سكان مخيمات إدلب السورية... منسيّون ينتظرون إعماراً لا يأتي

نازحون من جميع المناطق يحلمون بالعودة إلى بيوتهم

طفلة ترعى أغنامها خارج المخيم في إدلب (الشرق الأوسط)
طفلة ترعى أغنامها خارج المخيم في إدلب (الشرق الأوسط)
TT

سكان مخيمات إدلب السورية... منسيّون ينتظرون إعماراً لا يأتي

طفلة ترعى أغنامها خارج المخيم في إدلب (الشرق الأوسط)
طفلة ترعى أغنامها خارج المخيم في إدلب (الشرق الأوسط)

خلال سنوات الحرب الطويلة في سوريا، اضطر آلاف السوريين إلى العيش في مخيمات أقاموها بريف إدلب قرب الحدود التركية، بعدما نزحوا إليها من مختلف المناطق هرباً من قصف النظام السابق وما خلّفه من دمار واسع. واليوم لا يزال كثيرون يواصلون حياتهم في تلك المخيمات المنتشرة حول بلدات حدودية مثل الدانا وأطمة ودير حسان في ريف إدلب الشمالي.

ورغم أن قسماً من الأهالي تمكن من العودة إلى مدنه وقراه بعد سقوط النظام السابق، فإن كثيرين لا يزالون يفضلون البقاء في مخيمات، كان يُفترض أن تكون مأوى مؤقتاً، فإذا بها تتحول إلى واقع يومي يفرض نفسه ويجسد في تفاصيله الصغيرة التحديات الهائلة المرتبطة بملف العودة وإعادة الإعمار.

هنا، في هذه التجمعات العشوائية، يعيش النازحون وسط خسارات متراكمة كطبقات الغبار على أطراف خيامهم، حاملين حنيناً إلى بيوت صارت ركاماً وقرى جفّت عيونها وانطفأت فيها مقومات الحياة. لكن التحدي الأكبر ليس ضيق المخيمات فحسب واكتظاظها، بل صعوبة العودة إلى بلدات أصبحت نظرياً متاحة لأهلها. فالمنازل مهدمة، والطرقات مدمرة، والخدمات العامة غائبة، كما أن الحد الأدنى من البنية التحتية تجعل من القرى والبلدات فضاءات مهجورة لا تصلح لسكن ولا لحياة. «لم أعد أعدّ السنوات، لكنني سوف أذكر دائماً معاناة طويلة عشتها ولن أنساها. منزلي في القرية تهدّم جزء منه، ولا ماء هناك، ولا خبز، كيف أعود؟ إلى ماذا أعود؟» تقول أمينة الأحمد واصفة معاناتها، وموانع عودتها إلى قريتها بريف حلب الجنوبي.

نازحة أمام خيمتها في أحد مخيمات منطقة مشهد روحين في إدلب (الشرق الأوسط)

تقيم أمينة الأحمد في خيمة بسيطة في أحد مخيمات «مشهد روحين» شمال إدلب، وتحيط بها بعض رؤوس الأغنام، تحرسها كما لو كانت آخر ما تبقّى لها من عالم قديم انهار. تبلغ من العمر 48 عاماً، تبدو أكبر منها بكثير، وهي أرملة بلا أولاد، تعيش اليوم مع والديها المسنين اللذين لم يعودا قادرين على العمل أو التنقّل، فباتت هي المعيل الوحيد والرّاعي والحارس.

تسرد أمينة حكايتها لـ«الشرق الأوسط» بصوت اعتاد الألم حتى صار جزءاً منه: «نزحت أربع مرات منذ خرجت من قريتي تل الحطابات في ريف حلب الجنوبي، صباح أحد أيام عام 2015. كان هدير الطائرات الروسية لا يفارق السماء، والنظام يتقدّم مع الميليشيات الشيعية، خرجنا هائمين على وجوهنا لا ندري إلى أين».

تتوقف لحظة، ثم تتابع: «ريف حلب الجنوبي بأكمله خرج يومها، وكأن القيامة قامت. ذهبنا إلى قرية ظننّا أنها آمنة، لكننا ما إن نصبنا أمتعتنا فيها حتى اقترب منها النظام، فهربنا مجدداً. لم نكن نعرف وجهتنا، فقط نبتعد عن الموت. استقرّ بنا الحال في قرية بريف إدلب الشرقي لسنتين، ثم تكررت المأساة عام 2018».

