هل تهزم «براغماتية» ميتسوتاكيس «تعقيدات» التاريخ والجغرافيا؟

حكومته الثانية قد تحمل تحولات جوهرية في «شرق المتوسط»

ميتسوتاكيس مصافحا أردوغان في قمة ناتو الاربعاء الماضي (أ.ب)
ميتسوتاكيس مصافحا أردوغان في قمة ناتو الاربعاء الماضي (أ.ب)
TT

هل تهزم «براغماتية» ميتسوتاكيس «تعقيدات» التاريخ والجغرافيا؟

ميتسوتاكيس مصافحا أردوغان في قمة ناتو الاربعاء الماضي (أ.ب)
ميتسوتاكيس مصافحا أردوغان في قمة ناتو الاربعاء الماضي (أ.ب)

يبدو رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس شخصية هادئة، لم تُعرف عنه الحدة قولاً أو فعلاً، ولم يُضبَط يوماً وهو يمارس سياسة القرارات الصادمة، بل أبدى خلال سنوات حكمه نمطاً «براغماتياً» يوازن بين إدارة تحولات بلاده، التي لا تزال مثقلة بأعباء أزمتها السابقة التي وصلت بها إلى حافة الإفلاس، وبين إدارة سياسة خارجية لا يتمتع من يديرها بأريحية كاملة. هذا السياسي المحافظ المعتدل مثقل، في الواقع، بأعباء وهموم تاريخية لطالما أدخلت اليونان في مواجهات مع جيران بالإقليم، وتعقيدات جغرافية كادت تؤجج جذوة حروب قديمة. لقد تعلم ميتسوتاكيس (55 سنة) من الأميركيين الذين تخرج في أرقى جامعاتهم (هارفارد) القدرة على إدارة المتناقضات. وتعوّد عبر عمله الطويل السابق في شركة «ماكينزي» الأميركية للاستشارات دقة الحسابات، والتحسب المسبق للخطر. وفي حين أكسبه ميراثه السياسي العائلي العريق (بما في ذلك كونه نجل كونستانتينوس ميتسوتاكيس، رئيس وزراء اليونان من 1990 حتى 1993) فهماً عميقاً للماضي وسطوته، فإنه لا يزال يحتفظ بذلك الشغف اليوناني القديم بالمستقبل وجرأته. واليوم، يعزّز ميتسوتاكيس موقعه السياسي، بشعبية كبيرة و«تفويض واضح» -كما وصفه هو نفسه- عقب فوز حزبه اليميني «الديمقراطية الجديدة» بغالبية مطلقة في الانتخابات اليونانية الأخيرة ما مكّنه من تأمين 158 مقعداً في البرلمان المكون من 300 مقعد، مقابل 47 مقعداً فقط لمنافسه اليساري حزب «سيريزا». ومن ثم، تبدو اليونان مقبلة على تحولات جوهرية تفرضها طبيعة المتغيرات العميقة في الإقليم، لا سيما في أعقاب الحرب الروسية - الأوكرانية، والتسابق الإقليمي والدولي على منطقة شرق المتوسط، التي باتت «بحيرة» الطاقة الواعدة في ظل اكتشافات الغاز الكبيرة خلال السنوات الأخيرة. وهذه الطاقة، وإن بدت أداة لصناعة مستقبل اقتصادي كبير لدول المنطقة، فهي في الوقت ذاته يمكن أن تكون عود الثقاب الذي يطلق الشرارة الأولى في منطقة معبأة برائحة الغاز وأعباء الماضي.

الولاية الحكومية الأولى لرئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس، التي بدأت عام 2019، اختتمت عقداً من الأزمات عانت اليونان خلاله تداعيات ثقيلة لما عُرفت بأزمة «الديون السيادية»، التي عصفت بالبلاد في أبريل (نيسان) 2010 حين عجزت عن سداد ديونها الخارجية. وآنذاك طلبت أثينا من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي إنقاذها من خطر الإفلاس والتخلف عن السداد عبر تفعيل خطة إنقاذ تتضمن تقديم قروض ضخمة مقابل تنفيذ أثينا إجراءات تقشف.

تلك كانت فترة مثقلة بأعباء استمرار خطة التقشف، لكنها أيضاً كانت فرصة لإعادة إطلاق مسار علاقات خارجية أكثر انفتاحاً لوريثة الحضارة الإغريقية، لا سيما في منطقة شرق المتوسط، واستعادة اليونان دورها كلاعب محوري في معادلة التأثير في منطقة تتعاظم أهميتها الجيو - استراتيجية والاقتصادية بشكل متسارع.

سياسات متوازنة

استطاع ميتسوتاكيس الاستثمار في الشراكات الثنائية لبناء سياسة خارجية إقليمية نشطة تقوم على الدبلوماسية، بعكس حكومة «جاره» الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي اتخذ نهجاً صدامياً مع جيرانه في المنطقة وحلفائه الغربيين، وهكذا حافظت اليونان على علاقات دفاعية وثيقة مع واشنطن وباريس. وبينما كان إردوغان يقود تركيا باتجاه تقارب كبير مع موسكو، كان ميتسوتاكيس يقود اليونان في الاتجاه المقابل نحو مزيد من الاندماج الغربي، مولّياً ظهره لميراث التقارب اليوناني - السوفياتي إبان حكومات أثينا اليسارية.

