100 يوم على رئاسة أحمد الشرع... سوريا في ميزان الربح والخسارة

إرث جسيم على كاهل أي حكم سياسي يخلف الأسد

سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)
سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)
TT

100 يوم على رئاسة أحمد الشرع... سوريا في ميزان الربح والخسارة

سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)
سوريون يتابعون كلمة أحمد الشرع في مقهى الروضة الدمشقي (الشرق الأوسط)

أثار سقوط نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024 في البداية آمالاً كبيرة بمستقبل أفضل في سوريا. فما التقييم السياسي للسلطة الحاكمة الجديدة برئاسة أحمد الشرع وحلفائه بعد 100 يوم في الحكم؟

قبل الخوض في التفاصيل، علينا أن ندرك أن التحديات التي تواجه سوريا اليوم هائلة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فالبلاد مجزأة إقليمياً وسياسياً، وتتأثر بالنفوذ والاحتلال الأجنبي بمختلف أشكاله، بالإضافة إلى تحديات اقتصادية ضخمة. في الواقع، تُقدر تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بما يتراوح بين 250 و400 مليار دولار، ولا يزال أكثر من نصف السوريين نازحين داخل البلاد وخارجها. ويعيش 90 في المائة من السكان تحت خط الفقر، ويعتمد 16.7 مليون شخص (أي 3 من كل 4 أشخاص في سوريا) على المساعدات الإنسانية، وفق أرقام الأمم المتحدة لعام 2024. بالنظر إلى هذه المعطيات، يواجه أي فاعل سياسي يخلف نظام الأسد مهمة جسيمة.

لذلك، فإن قدرة السلطة الحاكمة الجديدة، لا سيما بالنظر إلى خلفيتها، على تهدئة المخاوف الخارجية ولو نسبياً وإقامة علاقات رسمية مع القوى الإقليمية والدولية، تُعدّ نجاحاً لا يُستهان به. فقد اعترف العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية بالسلطة الجديدة، وبدأت التعامل معها. وقد علّق كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة العقوبات بشكل ملحوظ على بعض القطاعات والكيانات، وها هي باريس اليوم تستقبل الشرع لديها.

يبقى أن الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترمب لم تُحدد سياسة واضحة تجاه سوريا بعد، وأبقت على عقوباتها المفروضة عليها بشكل عام، على الرغم من عدم معارضتها لإجراءات إدارة بايدن في يناير (كانون الثاني) 2025، التي خففت العقوبات على قطاع الطاقة والتعاملات المالية.

مع ذلك، لا يمكن اعتبار المائة يوم الأولى من حكم السلطة الجديدة إيجابية بشكل مطلق، أو دليلاً كافياً على أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح على المدى الطويل، إذ تكمن المشكلة الأساسية في التوجهات العامة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وكذلك في رؤيتها الاجتماعية.

محل لبيع التذكارات وسط دمشق (أ.ف.ب)

مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية

أولاً، استخدمت السلطة الحاكمة الجديدة بقيادة «هيئة تحرير الشام»، المرحلة الانتقالية لتعزيز سلطتها على مؤسسات الدولة، فبعد سقوط نظام الأسد، تشكّلت حكومة تصريف أعمال من أعضاء الهيئة حصراً أو المقربين منها، وذلك حتى تشكيل حكومة جديدة في نهاية مارس (آذار) 2025.

وبالمثل، رشح الشرع وزراء جدداً، وشخصيات أمنية، ومحافظين لمختلف المناطق ممن كانوا في الهيئة أو الجماعات المسلحة المقربة منها. وإلى جانب الأجهزة الأمنية، أنشأت السلطات الحاكمة الجديدة جيشاً سوريّاً جديداً، وعينوا قادة من «هيئة تحرير الشام» سابقاً من بين أعلى الضباط رتبة، مثل وزير الدفاع الجديد القائد الأعلى للهيئة منذ فترة طويلة مرهف أبو قصرة الذي رُقي إلى رتبة الجنرال. وبالتزامن مع ذلك، فرضت السلطة الحاكمة الجديدة تدابير لتعزيز سيطرتها على الجهات الفاعلة الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، عيّنت السلطة قيادات جديدة من دائرة المقربين في عدد من النقابات والجمعيات المهنية والغرف التجارة حتى من دون انتخابات داخلية.

صورة تذكارية للحكومة السورية الجديدة يتوسطها الرئيس الشرع بعد الإعلان عنها في قصر الشعب بدمشق (سانا)

وانعكس غياب العملية الديمقراطية الشاملة على مختلف المبادرات والمؤتمرات واللجان التي كان من المفترض أن تكون تشاركية، وتضع الأسس الأولى لمستقبل البلاد، وعلى رأسها «مؤتمر الحوار الوطني السوري»، الذي تعرّض لانتقادات لافتقاره إلى التحضير والتمثيل، لا سيما لجهة ضيق الوقت المخصص للجلسات.

