عن «اليوم الأسوأ في تاريخ السويد»... جريمة معلّقة ضحيتها مهاجرون

أحداث متفاقمة سبقت إطلاق النار وأسئلة صعبة حول الأمان الاجتماعي

ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
TT
20

عن «اليوم الأسوأ في تاريخ السويد»... جريمة معلّقة ضحيتها مهاجرون

ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)
ساحة قرب مجمع المدراس في مدينة أوريبرو السويدية وقد تحولت مزاراً لإحياء ذكرى ضحايا إطلاق النار (غيتي)

في حادثةٍ هزّت السويد وأدخلتها في دوامةٍ من الأسئلة الصعبة حول مستقبل الهجرة ومستوى الأمان الاجتماعي في البلاد، لقي أحد عشر شخصاً معظمهم من المهاجرين مصرعهم، وأصيب ستة آخرون بجروح خطرة، في إطلاق نار جماعي وُصف بأنه «الأسوأ في تاريخ البلاد». وكانت الحادثة التي كشفت عن هشاشة بنيوية في المجتمع السويدي، وقعت في 4 فبراير (شباط) 2025 داخل حرم مجمع مدارس «ريسبرجسكا» في مدينة أوريبرو، على بُعد 200 كيلومتر غرب العاصمة استوكهولم.

وجاءت هذه الجريمة المروعة بعد سلسلة أحداث متفرقة لم تلقَ الصدى الكبير الذي تلقاه عادة حوادث إطلاق نار أو جرائم أخرى، خصوصاً إذا كان المرتكب مهاجراً أو من خلفية مهاجرة.

ففي 7 يناير (كانون الثاني) 2025 قتلت ميسون أيوب (60 عاماً)، بعد تعرضها للطعن في متجر بضاحية بوتشيركا جنوبي استوكهولم، لتعتقل الشرطة رجلاً في الخامسة والعشرين، أظهر الفحص النفسي أنه «مصابٌ باضطرابٍ عقلي حاد»، وقبل ذلك، في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2024، قتل نيمو بشير داود (28 عاماً)، من أصول صومالية، في منطقة غابات مارشتا Marsta شمال غربي استكهولم. وبحسب الشرطة، «قُبض على مشتبه به خضع سابقاً لرعاية نفسية إلزامية».

وفي 12 أغسطس (آب) 2024، شهدت مدينة بوروس حادثة صادمة، إذ اندفعت سيارة نحو مظاهرة مؤيدة لفلسطين، مما أثار الذعر بين المشاركين وأوقع بينهم جرحى. السائق، الذي تبين من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة به أن له توجهات يمينية متطرفة، اقتحم الحشد مرتين، وفقاً لشهود عيان. ولاحقاً أظهرت تحقيقات الشرطة أن السائق، وهو رجل أعمال في الستينيات من عمره، لديه تاريخ من التفاعل مع المحتوى اليميني المتطرف على الإنترنت. كما تضمنت تعليقاته دعوات صريحة للعنف ضد الفلسطينيين، بما في ذلك تحريض مباشر على قتلهم وتجويعهم.

بالتالي فإن الجريمة «الأسوأ على الإطلاق» في تاريخ السويد، والتي وصف حدوثها رئيس الوزراء، أولف كريسترشون، بـ«اليوم المظلم في التاريخ السويدي» لم ترق بحسب تحقيقات الشرطة ووسائل الإعلام إلى اعتبارها «عملاً ارهابياً» لكون المنفذ قتل نفسه وليس من خلفية مهاجرة على ما ندد كثيرون من أهالي الضحايا.

خطاب معادٍ للأجانب

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى السياسي في حزب اليسار وعضو مجلس مقاطعة أوريبرو السابق لمدة 24 عاماً جهاد نعمة والمقيم في السويد منذ 1990، فقال إن ما حدث كان متوقعاً، لكنه لم يكن ليُتصور أنه بهذه الوحشية.

