معبر رفح... «شريان حياة» غزة المتخثر

إرادة مصرية لتوظيفه إنسانياً... وإسرائيل تريده باب «خروج بلا عودة»

معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)
معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)
TT

معبر رفح... «شريان حياة» غزة المتخثر

معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)
معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)

تريد مصر، ومعها دول عدة، معبر رفح مساراً منتظماً لإنقاذ سكان القطاع ودعم صمودهم على أراضيهم، عبر إدخال مساعدات إغاثية بكميات وأنواع تعين أبناء أكبر مناطق العالم ازدحاماً سكانياً على تحدي إجراءات القتل اليومي والحصار الخانق التي تمارسها بحقهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

وفي المقابل، لا تخفي إسرائيل - أو على الأقل قطاعات نافذة فيها - رغبتها في أن يكون عمل ذلك المعبر في اتجاه واحد فقط، يخرج منه سكان غزة بلا عودة، فيما العراقيل والعقبات، بذرائع أمنية غالباً، كفيلة بتعطيل حركة الدخول، وتحويل المعبر إلى شريان متخثر. وهذا «الشريان» لا يمنح غزة حياة ينتظرها الملايين وراء أسوار المعبر الوحيد الذي لا تسيطر عليه سلطات الاحتلال رسمياً، لكنها قادرة على تعطيل الجانب الفلسطيني منه بسلطة الأمر الواقع، وقد فعلت مراراً. وما بين الموقفين، يتردد اسم معبر رفح على ألسنة الساسة والنشطاء، وأولئك الذين يتابعون الأحداث عبر شاشات التلفزيون. وجُل هؤلاء، وإن كانوا لا يستوعبون كثيراً تعقيدات السياسة والاتفاقات القانونية التي تحكم عمل المعبر، يأملون بنية صادقة أن يروا أبوابه مفتوحة في الجانبين، تحمل آمالاً بيضاء لسكان غزة بقرب انتهاء آلامهم الدامية، بعدما اختزلت الأسابيع الماضية اللون الأبيض في عيونهم في لون الأكفان.

معبر... له تاريخ

صنعت المعارك العربية الإسرائيلية، وكذلك تحولات السياسة، تاريخ معبر رفح. وعقب انتهاء حرب فلسطين الأولى عام 1948 ألغيت الحدود بين مصر وغزة، وخضعت المنطقة للسيطرة المصرية. إلا أن إسرائيل عادت لاحتلال المنطقة مع شبه جزيرة سيناء في 1967، وبذلت يومذاك محاولات لتهجير سكان القطاع وتوطينهم في سيناء، إلا أن تلك المحاولات لم تحرز إلا نجاحاً محدوداً.

وبعد توقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 وانسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء عام 1982، أعيد بناء «معبر رفح البري» رسمياً. ثم بموجب «اتفاقية أوسلو» عام 1993 اتفق على إعادة فتح المعبر للأفراد والبضائع. في حينه بقي الجانب الواقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت سيطرة هيئة المطارات الإسرائيلية حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2005، عندما قررت سلطات الاحتلال «إعادة الانتشار» والخروج من القطاع وإغلاق مستوطناتها فيه. وأقرّ الاتفاق نشر مراقبين أوروبيين لمراقبة حركة المعبر بمشاركة مصر، فنصت اتفاقية المعابر الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية عام 2005 على أن «يخضع المعبر للسيطرة الفلسطينية - الإسرائيلية برعاية أوروبية تراقب حق الجانب الفلسطيني في العبور والتبادل التجاري، بما لا يمس الأمن الإسرائيلي».

وفقاً للاتفاقية، ينحصر استخدام المعبر على حاملي بطاقة الهوية الفلسطينية مع استثناء لغيرهم أحياناً، بإشعار مسبق للحكومة الإسرائيلية وموافقة الجهات العليا في السلطة الفلسطينية، بينما تم تحويل كل حركة البضائع إلى معبر كرم أبو سالم الحدودي. وتُعلم السلطة الفلسطينية الحكومة الإسرائيلية حول عبور شخص من الشرائح المتوقعة؛ الدبلوماسيين والمستثمرين الأجانب والممثلين الأجانب لهيئات دولية معترف بها، والحالات الإنسانية، وذلك قبل 48 ساعة من عبورهم. وترد الحكومة الإسرائيلية خلال 24 ساعة في حالة وجود أي اعتراضات مع ذكر أسباب الاعتراض.