كما تعرّض الدستور المؤقت، الذي وقّعه الرئيس السوري، لانتقادات واسعة من قبل العديد من الجهات السياسية والاجتماعية الفاعلة، بداية بسبب نقص الشفافية في معايير اختيار لجنة الصياغة أو في محتوياتها. وفيما يعلن الدستور المؤقت رسمياً فصل السلطات، فإنه عملياً يعوق ذلك من خلال النطاق الواسع للسلطات المحصورة بيد الرئاسة.

صلاحيات ضبابية

في هذا السياق، وُصف الإعلان الأخير عن الحكومة السورية الجديدة بأنه أكثر شمولاً، مع تعيين وزيرة ووزراء من الأقليات الدينية (علوية ودرزية) والعرقية (كردية). ومع ذلك، فإن المناصب الرئيسية تشغلها شخصيات مقربة من الشرع، فعلى سبيل المثال، يحتفظ أسعد الشيباني ومرشد أبو قصرة بمنصبيهما في وزارتي الخارجية والدفاع على التوالي، في حين تم تعيين أنس خطاب في وزارة الداخلية، ومزهر الويس في وزارة العدل.

علاوة على ذلك، لا تزال الصلاحيات الفعلية لهذه الحكومة غير واضحة، خاصة أنه تم تشكيل «مجلس الأمن القومي السوري»، ويرأسه أحمد الشرع، بهدف تنسيق وإدارة السياسات الأمنية والسياسية بالبلاد.

وعلى نحو مماثل، تم إنشاء «الأمانة العامة للشؤون السياسية» في نهاية مارس (آذار) تحت وزارة الخارجية، ومن مهامها الإشراف على إدارة النشاطات والفعاليات السياسية، والمشاركة في صياغة ورسم الخطط العامة في الشأن السياسي، وإعادة توظيف أصول حزب «البعث»، وأحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية».

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر توقيع عقد بين الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية وشركة فرنسية في قصر الشعب في دمشق (أ.ف.ب)

اقتصاد نيوليبرالي

أما على الصعيد الاقتصادي، فلم يُناقش توجه الحكومة أو يُشارك فيه أحد خارج دوائرها المقربة. علاوة على ذلك، تتجاوز قرارات حكومة الحالية منذ أن استلمت السلطة، مهمتها المؤقتة، وعملياً فرضت أو روَّجت لرؤيتها الاقتصادية الخاصة بوصفها نموذجاً مستقبلياً لسوريا على المدى الطويل، وهو نموذج متجذر في النيوليبرالية الاقتصادية. ويظهر ذلك من خلال خصخصة أصول الدولة، وتحرير السوق، وإجراءات التقشف، بما في ذلك خفض دعم الخبز وأسطوانة الغاز المنزلي، وكلها تؤثر بشكل مباشر على الطبقات الشعبية التي تعاني أصلاً. ويُصب عادة هذا النوع من السياسات الاقتصادية في مصلحة رجال الأعمال والنخب الاقتصادية.

إضافةً إلى ذلك، أعلنت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية عن تسريح نحو ثلث القوى العاملة في الدولة، أي الموظفين الذين كانوا، وفقاً السلطة الجديدة، «يتقاضون رواتبهم لكنهم لا يعملون». ومنذ ذلك الحين، لا توجد تقديرات رسمية لإجمالي عدد الموظفين المفصولين، في حين يقضي بعضهم حالياً إجازة مدفوعة الأجر لمدة 3 أشهر ريثما يتضح وضعهم، وما إذا كانوا يعملون أم لا. وعقب هذا القرار، اندلعت احتجاجات العمال المفصولين أو الموقوفين عن العمل في جميع أنحاء البلاد.

محل لصرف العملات الأجنبية في دمشق (أ.ف.ب)

في الوقت نفسه، تكررت وعود السلطات الحاكمة الجديدة منذ بداية العام بزيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة 400 في المائة، ليصبح الحد الأدنى 1.123.560 ليرة سورية (نحو 86 دولاراً أميركياً). وتُعدّ هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها لا تزال تنتظر التنفيذ، كما أنها لا تكفي لتغطية نفقات المعيشة، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية. وقدّر الحد الأدنى للنفقات الشهرية لأسرة مكونة من 5 أفراد في دمشق بنهاية مارس (آذار) 2025 بـ8 ملايين ليرة سورية (ما يعادل 666 دولاراً أميركياً).

فضلاً عن ذلك، خفّضت دمشق الرسوم الجمركية على أكثر من 260 منتجاً تركياً، ما أضرّ بالإنتاج الوطني، خصوصاً في قطاعي الصناعة والزراعة، اللذين يعانيان من منافسة الواردات التركية أصلاً. وبلغت الصادرات التركية إلى سوريا في الربع الأول من العام الحالي نحو 508 ملايين دولار، بزيادة قدرها 31.2 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024 (نحو 387 مليون دولار)، وفقاً لوزارة التجارة التركية.