أهالي ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو يوقدون الشموع ويضعون الزهور في موقع الحادثة (غيتي)
أهالي ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو يوقدون الشموع ويضعون الزهور في موقع الحادثة (غيتي)

وقال نعمة: «الخطاب السياسي الذي تنتهجه الأحزاب الحاكمة حوَّل المهاجرين، سواء كانوا قادمين جدداً، أو من المهاجرين القدامى، أو حتى الجيل الثاني، إلى شماعة تُعلق عليها جميع الأزمات والإخفاقات السياسية. وأدى ذلك إلى خلق قاعدة ناخبة باتت ترى الهجرة والمهاجرين على أنهم المشكلة الأساسية في البلاد».

ويضيف نعمة: «سياسات التقشف والاضطراب الاقتصادي وسوء إدارة الموارد أعادت ترتيب الأولويات على مستوى البلديات والمقاطعات، فقد شهدنا تراجعاً في الميزانيات المخصصة للرعاية الصحية، بما في ذلك دعم الأشخاص المصابين بأمراض نفسية، بينما جرى خفض الضرائب على أصحاب المداخيل المرتفعة. وهذا بدوره أدى إلى تفاقم غياب العدالة الاجتماعية، وزيادة الفجوة بين الطبقات، وارتفاع معدلات البطالة، فضلاً عن غياب استراتيجيات واضحة لدمج القادمين الجدد. كل هذه العوامل، إلى جانب تصاعد الخطاب السياسي المشحون بالكراهية ومعاداة الأجانب، مهّدت الطريق لهذه المجزرة».

كيف بدأت القصة؟

في ظهر يوم الثلاثاء 4 فبراير 2025، تلقت الشرطة السويدية أول بلاغ عن وقوع إطلاق نارٍ داخل حرم مجمع مدارس «ريسبرجسكا» في مدينة أوريبرو، وتحديداً في الطرف الجنوبي للمدينة. يضم المجمّع ست مؤسسات تعليمية متنوعة، من بينها مركز تعليم الكبار ومدارس تعليم اللغة السويدية للمهاجرين، إضافةً إلى روضة أطفال وبرامج تدريب مهني.

وأشارت البيانات الصادرة عن الشرطة إلى أن ريكارد أندرسون، المشتبه به في ارتكاب الجريمة، استقل حافلة من وسط المدينة عند الساعة 07:35 صباحاً، ووصل إلى محطة قريبة من المدرسة في الساعة 07:47. ولم تتوفّر حتى الآن معلومات محدّدة عمّا قام به في الفترة الممتدة من وصوله إلى نحو الساعة 11:30، حين لحظه شهود عيان داخل المجمع التعليمي البالغة مساحته 17 ألف متر مربع. وفي صورة وزعتها الشرطة على وسائل الإعلام، حصلنا على نسخة منها، يظهر الجاني وهو يسير حاملاً حقيبة غيتار على ظهره وكيساً في كل يد، مما يُضيف بُعداً آخر لغموض دوافعه وسير الأحداث.

وعند الساعة 12:33، ورد بلاغ رسمي عن إطلاق نارٍ في المكان. وصلت أول فرقة شرطةٍ بعد ست دقائق، ودخل أفرادها المبنى في الساعة 12:40. في الدقيقة التي تلت ذلك، تبادلوا إطلاق النار مع المشتبه به، قبل أن تؤكد الشرطة عند الساعة 12:45 أنّ أندرسون أنهى حياته بيده.

مسؤول الشرطة السويدية هنريك دالستروم (إ.ب.أ)
مسؤول الشرطة السويدية هنريك دالستروم (إ.ب.أ)

في نحو الساعة 13:20، نشرت الشرطة بياناً عبر موقعها الإلكتروني طالبت فيه المواطنين بالابتعاد عن المنطقة، مشيرةً إلى وجود «تهديد محتمل باستخدام العنف المميت». تزامن ذلك مع مداهمة قوات أمنية أخرى منزل المشتبه به. وبعد قرابة ساعةٍ ونصف من هذا النداء، عُقد مؤتمر صحافي أكّد خلاله رئيس الشرطة أن التحقيق في مراحله الأولى، وأنه «لا دليل على وجود دافع آيديولوجي أو إرهابي حتى تلك اللحظة».

