غزة. ولكن مع هذا قررت السلطات المصرية فتح المعبر بشكل دائم اعتباراً من مايو (أيار) من ذلك العام. وبالفعل، وصلت مدة عمل المعبر في تلك الفترة إلى 6 ساعات يومياً، مع فرض إجراءات صارمة في المراقبة وضبط الحركة على الجانب المصري.
إلا أن ظهور خطر التنظيمات الإرهابية كان واحداً من المخاطر الكبرى التي دفعت بالسلطات المصرية إلى التعامل بحزم مع الأنفاق، التي باتت «شريان حياة» لتنظيمات إرهابية تدبر احتياجاتها البشرية ومن الأسلحة عبر شبكة معقدة من الأنفاق السرّية. وفي شهر يوليو (تموز) عام 2013 أغلق المعبر لدواعٍ أمنية، بالإضافة إلى استخدام حلول هندسية لإعادة تأمين المنطقة بالكامل والقضاء تماماً على خطر الأنفاق. ورغم الآمال الكبيرة التي عقدها الفلسطينيون على إمكانية انتظام الحركة من خلال معبر رفح، عقب توقيع حركتي «فتح» و«حماس» في القاهرة اتفاق مصالحة في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، والنص على تسلم السلطة الفلسطينية إدارة القطاع سعياً لإنهاء الانقسام الداخلي المستمر منذ منتصف 2007، بددت عودة الخلاف والانقسام تلك الآمال، ما حال دون تطبيق الاتفاق.
مع ذلك أبدت مصر التزاماً من جانبها بفتح المعبر أمام الأفراد الحاصلين على «تصريح أمني» مع إلزامية الخضوع لعمليات تفتيش. ووفقاً للأمم المتحدة، سمحت السلطات المصرية في أغسطس (آب) 2023، بمغادرة 19608 مسافرين من غزة، ورفضت دخول 314 شخصاً عبر المعبر باتجاه مصر. واستخدمت مصر المعبر في إدخال المعدات ومواد البناء اللازمة لعملية إعادة إعمار غزة، التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم 18 مايو 2021، معلناً عن تبرع القاهرة بمبلغ 500 مليون دولار لعمليات إعادة الإعمار بالقطاع، بعد نجاح مصر في التهدئة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. وأدخلت مصر حينذاك في مشهد احتفالي المعدات والشاحنات التي تحمل مواد البناء المختلفة عن طريق معبر رفح للقيام بعمليات التشييد لأحياء سكنية كاملة.
ما بعد الـ«طوفان»
لأن ما قبل يوم 7 أكتوبر، الذي شهد تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، ليس كما بعده، صار معبر رفح جزءاً من الحدث وصناعة التاريخ. فقبل هجوم «حماس» كانت السلع تدخل إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم، الذي تديره إسرائيل، لكن منذ اندلاع الحرب، أغلقت تل أبيب كل معابرها مع القطاع، في محاولة لخنق غزة، التي لا يخفي قادة الدولة العبرية رغبتهم القديمة المتجددة، في أن يبتلعها البحر. وفعلاً، قرّروا هذه المرة أن يمطروا قطاع غزة كله بآلاف الأطنان من المتفجرات، في محاولة لدفع سكانه إلى النزوح نحو الجنوب نحو الحدود المصرية، وفيها معبر رفح، الذي أضحى الشريان الوحيد لبقاء سكان القطاع على قيد الحياة.
ولأن إسرائيل تدرك أنه لن يبقى للفلسطينيين سوى معبر رفح للبقاء على قيد الحياة، قصفت جانبه الفلسطيني عدة مرات، وأعلنت مصر في الأيام الأولى من الحرب أن «المعبر مفتوح، لكن لا يمكن استخدامه بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل، وتدمير البنية التحتية للبوابة للجانب الآخر منه». وعلى سبيل المثال، في 10 أكتوبر قصف جيش الاحتلال منطقة المعبر من جانب غزة 3 مرات خلال يوم واحد.
وعبر سيل من الاتصالات السياسية والضغوط المتبادلة، عرفت شاحنات المساعدات المتكدسة أمام المعبر طريقها للمرة الأولى إلى القطاع في 21 أكتوبر الماضي. ورغم المعوقات الإسرائيلية، التي انتقدتها مصر أكثر من مرة، بقي دخول بضع عشرات من الشاحنات إلى القطاع الذي كانت تصله، وفق تقديرات الأمم المتحدة، نحو 500 شاحنة يومياً، رمزاً لمقاومة حصار إسرائيلي خانق ومساعٍ لا تهدأ من أجل دفع سكان القطاع إلى الهروب من جحيم القصف وسوء المعيشة، بينما لم تدخل أي شاحنة وقود سوى بعد أكثر من 40 يوماً من بداية العدوان الإسرائيلي.
في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، اعتبر السفير حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً، معبر رفح «جزءاً من حقائق التاريخ والجغرافيا التي تفرض على مصر التزامات إنسانية وقومية تجاه الشعب الفلسطيني». وأردف أن الموقف المصري بتسخير المعبر لدعم صمود الشعب الفلسطيني يجسد هذه الثوابت، لكنه «يعكس كذلك دوراً لا غنى في حماية الأمن القومي المصري، وبخاصة في مواجهة مخططات تهجير الفلسطينيين الراهنة».
ويرى هريدي أن التحرك المصري سياسياً ودبلوماسياً للدفع باتجاه حشد الدعم الدولي عبر معبر رفح يمثل «وسيلة ضرورية» لمواجهة المحاولات الإسرائيلية لدفع سكان غزة إلى النزوح من أراضيهم تحت وطأة الأعمال العسكرية الوحشية ضد المدنيين، أو عبر قطع الخدمات بحيث تستحيل الحياة، ويندفعون نحو الحدود المصرية. وشدد على ضرورة الضغط من أجل زيادة المساعدات كماً ونوعاً، ومنع سلطة الاحتلال من تنفيذ مخططها بإحكام الحصار على القطاع. تحول معبر رفح إلى «شريان حياة» لإنقاذ أكثر من مليوني فلسطيني