قصفٌ، وتقدّمٌ سريع، وهروب. لا وقت لحمل شيء. اتجهت العائلة إلى ريف حلب الغربي حيث مكثت بضعة أيام فقط. فالمكان لم يكن آمناً حتى وصلوا أخيراً إلى منطقة مشهد روحين. لم يكن أمامهم إلا نصب خيمة من الشَّعر، كانوا يستخدمونها في موسم الرعي وحرصوا على حملها في ترحالهم. تقول أمينة: «عشنا تحتها صيفاً وشتاء، ننتظر أن ينقضي كل شيء، لكن النزوح لم ينته. بعد عامين بدأ المخيم بالتشكُّل، ومع الوقت، بدأ يصل إلينا أولئك الذين ظننا أنهم أكثر أماناً منا... من أرياف إدلب الشرقي، ومن جبل الزاوية».

موانع العودة إلى الديار

على الرغم من قسوة العيش في مخيمات «مشهد روحين»، لا ترى أمينة الأحمد أن العودة إلى قريتها تل الحطابات ممكنة في الوقت القريب. وتقول: «العام الماضي كان قاسياً بشكل استثنائي. كان عام قحط... لا ماء، لا زراعة، لا شيء. فكرنا بالعودة، لكن الظروف أقسى مما نحتمل».

وتسرد أمينة مجموعة من الأسباب التي تجعلها وأسرتها عاجزين عن اتخاذ قرار العودة: «في قريتنا لا يوجد ماء. علينا أن نشتريه بأسعار باهظة من قرية ثانية، وللحصول على الخبز نضطر لقطع عشرة كيلومترات لنشتري خبزاً رديئاً لا يصلح للأكل. هنا لا يوجد دكاكين، وإن وُجدت فهي بعيدة، نحتاج أن نمشي كيلومترات لنجد أي شيء نحتاج إليه».

مجرى نهر العاصي في منطقة جسر الشغور غربي إدلب وقد بدا جافاً تماماً في أغسطس الماضي (أ.ب)

وتشير أمينة إلى أن بيتها المهجور منذ أكثر من عشر سنوات بحاجة إلى ترميم كامل، ما يتطلب مبالغ مالية كبيرة لا تملكها. تقول: «البيت خربان، والحيطان متشققة، وإذا أردنا أن نصلحه نحتاج لمال كثير... ونحن لا نملك منه شيئاً».

وتتابع: «حتى الخدمات الصحية معدومة. لا توجد صيدلية ولا طبيب قريب. بينما هنا في المخيم، ورغم كل الصعوبات، توجد صيدليات وأطباء على مقربة، والماء متوفر، والمحلات قريبة».

وحين تسألها عن الجهات المسؤولة وانتظارات إعادة الإعمار، تُطلق أمينة تنهيدة طويلة، وتقول: «لم تأتِ إلينا أي جهة من الحكومة أو المجالس. لا أحد سألنا: ما مشاكلكم؟ ما الذي يمنعكم من العودة؟ كنا فرحين بالتحرير، وما زلنا، لكننا كنا نأمل أن تُحل مشاكلنا. وأن نعود، لكن تلك الأمنيات تبخّرت».

مشهد عام لأحد مخيمات مشهد روحين في إدلب (الشرق الأوسط)

وتشير أمينة إلى أنه حتى المنظمات الإغاثية التي كانت تقدّم بعض الدعم بدأت تضيق بهم: «المساعدات قلت كثيراً. لا تكفي... والشبعان لا يشعر بالجوعان. هذا حالنا».

يقول أحمد عبد الكريم النجار المهجّر من قرية معرة ماتير التابعة لمنطقة معرة النعمان في إدلب، ويبلغ من العمر 67 عاماً: «بيتي مهدّم، نصفه على الأرض والنصف الآخر خرابة تأوي إليها الطيور. لنغادر المخيم نحتاج إلى بيت يؤوينا. قُطعت أشجار الزيتون والتين في قريتنا التي تحولت كلها إلى خراب. ما يبقيني هنا هو الفقر المدقع، فأنا لا أملك حتى أجرة سيارة لأعود إلى قريتي».