وبالفعل، نجحت اليونان خلال السنوات الأخيرة في بناء شبكة من التحالفات والعلاقات الوثيقة مع دول منطقة الشرق الأوسط، من دون أن تتورط في مشكلات المنطقة. وبناءً عليه، نجحت في تعزيز الروابط مع ليبيا على الرغم من الانقسام السياسي فيها، وتقديم المساعدة للبنان بعد انفجار مرفأ بيروت. لكن ربما جاء نجاحها الأكبر عبر صياغتها استراتيجية موازنة إقليمية من خلال التعاون مع دول الجوار الرئيسية مثل مصر وإسرائيل.

لقد مثّل التقارب اليوناني مع مصر في إطار «تحالف ثلاثي»، يضم قبرص إلى جانبهما، واحدة من قصص نجاح إدارة السياسة الإقليمية لحكومة ميتسوتاكيس الأولى، ومساراً يراهن عليه رئيس الوزراء اليوناني في حكومته الجديدة. ثم إن هذا التعاون الثلاثي يتجاوز إطار منتدى غاز شرق المتوسط الذي أُسس في مطلع 2019، وتستضيف القاهرة مقره الأساسي، وتشارك فيه اليونان ومصر وقبرص إضافةً إلى إيطاليا، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل. وقد اكتسب المنتدى زخماً كبيراً مع حرص البنك الدولي على حضور جميع فعالياته، وكذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة بصفة مراقبين.

الدكتور عبد اللطيف درويش، أستاذ الاقتصاد وإدارة الأزمات بجامعة «كارديف متروبوليتان» البريطانية -المقيم في العاصمة اليونانية– أوضح في حوار مع «الشرق الأوسط» أن سياسة اليونان تجاه الشرق الأوسط، «سعت حقاً إلى تحقيق التوازن، اتساقاً مع الموقف الرسمي اليوناني والأوروبي الملتزم بحل الدولتين في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية» إلا أنه من الملاحَظ أن «التقارب مع الكيان الصهيوني والعلاقات قد فاقا كل الأزمنة من حيث التعاون العسكري والأمني والدفاعي وشراء الأسلحة والطائرات المسيّرة وغيرها من التجهيزات العسكرية الإسرائيلية وذلك بغرض مواجهة تركيا».

التوتر مع تركيا

محدد المواجهة مع تركيا يبدو أحد العناصر الرئيسية في صياغة تحركات اليونان الخارجية، سواء خلال عهد الحكومة الأولى لميتسوتاكيس، أو حتى في سنوات حكومته الثانية. وللتاريخ هنا تأثير لافت، وذاكرة الصراع بين أثينا وأنقرة تمثل عبئاً ثقيلاً على البلدين، لا سيما أن نوازع التوتر حاضرة بقوة، ومتوافرة طوال الوقت. وقد فرضت الطبيعة الجغرافية لانتشار الجزر اليونانية، التي لا يبعد بعضها عن الساحل التركي سوى كيلومترين فقط، حالة تماس دائم واشتباك محتمل.

وهنا يرى الدكتور درويش، أن الكثير من الدول الأوروبية والولايات المتحدة «تسعى إلى الضغط على الطرفين (تركيا واليونان) لخلق تقارب بهدف مواجهة موضوع اللاجئين واستغلال الثروات البحرية بين الطرفين وتيسير اللقاءات بين رئيس الوزراء اليوناني والرئيس التركي على هامش اجتماعات الناتو كبداية لإيجاد أرضية مشتركة... ومن هنا يمكن القول إن سياسة الحكومة اليونانية تتجه غرباً وتلتزم بالمواقف الأوروبية والأميركية».

ومن ثم، يذهب درويش إلى القول إن اليونان «رأت أن الخلاف المصري - التركي لمصلحتها ولا ترى في التقارب إيجابية، بل ترى أنها تخسر قوة يمكن أن تعينها وتفيدها في الصراع مع تركيا... ولكن يمكن القول إنه قد يساعد على إمكانية الاستفادة من الثروات البحرية من خلال خفض التوتر أو من خلال انضمام تركيا إلى منتدى غاز شرق المتوسط للغاز».

من جهة أخرى، مع أن جذور التوتر في العلاقات التركية - اليونانية تمتد إلى أمد بعيد، سواء في عهد الدولة العثمانية أو بعد تأسيس الجمهورية التركية، فإن تطورات الواقع في المنطقة تُبقي نوازع التوتر قابلة دوماً للاشتعال. ولقد اقتربت مياه منطقة شرق المتوسط من درجة الغليان في أغسطس (آب) 2020، عندما أصبحت المنطقة على أعتاب مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا واليونان، على خلفية مواصلة أنقرة التنقيب عن الغاز في المناطق المتنازَع عليها بالقرب من الجزر اليونانية. وما زاد من تعقيد الأوضاع التصادم البحري بين فرقاطة يونانية وأخرى تركية، أعقبه نشر فرنسا سفناً حربية لإجراء تدريبات مشتركة مع البحرية اليونانية، علاوة على نشرها مقاتلات فرنسية من طراز «رافال» في جزيرة كريت اليونانية. غير أن مساعي دبلوماسية متعددة، كان أبرزها تلك التي بذلتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (آنذاك)، أسهمت في نزع فتيل الأزمة ولو مؤقتاً.

