هرتسي هاليفي... «المستوطن» الذي يقود الحرب على غزة

ضابط «كوماندوز» من سلاح المظليين شارك في «حصار عرفات»

 يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
TT

هرتسي هاليفي... «المستوطن» الذي يقود الحرب على غزة

 يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»

متوسطاً عدداً من الجنود في مقر سرب «أدير» لمقاتلات الـ«إف 35» (F35)، ظهر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، وهو يتوعد ويهدد ويباهي بقوة سلاح الجو الإسرائيلي، قائلاً: «هذه القاعدة قادرة على الوصول لكل مكان في الشرق الأوسط». وأشار ضابط «الكوماندوز» القادم من سلاح المظليين إلى أن قواته «تسدّد منذ شهر ضربات قاسية ضد حركة (حماس)، وتضرب البنية التحتية لها في غزة، وهي على أهبة الاستعداد بشكل مستمر للتعامل مع مناطق أخرى». وهي تصريحات عززت المخاوف من اتساع رقعة الصراع في المنطقة، وهو ما تحذّر منه دول عدة.

طوال شهر مضى منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، رداً على عملية «طوفان الأقصى» التي شنتها حركة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، برز اسم الجنرال «هرتسي» هاليفي الذي لم يكمل بعد سنته الأولى في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي.

جاء هذا البروز رغم اعترافه بأن قواته «أخطأت» بعجزها عن منع هجوم «حماس»؛ إذ قال في حينه: «جيش الدفاع الإسرائيلي مسؤول عن الدفاع عن البلاد ومواطنيها، وصباح السبت (7 أكتوبر)، في المنطقة المحيطة بغزة، لم نلتزم بذلك. سنتعلم ونحقق، ولكن الآن هو وقت الحرب»، وبعدها هدد بأن «قواته ستخلق واقعاً جديداً في غزة... والقطاع لن يعود كما كان أبداً».

نشأة عائلية دينية

هرتسل «هرتسي» هاليفي، الرئيس الثالث والعشرين لهيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي، ولد يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 1967 بمدينة القدس، بعد أشهر قليلة من حرب 1967، التي تطلق عليها إسرائيل اسم «حرب الأيام الستة». وأطلق عليه اسمه نسبة إلى عمه الذي قتل في تلك الحرب.

ينتمي هاليفي لأسرة متشددة دينياً، فوالده حاييم شلومو هاليفي جاء من روسيا واستوطن فلسطين عام 1926 قبل قيام إسرائيل، وهو من نسل الحاخام اليهودي الأرثوذكسي أفراهام كوك، الذي ينظر إليه باعتباره «مؤسس حركة الاستيطان الحديثة».

درس هرتسي في مدارس دينية، وكان عضواً في كشافة «تسوفيم» الدينية. ومع أنه توقف عن ارتداء القلنسوة اليهودية، في مرحلة ما خلال خدمته العسكرية، فإنه أكد في إحدى مقابلاته أنه «لا يزال ملتزماً دينياً». بجانب ذلك، فإنه يحرص على التوجه إلى الكنيس كل سبت.

وعلى صعيد التعليم، حصل هاليفي، وهو أب لأربعة أبناء، على بكالوريوس الفلسفة من الجامعة العبرية بالقدس، كما حاز درجة الماجستير في إدارة الموارد الوطنية من جامعة الدفاع الوطني في الولايات المتحدة، وذلك قبل أن يلتحق بالجيش عام 1985.

كانت أولى محطات خدمته العسكرية في «قوات الناحال» داخل إحدى المستوطنات شمال إسرائيل. وبعدها تطوع في لواء المظليين، واجتاز دورات تدريبية بوصفه ضابطاً مقاتلاً.

مسيرته العسكرية حتى رئاسة الأركانشغل هاليفي مناصب عدة، بينها نائب رئيس الأركان، وقائد المنطقة الجنوبية، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وقائد كلية القيادة والأركان، وقائد تشكيلة الجليل، ورئيس قسم التشغيل العملياتي التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، وقائد لواء المظليين، وقائد لواء «ميناشيه»، وقائد وحدة «سايريت متكال»، وهي وحدة كوماندوز نخبوية تابعة لرئاسة الأركان.