تشرذم سياسي - اجتماعي

أما التشرذم السياسي والاجتماعي في البلاد، فلم تتمكن السلطة الحاكمة الجديدة إلى حد كبير من معالجته، ولا تزال مذكرة التفاهم الأخيرة بين حكومة دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ومحاولات التقارب مع بعض قطاعات السكان الدروز في منطقة السويداء تعاني العديد من أوجه القصور، ومعارضة المجتمعات المحلية، التي شهدت على سبيل المثال مظاهرات ترفض الدستور المؤقت وسياسات متعددة. وإلى ذلك فإن الأحداث الأمنية الأخيرة، وتلك التي بدأت في المناطق الساحلية، والتي أسفرت عن مقتل مئات من المدنيين، لم تؤدِّ إلا إلى تعميق التوترات الطائفية.

احتفالات في القامشلي بعد توقيع «قسد» اتفاقاً يقضي بالاندماج في مؤسسات الدولة السورية الجديدة مارس 2025 (رويترز)

وصحيح أن أعمال العنف جاءت بعد عنف نفذه فلول نظام الأسد الذين نسقوا الهجمات ضد أفراد الأجهزة الأمنية والمدنيين، لكن بذريعة محاربة «الفلول» طغى منطق الكراهية والانتقام، من خلال خلق تكافؤ زائف بين العلويين عموماً والنظام السابق.

ورغم أن السلطة الجديدة حاولت تطويق الأزمة وإخماد النيران فإنها عملياً فشلت في منع تصاعد العنف والتناحر الطائفي اللذين انعكسا أيضاً في الأحداث الأخيرة مع أبناء الطائفة، وواصلت السلطة في دمشق وصف هذه الأعمال بأنها معزولة، وأنها صادرة عن «عناصر غير منضبطين» من دون اتخاذ أي إجراءات جدية لمحاسبة مرتكبيها.

رجال أمن عند حاجز تفتيش على أحد مداخل جرمانا جنوب دمشق الأربعاء الماضي (أ.ب)

وإلى جانب الديناميكيات الطائفية الكامنة في البلاد التي أسهمت الأحداث الدرامية الأخيرة في إعلائها على السطح، جاء الفشل في إنشاء آلية واضحة تُعزز عملية عدالة انتقالية شاملة وطويلة الأمد، تهدف إلى معاقبة جميع الأفراد والجماعات المتورطة في جرائم الحرب. وكان من الممكن أن يلعب ذلك دوراً حاسماً في مكافحة أعمال الانتقام، وتصاعد التوتر الطائفي، ولكن الآلية للعدالة الانتقالية بشكلها الصحيح قد تفتح ملفات كثيرة لا ترغب السلطة الحالية فيها.

مصالح إيران وإسرائيل وتركيا

وفي ظل هذا السياق من تفتت السلطة داخل البلاد، فإن بعض الدول الأجنبية، خاصة إيران وإسرائيل، لديها مصلحة في تأجيج التوترات الطائفية والإثنية في البلاد من أجل استغلالها، عبر تقديم نفسها بصفتها مدافعة عن طائفة معينة وخلق مزيد من عدم الاستقرار. وعلى سبيل المثال، ضاعف المسؤولون الإسرائيليون التصريحات التي تؤكد استعدادهم للتدخل عسكرياً من أجل «حماية» السكان الدروز في سوريا. ومع ذلك، رفضت القوى الاجتماعية والسياسية الدرزية الرئيسية هذه الدعوات إلى حد كبير، وأكدت انتماءها إلى سوريا ووحدة البلاد.

مظاهرة في مدينة حماة ضد التدخل الإسرائيلي في سوريا (رويترز)

في الوقت نفسه، لم يوقف الجيش التركي هجماته على مناطق الأكراد في شمال شرقي سوريا، على رغم الاتفاق المبرم بين دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

وفي الختام، فإن ممارسات الأيام المائة الأولى للسلطة الجديدة حملت ضمناً مقومات تقويض تفاؤل البدايات.

 

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

«الداخلية السورية» تعلن قتل واعتقال خلية «داعش» المسؤولة عن استهداف الكنيسة

المشرق العربي مواطنون أمام مدخل الكنيسة المستهدفة في دمشق (إ.ب.أ)

«الداخلية السورية» تعلن قتل واعتقال خلية «داعش» المسؤولة عن استهداف الكنيسة

«إن هذه الجريمة البشعة التي استهدفت الأبرياء الآمنين في دور عبادتهم تذكرنا بأهمية التكاتف والوحدة –حكومة وشعباً– في مواجهة كل ما يهدد أمننا واستقرار وطننا»

موفق محمد (محمد)
المشرق العربي تدابير وإجراءات أمنية مكثفة قرب «كنيسة مار إلياس» في دمشق (أ.ب)

سوريا تعلن توقيف عدد من المشتبه بتورطهم في الهجوم على كنيسة مار إلياس

أعلنت وكالة الأنباء السورية اليوم الاثنين القبض على مدبر عملية تفجير كنيسة مار إلياس بدمشق وعدد من أفراد الخلية، مشيرة إلى أن هذه الخلية تنتمي لتنظيم «داعش».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي قوات أميركية بالقرب من قاعدتها في منطقة الغويران جنوبي مدينة الحسكة (الشرق الأوسط)

صواريخ بالقرب من قاعدة للقوات الأميركية بريف الحسكة شمالي سوريا

تصدت دفاعات القوات الأميركية والتحالف الدولي لضربة صاروخية استهدفت قاعدتها في قرية القسرك بريف محافظة الحسكة.