وهنا يُبدي الدكتور أحمد قنديل، رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تصوراً يقوم على أنه «رغم كل اعتبارات التوتر التي يمكن أن يقدمها السياق التاريخي للمنطقة، فإن ثمة متغيرات كثيرة تفرض نفسها على جميع الأطراف، ومن بينها الأزمات الاقتصادية التي باتت شبحاً يخيِّم على جميع دول العالم، في مرحلة ما بعد جائحة (كوفيد – 19) والحرب الروسية - الأوكرانية».

ويعتقد قنديل أن هناك أيضاً «تحولات لافتة باتجاه تقاربات إقليمية في منطقة شرق المتوسط، فضلاً عن إدراك كثير من صناع القرار أن إدارة العلاقات البينية وفق نموذج المصالح المشتركة هو الأفضل للجميع». ومن هنا يمكن بناء تصوّر يقول إن التقاربين المصري – التركي، واليوناني – التركي، اللذين انعكسا في أعقاب أزمة زلزال فبراير (شباط) الماضي يمكنان أن يكونا «خطوة على طريق يُفضي إلى نوع من التفاهمات نحو ترسيم الحدود البحرية التركية - اليونانية». وهو ما يراه قنديل «حجر زاوية في إرساء تفاهمات خفض التوتر في شرق المتوسط». هذا، ويتوقع الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن تسلك أثينا «مساراً تصالحياً» في هذا الشأن. «لأنه مع إعادة انتخاب ميتسوتاكيس، وكذلك إعادة انتخاب إردوغان، تبدو الحاجة إلى إجراءات لبناء الثقة العسكرية والأمنية بين البلدين، وربما ترسخت قناعة لدى قيادتي البلدين أن استمرار التوتر يحرم الجميع من الاستفادة من عوائد استغلال الثروات البحرية في المنطقة»، وهنا يمكن لـ«دبلوماسية الغاز» أن «توفر إطاراً فعالاً لحلحلة صراعات تاريخية مثل الأزمة القبرصية وترسيم الحدود البحرية، وإحراز تقدم في ملف تجنب عسكرة الجزر اليونانية القريبة من الحدود التركية»، وفي كل الأحوال «ستبقى اليونان لاعباً مهماً في معادلة الأمن والاستقرار في شرق المتوسط، وستحدد تحركات حكومتها في الفترة المقبلة الكثير من ملامح المستقبل»، حسب قنديل.

هوية جيو - سياسية جديدة

في سياق متصل، «المستقبل» كلمة لا تبدو دائماً حاضرة عند النظر إلى المشهدين السياسي والأمني في شرق المتوسط. إذ إن الماضي ربما يكون أكثر تأثيراً على طبيعة العلاقات داخل تلك المنطقة، كونه يفرض حضوراً طاغياً عند قراءة سطور ملف العلاقات اليونانية - التركية، أو القبرصية – التركية، أو العربية – التركية، أو العربية - الإسرائيلية. ولكن يبدو أن اليونانيين، الذي اهتموا منذ قرون بعيدة بقراءة المستقبل، باتوا أكثر ميلاً لاستشراف المستقبل. واليوم، ثمة أدوات ووسائل أخرى لبناء المستقبل، ومن الواضح أن حكومة ميتسوتاكيس تراهن على أن مستقبلها يتجه غرباً، رغم انخراطها تاريخياً في الشرق، حيث تقوم أثينا ببناء هوية جيو - سياسية جديدة كحصن للغرب في شرق المتوسط... ويرى كثيرون أنه يمكن إسناد مسؤوليات جديدة إلى اليونان في إطار تخطيط حلف شمال الأطلسي «ناتو» وأوروبا لمسارات الأمن الإقليمي.

ويذهب تحليل نشرته مجلة «فورين بوليسي» في سبتمبر (أيلول) 2020 إلى أن «أثينا تعيد إحياء نفسها كقوة دبلوماسية»، مستشهداً بتحركات يونانية مكثفة بين إسرائيل وفلسطين، وذهاب رئيس وزرائها في جولة إلى شمال أفريقيا شملت طرابلس والقاهرة، وتوثيق العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع المملكة العربية السعودية، وتنشيط العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا، والحفاظ على تنامي العلاقات بصورة غير مسبوقة مع مصر والأردن والإمارات وقبرص.

وحقاً، تسعى اليونان، التي تتمتع بموقع متميز بين ثلاث قارات، وتمتلك أكبر أسطول تجاري يعمل على مستوى العالم، ولديها في موانئ بيرايوس وتيسالونيكي وألكساندروبوليس «بوابات» للاتحاد الأوروبي ومنطقة البحر الأسود، إلى استغلال قدراتها تلك لتعزيز وجودها كقوة في شرق المتوسط، سواءً كمركز للطاقة بين الأسواق الأوروبية والمنتجين الإقليميين، أو كقوة عسكرية عبر تعزيز قدراتها بالتعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا.