ولقد نفذ في مسيرته العسكرية عمليات وراء الحدود منذ 2011 وحتى 2014، خلال فترة توليه رئاسة قسم العمليات الميدانية، كما كان مسؤولاً عن رصد الإعلام العربي. عين رئيساً للأركان في شهر سبتمبر (أيلول) 2022، وتسلم مهام منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) 2023.

مهام قتالية «فاشلة»

من جهة ثانية، شارك هرتسي هاليفي في عدة عمليات عسكرية، بيد أن معظمها لم يحقق الهدف منها؛ منها عملية «اللدغة السامة» عام 1994 التي جرى خلالها اختطاف مصطفى الديراني، القيادي اللبناني في «حزب الله» آنذاك، وخُطّط للعملية بهدف الحصول على معلومات عن مصير ملاّح سلاح الجو الإسرائيلي رون أراد، لكن العملية لم تسفر عن تحقيق ذلك الهدف.

وفي العام نفسه، شارك في عملية لتحرير جندي كانت خطفته حركة «حماس»، ومرة أخرى فشلت العملية، وانتهت بمقتل الجندي المخطوف نحشون فاكسمان، وقائد الوحدة العسكرية التي شاركت في عملية التحرير وجندي ثالث.

أيضاً شارك هاليفي في عمليات «الكوماندوز» خلال اجتياح الضفة الغربية وقطاع غزة إبان الانتفاضة الثانية. وتحديداً عام 2002، قاد عملية محاصرة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رام الله، التي استهدفت إخضاع عرفات ودفعه لتسليم مطلوبين إلى إسرائيل. إلا أن مخاوف أثارها هاليفي بشأن خطة للقبض على عرفات، دفعت إلى إلغاء العملية. وفعلاً، لم تحقق إسرائيل الهدف من الحصار لينتهي الأمر بصفقة نقل فيه المطلوبون إلى أريحا وبقي عرفات في رام الله.

علاقته بغزة

علاقة هاليفي مع قطاع غزة قديمة؛ إذ سبق أن قاد إبان فترة خدمته قائداً للواء المظليين عملية «الرصاص المصبوب» على القطاع عام 2008. كما أنه تولى مسؤولية المعارك في شمال قطاع غزة، خصوصاً في بيت حانون وبيت لاهيا. وعن دوره في تلك العملية، قال العقيد آفي بلوث - أحد قادة كتيبته في تلك الفترة - إن هاليفي كان «أذكى من معظم الضباط في الجيش الإسرائيلي، وهو متواضع يحب الكلام عن التاريخ والفلسفة أو الكتاب المقدس أكثر من الكلام عن كيفية التغلب على العدو».

«الفيلسوف»

بفضل دراسة هرتسي هاليفي الفلسفة لقبته وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية بـ«الفيلسوف»، ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عنه قوله إن «الناس اعتادوا أن يقولوا لي إن إدارة الأعمال للحياة العملية والفلسفة للروح... ولكن على مر السنين وجدت أن الأمر عكس ذلك تماماً، حيث أعتمد الفلسفة بشكل عملي أكثر». وأضاف، نقلاً عن أفلاطون وسقراط، أن «الفلاسفة تحدثوا عن كيفية التوازن، وكيفية تحديد أولويات المبادئ بطريقة صحيحة. هذا شيء أجده مفيداً جداً».

من الناحية العسكرية، يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»، حتى إن أسلوب قيادته يوصف بأنه «مربك للجنود»؛ إذ إنه، وفق وصف بعض من عملوا تحت إمرته، «يجد صعوبة في التواصل مع الجنود، كونه شخصية معقدة للغاية».

تحديات وانتقادات

وبالفعل، واكبت الانتقادات قرار تعيينه رئيساً للأركان؛ إذ جاء القرار في وقت تتولى فيه حكومة يمينية متطرفة قيادة إسرائيل، تعد الأكثر تشدداً في تاريخها. لكن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، وعد بتسهيل مهمة رئيس أركانه الجديد، وقال خلال حفل تسليم هاليفي مهام منصب، إنه «سيحرص على التأكد من أن الضغوط الخارجية السياسية والقانونية وغيرها ستتوقف عنده، ولن تصل إلى أبواب الجيش».