ويضيف: «زوجتي تعمل في معمل حلويات من الفجر حتى المساء لتؤمّن لنا ثمن الخبز والخضار، هذا قوت يومنا. كيف أعود ولا أملك حتى ثمن الرغيف فلا عمل، ولا أحد يساعدنا».

يتابع النجار، وهو يتكئ على عصاه: «أصبت بجلطة دماغية جعلتني لا أستطيع السير دون عكاز، لكن حتى السلة الغذائية التي كانت توفرها منظمة خيرية حرمت منها. قالوا إنهم أجروا لي اختبار إعاقة وتبين أن إعاقتي ليست تامة، فشُطِب اسمي من قائمة المستفيدين».

رجل وأبناؤه أمام مسكنهم المؤقت في أحد مخيمات إدلب (الشرق الأوسط)

تقاطعه زوجته، بصوت فيه غضب عارم: «لم يأتنا أحد. لم يقل لنا لماذا ما زلتم هنا وكيف تتدبرون أموركم؟ لا بعد التحرير ولا قبله سأل عنا أحد. نحمد الله أننا ما زلنا على قيد الحياة، رغم كل تلك الظروف المرعبة».

في خيمة مهترئة أخرى، تعيش زهرة الشيخ علي (70 عاماً) وشقيقتها البالغة من العمر 67 عاماً، وهما امرأتان وحيدتان بلا عائلة أو أبناء. منذ سنوات طويلة نزحتا من قريتهما الواقعة في أقصى ريف حلب الجنوبي وأقامتا في هذا المخيم. تقول زهرة بصوت متعب: «قصتي كقصة كل النازحين، حكاية طويلة من الألم والمعاناة».

سنوات النزوح لم تكن رحيمة؛ فبرد الشتاء القارس والأمطار تتسلل إلى الخيمة البالية من كل جانب، والريح العاتية تكاد تقتلع الخيمة من مكانها، فيما لا تجد المرأتان سوى روث الحيوانات وقوداً للتدفئة.

لكن الصيف الحار والجاف في تلك المنطقة لا يقل قسوة ومعاناة عن الشتاء، خصوصاً مع شح المياه.

ولكن على الرغم من هذه الظروف القاسية، تفضّل زهرة وشقيقتها البقاء في المخيم على العودة إلى قريتهما المدمرة، موضحة: «لا نملك ثمن سيارة أُجرة لتعيدنا. كما أن قوات النظام سرقت كل شيء: خشب الأبواب والنوافذ وحديد السقف والجدران. المكان تحول إلى ملاذ للأفاعي والعقارب. أي عودة هذه؟ لم يعد منزلنا صالحاً للعيش».

عائدون إلى الأطلال

على الجانب الآخر من قصة زهرة، يروي خالد الصالح كيف أنه بعد ثماني سنوات قضاها في مخيمات أطمة بريف إدلب الشمالي، قرر العودة إلى قريته في ريف حماة الشرقي بعد خروجها عن سيطرة النظام السابق. يقول خالد: «قررت أن أنصب خيمتي فوق أطلال بيتي المهدّم. كان منزلي الطيني قد انهار تماماً بسبب الإهمال، فالبيت الطيني يحتاج إلى ترميم كل عام أو عامين، والآن بدأت أعيد بناءه من جديد».

مهندس وعمّال بناء سوريون في ورشة إعادة إعمار منازل بقرى دمرتها الحرب في محافظة إدلب (أ.ف.ب)

لكن العودة لم تكن سهلة. يوضح خالد أن القرية تفتقر لأبسط مقومات الحياة: «لا ماء ولا دكاكين ولا خبز. أذهب مرتين في الأسبوع إلى قرية تبعد سبعة كيلومترات لجلب الخبز الذي يكفينا لأيام قليلة».

ويعترف الصالح بندمٍ خفي: «أحياناً أقول في نفسي إنني أخطأت بترك مخيمي في أطمة. هناك تحولت المخيمات إلى مدن صغيرة، فيها باعة متجولون للماء والخبز والخضار، وكل ما نحتاج إليه في الحياة اليومية. أما هنا فلا شيء».