بعد ساعة ونصف من إصدار البيان، وعلى عكس حالات عنف سابقة، عقدت الشرطة مؤتمراً صحافياً ظهر فيه رئيس الشرطة وحيداً يتلقى السؤال نفسه تقريباً من كل الصحافيين: «هل كانت عملية إرهابية»؟ لتأتي الإجابة نفسها مراراً: «ليس ما يشير إلى دافع آيديولوجي. لا يوجد حتى الآن أي دافع واضح».

في وقتٍ لاحق من اليوم نفسه، أعلنت الشرطة مقتل عشرة أشخاص في موقع الحادث، وأشارت إدارة منطقة أوريبرو إلى أن ستة أشخاص آخرين - جميعهم فوق الثامنة عشرة - يتلقون العلاج في المستشفى؛ خمسة منهم في حالة خطيرة، لكن مستقرة، ثم ارتفعت الحصيلة لاحقاً إلى 11 قتيلاً. وأوضحت الشرطة أن المشتبه به، الذي لم يكن معروفاً لها ولا يرتبط بأي عصابة، يُعتقد أنه تصرف بمفرده، وهو أحد من لقوا حتفهم أثناء الحادث. ثم نفى المسؤولون وجود دافع إرهابي وراء هذه الجريمة، لكن الآن تشمل التهم محاولة القتل وإحداث حرائق عمدية وجرائم استخدام الأسلحة النارية الخطيرة.

من هو ريكارد أندرسون؟

بدأت تتراكم التساؤلات حول ماضي الجاني، الذي لم يُدن سابقاً بارتكاب أي جريمة؛ إذ وصفه زملاؤه في المدرسة بأنه شخص هادئ الطباع عانى من صعوبات دراسية جسيمة، ولم يحقق معايير النجاح بعد إنهاء المرحلة الإعدادية، حتى إن أحد رفقائه وصفه بأنه «منعزل». وبعد انتهاء دراسته الثانوية، تلاشت تفاصيل حياته إلى حد بعيد.

بيانات مصلحة الضرائب تظهر أنه لم يحقق أي دخل خاضع للضريبة منذ عام 2014، أي أن دخله لم يتجاوز 100 ألف كرونة. كما أكدت الشرطة تسجيله في المركز التعليمي، الذي وقعت فيه المأساة. حصلت «الشرق الأوسط» على مستندات صادرة عن وكالة التجنيد والتقييم الدفاعية السويدية والتابعة لوزارة الدفاع، تُشير إلى أن الرجل قد تم إعلامه مراراً بأنه غير مؤهل للخدمة العسكرية عند بلوغه سن الرشد. وجاء في القرار: «أنت وجميع الرجال السويديين ملزمون يالتجنيد العسكري عند بلوغكم 18 عاماً. ومع ذلك، تستدعي الوكالة فقط الذين يملكون الإمكانات للتسجيل في الخدمة العسكرية أو المدنية أو للانضمام إلى الاحتياطي التعليمي». لكن رغم عدم أهليته للخدمة العسكرية فإن أندرسون حاز على رخصة لحيازة أربع بنادق صيد. وبهذه الأسلحة المرخصة، التي تضمنت بندقية إصابة مع ذخيرة من عيار مقاس 30-06 ، وكذلك بندقية صيد عادية، قام بارتكاب المجزرة تاركاً وراءه حدثاً زلزل السويد.

