الصراع على كاراباخ يؤجج التنافس بين القوى الإقليمية والخارجية

موسكو تعمل للحفاظ على مواقعها جنوب القوقاز ضد التمدد الغربي

محنة اللاجئين (آ ف ب)
محنة اللاجئين (آ ف ب)
TT

الصراع على كاراباخ يؤجج التنافس بين القوى الإقليمية والخارجية

محنة اللاجئين (آ ف ب)
محنة اللاجئين (آ ف ب)

أسفرت العملية العسكرية الخاطفة لأذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ عن تكريس واقع جيوسياسي جديد في منطقة القوقاز. ولا شك أن التطورات المتلاحقة التي أعقبتها، فتحت على مرحلة جديدة في العلاقات الإقليمية، بما في ذلك على خلفية تعزيز قبضة باكو على الإقليم بعد حل مؤسسات «جمهورية آرتساخ» الأرمنية التي لم تحظَ باعتراف دولي، وكذلك بعد نزوح الغالبية الكبرى من أرمن الإقليم خوفاً من تصفيات وعمليات «تطهير عرقي». العملية العسكرية الأذرية باتت الأخيرة وفقاً لتقديرات كل الأطراف، فقد «أنجزت المهمة». ومهما كانت نتائج جولات المفاوضات المحتملة بين باكو ومَن تبقَّى من أرمن كاراباخ، فقد أسفر تثبيت السيطرة الأذرية على كاراباخ عن تداعيات واسعة النطاق سيكون لها، وفقاً لخبراء، تأثيرات كبرى في اللاعبين الأساسيين في جنوب القوقاز وفي مناطق محيطة بها.

لا شك في أن «الانتصار الأذري» عزّز مواقع باكو بقوة، كقوة إقليمية صاعدة ومهمة، ستكون لها مكانة أساسية في كل الترتيبات الإقليمية اللاحقة، بما في ذلك، في إطار تحوّل أذربيجان إلى عقدة ربط أساسية لطرق التجارة والعبور ونقل المواد الخام. وضمن هذا الإطار ستتركز النقاشات الأساسية في المستقبل القريب على آليات فتح الممرات، وإعادة ترتيب طرق بديلة للتجارة، غير أن التداعيات لا تقف عند المنافسة المحتدمة عالمياً على وضع بدائل لطريق «الحزام» الصينية و«ممر شمال - جنوب» الذي تدعمه موسكو بقوة؛ لأنه يخفف من ضغط العقوبات والحصار الغربي عليها.

واقع الأمر أن المعادلة الجيوسياسية الجديدة تحمل توسيعاً للنفوذ التركي في المنطقة، وحضوراً أقوى لإسرائيل مع الحليف الأذري، فضلاً عن تعزيز حضور وتحركات واشنطن في مقابل جدال كبير بين وجهتَي نظر حول التداعيات المحتملة على نفوذ كل من روسيا وإيران في منطقة جنوب القوقاز.

مقدمات الحسم

حرب كاراباخ «الثالثة»، وفقاً لتعبير مراقبين روس، ستكون حقاً الأخيرة في الصراع الأرمني - الأذري الذي استمر أكثر من 30 سنة. لكن خلافاً لتقديرات جهات عدة، بينها أطراف غربية، كانت العملية العسكرية الأذرية الموجهة لحسم الملف نهائياً متوقَّعة منذ وقت ليس بقصير. ولقد جرى تمهيد الوضع تدريجياً لعمل حاسم يفرض قواعد اللعبة الجديدة في المنطقة.

كان قد وُضع أساس للتسوية النهائية خلال اجتماعات الرئيس الأذري إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، في براغ وبروكسل، فضلاً عن المفاوضات الثلاثية بمشاركة روسيا، بما في ذلك تلك التي عُقدت في موسكو في مايو (أيار) 2023، ولقد اعترف في ختام الاجتماعات رئيس الوزراء الأرميني بوحدة أراضي أذربيجان بمساحة 86.6 ألف متر كيلومتر مربع، وهو ما يعني أيضاً إقليم ناغورنو كاراباخ، أي تم حل القضية الاستراتيجية التي ظلت عقبة أمام التقدم في تسوية النزاع. وعملياً، عقد باشينيان «صفقة» مع الأذريين، مغامراً بوقوع اضطرابات داخلية واحتجاجات، وربما ثورة مضادة.