وبالمناسبة، أعلن رئيس الوزراء اليوناني في منتصف سبتمبر (أيلول) 2020، عن «برنامج مهم» لتعزيز القدرات العسكرية للبلاد، يشتمل على شراء أسلحة بينها 18 مقاتلة «رافال» فرنسية، وأربع فرقاطات متعددة المهام، فضلاً عن تجنيد 15 ألف جندي إضافي، كما تخطط أثينا أيضاً لزيادة حجم إنفاقها العسكري خلال السنوات العشر المقبلة، ليصل إلى 10 مليارات يورو.

ثم إن اليونان، على الرغم من الأزمة المالية التي هزّتها خلال العقد الماضي، تأتي في مرتبة متقدمة بين الدول الأعضاء في «الناتو» من حيث نسبة الإنفاق العسكري بالنسبة لحجم الاقتصاد الوطني. فخلال العام الماضي، أنفقت اليونان نحو 2.29 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على السياسات الدفاعية، علماً بأن متوسط حجم الإنفاق الدفاعي في دول الحلف (قبل الحرب في أوكرانيا) تراوح بين 1.2 و2 في المائة.

وأيضاً، تعاقدت اليونان مع الولايات المتحدة لشراء نحو 20 طائرة من مقاتلات «إف - 35» (الشبح)، مع إمكانية إضافة 20 طائرة أخرى في المستقبل، وانتشرت أنباء عن اتفاق بشأن مشاركة اليونان في برنامج تصنيعها، إلى جانب تعاقدها على ترقية 84 طائرة «إف - 16»، علاوة على شراء المسيّرات الأميركية «إم كيو - 9»، ووضع مشروع تصنيع طائرات مسيّرة يونانية الصنع على أجندة المرحلة المقبلة في إطار مواجهة المسيّرات التركية.

هذا، وتراهن اليونان في مسعاها لزيادة حضورها الإقليمي على علاقات تاريخية تجمعها مع واشنطن. إذ يبدو ملف العلاقات الأميركية مع أثينا واحداً من ملفات معدودة لا يختلف عليها الجمهوريون والديمقراطيون، وتتجه العلاقات بثبات نحو بناء «تحالف استراتيجي جديد» بين البلدين، يمكن أن يكون بمثابة بديل لتركيا... بل تشير تقارير أميركية عدة إلى أن هناك دراسة لاستخدام الجزر اليونانية بديلاً لقاعدة «إنغرليك» الجوية في تركيا. وما يُذكر أن أثينا كانت قد استغلت التوتر بين أنقرة وواشنطن لتوطيد علاقتها بالأخيرة. وفي 12 مايو (أيار) 2022 مدّدت اتفاقية دفاعية مبرمة مع واشنطن لمدة 5 سنوات، ما يسمح للجيش الأميركي بالوصول إلى 3 قواعد في البر الرئيسي لليونان إلى جانب وجوده العسكري في جزيرة كريت.

ومع استراتيجية واشنطن لدعم وحماية شرق أوروبا من التمدد الروسي، خصوصاً مع تفاقم الأزمة بين روسيا و«الناتو» بسبب الحرب في أوكرانيا، زادت واشنطن وجودها العسكري في رومانيا وبلغاريا واليونان. وهو ما دعا نيكولاس بيرنز، السفير الأميركي السابق لدى الناتو وأثينا وأستاذ السياسة الدولية بجامعة «هارفارد»، إلى وصف اليونان خلال فعالية على الإنترنت لـ«صندوق مارشال الألماني» في بروكسل عام 2021 بأنها «أهم شريك عسكري للولايات المتحدة في شرق المتوسط».

كذلك رأى وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، الذي يعد أحد مهندسي الاتفاقية العسكرية مع اليونان، في تصريح له -بعد مغادرته منصبه– لصحيفة «كاثميريني» اليونانية في 29 مارس (آذار) 2022، أن «قاعدة كريت العسكرية الأميركية ستُغير موازين قوى المنطقة، وستؤمّن طرق التجارة البحرية العالمية». ومعلوم أن أثينا عززت أيضاً تحالفها مع أبرز شركائها التاريخيين في أوروبا، إذ وقَّعت مطلع العام الماضي مع فرنسا اتفاقية للتعاون العسكري يتضمن صد أي هجوم ضد إحداهما، وهذه الاتفاقية هي الثانية العسكرية بين الدولتين بعد توقيعهما في سبتمبر 2021 على اتفاقية الدفاع الثنائية.

هذه السياسة يراها الدكتور عبد اللطيف درويش «استمراراً لسياسات اليمين اليوناني على الصعيد العسكري»، حيث تسعى الحكومة إلى دعم قواها من خلال الانتشار العسكري الواسع في الجزر وشراء الأسلحة والطائرات من فرنسا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى النجاح الدبلوماسي الذي «حال خلال السنوات الأخيرة دون حصول تركيا على طائرات F16 وF52 الأميركية وأنواع أخرى من التجهيزات العسكرية الغربية، الأمر الذي خلق توتراً مع تركيا». ولكن في المقابل يرى الدكتور أحمد قنديل أن تعزيز العلاقات اليونانية - الأميركية، وإن كان يمثل ركيزة لبناء منظومة الأمن اليونانية، فإنه قد «يمثل في الوقت ذاته أداة لإثارة مخاوف تركيا، واستدعاء استقطابات دولية في المنطقة».