مسعفون في مجمع المدارس في مدينة أوريبرو السويدية حيث وقعت حادثة إطلاق نار وصفت بـ«الأسوأ في تاريخ البلاد» (غيتي)
مسعفون في مجمع المدارس في مدينة أوريبرو السويدية حيث وقعت حادثة إطلاق نار وصفت بـ«الأسوأ في تاريخ البلاد» (غيتي)

رابطة الصيادين السويدية على موقعها الرسمي تُشير بوضوح إلى أن «شهادة الصيد» تُعد شرطاً أساسياً للحصول على ترخيص لحيازة أسلحة الصيد، حيث تتألف من اختبار نظري وثلاثة اختبارات عملية، وأنه لا يوجد حد أدنى للسن، لكن يجب أن يمتلك المتقدم اللياقة البدنية اللازمة للتعامل الآمن مع الأسلحة. كما يجب الحصول على «شهادةصيد» كشرط أساسي قبل التقديم للحصول على ترخيص لدى الشرطة، لشراء واستخدام أسلحة الصيد، ويُستوفى ذلك بعد تقييم قدرات الفرد وفقاً للمعايير الفحص الموحدة. حاولنا سؤال جهاز الشرطة عن طريق إرسال رسالة إلكترونية، حول آليات هذا الفحص، غير أن المسؤولين على المستوى الوطني رفضوا الإدلاء بتصريحات إضافية، وطلبوا منا التواصل مع الشرطة في منطقة شرطة بيرجسلاجن التي تقع مدينة أوريبرو ضمن نطاق عملها، والتي تتولى التحقيق في الحادثة بحسب إيمانويل ألفاريز، السكرتير الصحافي في المركز الإعلامي لدى الشرطة الوطنية.

بعد اسبوع من الانتظار اكتفت الشرطة في منطقة بيرجسلاجن بالرد أنه «من المهم أن نتذكر أن هذا تحقيق مستمر وأن حقائق جديدة قد يتم اكتشافها و/أو إثباتها مع مرور الوقت. وستقوم الشرطة بالإعلان عن التفاصيل عندما تتوفر لدينا حقائق جديدة لتقديمها وعندما نشعر أننا قادرون على تقديم المعلومات».

مظاهر إسلاموفوبيا

تقول المترجمة نور مارتيني، المقيمة في أوريبرو، إن المدينة شهدت تصاعداً ملحوظاً في مظاهر الإسلاموفوبيا في السنوات الاخيرة. وتشير إلى أن حركة «مقاومة الشمال» المرتبطة بالنازيين الجدد التي بدأت في 2018 في نشر آيديولوجيتها في وسط المدينة بلغت حدوداً قصوى في السنتين الأخيرتين. في العام نفسه، تعرّض مسجد أوريبرو لحريق لم تُعرف أسبابه بشكل قاطع، إذ أُشيع أن أحد رواد المسجد كان وراء الحادث بسبب خلافات داخلية، لكن المسجد لم يُعَد بناؤه منذ ذلك الحين.

الشرطة السويدية تطوّق مجمّع المدارس الذي شهد إطلاق نار أودى بحياة 11 شخصاً في مدينة أوريبرو (غيتي)
الشرطة السويدية تطوّق مجمّع المدارس الذي شهد إطلاق نار أودى بحياة 11 شخصاً في مدينة أوريبرو (غيتي)

وتضيف نور أن التوترات بلغت ذروتها خلال أحداث حديقة سفيا باركن في 15 أبريل (نيسان) 2022، عندما اندلعت مواجهات عنيفة بين الشرطة وسكان مسلمين، على خلفية منح المتطرف اليميني راسموس بالودان تصريحاً لحرق المصحف أمام مسجد في ضاحية «فيفالا» شمال المدينة بما اعتبر قانوناً «حرية تعبير». ورغم تصاعد التوتر الأمني، فإن بالودان أصرّ على تنفيذ خطته، مما أثار استياء الجالية المسلمة وطرح تساؤلات حول الهدف من منحه التصريح،.

وبحسب نور، فإن التداعيات القانونية للأحداث أسفرت عن محاكمة ما لا يقل عن 150 شخصاً، معظمهم من الشباب والمراهقين، الذين تحولوا إلى أصحاب سوابق جنائية بموجب القانون السويدي، مما سيؤثر على مستقبلهم الاجتماعي والمهني، لا لسبب فعلي إلا لرغبة أحدهم بحرق كتابهم الديني.