كمال شيخو (القامشلي (سوريا))
المشرق العربي دماء ودمار داخل كنيسة «مار إلياس» بدمشق (أ.ب)

إدانات عربية متواصلة لتفجير كنيسة «مار إلياس» بدمشق

تواصلت الإدانات العربية لتفجير كنيسة «مار إلياس» بدمشق، ودعت جامعة الدول العربية، في إفادة رسمية الاثنين، الحكومة السورية للتصدي للتنظيمات «الإرهابية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي مواطنون أمام البوابة الرئيسية للكنيسة المستهدفة (رويترز)

إدانات كردية واسعة للهجوم الإرهابي على الكنيسة في دمشق

«هذا الهجوم يستهدف كل المكونات السورية المحبة للحرية والسلام حيث يشكّل الإرهاب هاجساً لجميع السوريين وهو عدو مشترك للنسيج السوري الأصيل»...

كمال شيخو (القامشلي )

إرث العقوبات الأميركية الثقيل على سوريا… من الأسد الأب إلى الشرع

زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)
زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)
TT

إرث العقوبات الأميركية الثقيل على سوريا… من الأسد الأب إلى الشرع

زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)
زبون يتفقد مانجو في كشك يبيع أصنافاً من الفواكه بعضها لم يكن متوفراً في عهد الرئيس بشار الأسد مثل الكيوي والموز والأناناس بسوق الشعلان بالعاصمة دمشق (أ.ف.ب)

عاش السوريون 46 عاماً تحت سيف العقوبات الأميركية، ونشأت أجيال كاملة لم تعرف غيرها. اندمجت العقوبات في تفاصيل الحياة اليومية، من المصارف والطيران الدولي إلى أعمال البناء والمواد الغذائية، وكان أثر هذه العقوبات أقسى على الناس العاديين مما كان على رموز النظام الأسبق. رفع العقوبات حالياً سيسمح بإطلاق جهود التخطيط وإعادة الإعمار لا شك، لكن المخاوف السياسية والأمنية لا تزال قائمة كما أن الحالة المتهالكة للبنى التحتية قد تكون عائقاً أمام استثمارات القطاع الخاص في سوريا. والأهم من ذلك، معرفة ما إذا كان قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإطلاق مسار رفع العقوبات ارتجالياً مثلما كان إعلانه الانسحاب العسكري من سوريا نهاية 2018، أم أنه تحوّل مفصلي في السياسة الخارجية الأميركية حيال سوريا؟

كان ترمب أعلن في 13 مايو (أيار) الماضي رفع العقوبات الأميركية عن سوريا خلال زيارته السعودية، ما أدى إلى فترة إرباك ومراجعة في إدارته قبل إعلانها آلية أولية توازن بين تنفيذ إعلان ترمب وأخذ في الاعتبار هواجس فريقه حيال انفتاح غير مشروط على السلطة الجديدة. وقبل تقييم المرحلة الحالية من رفع العقوبات، لا بد من مراجعة تاريخية لسياق وخلفيات هذه العقوبات، وطبيعة القرار الذي اتخذته واشنطن وآليات تنفيذه، وما أثره المحتمل على سوريا والسوريين. ويمكن تقسيم مراحل العقوبات على سوريا على ثلاث مراحل منذ عهد الرئيس الأسبق حافظ الأسد، ثم عهد ابنه بشار، وصولاً إلى الرئيس الحالي أحمد الشرع.

لوحة إعلانية وسط دمشق تحتفي بولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ ف ب)

الاتجاه نحو إيران 1979 - 2000

بدأت مرحلة العقوبات الأميركية على سوريا عام 1979 بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وصعود الثورة الإسلامية في إيران. مع انتهاء الحلف الاستراتيجي بين القاهرة ودمشق، رأى حافظ الأسد في النظام الجديد في إيران محاولة لإيجاد ثقل موازن للعراق وإسرائيل. هذا التحوّل الاستراتيجي وضعه في نقيض مع مصالح أميركا وحلفائها، وأدرجت واشنطن سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ إنشاء القائمة عام 1979 نتيجة تدخلها في لبنان ودعمها وإيوائها المقاتلين ضد إسرائيل، كما حزب العمال الكردستاني. ومن ثمّ بدأ منذ ذلك الوقت القيود على المساعدات الخارجية الأميركية، والحظر على الصادرات والمبيعات الدفاعية، ومنع وصول المواد ذات الاستخدام المزدوج التي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية على حد سواء. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1986، فرضت إدارة الرئيس رونالد ريغان إجراءات عقابية ضد نظام حافظ الأسد، منها منع الطائرات السورية من الهبوط في الولايات المتحدة.