في يوم 27 نوفمبر 2005، بدأ العمل باتفاقية المعابر، وفُتح المعبر بشكل جزئي بين 4 و5 ساعات في اليوم، لمدة 3 أسابيع، بحجة عدم استكمال أفراد بعثة المساعدة الحدودية للاتحاد الأوروبي. وفي منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2005، زيد عدد ساعات العمل إلى 8 ساعات يومياً. لكن المعبر الذي أدت تفاهمات السياسة إلى تشغيله، أعادت المواجهات العسكرية إغلاقه. وفي 25 يونيو (حزيران) 2006، صعّدت إسرائيل حصارها على غزة بصورة غير مسبوقة عقب وقوع الجندي جلعاد شاليط في أسر 3 مجموعات فلسطينية مسلحة عند معبر كرم أبو سالم، وكان إغلاق الجانب الفلسطيني من معبر رفح ضمن الردود والضغوط الإسرائيلية على الفلسطينيين لإطلاق سراح الجندي الأسير.

صفحة مليئة بالارتباك

في أعقاب سيطرة حركة «حماس» على غزة في يونيو 2007، كان معبر رفح على موعد مع صفحة جديدة مليئة بالارتباك والخلافات والتغييرات الإدارية بشأن من يتحكم في المعبر ويسيطر عليه. إذ عارضت «حماس» مشاركة إسرائيل في تشغيل المعبر، كما توقفت الرقابة الأوروبية بسبب غياب قوات السلطة الفلسطينية، ورفض الأوروبيين التعامل مع الموظفين المحسوبين على «حماس»، الأمر الذي أدى إلى إبقاء المعبر مغلقاً.

«حماس» من جهتها طالبت بفتح معبر رفح دون قيد أو شرط، وجعلت ذلك أحد شروط التهدئة مع إسرائيل أو الدخول في مصالحة مع السلطة، في حين اعتبرت مصر أن المعبر في ظل غياب السلطة الفلسطينية والرقابة الأوروبية لا تتوافر فيه الشروط الواردة في الاتفاق، ومن ثم اعتبرت نفسها في حِلٍ من تشغيله بشكل طبيعي.

وعلى مدى سنوات ما قبل 2011، تحول المعبر إلى ورقة ضغط متبادلة، يحاول كل طرف توظيفها لخدمة سياساته، لكن مصر عادة ما كانت تفتح المعبر للحالات الإنسانية أثناء المواجهات بين إسرائيل وغزة، بما في ذلك دخول المساعدات الإنسانية، واستقبال الجرحى والمصابين.

في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ورئيس وحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، إن التعامل المصري مع معبر رفح يخضع لاعتبارين أساسيين؛ الاعتبار الأول هو ممارسة السيادة الكاملة على الجانب المصري، وهذه مسألة «لا جدال فيها قانونياً أو سياسياً»، فإدارة الجانب المصري من المعبر «قرار سيادي تحكمه اعتبارات حماية الأمن القومي المصري في الأساس». والاعتبار الثاني كان التزام مصر بتعهداتها الدولية فيما يخصها من اتفاقيات المعابر التي تنظم الحركة على الجانب الفلسطيني من المعبر.

وأضاف فهمي أن مصر لم تتوانَ في أي وقت، رغم توتر العلاقة مع «حماس» أحياناً، في تسهيل الدخول والخروج من المعبر للحالات الإنسانية، ولدعم القطاع بالمساعدات، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن «غياب» إسرائيل بشكل رسمي على الجانب الفلسطيني من المعبر لا يعني انتفاء تأثيرها. ومن هنا تأتي أهمية التفاهمات الدولية التي تنظم حركة الدخول من المعبر وإليه. وهذا أحد الأسباب التي دفعت القاهرة إلى إجراء اتصالات مكثفة لتأمين حركة دخول المساعدات إلى القطاع عقب عملية «طوفان الأقصى»... إذ إن إسرائيل تستطيع عرقلة الحركة على الجانب الآخر، وقد قصفت بالفعل البوابة الفلسطينية عدة مرات، ولم تتوقف عن ذلك إلا عقب اتصالات مصرية وتفاهمات أميركية.

الهروب تحت الأرض

على مدى سنوات، حتى قبل سيطرة «حماس» على قطاع غزة، سعى الفلسطينيون إلى إيجاد وسيلة لتدبير احتياجاتهم، يتحكمون فيها ولا تتحكم هي فيهم، حتى لو كان ذلك البديل «تحت الأرض»، وهذا يعني ترك ما فوق الأرض لتعقيدات السياسة والقانون. وهكذا، وضع الغزيون «قانون الأنفاق»، وتحولت التجارة والتهريب عبرها إلى حركة نشطة ومصدر رزق لكثيرين على الجانبين، بيد أنها صارت لاحقاً أحد أخطر مصادر تهديد الأمن القومي المصري.