كيرياكوس ميتسوتاكيس (إيبا إيفي)

محطات مهمة في تاريخ «شرق المتوسط»

> تبدو منطقة «شرق المتوسط»، وبخاصة على المسرح «اليوناني - التركي - القبرصي»، حافلة بالمحطات التاريخية ذات الدلالة، التي تسهم إلى اليوم في صياغة ملامح العلاقة بين أطراف المنطقة. ولعل من أبرز تلك المحطات ما يلي:

- يرجع توتر العلاقات بين اليونان وتركيا إلى تأسيس دولة يونانية مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية عقب حرب الاستقلال اليونانية عام 1820، ومنذ ذلك الحين، لعبت العوامل القومية والدينية والجيو - سياسية دورها كمحفزات دائمة للتوتر بين الدولتين.

- تجدد الصراع بين تركيا واليونان، بعد مشاركة اليونان مع الحلفاء ضمن الحرب العالمية الأولى، في احتلال جزء من الأراضي التركية، وما جاء بعدها من «حرب تحرير» قادها مصطفى كمال «أتاتورك» انتهت بإنهاء «الاحتلال اليوناني» لغرب تركيا وتأسيس الدولة التركية عام 1923.

- بعد الحرب العالمية الثانية، ومن خلال «اتفاقية باريس 1947»، تخلّت إيطاليا عن سيادتها على 14 جزيرة في بحر إيجة لليونان، وهو ما أطلق خلافاً جديداً بين أنقرة وأثينا بسبب قرب هذه الجزر من السواحل التركية. وحتى الآن يبقي موضوع ترسيم الحدود البحرية بين تركيا واليونان في بحر إيجة وشرق المتوسط مشكلة دون حل جذري.

- عام 1966 اتخذ البرلمان التركي قراراً يفيد بأن إعلان اليونان مد حدودها البحرية في بحر إيجة إلى 12 ميلاً بحرياً يعني «إعلان حرب» بين البلدين.

- في 20 يناير (كانون الثاني) 2021 أعلن رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس مد الحدود البحرية لليونان في البحر الأيوني (جنوب بحر إيجة) إلى 12 ميلاً بحرياً، مع الاحتفاظ بحق اليونان في توسيع هذا الحق إلى بحر إيجة لاحقاً.

- عام 1974 قُسمت جزيرة قبرص عندما غزت تركيا ثلثها الشمالي، رداً على الانقلاب اليميني الذي وقع في الجزيرة بدعم من حكام اليونان العسكريين الانقلابيين.

- في ديسمبر (كانون الأول) 2019 وقّعت تركيا اتفاقية مع «حكومة الوفاق الوطني» الليبية، لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين تركيا وليبيا في البحر المتوسط، وهو ما رفضته مصر واليونان وقبرص.

- في 9 يونيو (حزيران) 2020 أبرمت إيطاليا واليونان اتفاقية لتعيين المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدولتين، ومثّلت الاتفاقية أهمية كبيرة لأنه يمكن استخدامها لتقويض اتفاق تركيا مع «حكومة الوفاق الوطني» الليبية.

- في 6 أغسطس (آب) 2020، وقّعت مصر واليونان اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بينهما بعد ما يقرب من 13 جولة تفاوضية خلال أكثر من 15 سنة. وتسهم الاتفاقية في إضفاء شرعية قانونية ودولية على كل الأنشطة البحرية المتعلقة باستغلال الثروات الطبيعية في المنطقة المشمولة بالاتفاق، كما أنها تؤمّن حقوق البلدين في أي اكتشافات مستقبلية للغاز في تلك المنطقة، وأعلنت تركيا اعتراضها على الاتفاق. مثّل التقارب اليوناني مع مصر في إطار «تحالف ثلاثي» يضم قبرص إلى جانبهما واحدة من قصص نجاح إدارة السياسة الإقليمية لحكومة ميتسوتاكيس الأولى


مقالات ذات صلة

رفع حالة الاستنفار الأمني في تونس

شمال افريقيا الرئيس التونسي يشرف على تظاهرة امنية  في قصر قرطاج في عيد قوات الأمن (موقع رئاسة الجمهورية )

رفع حالة الاستنفار الأمني في تونس

رفعت السلطات التونسية حالة الاستنفار الأمني في البلاد، في وقت تعاقبت فيه التحركات والضغوط الأوروبية على الدول الأفريقية عموماً والدول المغاربية خاصة.

كمال بن يونس (تونس)
شمال افريقيا وزير الخارجية المصري ونظيره الإيطالي (الخارجية المصرية)

مصر وإيطاليا تبحثان التحديات المشتركة في «المتوسط»

بحث وزير الخارجية المصري سامح شكري، ونظيره الإيطالي أنطونيو تاياني، (الأحد)، «التحديات المشتركة» في منطقة البحر المتوسط، وعلى رأسها ظاهرة «الهجرة غير الشرعية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم واشنطن تطالب أنقرة بإلغاء خططها للتنقيب شرق المتوسط

واشنطن تطالب أنقرة بإلغاء خططها للتنقيب شرق المتوسط

طالبت الولايات المتحدة الحكومة التركية، اليوم الأربعاء، بإلغاء جميع إجراءاتها للتنقيب بالقرب من جزيرة كاستيليريزو اليونانية، بحسب متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية. ونقلت وكالة «سبوتنيك» الروسية للأنباء عن المتحدث قوله: «تدرك الولايات المتحدة أن تركيا أصدرت تنبيهاً للتنقيب في المياه المتنازع عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط...