غزو العراق 2001 - 2010

الموجة الثانية من العقوبات بدأت بتحوّل في السياسة الأميركية هذه المرة بعد توقف دور واشنطن التقليدي في مسار مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية، لا سيما بعد اللقاء الأخير بين بيل كلينتون وحافظ الأسد في مارس (آذار) عام 2000، والأهم من ذلك اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة وتداعياتها في الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وذلك بالتزامن مع وصول بشار الأسد إلى الحكم في يوليو (تموز) 2000.

ولأول مرة استخدم الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عبارة «محور الشر» في خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس في 29 يناير (كانون الثاني) 2002 في إشارة إلى إيران والعراق أيام حكم حزب البعث وكوريا الشمالية. وجاء رد النظام الإيراني بتشكيل ما أطلق عليه اسم «محور المقاومة» الذي كان يضم سوريا و«حزب الله» اللبناني.

هذه التحوّلات أدت إلى مرحلة جديدة من العقوبات بدأت مع قانون محاسبة سوريا وسيادة لبنان لعام 2003، الذي بدأ تنفيذه مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في وزارة الخزانة عام 2004، عبر القرار التنفيذي 13338 الذي ركز على احتلال النظام السوري السابق في لبنان وسعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل وتقويضه الاحتلال الأميركي للعراق.

واللافت إنه في في 7 مايو (أيار) الماضي، وقعت إدارة ترمب «إشعار - استمرار حالة الطوارئ الوطنية فيما يتعلق بإجراءات الحكومة السورية» الذي يشمل تجديد القرارات التنفيذية بين عامي 2003 و2012، وهذا القرار يبقى ساري المفعول حتى 7 مايو 2026 إلا إذا بادرت إدارة ترمب بإلغائه.

ساحة عرنوس وسط دمشق بعد إسقاط تمثال الرئيس حافظ الأسد (الشرق الأوسط)

الانتفاضة الشعبية وقانون قيصر

الموجة الثالثة للعقوبات كانت مع بداية الانتفاضة السورية في مارس (آذار) 2011، حيث فرضت واشنطن عقوبات على سوريا عبر سلسلة قرارات تنفيذية رداً على أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، وأصدر الرئيس باراك أوباما في 29 أبريل (نيسان) 2011 قراراً تنفيذياً بحظر ممتلكات المتورطين في نظام الأسد، تبعه في أغسطس (آب) 2011 حظر على قطاع النفط وتجميد أصول الدولة السورية، بالإضافة إلى حظر تجاري يشمل تصدير السلع والخدمات التي يكون منشؤها أراضي الولايات المتحدة أو من شركات أو أشخاص أميركيين إلى سوريا، باستثناء المواد الغذائية والأدوية.

لكن نقطة التحول الرئيسية كانت مع إقرار الكونغرس «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019»، المعروف باسم «قانون قيصر»، الذي وقّعه ترمب في ديسمبر (كانون الأول) 2019 ودخل حيز التنفيذ في يونيو (حزيران) 2020، واستهدف الصناعات المتعلقة بالبنى التحتية والصيانة العسكرية وإنتاج الطاقة، والشركات والأفراد في الدائرة التمويلية لنظام بشار الأسد، والأهم من ذلك حظر الاستثمار الأجنبي في إعادة إعمار سوريا.

هذه العقوبات الأميركية أتت بشكل أساسي على خلفية محاولة موسكو إطلاق مسار إعادة الإعمار في سوريا وتقاربها مع البلدان العربية عام 2018 لتكريس نفوذها في سوريا وتحجيم الدور الإيراني، وانعكس ذلك في محاولات تقارب خجولة قامت بها بعض الدول حيال نظام بشار الأسد. إذن في ظل المنافسة الروسية - الإيرانية على موارد الدولة السورية وقراراتها في تلك الفترة، جاء «قانون قيصر» ليردع الطرفين معاً اقتصادياً ويحظر التعامل مع الحكومة السورية وأجهزتها العسكرية والاستخباراتية.

عمال صيانة يعاينون مولّدات كهربائية وتجهيزات في محطة للطاقة في منطقة الكسوة قرب دمشق (رويترز)

ويبقى أن هدفه الرئيسي كان الدفع نحو التفاوض مع موسكو بحيث سمح القانون للرئيس الأميركي بتجميد العقوبات في حال كانت هناك مفاوضات مجدية. وبهذا، فإن «قانون قيصر»، الذي دخل حيّز التنفيذ بعد تسعة أعوام على الثورة السورية، لم تكن له علاقة بديناميات النزاع الداخلي السوري، بل كرادع اقتصادي لأي محاولة استثمار. يكفي أنه جاء في وقت كانت المعارضة المسلّحة في أسوأ مراحلها في حين لم تساعدها واشنطن عندما كانت في ذروة قوتها.

الشرع... وما بعد الأسد

بعد سقوط نظام بشار الأسد نهاية 2024، وتسلّم إدارة ترمب السلطة بداية العام الجاري، لم تبد سوريا أولوية أميركية وكانت هناك وجهات نظر متباينة داخل الإدارة حول كيفية التعامل مع السلطة الجديدة. لكن بدأ الأمر يتغيّر تدريجياً منذ 16 مارس (آذار) الماضي بعد أول اتصال هاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وترمب، بالتزامن مع تقرّب الأخير من الخيار التركي - السعودي في سوريا، ليناقض المقاربة الإسرائيلية المتشددة حينذاك حيال الشرع، قبل أن يكرّس هذا التحوّل الأميركي عملياً خلال زيارة ترمب إلى السعودية.