وتلفت نور إلى أن الخطاب السياسي في السويد أصبح أكثر وضوحاً في استهدافه للمهاجرين، خاصة خلال مناقشات الحكومة في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حول تعديل النظام الانتخابي للمجالس المحلية والبلديات. خلال هذه المناقشات، حذّرت نائبة رئيس الوزراء وزعيمة الحزب المسيحي الديمقراطي إيبا بوش من أن استمرار النظام الحالي قد يؤدي إلى «سيطرة المهاجرين على بلدية أوريبرو»، وهو تصريح اعتبره كثيرون معادياً للأجانب. كما تستذكر نور تصريحات بوش السابقة خلال أحداث سفيا باركن، حين تساءلت: «لماذا لم نشهد مقتل مائة إسلامي على الأقل؟»، في إشارة إلى الاحتجاجات العنيفة التي وقعت بعد حرق المصحف. وترى أن هذه اللغة الحادة أسهمت في تأجيج المشاعر ضد المهاجرين، وساهمت في تشكيل توجه سياسي يمنح اليمين المتطرف نفوذاً متزايداً.

ولم يكن الخطاب المعادي للمهاجرين حكراً على اليمين، وفقاً لنور. ففي الانتخابات البرلمانية عام 2022، ركّزت جميع الأحزاب على مدينة أوريبرو خلال حملاتها الانتخابية، لما لها من ثقل انتخابي واضح. حتى ماغدالينا أندرسون، رئيسة أكبر حزب في التكتل اليساري آنذاك، لم تتردد في استخدام لغة قومية، عندما قالت خلال حملتها: «ينبغي على الجميع أن يكونوا إسكندنافيين»، في تصريح اعتبره البعض محاولة لاستقطاب ناخبي اليمين.

ترى نور أن جميع هذه العوامل مجتمعةً تشير إلى أن مجزرة أوريبرو كانت «استهدافاً إرهابياً» للمهاجرين، خصوصاً الجالية المسلمة، حتى وإن حاولت الحكومة التخفيف من وقع الحدث أو تجنّب تسميته كهجوم بدوافع عنصرية. ومع استمرار التحقيقات، لا يزال مجتمع المهاجرين يعيش حالة من الترقب والقلق، في انتظار إحاطة الشرطة بالمستجدات. وفي الوقت الذي يشعل فيه المواطنون الشموع تكريماً للضحايا، تواجه بعض العائلات المكلومة تحديات إضافية، حيث أصبح بعض الأطفال مهددين بالترحيل بعد فقدان معيلهم، بينما مُنعت زوجة أحد الضحايا من تلقي العزاء بسبب صدور قرار بترحيلها قبل أن تتمكن حتى من وداع شريك حياتها.

صراع سياسي داخلي

تقول سلوى محمد (اسم مستعار) في حديثٍ لـ«الشرق الأوسط»:«يملؤني الرعب. أفضّل إخفاء هويتي كي أستطيع الحديث بحرية؛ فأنا أخشى الانتقام في بيئة العمل، خاصةً وأن بعض المؤسسات بدأت تضيق الخناق على من ينتقد الأوضاع الراهنة في السويد، لا سيما إن كان من أصول مهاجرة».

الملك والملكة السويديان وخلفهما رئيس الوزراء وزوجته في جنازة ضحايا حادثة أوريبرو (غيتي)
الملك والملكة السويديان وخلفهما رئيس الوزراء وزوجته في جنازة ضحايا حادثة أوريبرو (غيتي)

وترى سلوى أن المهاجرين باتوا هدفاً لصراعٍ سياسي محتدم؛ إذ تسعى بعض الأحزاب إلى تحقيق مكاسبها على حسابهم. وتضيف: «يطالبوننا بالاندماج والعمل، وهو ما نقوم به بالفعل. ومع ذلك، نُقتل. لماذا لا يُطلق على هذه الجرائم وصف (هجمات إرهابية) عندما ينفذها أشخاص سويديون بيض ضد مهاجرين؟ أين اختفت أصوات التحريض ضد المهاجرين؟ ولماذا كل هذا التعتيم على عمليات القتل التي تستهدف اللاجئين في السويد؟».