كثير من الوقائع رافقت أحداث 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، ومنها ما أشارت إليه تقارير إعلامية مصرية عن مشاركة عناصر من حركة «حماس» في الهجوم على السجون المصرية، وتهريب كثير من العناصر المطلوبة أمنياً عبر الأنفاق، بل وصول كثير من السيارات المصرية المسروقة خلال فترة الانفلات الأمني آنذاك عبر الأنفاق إلى قطاع غزة. ولكن مع هذا قررت السلطات المصرية فتح المعبر بشكل دائم اعتباراً من مايو (أيار) من ذلك العام. وبالفعل، وصلت مدة عمل المعبر في تلك الفترة إلى 6 ساعات يومياً، مع فرض إجراءات صارمة في المراقبة وضبط الحركة على الجانب المصري.

إلا أن ظهور خطر التنظيمات الإرهابية كان واحداً من المخاطر الكبرى التي دفعت بالسلطات المصرية إلى التعامل بحزم مع الأنفاق، التي باتت «شريان حياة» لتنظيمات إرهابية تدبر احتياجاتها البشرية ومن الأسلحة عبر شبكة معقدة من الأنفاق السرّية. وفي شهر يوليو (تموز) عام 2013 أغلق المعبر لدواعٍ أمنية، بالإضافة إلى استخدام حلول هندسية لإعادة تأمين المنطقة بالكامل والقضاء تماماً على خطر الأنفاق. ورغم الآمال الكبيرة التي عقدها الفلسطينيون على إمكانية انتظام الحركة من خلال معبر رفح، عقب توقيع حركتي «فتح» و«حماس» في القاهرة اتفاق مصالحة في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، والنص على تسلم السلطة الفلسطينية إدارة القطاع سعياً لإنهاء الانقسام الداخلي المستمر منذ منتصف 2007، بددت عودة الخلاف والانقسام تلك الآمال، ما حال دون تطبيق الاتفاق.

مع ذلك أبدت مصر التزاماً من جانبها بفتح المعبر أمام الأفراد الحاصلين على «تصريح أمني» مع إلزامية الخضوع لعمليات تفتيش. ووفقاً للأمم المتحدة، سمحت السلطات المصرية في أغسطس (آب) 2023، بمغادرة 19608 مسافرين من غزة، ورفضت دخول 314 شخصاً عبر المعبر باتجاه مصر. واستخدمت مصر المعبر في إدخال المعدات ومواد البناء اللازمة لعملية إعادة إعمار غزة، التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم 18 مايو 2021، معلناً عن تبرع القاهرة بمبلغ 500 مليون دولار لعمليات إعادة الإعمار بالقطاع، بعد نجاح مصر في التهدئة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. وأدخلت مصر حينذاك في مشهد احتفالي المعدات والشاحنات التي تحمل مواد البناء المختلفة عن طريق معبر رفح للقيام بعمليات التشييد لأحياء سكنية كاملة.

ما بعد الـ«طوفان»

لأن ما قبل يوم 7 أكتوبر، الذي شهد تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، ليس كما بعده، صار معبر رفح جزءاً من الحدث وصناعة التاريخ. فقبل هجوم «حماس» كانت السلع تدخل إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم، الذي تديره إسرائيل، لكن منذ اندلاع الحرب، أغلقت تل أبيب كل معابرها مع القطاع، في محاولة لخنق غزة، التي لا يخفي قادة الدولة العبرية رغبتهم القديمة المتجددة، في أن يبتلعها البحر. وفعلاً، قرّروا هذه المرة أن يمطروا قطاع غزة كله بآلاف الأطنان من المتفجرات، في محاولة لدفع سكانه إلى النزوح نحو الجنوب نحو الحدود المصرية، وفيها معبر رفح، الذي أضحى الشريان الوحيد لبقاء سكان القطاع على قيد الحياة.

ولأن إسرائيل تدرك أنه لن يبقى للفلسطينيين سوى معبر رفح للبقاء على قيد الحياة، قصفت جانبه الفلسطيني عدة مرات، وأعلنت مصر في الأيام الأولى من الحرب أن «المعبر مفتوح، لكن لا يمكن استخدامه بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل، وتدمير البنية التحتية للبوابة للجانب الآخر منه». وعلى سبيل المثال، في 10 أكتوبر قصف جيش الاحتلال منطقة المعبر من جانب غزة 3 مرات خلال يوم واحد.