ومع ذلك، يعقد خالد أن العودة كان لا بدّ منها في نهاية المطاف. ويقول: «القرى والبلدات المحرّرة كلها مهدّمة، وتفتقد لأبسط الخدمات. أفكر الآن كيف سأُدخل أبنائي المدرسة، فالأقرب تبعد ثلاثة كيلومترات عن قريتنا، وقد لا تفتح أبوابها هذا العام أصلاً». وحول أوضاع المخيمات في شمال سوريا، قال مدير مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية، فراس كردوش، لـ«الشرق الأوسط»: «في محافظة إدلب وحدها، لدينا ما يقارب 1,045 مخيماً، يقطنها قرابة مليون نازح. الخدمات الأساسية متوقفة بشكل شبه كامل من قبل معظم الجهات الإنسانية العاملة، ما يجعل الواقع الإنساني بالغ الصعوبة. الغالبية العظمى من سكان هذه المخيمات لم يتمكنوا من العودة إلى قراهم بعد التحرير بسبب الدمار الكامل الذي طال البنى التحتية والخدمات الحيوية، مثل المستوصفات، والمدارس، والمساجد، والمياه».

وأشار كردوش: «بعد التحرير، فوجئ كثيرون بالدمار الشامل لبيوتهم وقراهم ما جعل العودة شبه مستحيلة».

وحول المساعي الرسمية لإعادة النازحين إلى قراهم قال كردوش: «هناك خطط تتم بالتنسيق بين الوزارات ومحافظة إدلب، والتواصل مع الجهات الإنسانية الدولية والمحلية لتشجيع مشاريع إعادة تأهيل حقيقية تشمل القطاع الصحي، والتعليمي، والمياه، والصرف الصحي. وهذه المشاريع تُعد مدخلاً أساسياً لعودة الأهالي بشكل آمن وكريم».

وتابع قائلاً: «المنظمات الإنسانية لا تزال تقدم بعض الخدمات في المنطقة، كمساعدات غذائية وتوفير مياه ومبادرات صغيرة. إلا أن هذا الدعم لا يلبي حجم الاحتياج الحقيقي، وقد شهد تراجعاً كبيراً منذ عام 2023، ما انعكس بشكل مباشر على الظروف في المخيمات وأهالي إدلب عموماً».

طفلتان تقفان فوق تلة تطل على مخيم أطمة للنازحين على مشارف إدلب في شمال غربي سوريا (أ.ف.ب)

التأقلم مع واقع مرير

والحال أنه بعد سقوط النظام السابق، عاد كثير من سكان المخيمات إلى بيوتهم بجهود فردية، حاملين آمالاً كبيرة في استعادة حياة حُرموا منها لسنوات طويلة. غير أن خيامهم التي تركوها خلفهم بقيت شاهدة صامتة على قصة تهجير طويلة، ومأساة لن تُمحى من ذاكرتهم بسهولة. فقد تحولت تلك المخيمات على مدار السنين إلى ما يشبه «سوريا مصغّرة»، عاش فيها النازحون من مختلف المناطق السورية في ظروف قاسية من البرد والجوع والخوف والحرمان، في ظل غياب أبسط مقومات العيش.

وبمرور الوقت، لم تعد الخيام مجرد أقمشة مهترئة تقاوم الرياح والأمطار، بل تحولت مساكن أكثر صلابة؛ إذ بنى البعض جدرانها من الطوب والأسمنت، وأقاموا لها أرضيات صلبة تقيهم الرطوبة، بينما ظل السقف مغطى بالقماش والنايلون. وفي بعض الأحيان تدخلت منظمات إنسانية لبناء مخيمات من «كتل مسبقة الصنع»، خاصة في السنوات الأخيرة، لتوفير شيء من الأمان والاستقرار، لكن هذه الحلول لم تكن كافية بدورها أمام حجم المأساة وضخامة الأعداد.

ولدى عودة بعض الأهالي إلى قراهم، لم يجدوا بيوتاً صالحة للسكن، فاضطر كثيرون إلى تفكيك اللبن والحجارة التي استخدموها في بناء غرف المخيمات، وأخذها معهم لإعادة تشييد منازلهم ولو بطرق بدائية. هكذا بقيت بعض المخيمات كأطلال خاوية، شاهدة على عمق المأساة التي مر بها السوريون، فيما بقي قسم آخر من النازحين في انتظار دعم حكومي أو دولي لإعادة إعمار بيوتهم في مدنهم وقراهم، وهو انتظار يبدو أنه سيطول.