بالنسبة لباشينيان، كان الدافع الرئيسي للاتفاقية المستقبلية حماية السلامة الإقليمية لأرمينيا نفسها. ذلك أن موجة الاشتباكات الكبيرة التي وقعت عام 2022 على حدود الدولتين، كشفت عن ميل ميزان القوى بشكل جليّ نحو أذربيجان وإلى تغير المزاج الروسي بشكل واضح أيضاً حيال قواعد الصراع في المنطقة.

خلال تلك الاشتباكات نجحت أذربيجان في السيطرة على جزء من الأراضي الأرمينية. ولم تحظَ شكاوى يريفان ومطالباتها المتواصلة الجانب الروسي و«منظمة الأمن الجماعي» بالتدخل، باهتمام روسي، أو من جانب المنظمة الإقليمية التي ينص ميثاقها الداخلي على مساعدة أي طرف فيها إذا تعرض لاعتداء خارجي.

أكثر من ذلك، مهَّدت هذه الأجواء، للانتقال إلى مرحلة جديدة عبر فرض أمر واقع على الأرض، يشطب أي مجالات لحوارات مستقبلية حول مصير كاراباخ. وبالنسبة إلى أذربيجان لم تعد هذه النقطة المفصلية مطروحة على جدول أعمال أي مفاوضات. والبديل الوحيد المقترح هو التسليم الكامل بسيطرة باكو وبحث الملفات التكميلية لبلورة ملامح المرحلة المقبلة فقط.

من جهة ثانية، في دفع متواصل نحو اللحظة الحاسمة برزت مع نهاية عام 2022، متغيرات جديدة تمثلت في ظهور أزمة ممر «لاتشين». وكان اتفاق وقف النار الموقَّع عام 2020 قد نص على ضرورة فتح المعابر والممرات التجارية، بما فيها معبر «لاتشين» الواصل بين أرمينيا وكاراباخ. لكن في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2022 سارت باكو خطوة أخرى نحو فرض أمر واقع جديد. إذ أغلق نشطاء البيئة الأذريون طريق «لاتشين - شوشا»، مطالبين بوضع حد للاستغلال غير القانوني لمنجمي «جيزيلبولاغ» و«داميرلي». وفعلياً، فرضت باكو سيطرتها على ممر «لاتشين» على الجانب الشرقي. وبعد ستة أشهر، في أبريل (نيسان) 2023، أنشأت أذربيجان نقطة تفتيش على الجانب الآخر من الطريق بالقرب من الحدود الأرمنية. يمكن القول إنه منذ تلك اللحظة، كان مصير كاراباخ التي باتت محرومة من كل الإمدادات، محدداً مسبقاً.

الأمل الأخير ليريفان وستيباناكيرت (عاصمة كاراباخ) بقي في موسكو ونحو 2000 من قوات حفظ السلام الروسية المتمركزة في كاراباخ. وبحلول ذلك الوقت، كان موقف روسيا بشأن هذا الموضوع مبنياً على تصريحات للرئيس فلاديمير بوتين مفادها أن «الوضع النهائي لكاراباخ لم يُحل» لكن في الوقت ذاته، وجّهت موسكو عدة إشارات إلى أن جوهر الصراع سُوّي باعتراف أرمينيا بسيادة أذربيجان على كاراباخ. وكل التفاصيل اللاحقة ستكون من وجهة النظر الروسية الرسمية شأناً «داخلياً» لأذربيجان.