وعليه بدأ ترمب برفع العقوبات تدريجياً عن سوريا، فيما يبقى السؤال حول «قانون قيصر» معلقاً. فالآن بعد خروج النفوذين الإيراني والروسي، هل تلغي إدارة ترمب كل مفاعيل هذا القانون أو تعيد النظر في وظيفته كي يبقى ورقة ضغط على النفوذ التركي في سوريا عند الضرورة؟

يطرح السؤال علماً أن القانون تم تجميده لـ180 يوماً قابلة للتجديد. وهي ليست المرة الأولى، فقد علّق بشكل محدود لأسباب إغاثية خلال الزلزالين التركي والسوري في 7 فبراير (شباط) 2023، كما في حال الأراضي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

رجل يشير إلى لوحة لأسعار الصرف والأسهم في أمانة دمشق للعملات الأجنبية بعد عودة سوريا إلى البورصة العالمية (أ ف ب)

آليات التنفيذ وصعوباتها

بدأت إدارة ترمب كمرحلة أولى بإصدار قرارات تنفيذية تغطي نطاقات واسعة من الاقتصاد السوري لتسهيل مسار إعادة الإعمار الذي لا يزال الإقبال عليه بطيئاً نسبياً نتيجة التكاليف المرتفعة.

حتى الآن، هناك ثلاثة قرارات رئيسية تنظم آلية رفع العقوبات.

قرار تجميد العقوبات «GL 25» الذي أصدره مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأميركية في 23 مايو (أيار) الماضي، وقرار إعفاء لمدة 180 يوماً من «قانون قيصر»، والإعفاء الاستثنائي من التدابير الخاصة المفروضة على المصرف التجاري السوري، ما يسمح بفتح حسابات مراسلة، وأصدرته شبكة إنفاذ قوانين الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة.

القرار «GL 25» ليس له تاريخ انتهاء صلاحية كما يمكن إلغاؤه في أي وقت أو استبداله، لكن الإعفاءات من قانون قيصر يتم تجديدها دورياً كل ستة أشهر.

وليس الترخيص العام السوري رقم 25 الأول هذا العام، بل أصدرت الخزانة الأميركية الترخيص رقم 24 في يناير (كانون الثاني) الماضي لفترة ستة أشهر أيضاً، وسمح بعدد محدود من المعاملات مع السلطات الرسمية وقطاع الطاقة، كما تم إعفاء التحويلات الشخصية من المواطنين الأميركيين إلى سوريا، لكن المصارف الأميركية لم تكن مستعدة للمخاطرة بعد.

ويشمل الترخيص العام «GL 25» أربعة قطاعات رئيسية؛ هي الخدمات المالية، والنفط والغاز، والشحن البحري، والطيران. كما لا يسمح للأشخاص الأميركيين بالمشاركة في المعاملات التي يمكن أن تفيد روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية أو تسهيلها، ما يعني أنه سيكون هناك تحريات وتدقيق في أي معاملة للتأكد أنها لا تشمل أياً من هذه الأطراف المحظورة. ولم يتم بعد إلغاء الأوامر التنفيذية التي فُرضت بموجبها معظم التصنيفات ذات الصلة بسوريا بشكل رسمي، لكن تقارير إعلامية ألمحت إلى احتمال إصدار مثل هذه القرارات في المدى المنظور.

المسؤولون السوريون يقرعون الجرس إيذاناً بإعادة افتتاح سوق دمشق (الشرق الأوسط)

لكن هناك معضلة «إجرائية». فسوريا لا تزال حتى الآن مصنفة على لائحة الدول الراعية للإرهاب، ورفعها عن تلك اللائحة يتطلب تقديم وزارة الخارجية الأميركية تقريراً إلى الكونغرس يتضمن نتائج وقائعية محددة.

كذلك، لم يُدخل بعد مكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة الأميركية ولا مديرية ضوابط التجارة الدفاعية التابعة لوزارة الخارجية الأميركية تغييرات على لوائح مراقبة الصادرات الأميركية لتعليق قرار حظر التصدير إلى سوريا، التي لا تزال مدرجة بدورها على لوائح الاتجار الدولي في الأسلحة ولا تزال تخضع لضوابط لوائح إدارة الصادرات، ومن ثمّ لا تزال جميع المواد الخاضعة للرقابة الأميركية على الصادرات (بخلاف معظم الأغذية والأدوية) تتطلب ترخيصاً للتصدير أو إعادة التصدير إلى سوريا.

وإلى ما سبق، لا تزال «هيئة تحرير الشام» مصنفة «منظمة إرهابية أجنبية». ورغم عقد ترمب اجتماعاً وجهاً لوجه مع الرئيس أحمد الشرع وقرار وزارة الخزانة إعفاءه من العقوبات، لا تزال هذه العقوبات قائمة عليه تحت كنية أبو محمد الجولاني.