في ذلك اليوم أيضاً خرج هاليفي مهدداً الجميع، فقال: «طوال 75 سنة، تحولت إسرائيل من دولة محاطة بالأعداء إلى دولة تحيط بأعدائها بقوتها وقدراتها المتقدمة. مع ذلك ما زال هناك العديد من التحديات حولنا، من إيران وقطاع غزة والضفة الغربية»، متعهداً بأنه «سيجهز الجيش للحرب على ساحات بعيدة وقريبة».

وحقاً، أثار تعيين هاليفي صراعات داخلية بين الحكومة والمعارضة، فقد كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يفضل تعيين إيال زمير، سكرتيره العسكري السابق. غير أن وزير الدفاع السابق بيني غانتس أصر على اختيار هاليفي.

كان لدى هاليفي مع بداية عمله قائداً لمنطقة شمال الجليل عام 2011، يقين بأن «حرب إسرائيل المقبلة مع لبنان ستندلع في عهده». وعندما ترك ذلك المنصب نهاية عام 2013، قال لـ«نيويورك تايمز»، إنه «يتوقع حدوث تلك الحرب في عهد خليفته». وتابع: «لا يوجد حرب أو عملية يمكن أن تحل المشكلة... لكن المهم هو خلق فجوة أطول بين الحروب».

هاليفي لا يؤمن بأن «هناك حرباً بسيطة»، لكنه دائماً ما يشدد على أنه «مستعد لدفع الثمن لإطالة تلك الفجوة المرجوة بين الحروب». والواقع أنه لم يخطط للعمل العسكري، لكنه قرر البقاء بعد انتهاء خدمته الإلزامية «طالما كان ذلك مهماً لدولة إسرائيل، وطالما يرى أنه يفعل ذلك بطريقة جيدة». على حد قوله.

من مستوطن إلى رئيس للأركان

يُعد هرتسي هاليفي أول مستوطن يتولّى منصب رئيس الأركان، ما جعل البعض يرى أن تعيينه سيسهم في تعميق العلاقة التاريخية بين الجيش والمستوطنين؛ كونه سيصبح المسؤول عن تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي المستمر للضفة الغربية.

والواقع أن صعود هاليفي تزامن وتحول مع حركة المستوطنين خلال عقود من مجموعة صغيرة من الآيديولوجيين الدينيين إلى قوة متنوعة ومؤثرة في قلب الساحة الإسرائيلية، بلغ أعضاؤها أعلى المراتب في الحكومة والمؤسسات الرئيسية. لكن البعض يرى أن التأثير السياسي الكبير للمستوطنين يهدد أي أمل في قيام دولة فلسطينية مستقلة، ويعرض مستقبل إسرائيل للخطر، في حين يكشف تعيين هاليفي ارتباطاً وثيقاً بين المستوطنين والجيش.

للعلم، يعيش هاليفي في مستوطنة «كفار هاورانيم»، وهي مستوطنة متاخمة للخط الأخضر غير المرئي بين إسرائيل والضفة الغربية. وربما ينجذب البعض إلى «كفار هاورانيم» بسبب أسعار المساكن الرخيصة في موقع مركزي بين القدس وتل أبيب، لا إيماناً بآيديولوجية متطرفة. ولكن في أي حال، يؤشر اختياره العيش في مستوطنة إلى بعض الميول السياسية.

أكثر من هذا، أسعد تعيينه حركة المستوطنين، وأعرب يسرائيل غانز، رئيس المجلس الاستيطاني الإقليمي، عن اعتزازه بأن رئيس الأركان الجديد من المستوطنين، وعن «أن أي رئيس أركان يجب أن يعمل مع الإيمان بعدالة الاستيطان وتعميق جذور المستوطنين».

أيضاً، منذ عام 1967، ارتفع عدد المستوطنين إلى نحو 500 ألف شخص، يعيشون في أكثر من 130 مستوطنة في الضفة الغربية، بينما يعيش ما يقرب من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية. ومع أن المجتمع الدولي يعتبر المستوطنات «غير شرعية وتشكل عقبة أمام السلام»، رغم أنه لم ترد تصريحات أو مواقف رسمية لهاليفي تشير إلى موقفه من الاستيطان، فإن كثيرين يرون أن اختياره رئيساً للأركان سيعزّز من دعم الجيش للمستوطنين.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.