لاحقاً، اتضح أن حسابات يريفان حول احتمال التدخل الروسي لإبطاء عملية تعزيز القبضة الأذرية على كاراباخ كانت خاطئة. فقد وضع بوتين رؤيته بوضوح خلال خطاب ألقاه في المنتدى الاقتصادي الشرقي في سبتمبر (أيلول) مذكّراً بأن رئيس الوزراء الأرميني اعترف بكاراباخ جزءاً من أذربيجان. وبذا بدا واضحاً أن الموقف الروسي ينطلق من فكرة «تأجيل بحث ملامح التسوية النهائية للصراع، والإبقاء على الوضع الراهن كما هو». هذا الأمر يُرضي موسكو وطهران لكنه لأسباب مختلفة لا يُرضي أذربيجان، ولا أرمينيا، وكان البديل ليريفان هو محاولة تنشيط الدور الغربي في الوساطة مع باكو.

نيكول باشينيان (رويترز)

معاقبة باشينيان

لم تعد المشكلة بالنسبة للكرملين تكمن في القضايا القانونية فقط (اعتراف أرمينيا بسلامة أراضي أذربيجان)، وشكل التسوية المحتملة اللاحقة؛ فخلال الأسابيع الأخيرة، اتخذت يريفان خطوات جريئة للغاية نحو التقارب مع الغرب. وفي بداية سبتمبر (أيلول) بدأت يريفان مسار التصديق على «نظام روما الأساسي» الذي أسس «محكمة الجنايات الدولية»، وهذه خطوة رأت فيها موسكو «تطوراً عدائياً للغاية» على خلفية إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي. وفي الفترة نفسها، أجرى باشينيان مقابلة مع وسائل إعلام إيطالية، تحدث فيها باستياء واضح عن «دور روسيا عن منطقة القوقاز». ثم شاركت آنا هاكوبيان، زوجة باشينيان، في اجتماع لضيوف أجانب في كييف وتبرّعت خلاله بمساعدات إنسانية لأوكرانيا. وكان وتر التوتر الأخير هو التدريبات العسكرية الأميركية - الأرمنية في أرمينيا، التي أُجريت بين 11 و20 سبتمبر. ونتيجة لذلك، أرسلت وزارة الخارجية الروسية، لأول مرة في تاريخ العلاقات الثنائية، مذكرة احتجاج للسفير الأرمني. وبدا أن «صبر موسكو قد نفد» تجاه تصرفات باشينيان.

جاءت تلك التطورات على خلفية انعدام الود أصلاً بين الكرملين والقيادة الأرمينية. ويقول خبراء روسيا إن بوتين لم يكن من الممكن أن يتسامح مع فكرة أن باشينيان وصل أصلاً إلى السلطة عبر «ثورة ملوّنة» ترفع شعارات التقارب مع الغرب.

وقد حملت تصريحات باشينيان لاحقاً، عن أن الهياكل والمنظمات الأمنية التي تنتمي إليها بلاده حالياً «غير فعّالة»، وقناعته بضرورة الانتقال إلى آليات تحالف جديدة، إشارة مباشرةً وواضحةً إلى تبدل مواقف يريفان حيال روسيا بعد تعرض العلاقات لنكسة قوية بسبب «خذلان» موسكو حليفها في حربي كاراباخ 2020 و2023.

ويُنتظر أن ينعكس ذلك بشكل مباشر على عضوية أرمينيا في «منظمة الأمن الجماعي» التي بدت عاجزة عن حماية أحد أعضائها، خلافاً لبند رئيسي في ميثاقها الداخلي. وبالتالي فقدت أهميتها ليس فقط بالنسبة إلى أرمينيا، بل أيضاً بالنسبة إلى عدد من بلدان آسيا الوسطى التي يواجه بعضها أوضاعاً هشة وتحديات عدة. وللعلم، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، كانت أرمينيا شريكاً أمنياً مهماً لروسيا، وتستضيف واحدة من القواعد العسكرية الروسية القليلة على أراضٍ أجنبية، ولكن في السنوات الأخيرة قاد باشينيان تحولاً كبيراً في سياسة بلاده الخارجية نحو الاقتراب أكثر من الغرب. ويرى خبراء أن وقوف موسكو على الحياد في الحرب الأخيرة شكّل نوعاً من العقاب لرئيس الوزراء الأرميني. أيضاً، يقول خبراء إن موسكو أرادت من خلال موقفها مع معاقبة باشينيان، فتح أبوابها أمام أذربيجان لتخفيف حدة اندفاعها أكثر من اللازم نحو تركيا، لكن هذه الفرضية ضحلة للغاية؛ لأن نتائج حرب كاراباخ كرّست تحالفاً وثيقاً وقوياً للغاية بين أنقرة وباكو.