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم «قمة الضفتين» في مرسيليا تطمح  إلى إطلاق دينامية لتخطي الأزمات

«قمة الضفتين» في مرسيليا تطمح إلى إطلاق دينامية لتخطي الأزمات

«قمة الضفتين» عنوان المنتدى الذي ستستضيفه مدينة مرسيليا الفرنسية المتوسطية، غداً وبعد غدٍ، (الأحد) و(الاثنين)، بدعوة من باريس، وبحضور الدول المنخرطة في إطار ما يُسمى «حوار 5 زائد 5» الذي يضم خمس دول أوروبية (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ومالطا والبرتغال)، وخمس دول مغاربية (الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا)، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي وألمانيا والاتحاد من أجل المتوسط، ومنظمات مالية دولية مثل البنك الدولي وصندوق الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

ميشال أبونجم (باريس)

تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
TT

تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)

تكشف تصريحات قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وبلاغات الأحزاب السياسية، عن تركيز على مطلب «تنقية المناخ السياسي والاجتماعي» في تونس و«تنظيم حوار وطني قبل الانتخابات»، كما ورد على لسان نور الدين الطبوبي، الأمين العام لـ«الاتحاد» وقياديين في «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة مثل الزعيم اليساري عز الدين حزقي، والمحامي احمد نجيب الشابي، والحقوقية شيماء عيس والأكاديمي رياض الشعيبي. بل إن قياديين في أحزاب تعد قريبة إلى «السلطة» يطالبون ايضاً بـ»الحوار بين الأطراف الاجتماعية والسياسية» بينهم المرشحان للرئاسة الوزير ناجي جلول، الوزير السابق وأمين عام «حزب الائتلاف الوطني»، وزهير المغزاوي، أمين عام حزب الشعب القومي الناصري.

بل إن المحامي العروبي خالد الكريشي وعدداً من القياديين البارزين في حزب الشعب القومي الناصري، الذي يعتبر «الأقرب سياسياً» إلى قصر قرطاج الرئاسي، أدلوا أخيراً بـ«تصريحات سياسية نارية» انتقدت السلطات السياسية واتهمتها بـ«الفشل في تحقيق الشعارات التي رُفعت يوم حراك 25 يوليو (تموز) 2021» وقرارات حل البرلمان والحكومة السابقين.

نورالدين الطبوبي...ابرز الشخصيات النقابية (آ ف ب)

انتعاش الخطاب الشعبوي

خالد الكريشي قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إنه ورفاقه الذين كانوا قد دعموا بقوة الرئيس سعيّد سابقاً، أصبحوا يدعمون ترشيح زعيم حزبهم زهير المغزاوي، ويعطون أولوية للإصلاحات السياسية «حرصاً على مصداقية الانتخابات الرئاسية المقبلة». وفي السياق ذاته، أعلن المغزاوي خلال مؤتمر صحافي في أحد فنادق العاصمة تونس أنه قرّر الترشح للرئاسة؛ لأن مشروع برنامجه الانتخابي يتضمّن بالخصوص «إقامة نظام ديمقراطي والتصدّي لسيناريو حكم الفرد». أما ناجي جلول فذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ تعهد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بـ«توظيف خبراته السياسية وتجاربه السابقة في المعارضة، ثم في الحكومة وفي قصر قرطاج في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي لإخراج البلاد من أزماتها في ظرف 6 اشهر فقط».

واعتبر مراقبون أن هذه التصريحات تكشف الآن عن مدى انتشار «الخطاب الشعبوي» في أوساط عدّة داخل تونس بسبب اقتناع «النخب» باستفحال معاناة الطبقات الشعبية من البطالة والفقر وغلاء الأسعار.

إصلاحات سياسية فورية

في سياق متصل، صدرت داخل الجامعات ومقار نقابات الصحافيين والمحامين والقضاة نداءات من كبار خبراء القانون الدستوري والعلوم السياسية تطالب رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة الداخلية ببدء «إصلاحات سياسية جريئة»، بينها تحرير الإعلام والإفراج عن الإعلاميين والموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

واعتبر الأكاديمي أمين محفوظ، وهو أستاذ جامعي للعلوم السياسية والقانونية والدستورية، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس «مهمة جداً، بل قد تكون الأهم والأخطر منذ 15 سنة». ودعا محفوظ الـ8 ملايين ناخب تونسي إلى تجنب مقاطعة انتخابات 6 (تشرين الأول) المقبل كما قاطعوا الانتخابات النيابية والمحلية خلال العامين الماضي، ومثلما امتنع معظمهم عن المشاركة في الاستفتاء على دستور 2022 احتجاجاً على أوضاعهم المعيشية وعلى «غلطات النخب».