وتعرب سلوى كما غيرها ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» عن استيائها من ازدواجية المعايير، قائلةً: «لو كان المنفّذ مهاجراً مسلماً، لأُلصقت به على الفور تهمة الإرهاب، لرأينا اليمين السويدي وجهاز الدعاية المرتبط به يتصدّرون الإدانة. أمّا الآن، فلا نجد إلا صمتاً مطبقاً وكأن ضحايا هذه الجرائم ليسوا بشراً، إلى درجة أن جيمي أوكيسون، رئيس حزب ديمقراطيي السويد، لم يذهب إلى أوريبرو بحجة أنه لا يريد استغلال الحادث لأسباب سياسية».

وتتهم سلوى الحكومة الحالية بـ«تعزيز الانقسام المجتمعي» عبر ما تصفه بـ«سياسات تمييزية وإقصائية»، مدعومةً بوسائل إعلامٍ تحتكر السردية وتهمّش أصوات المهاجرين. وتقول إنّ الإعلام «يركّز على السلبيات والإخفاقات ويستند إلى مصطلحات مثل الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، للتشكيك في أي طرحٍ مختلف عن الرواية الرسمية» التي تروّج لها الشرطة والمؤسسات الحكومية.

قصص من النضال والحب والتحديات

قمنا في «الشرق الأوسط» بمراجعة سير الضحايا بالاستناد إلى المصادر المفتوحة وما نُشر عنهم في الإعلام السويدي. المراجعة تُظهر أن الضحايا العشرة، كانوا من خلفيات متنوعة، بما في ذلك مهاجرون من أفغانستان، والبوسنة، والصومال، وسوريا، والعراق، ومن بين الضحايا: علي محمد (35 عاماً) من أفغانستان، وقمر (38 عاماً) من الصومال، وبسام الشلح (48 عاماً) من سوريا، وسليم إسكيف (28 عاماً) من سوريا، وعزيزة (68 عاماً) من كردستان العراق، وسلمي هوكيك (55 عاماً) من البوسنة، وإلسا تيكلاي (32 عاماً) من إريتريا.

مارة يشاهدون إضاءة جسر أوريسوند في السويد بألوان العلم إحياء لذكرى ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو (غيتي)
مارة يشاهدون إضاءة جسر أوريسوند في السويد بألوان العلم إحياء لذكرى ضحايا إطلاق النار في مدينة أوريبرو (غيتي)

سلمى... الحب أولاً

ولدت سلمى في مدينة توزلا في البوسنة، وكانت تقيم في أوريبرو برفقة أسرتها. في وطنها، كانت ناشطة في العديد من الجمعيات التطوعية، كما أنها تلقت تدريبها ممرضةً مساعدةً في السويد، وحصلت مؤخراً على تصريح عمل وإقامة دائمة، مما عزز فرصها في بناء حياة مستقرة. شاركت عائلتها رسالة كانت قد كتبتها إلى صديقة مقربة، تأملت فيها مسار حياتها، وتطرقت إلى موضوع ترك وطنها والخيارات التي اتخذتها. تحدثت سلمى في رسالتها عن أهمية الحب والتضامن في مواجهة تحديات الحياة. وختمت رسالتها، المكتوبة بلغتها الأم، بطابع شعري صادق يحمل في طياته معاني سامية: «دائماً اختاري الحب»

بسام... خبّاز «تيك توك»