التحركات الغربية

العنصر الثاني المهم في تهيئة الأجواء لعملية الحسم الأذري تَمثّل في تنشيط التحركات الغربية في منطقة جنوب القوقاز. فمع صعود باشينيان إلى السلطة خصوصاً بعد حرب كاراباخ الثانية، كثّفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اتصالاتهما مع يريفان.

وفي عام 2022، زار وفد من رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، العاصمة الأرمينية، وأدانت باكو بسبب أكبر تصعيد على الحدود الأرمنية - الأذرية، الذي اتُّهمت هي نفسها بالتحيز فيه. أيضاً زار سياسيون فرنسيون أرمينيا، وأعرب الرئيس إيمانويل ماكرون مراراً عن الحاجة إلى حماية أرمن كاراباخ، واتهم روسيا بزعزعة استقرار الوضع في المنطقة. كذلك حاول الاتحاد الأوروبي أيضاً أن يلعب دوراً نشطاً في حل الصراع. وأرسلت بعثة إنسانية أوروبية إلى حدود الجمهوريتين من أرمينيا. لكن في الوقت نفسه، وفي ضوء انتقال الاتحاد الأوروبي إلى موردين بديلين عن روسيا للنفط والغاز، بدا أن الضغط على باكو لا يمكن أن يكون إلا «محدوداً». إضافةً إلى ذلك، دعم أذربيجان الرئيسُ التركي رجب طيب إردوغان، الذي زادت أهميته بالنسبة لحلف شمال الأطلسي بسبب الأحداث الأوكرانية (الوساطة وصفقة الحبوب). فالغرب لم يكن يريد ولا يستطيع أن يقف ضد أنقرة وباكو في الوقت نفسه فتندفعان إلى أحضان روسيا.

أما المتغير الثالث بعد روسيا والغرب، والذي كان يمكن أن يمنع أذربيجان من التصعيد فهو إيران. وقد أوضحت طهران أنها لن تتسامح مع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة. وأشار أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، خلال لقاء مع نظيره الأرميني أرمين غريغوريان، في طهران خلال أبريل (نيسان) إلى أن «أي تغيير جغرافي في منطقة جنوب القوقاز يخلق توتراً يستغله أعداء أمن واستقرار المنطقة». وبعد حرب 2020 بدأت إيران إجراء كبرى مناوراتها العسكرية في مناطقها الشمالية. وبحلول يناير (كانون الثاني) 2023، عندما تم إطلاق النار على السفارة الأذرية في إيران، وبدا أن أزمة كاملة قد اشتعلت في العلاقات بين باكو وإيران.

في ظل هذا الوضع الجيوسياسي، تبين أن مهمة فرض السيطرة النهائية على كاراباخ لصالح باكو ممكنة تماماً. وكان اختيار ساعة الصفر في 19 سبتمبر عندما تقدمت القوات المسلحة الأذرية، وأطلقت عملية مركزة للسيطرة على المنشآت الأساسية في كاراباخ. وبعد يوم واحد، لم يكن أمام قيادة جمهورية كاراباخ سوى الرضوخ لشروط باكو، والبدء بتسليم السلاح وصولاً في وقت لاحق إلى إعلان «حل الجمهورية» وإنهاء حلم أرمن كاراباخ في الاستقلال.

الحضور الغربي

على الصعيدين الإقليمي والعالمي، يمكن القول إن عملية أذربيجان لم تخلق واقعاً جيوسياسياً جديداً بل وضعت اللبنة الأخيرة في واقع تبلور تدريجياً خلال السنوات الأخيرة، وجاءت حرب روسيا في أوكرانيا لتسرّع هذا المسار. وحقاً، يستحيل تجاهل أن التأثير الأوروبي والأميركي في الأحداث الجارية ما زالا محدودين للغاية رغم تزايد نشاطهما أخيراً.