وهناك قرار مجلس الأمن الدولي 1267 الذي يفرض عقوبات على «هيئة تحرير الشام»، لا يزال قائماً وملزماً للدول الأعضاء، وأي محاولة لرفعه قد تواجه بفيتو روسي، بينما العقوبات الدولية المتعلقة بحظر الأسلحة والقيود المفروضة على تكنولوجيا المراقبة ستبقى سارية المفعول.

في الأثناء، تم تجديد قانون قيصر في الكونغرس في يناير (كانون الثاني) 2025، لمدة خمس سنوات، ومن ثمّ لن ينتهي مفعول القانون حتى يناير (كانون الثاني) 2030، إلاّ إذا تم إلغاؤه بقرار تشريعي لا يزال مستبعداً في المدى المنظور. لكن بحلول 23 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل يمكن لإدارة ترمب أن تقرر ما إذا كانت ستجدد تعليق العقوبات لمدة ستة أشهر إضافية، وهي صيغة يمكنها تكرارها ريثما تتأكد من سلوك السلطة السورية الجديدة.

الديمقراطيون حلفاء ترمب

المؤكد أنه لا يمكن رفع العقوبات بشكل دائم إلا من خلال تشريعات يقرها الكونغرس الأميركي. وللصُّدَف، فإن حليف ترمب في معركة رفع العقوبات عن سوريا هم الديمقراطيون في الكونغرس، فالجمهوريون، لا سيما في مجلس الشيوخ، أكثر تحفظاً حيال هذا الانفتاح السريع.

ورأى رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السيناتور الجمهوري جيم ريش، أن ترمب رفع العقوبات «بشكل أقوى قليلاً مما كنا نتوقع»، لافتاً إلى «أننا ما زلنا في حالة انتظار وترقب، وتلك العقوبات التي تم رفعها يمكن إعادتها مرة أخرى».

وكانت هناك محاولات تأثير على ترمب من قبل الشركات الأميركية المهتمة بالاستثمار في سوريا، لا سيما في قطاع الطاقة، التي تتقاطع مصالحها مع المجموعات السورية - الأميركية، مقابل اللوبي المؤيد لإسرائيل، لا سيما لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) التي ترى أن أي تغيير في العقوبات «يجب أن يستند إلى إظهار مستمر للسلوك الإيجابي من الحكومة السورية الجديدة».

الأثر على الاقتصاد والناس

في عام 2018، قدرت الأمم المتحدة أن إعادة إعمار سوريا بالكامل سيتطلب ما لا يقل عن 250 مليار دولار، وهو مبلغ يستحيل تمويله من دون الدعم الدولي. هناك تحديات جدية تواجه أي استثمارات خارجية محتملة في سوريا. البنى التحتية المدمرة، بما في ذلك الطرق والمستشفيات وشبكات الكهرباء، تعوق توفير الخدمات الأساسية. وسيتطلب الانتعاش الاقتصادي استثمارات ضخمة لإحياء الصناعات، في حين أن ملايين الأشخاص الذين نزحوا بسبب النزاع في الداخل والخارج سيحتاجون إلى إعادة إسكانهم. هناك حاجة لتوفير كل أنواع الطاقة للسكان والمعدات الطبية الحديثة وتوفير فرص عمل بمرتبات مناسبة.

أطفال يمرحون وسط سوق يعج بالمتسوقين والبضائع قبيل عيد الأضحى في مدينة حمص السورية (أ ف ب)

يُعد رفع العقوبات، حتى لو كان جزئياً، تحولاً جذرياً في الاقتصاد السوري، حيث سيسمح بفتح الأسواق أمام البضائع والسلع الأساسية، ما يسهل الحصول على المواد الغذائية والأدوية والنفاذ إلى التكنولوجيا، كما سيفتح المجال أمام مشاريع إعادة الإعمار التي تحتاج إليها البنية التحتية المتضررة من النزاع، بما يشمل بناء المدارس والمستشفيات والطرق وغيرها. رفع العقوبات يسمح بإنهاء التجميد عن الأصول الدولية لسوريا، وسيمكّن الشركات الأجنبية من العودة إلى القطاعات الرئيسية مثل البناء والطاقة والتجارة.

التحوّل الأكبر بالنسبة للسوريين هو رفع الحظر عن وصول المصارف السورية إلى أنظمة الدفع العالمية، ما يعزز مسار انهيار الاقتصاد السوري في وقت لا يثق السوريون بمصارفهم منذ وقت طويل. ومن المتوقع أن تبدأ قريباً إعادة ربط سوريا بنظام المدفوعات الدولية «سويفت» في حين تحتاج البلاد إلى تدابير داعمة في ظل غياب قطاع مصرفي محلي للخروج من السوق السوداء، ونقص في السيولة النقدية، وعدم القدرة على استيراد المواد الأولية. سوريا مدرجة على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، وهو عامل سلبي لثقة النظام المصرفي الدولي، من هنا أهمية إنشاء آلية تنظيمية مصرفية فعالة.