حرمان أطول من التعليم

لا تتوقف المأساة عند حدود السكن وحده، لا سيما بالنسبة للأجيال الجديدة، بل طالت التعليم بشكل خاص. فقد حُرم كثير من الأطفال في تلك المخيمات من الالتحاق بالمدارس، إمّا لغيابها وإمّا لضيق ذات اليد، ففضّلت عائلاتهم إرسالهم إلى تركيا للعمل في المصانع والورش، أو الدفع بهم نحو طرق الهجرة أملاً في لمّ الشمل بأوروبا. وفي الداخل السوري، اتجه عدد كبير من الأطفال للعمل في ورشات النجارة والحدادة والبناء في بلدات مثل سرمدا والدانا وغيرها، ليسهموا في إعالة أسرهم وتغطية جزء من الاحتياجات الأساسية.

درس في إحدى مدارس إدلب (الشرق الأوسط)

لكن هؤلاء الصغار، وبحكم الضرورة القاسية، لم يدركوا خطورة حرمانهم من التعليم، الأمر الذي يهدد بمستقبل ضائع لجيل كامل، كان يفترض أن يكون عماد إعادة بناء الوطن بعد الحرب.

وهكذا، فإن قصة المخيمات لا تختصر فقط مأساة السكن والتهجير، بل تعكس أيضاً انهيار البنية الاجتماعية والاقتصادية برمتها، وتفتح الباب على تساؤلات هائلة حول مستقبل سوريا خارج العاصمة والمدن الرئيسية وخيارات عودة النازحين، في ظل غياب واضح لأي خطط عملية لإعادة الإعمار وتوفير العودة الآمنة والعيش الكريم.


مقالات ذات صلة

سوريا تعلن مقتل قيادي بارز في تنظيم «داعش»

المشرق العربي عناصر من قوات الشرطة السورية خلال عملية أمنية (وزارة الداخلية السورية) play-circle

سوريا تعلن مقتل قيادي بارز في تنظيم «داعش»

أعلنت السلطات السورية، الخميس، أنها قتلت قيادياً بارزاً في تنظيم «داعش» بالتنسيق مع «التحالف الدولي» في عملية «أمنية دقيقة».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي أشخاص مع أمتعتهم يسيرون على طول الطريق بعد أن اتفقت الحكومة السورية و«قوات سوريا الديمقراطية» على خفض التصعيد في مدينة حلب (رويترز)

تقرير: مصدر حكومي ينفي نبأ الاتفاق الوشيك بين الحكومة السورية و«قسد»

نقل التلفزيون السوري، الخميس، عن مصدر قوله إنه من المتوقع التوصل قريباً إلى اتفاق عسكري بين الحكومة السورية و«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي توغل للقوات الإسرائيلية في بلدة صيدا بريف القنيطرة جنوب سوريا (أرشيفية - سانا)

القوات الإسرائيلية تنتشر في عدة قرى وتفتش المارة بجنوب سوريا

 توغلت القوات الإسرائيلية صباح اليوم الخميس في قرى عدة بريف القنيطرة الجنوبي في جنوب سوريا.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي صورة نشرتها وزارة الداخلية للنزوح في حلب بعد الاشتباكات الأخيرة بين «قسد» والقوات السورية

ما مصير «اتفاق 10 آذار» والعام يسير إلى نهايته؟

وضعت مصادر بدمشق التصعيد العسكري الأخير في حلب في إطار «الضغوط» المتزامنة مع اقتراب استحقاق «اتفاق 10 آذار» بين الحكومة السورية و«قوات سوريا الديمقراطية»

سعاد جرَوس (دمشق)
المشرق العربي جنود موالون لقوات الرئيس السوري السابق بشار الأسد ينتشرون في منطقة قرب مخيم اليرموك بدمشق عام 2018 (أرشيفية - رويترز)

سوريا تعتقل الداعشي «والي دمشق» بالتعاون مع التحالف الدولي

أعلنت السلطات السورية ليل الأربعاء أنها ألقت القبض على قيادي بارز في تنظيم «داعش» بدمشق بالتنسيق مع التحالف الدولي في عملية «أمنية محكمة».

«الشرق الأوسط» (دمشق)

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، يُمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي خلال زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي نحو 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه نحو 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها نحو 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.