من جهته، أورد عماد الدايمي، الوزير والمستشار السابق في رئاسة الجمهورية، الذي أعلن مبدئياً ترشحه للرئاسة أنه سيعمل على إقناع عموم المواطنين بنجاعة «الرهان مجدداً على أن التغيير يكون عبر صندوق الاقتراع». واعتبر الدايمي أن «الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكن أن تخرِج البلاد من أزماتها السياسية والأمنية، ثم الاقتصادية والاجتماعية، وأن تدفع في اتجاه تحقيق المصالحة الوطنية».

غير أن معارضيه اتهموه بدورهم بـ«الشعبوية» وأطلق من وصفوا أنفسهم بـ«أنصار الرئيس سعيّد» حملة ضده، وذكّروه بأنه كان وزيراً مستشاراً ومديراً لمكتب الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي ما بين 2011 و2014.

وفي سياق موازٍ، تضمن البرنامج الانتخابي لمنذر الزنايدي، الوزير السابق للتجارة والسياحة والنقل والصحة قبل 2011، تعهداً بالقيام بإصلاحات سياسية فورية، بينها «إعادة تحقيق المصالحة الوطنية بين التونسيين بمختلف انتماءاتهم وبصرف النظر عن خلافات الماضي». ويعتبر الزنايدي عملياً المرشح المبدئي الأقرب لـ«الحزب الدستوري» الذي كان في الحكم إبان عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. لكنه ومجموعة أخرى من المرشحين يوجدون خارج البلاد، بينهم الأميرال كمال العكروت، المستشار العسكري للرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي.

الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في صدارة الجدل السياسي والانتخابي. (إيبا)

الورقة الاقتصادية الاجتماعية

في المقابل، تكشف تصريحات الأميرال كمال العكروت عن تحاشي التركيز على الملفات السياسية مقابل محاولة مواكبة «المشاغل المعيشية للطبقات الشعبية». وأعلن الأميرال رهاناً متزايداً على «إنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية» التي استفحلت منذ جائحة «كوفيد - 19» عامي 2020 - 2021، وكذلك تضرر البلاد من الحرب في أوكرانيا. وللعلم، كانت تونس تستقبل سنوياً قبل اندلاع الحرب الأوكرانية نحو 800 ألف سائح روسي وأوكراني، كما كانت تعتمد في توفير حاجياتها من الحبوب والمحروقات بأسعار تفضيلية على وارداتها من روسيا وأوكرانيا.

من جانبه، تعهد الإعلامي والكاتب العروبي أحمد الصافي سعيد، الذي يتهمه خصومه أيضاً بـ«الشعبوية»، بأن تكون على رأس أولوياته الاقتصادية والاجتماعية «تنويع الشراكات الاقتصادية للبلاد عربياً ودولياً»، واستحداث «مدن ذكية» وأقطاب تكنولوجية في العاصمة وفي الجهات؛ ما يؤدي إلى توفير موارد رزق لمئات آلاف الشباب العاطل عن العمل وبينهم عشرات آلاف من خريجي الجامعات والمهندسين الشبان.

واعتبر الصافي سعيد في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «إصلاح الأوضاع الاقتصادية ممكن... ولجوء مزيد من الشباب إلى الحلول اليائسة، مثل الهجرة غير النظامية، يمكن معالجته عبر تنويع فرص التنمية وخلق الثروة وتحسين شروط التفاوض مع الاتحاد الأوربي وشركاء البلاد الإقليميين والدوليين حول ملفات كثيرة»، منها «تشديد مراقبة تونس لسواحلها وحدودها البرية كي لا تكون معبراً لعشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً».

التغيير آتٍ

في هذه الأثناء، ترفع النخب السياسية والشخصيات التي أعلنت مبدئياً الترشح لانتخابات 6 أكتوبر المقبل شعارات كثيرة ذات صبغة اقتصادية اجتماعية سياسية، منها «الشعبوي» ومنها «التغييري». لكن الخبراء الاقتصاديين المستقلين، مثل رضا الشكندالي، لا يترددون باتهام هؤلاء بـ«الشعبوية» و«اللاواقعية». ويفسّر بعض الخبراء أزمات تونس الحالية بعوامل عدة، من بينها «حصيلة السلطات المتعاقبة منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في 2008، وتضرر صادرات البلاد ومداخيل سياحتها وفرص الاستثمار والتوظيف» نتيجة «الانكماش الاقتصادي العالمي، وبخاصة داخل البلدان الأوروبية التي تعدّ الشريك الأول لتونس بنسبة تفوق الـ70 في المائة».

وعودة إلى الوزير السابق عماد الدايمي، فإن الملفات الاقتصادية والاجتماعية هيمنت على خطابه، ولقد برّر شعاره «التغيير قادم» بثلاثة أسباب تهم السياسات الاقتصادية للدولة وأولويات القطاع الخاص.