هناك مشاريع طموحة داخل سوريا ومع محيطها وتوقع حكومة الشرع اتفاقات مع جهات خارجية وإن دون اتباع مبادئ المناقصات والمزايدات والعقود الحكومية. ميناء طرطوس مثلاً، تم تلزيمه لدولة الإمارات عبر «مذكرة تفاهم» مع «مواني دبي العالمية» بـ800 مليون دولار بهدف تطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض وتأسيس مناطق صناعية ومناطق حرة وموانٍ جافة ومحطات عبور للبضائع.

كذلك وقّعت الحكومة السورية عقداً مدته 30 عاماً مع شركة الشحن الفرنسية CMA CGM لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية. ووقعت الهيئة العامة للمواني البرية والبحرية «اتفاقية استراتيجية» مع شركة فيدي الصينية تمنحها فيه حق الاستثمار في 300 ألف متر مربع من المنطقة الحرة في عدرا في ضواحي دمشق لمدة 20 عاماً، حيث سيتم التركيز على المنتجات التجارية والخدمية للسوق المحلية والإقليمية، بحيث تحصل على مزايا تشمل الإعفاءات الضريبية الكاملة، وحرية توظيف العمالة المحلية أو الأجنبية والتحويل غير المقيد لرأس المال الأجنبي. كذلك وقعت الحكومة اتفاقية مع اتحاد شركات قطري - أميركي - تركي بقيمة 7 مليارات دولار في مجال الطاقة لتوليد 5.000 ميغاواط من الكهرباء.

تحاول الإدارة السورية الجديدة استمالة القوى الخارجية عبر هذه التلزيمات لمحاولة التأثير على سياستها الخارجية حيال سوريا، بحيث تمارس هذه الشركات النفوذ على حكوماتها لضمان مصالحها الاقتصادية. فعلى سبيل المثال جوناثان باس، وهو ناشط جمهوري مؤيد لترمب والرئيس التنفيذي لشركة أرجنت للغاز الطبيعي المسال، زار دمشق أوائل شهر مايو (أيار) الماضي في زيارة نسقتها المنظمة السورية للطوارئ (وهي تجمّع سوري - أميركي) لعرض خطة على الشرع لتطوير موارد الطاقة مع شركات غربية وشركة النفط الوطنية السورية.

ارتفاع معدل عودة اللاجئين خارج سوريا بعد رفع العقوبات الدولية (رويترز)

في العموم، يمكن القول إن هناك ثلاث محطات رئيسية للعقوبات الأميركية على سوريا: الإدراج على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ عام 1979، قانون محاسبة سوريا وسيادة لبنان عام 2003، قانون قيصر عام 2019. الأول يحتاج إلى قرار متوقع أن تأخذه وزارة الخارجية، والباقي إلى قرارات من الكونغرس. أي هناك تحوّل جذري متوقع ووشيك في الركيزة الأولى فقط، فيما تستكشف إدارة ترمب ما يمكن لحكومة سوريا الجديدة تحقيقه قبل السعي إلى رفع دائم للعقوبات.

لذا، يصعب القول إن الاستثمار الأميركي سيتدفق سريعاً إلى سوريا، فنشهد مثلاً برج «ترمب» يعلو قرب سوق الحميدية، بل ذلك إعطاء ضوء أخضر لتركيا والدول العربية بالاستثمار في إعادة الإعمار دون التعرض لعقوبات أميركية، ريثما تتأكد واشنطن من ضمان الاستقرار الأمني والسياسي قبل المخاطرة باستثماراتها. فحكومة دمشق لا تسيطر على كامل سوريا حالياً، ولا تملك سيطرة كاملة على الفصائل المسلحة، كما أن هناك اتجاهاً دولياً لفرض عقوبات جديدة على كيانات وأشخاص بسبب ارتباطهم بأحداث الساحل السوري في مارس (آذار) الماضي.

وبهذا يمكن القول إن عقوبات قانون قيصر كانت لتغيير سلوك نظام الأسد وأصبحت وظيفتها الآن التأكد من حسن سلوك حكومة الشرع. هذا التجديد كل ستة أشهر لن يطمئن المستثمرين، لا سيما في الغرب، لدخول الأسواق السورية فيما الرابح الأكبر سيكون دول الجوار.

أفكار فريق الشرع قد تكون طموحة وتهدف حالياً إلى استمالة ترمب شخصياً عبر تعاملات اقتصادية مثل طرح خطة إعمار على غرار خطة مارشال مع شركات غربية. لكن ترمب يصعب «سحره» بسهولة. فحتى الآن ليست أولوية إدارته إعادة تعيين سفير في دمشق، بل عينت السفير الأميركي في تركيا توم باراك مبعوثاً لسوريا، ما يشي أن سوريا هي امتداد للسياسة الأميركية حيال تركيا.

وصحيح أن ترمب متقلب وقد يغيّر قراراته أحياناً بالسرعة نفسها التي يتخذها بها، لكن المؤشرات تدل على أننا لا نزال في مرحلة إعفاءات مؤقتة ومنح تراخيص ظرفية وليس إلغاء كاملاً للعقوبات.