والواقع الذي نشأ بعد حرب كاراباخ الثانية يشير إلى أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية (باستثناء دول معينة مثل المجر) أكثر تعاطفاً مع أرمينيا، خصوصاً مع الأخذ في الاعتبار عامل باشينيان بوصفه «نظاماً ديمقراطياً». وفي الوقت عينه، فإن الغرب عاجز عن تقديم دعم قوي ليريفان، بسبب عدد من العوامل أبرزها أهمية تركيا، والدور المتنامي لموارد الطاقة في بحر قزوين، والنزعة السلمية الأوروبية، وتشتت القوات الأميركية بسبب المواجهة مع روسيا والصين وإيران.

لقد أثبت الغرب أنه عاجز عن التأثير على مسار الصراع، لما كانت العقوبات هي الأداة الأخيرة بين يديه، ورغم تهديد البرلمان الأوروبي باكو قبلاً باتخاذ إجراءات عقابية، فإن عامل الطاقة منع الاتحاد الأوروبي من اتخاذ خطوات صريحة مناهضة لأذربيجان.

إيران وتركيا

بالتأكيد أن انتصار باكو عكس انتصاراً إقليمياً مهماً لتركيا التي عززت نفوذها بشكل غير مسبوق في منطقة جنوب القوقاز. في المقابل، تعرضت إيران لنكسة قوية.

كان نشاط إيران قد ازداد خلال العام الأخير على خلفية تعرضها لخسارة فادحة بسبب نجاح باكو خلال حرب 2020 في فرض سيطرة على الجزء الأعظم من الشريط الحدودي الذي كان يُستخدم بنشاط في الحركة التجارية بين أرمينيا وإيران. أيضاً قاد استبعاد إيران عن جهود روسيا لتسوية الصراع إلى ازدياد الاستياء في طهران بسبب تجاهل مصالحها. ونظر كثيرون في موسكو إلى بعض الاستفزازات الحدودية خلال السنوات الثلاث الماضية، بأنها مدعومة من جانب إيران بسبب رفض فرض تسوية نهائية لا تكون مصالح طهران مضمونة فيها.

العنصر الثاني المهم لإيران يتعلق بملفات التوتر بالوضع الداخلي في إيران على خلفية المزاج الاحتجاجي العام في البلاد. ولا يخفى أن ثمة أقلية قومية أذرية وازنة في إيران، يصل حجمها وفقاً لتقديرات مختلفة بين 25 و35 مليون أذربيجاني، وهي أكبر أقلية قومية في البلاد. ولطالما شكّلت أوضاع هذه الأقلية محور نقاشات وسجالات دائمة، وكانت تبرز إلى السطح عند كل منعطف أو توتر بين البلدين، لجهة اتهامات بانتهاك حقوق أبناء هذه الأقلية ووضعهم الاجتماعي والسياسي... فضلاً على مخاوف طهران من أن يُستخدم كثيرون منهم لتأجيج مزاج احتجاجي في البلاد. وهذا أمر له ما يبرره على خلفية تصريحات المسؤولين الأذربيجانيين الدائمة حول هذا الموضوع. ويكفي أنه في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، قال الرئيس الأذري إلهام علييف إن «الأذريين الإيرانيين هم جزء من أمتنا». وخروج أذربيجان منتصرة بشكل حاسم من معركة كاراباخ سوف يُعزز هذه المخاوف لدى إيران.