ويشرح الدايمي، فيقول إن السبب الأول هو كون «المنوال التنموي للبلاد وصل إلى نهاية الطريق، وصار عاجزاً تماماً عن تأمين حلول للمشاكل» المتراكمة منذ عقود. والسبب الثاني هو أن «بنية الدولة التونسية ومؤسساتها تقادمت وتهالكت، ولم ترضخ للتجديد، فباتت على درجة كبيرة من البيروقراطية والتكلس وانعدام الفاعليّة». ولأن منظومة المؤسسات والمنشآت العمومية الواسعة أضحت كلها تقريباً مفلسة وحوكمتها مدمّرة، خرّبها الفساد والمحسوبية و«بلطجة النقابات». وأما السبب الثالث والأخير، فهو واقع «البنية الريعية» للاقتصاد التونسي، «الذي تزايد اعتماده على عدد قليل من العائلات ورجال الأعمال الذين يحتكرون الثروة ويهيمنون على كل القطاعات رغم ضغوط المستثمرين الشبان والشركاء الأجانب».

اهتمامات الرئيس سعيّد

ولكن، هذا التركيز على الملفات الاقتصادية والاجتماعية ليس محصوراً بالمرشحين المحسوبين على المعارضة بمختلف ألوانها، بل يهم كذلك الرئيس قيس سعيّد، الذي استأنف زياراته للأسواق الشعبية وللجهات الداخلية المهمشة وللمؤسسات العمومية التي تمر بصعوبات، بما في تلك في قطاعات الصحة والمياه والكهرباء والبنوك.

ولئن برز سعيّد قبل نجاحه في انتخابات 2019 بمداخلاته السياسية والقانونية والدستورية في وسائل الإعلام، فإنه منذ وصوله قصر قرطاج قبل خمس سنوات صار يعطي أولوية مطلقة للمشاغل الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية. ومن ثم، يتهم «عصابات التهريب والاحتكار» بتحمّل مسؤولية ارتفاع الأسعار ونسب البطالة والفقر، وبالتسبب في تعطيل عمل شبكات نقل المياه والكهرباء.

وحقاً، مع اقتراب موعد انطلاق الحملة الانتخابية الرسمية كثّف سعيّد تحركاته في محافظات عدة متفقداً أوضاع الطبقات الشعبية، وكاشفاً للشعب عبر الفريق الإعلامي المرافق له عن ما يراه من «حجم الدمار والتخريب» الذي حمّل مسؤوليته إلى أجيال من السياسيين والإداريين منذ عهدي الرئيسين بورقيبة (1956 - 1987) وبن علي (1987 - 2011) ثم في حكومات ما بعد «انتفاضة يناير 2011» الشبابية والاجتماعية. وعلى الرغم من وجود سعيّد في الحكم منذ سنوات، فإنه لا يزال يتبرأ في الكلمات التي يتوجه بها إلى الشعب من «تقصير أجيال من المسؤولين» ومن «التخريب الذي يقوم به متآمرون على الأمن القومي» إلى حد تعمّد احتكار مواد الاستهلاك والترفيع في الأسعار وتخريب شبكات الماء والكهرباء. سعيّد يحمّل النخب الحاكمة منذ 70 سنة مسؤولية تردي الأوضاع

الاهتمام بالشأن السياسي متراجع تحت الضغوط الاقتصادية والمعيشية

> في ظل التركيز الشديد من قِبل أنصار الرئيس قيس سعيّد ومعارضيه على الصعوبات الاقتصادية والمعيشية وغلاء الأسعار والبطالة، تراجع الاهتمام بـ«الشأن السياسي»، وبالملفات السياسية والدستورية والجيو استراتيجية التي كانت حاضرة بقوة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية التي نظمت منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2011. بل إن التقارير المفصلة لبعض المنظمات المستقلة، التي تحصل على دعم مالي من عواصم غربية، مثل «منظمة بوصلة»، أصبحت تتحدث بوضوح عن كون التحضيرات للانتخابات المقبلة تجري في «مناخ لا سياسي». رئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين الأسعد الذوادي، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن تياراً واسعاً من الشارع التونسي دعم الخطوات التي قام بها قيس سعيّد عندما فتح بعض «ملفات الفساد المالي» الكبرى، وأمر بإيقاف مجموعة من رجال الأعمال والمسؤولين السابقين عن البنوك والشركات العمومية ومصادرة أملاك بعضهم. ومن جهة ثانية، دعا عدد من الزعماء السياسيين والخبراء الاقتصاديين والنقابيين المستقلين إلى ضرورة ألا يتسبب تزامن التحقيقات القضائية مع «المتآمرين على أمن الدولة» ومع «الفاسدين مالياً» مع العملية الانتخابية في عملية «تصفية حسابات». ورأى هؤلاء أن «الأسباب العميقة للصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تمرّ بها تونس أسباب هيكلية»، ولقد تعقّدت بعد سنوات من الجفاف و13 سنة من الاضطراب السياسي والإداري. وهنا يتساءل البعض عما إذا كانت انتخابات 6 أكتوبر ستساهم في تحسين فرص استرجاع ثقة ملايين الناخبين والمواطنين بصناديق الاقتراع، أم ترى سيتجدد سيناريو «امتناع» نحو 88 في المائة عن المشاركة في التصويت كما حدث خلال السنتين الماضيتين، وهذا بينما يضغط ملف الصعوبات الاقتصادية على كل من مرشحي السلطة ومعارضيهم.