بسام الشلة من سوريا، رب أسرة وأب لطفلين، كان يحضر دروس اللغة السويدية للمهاجرين مرتين أسبوعياً، ويعمل في مخبز. عمل بسام، طباخاً وخبازاً في مخبز لبناني شهير في أوريبرو، وكان شخصية محبوبة ومعروفة في الأحياء المجاورة. لم يكن مجرد طباخ عادي، إذ كان يسجل مقاطع فيديو أثناء عمله ويبثها عبر «تيك توك»، مما جعله يحتل مكانة خاصة لدى متابعيه؛ فقد كان يستقطب الزوار إلى المطعم، من مدن مختلفة كما أوضح زميله بيير العجاج لـ«وكالة الأنباء السويدية»: «لقد كان لديه أسلوبه المميز في تصوير عملياته، بحيث تُظهر تدويناته للهاتف تفاصيل عمله الدقيقة، وكانت موهبته تجذب أعداداً كبيرة من المتابعين وتجلب للمخبز زواراً من مختلف المناطق».

سليم... لا عرس في الصيف

كان سليم القادم من سوريا يدرس ليصبح ممرضاً واشترى منزلاً مع خطيبته وكان من المقرر أن يتزوجا خلال الصيف. تم تجربة فستان الزفاف وحجز الموعد. لكن بدلاً من الاحتفال بزواجه، اجتمعت عائلته وأقاربه وأصدقاؤه لتوديعه وإقامة جنازته في كنيسة القديسة مريم في المدينة.

قمر... حياة جديدة لم تكتمل

جاءت قمر إلى السويد من الصومال منذ أكثر من عشر سنوات، وهي أم عزباء لثلاثة أطفال يبلغ أكبرهم 15 عاماً، والآخر 11 عاماً، بينما يحتفل الأصغر بعيد ميلاده الثاني بعد شهرين من وفاتها. كانت قمر تنوي التوجه إلى متجر إيكيا بعد انتهاء دوام عملها في ذلك اليوم المشؤوم لشراء آخر مستلزمات انتقالها إلى شقة جديدة مع أولادها بعدما بدأت وظيفة تتيح لها العيش في منزل أوسع.

هكذا، وبعد مرور أكثر من شهر على هذه الكارثة، لا تزال أسئلة كثيرة دون إجابة حول خلفية ريكارد أندرسون ودوافعه. وفيما تواصل السلطات جهودها للتحقيق في ملابسات الحادث وتقديم إجابات وافية للمجتمع، ينتظر الناس عموماً، وأهالي الضحايا خصوصاً بفارغ الصبر نتائج هذه التحقيقات لمعرفة ما قاد الجاني إلى ارتكاب هذا الفعل الدموي.

أما الفئة الواسعة من المهاجرين فينتابها خوف من تكرار هذه الحوادث الفردية أو الجماعية وأن تبقى معلقة في أعناق «مرضى نفسيين».


مقالات ذات صلة

قاتل في الـ13 من عمره... جرائم المراهَقة بالعين المجرّدة على «نتفليكس»

يوميات الشرق مسلسل Adolescence يحطّم أرقام المشاهدات ويحتلّ المرتبة الأولى عالمياً (نتفليكس)

قاتل في الـ13 من عمره... جرائم المراهَقة بالعين المجرّدة على «نتفليكس»

Adolescence على «نتفليكس» يدخل نادي المسلسلات الأكثر مشاهدةً، وأوين كوبر يبدع في تجربته التمثيلية الأولى بشخصية المراهق القاتل «جايمي».

كريستين حبيب (بيروت)
أوروبا الشرطة الهولندية تفرض طوقاً أمنياً قرب ساحة دام بوسط العاصمة أمستردام (أ.ب)

إصابة 5 أشخاص في عملية طعن بأمستردام

قالت شرطة أمستردام، اليوم (الخميس)، إن عدة أشخاص أُصيبوا في عملية طعن بالقرب من ساحة «دام» وسط العاصمة الهولندية.