مهّدت الأجواء للانتقال إلى مرحلة جديدة عبر فرض أمر واقع يشطب أي حوارات مستقبلية حول مصير كاراباخ

من ميدان القتال في كارباخ (آ ف ب)

قراءات الربح والخسارة في الحصيلة الروسية؟

> للعلم، برز جدال صاخب بين وجهتَي نظر حول تداعيات الحسم الأذري في كاراباخ على الوجود الروسي في منطقة جنوب القوقاز. فمن ناحية، بيّنت خسائر روسيا المباشرة، وفقاً لترجيحات، انتهاء أو على الأقل تقلص أهمية الدور الروسي في منطقة جنوب القوقاز. ويشير خبراء إلى أن أذربيجان ستذهب لاحقاً نحو طلب مغادرة قوات الفصل الروسية المنطقة بسبب انتفاء الحاجة إليها.

وبما أن كل الأطراف تعترف بأن أذربيجان تتصرف «على أراضيها»، فهذا يعني رفض بقاء القوات الروسية لحفظ السلام هناك. لكنّ المفارقة أن مسارعة يريفان إلى تسهيل استقبال أرمن كاراباخ، يخلق وضعاً مناسباً لباكو لإنهاء أي حضور خارجي بذريعة المحافظة على السلام أو ضمان حقوق الأقلية الأرمنية. وهذا بالتأكيد لا يصبّ في مصلحة موسكو التي لن تفقد فقط حضوراً مؤثراً في منطقة حيوية بالنسبة إليها، بل ستتعرض أيضاً لخسارة جديدة لمواقعها ونفوذها في الفضاء السوفياتي السابق كله، بعد تحوّل أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا إلى خصوم، ومراوحة بلدان آسيا الوسطى على خط «الحياد السلبي» في بعض جوانبه إبان مواجهة روسيا الحالية مع الغرب.

وعليه، طبيعيٌّ أن يتزامن تراجع مواقع موسكو في الإقليم مع تنشيط التحركات الأميركية فيه، والواضح أن نشاط واشنطن الكبير يهدف إلى تسريع تحويل جنوب القوقاز إلى «منطقة واحدة تتجه نحو الغرب». وبين الأهداف الجانبية لواشنطن أيضاً احتواء إيران على حدودها الشمالية، وخلق الظروف الأكثر إزعاجاً لمشاريع النقل واللوجيستيات المشتركة التي تروّج لها موسكو وطهران في المنطقة.

رهانات مقابلة

في المقابل، ترى الأوساط المقربة من الكرملين، أن روسيا ستظل القوة الحاسمة في كاراباخ وجنوب القوقاز ككل. ونظرياً، يمكن أن تؤدي الاتهامات بالتخلي عن أرمينيا وأرمن كاراباخ إلى إضعاف موقف موسكو في منظمة «معاهدة الأمن الجماعي» على المدى الطويل. ويمكن أن تثير يريفان أيضاً مسألة سحب القاعدة العسكرية الروسية رقم 102 من غيومري. لكن في الوقت نفسه، تروّج روسيا لفكرة أنها لم تقف على الحياد، وأن «أرمينيا نفسها وباشينيان شخصياً رفضا التدخل في الأحداث الأخيرة في كاراباخ».

الرهان الروسي يبدو قائماً على أن الاتهامات ضد روسيا لن تغيِّر أي شيء بشكل جذري. وبعد خسارة كاراباخ النهائية، ستبقى أرمينيا بحاجة إلى قاعدة عسكرية روسية كي تشعر بالأمان بجوار البلدين «التركيين» اللذين ترى فيهما تهديداً. ويقول خبراء مقربون من الكرملين إن قوات حفظ السلام الروسية لن تغادر كاراباخ نفسها، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وستحافظ أرمينيا على اعتماد مالي واقتصادي كبير على روسيا. إذ ترتبط جميع قطاعات الطاقة والسكك الحديدية وغيرها من مكونات الاقتصاد الأرمني بأنشطة الشركات الروسية، والتي لن يكون من السهل استبدال الشركات الغربية بها بين عشية وضحاها.

ونظراً لاحتفاظ روسيا بالقاعدة العسكرية في غيومري وقوات حفظ السلام في كاراباخ، فضلاً عن وجود معاقل لها في أبخازيا وأوسيتيا، فإن روسيا في المحصلة سوف تظل من وجهة نظرهم القوة المهيمنة في المنطقة.



اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».