وعبر سيل من الاتصالات السياسية والضغوط المتبادلة، عرفت شاحنات المساعدات المتكدسة أمام المعبر طريقها للمرة الأولى إلى القطاع في 21 أكتوبر الماضي. ورغم المعوقات الإسرائيلية، التي انتقدتها مصر أكثر من مرة، بقي دخول بضع عشرات من الشاحنات إلى القطاع الذي كانت تصله، وفق تقديرات الأمم المتحدة، نحو 500 شاحنة يومياً، رمزاً لمقاومة حصار إسرائيلي خانق ومساعٍ لا تهدأ من أجل دفع سكان القطاع إلى الهروب من جحيم القصف وسوء المعيشة، بينما لم تدخل أي شاحنة وقود سوى بعد أكثر من 40 يوماً من بداية العدوان الإسرائيلي.

في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، اعتبر السفير حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً، معبر رفح «جزءاً من حقائق التاريخ والجغرافيا التي تفرض على مصر التزامات إنسانية وقومية تجاه الشعب الفلسطيني». وأردف أن الموقف المصري بتسخير المعبر لدعم صمود الشعب الفلسطيني يجسد هذه الثوابت، لكنه «يعكس كذلك دوراً لا غنى في حماية الأمن القومي المصري، وبخاصة في مواجهة مخططات تهجير الفلسطينيين الراهنة».

ويرى هريدي أن التحرك المصري سياسياً ودبلوماسياً للدفع باتجاه حشد الدعم الدولي عبر معبر رفح يمثل «وسيلة ضرورية» لمواجهة المحاولات الإسرائيلية لدفع سكان غزة إلى النزوح من أراضيهم تحت وطأة الأعمال العسكرية الوحشية ضد المدنيين، أو عبر قطع الخدمات بحيث تستحيل الحياة، ويندفعون نحو الحدود المصرية. وشدد على ضرورة الضغط من أجل زيادة المساعدات كماً ونوعاً، ومنع سلطة الاحتلال من تنفيذ مخططها بإحكام الحصار على القطاع. تحول معبر رفح إلى «شريان حياة» لإنقاذ أكثر من مليوني فلسطيني


مقالات ذات صلة

مقتل 5 فلسطينيين في قصف إسرائيلي على شمال رفح

المشرق العربي الدخان يتصاعد بعد غارة جوية إسرائيلية على رفح في غزة (د.ب.أ)

مقتل 5 فلسطينيين في قصف إسرائيلي على شمال رفح

قُتل خمسة فلسطينيين وأصيب آخرون، اليوم (السبت)، في قصف إسرائيلي استهدف شمال مدينة رفح في جنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
الولايات المتحدة​ 
ترمب ونتنياهو قبل بدء اجتماعهما أمس (د.ب.أ)

نتنياهو يستكمل «مظلته» الأميركية بلقاء ترمب

بلقائه الرئيس الأميركي السابق، وربما اللاحق، دونالد ترمب، أكمل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمس، مظلته الأميركية، التي شملت وقفة في الكونغرس

هبة القدسي (واشنطن) نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي الرئيس الأميركي جو بايدن يستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض 25 يوليو (أ.ب)

البيت الأبيض يحذّر نتنياهو من خطورة تنازلاته للمتطرفين في حكومته

كشفت مصادر سياسية في تل أبيب عن أن اللقاءات الثلاثة التي أجراها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في واشنطن مع بايدن وهاريس وسوليفان، كانت صعبة للغاية.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي امرأة فلسطينية تحمل ابنتها بجوار أنقاض منازل دمرت خلال غارات إسرائيلية على جنوب قطاع غزة (رويترز)

«هدنة غزة»: ضغط دولي يُعزز جهود الوسطاء نحو صفقة المحتجزين

ضغوط دولية تتصاعد لوقف الحرب في غزة والدفع نحو هدنة ثانية بالقطاع تعززها دعوة أسترالية - كندية - نيوزيلندية لإنهاء الحرب.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي نهر السين في باريس (أ.ف.ب)

رياضيون مؤيدون للقضية الفلسطينية يستعدون لإظهار «التضامن» في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية

يستعد رياضيون لإظهار تضامنهم مع القضية الفلسطينية خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الذي سيقام في العاصمة الفرنسية باريس.

«الشرق الأوسط» (لندن)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

 

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».