«الشرق الأوسط» (أمستردام)
الخليج نسبت النيابة العامة للمتهمين في قضية «السحوبات» تهم التزوير وتقديم الرشاوى وتسهيل الاستيلاء على أموال الدولة وغسل الأموال (الشرق الأوسط)

«النيابة» الكويتية تعتقل 6 وتلاحق آخرين «دولياً» في «قضية السحوبات»

أمرت النيابة العامة في الكويت بحجز مواطن و5 مقيمين بعد تحقيقات مكثفة كشفت عن تورطهم في جرائم خطرة هزَّت الرأي العام في قضية «السحوبات» التي تمّ الكشف عنها.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
أوروبا شعار الشرطة الفرنسية (أ.ف.ب)

اتهام شخص بالإعداد لهجوم إرهابي في فرنسا

اتهمت النيابة العامة الفرنسية لمكافحة الإرهاب شخصاً أدين بالإقامة في سوريا والعراق بين عامي 2014 و2015، بشبهة الإعداد لهجوم إرهابي في 2024.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق خيمة للشرطة في محمية كيرسال ديل الطبيعية حيث عُثر على الجزء العلوي من جثة إيفريت (سكاي نيوز)

قطَّعه وسلخ وجهه... إدانة «مهووس بالرعب» بقتل رفيقه في السكن

استمعت محكمة مانشستر كراون في إنجلترا إلى أن مارسين ماغيركيفيتش قتل ستيوارت إيفريت، البالغ من العمر 67 عاماً، بمطرقة، قبل أن يُقطِّع أوصاله بمنشار.

«الشرق الأوسط» (لندن)

مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

0 seconds of 7 minutes, 11 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
07:11
07:11
 
TT
20

مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)
الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)

ظل محمود الرخّ متردداً في الدخول إلى مخيمه الذي ولد وعاش فيه، مخيم جنين، بعدما حولته إسرائيل إلى كومة ركام كبيرة، ومصيدة للموت، قبل أن يحسم أمره، ويتجرأ ويعبر إلى داخل المخيم متغطياً بمجموعة صحافيين قرروا الدخول أيضاً بعد مشاورات كثيرة، وطول تردد. فالكل يدرك جيداً أنه قد يتعرض لإطلاق نار، قد يقتل، وقد يصاب، وقد يعتقل.

كان الشارع من دوار السينما الشهير في جنين إلى مداخل المخيم يعطيك انطباعاً سريعاً عما ستشاهده لاحقاً، وقبل المستشفى الحكومي الذي يقبع في آخر الشارع، حول الجنود المدججون بكل أنواع الأسلحة، المدخل الرئيسي للمخيم إلى ثكنة عسكرية. لكن شبان المخيم وأهله وصحافيي المدينة قالوا لنا إنه يمكن أن نتسلل إلى المخيم من خلف المستشفى، في جولة بدت صادمة للغاية.

«لا أحد إلاك في هذا المدى المفتوح»، تذكرت ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش وأنا أعبر إلى المخيم. «لا أحد» في المخيم. «لا أحد»، لا سلطة ولا ناس ولا مقاتلين، «دب الإبرة بتسمع صوتها» على ما نقول. فقط جنود إسرائيليون حولوه إلى كومة ركام كبيرة شاهدة على تاريخ وصمود ومعارك وحياة وذكريات وحكايات كثيرة، يتربصون بأي أحد، ويحلمون كما يبدو بتحويل المكان من فلسطيني إلى إسرائيلي بالكامل.

منشورات ألقاها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين (الشرق الأوسط)
منشورات ألقاها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

لمحنا على مسافة بعيدة لافتات زرعها الجنود، تحمل أسماء عبرية مثل «محور يائير» في محاولة يائسة للسطو على المكان. وكانت مثار سخرية؛ إذ لا يخطئ الجنينيون في لفظ أسماء حاراتهم في المخيم من «الحواشين» إلى «الدمج» و«الألوب»... إلخ.

لم تكن حرباً على المسلحين، لقد كانت حرباً على المكان والناس والتاريخ والحاضر والرواية كذلك، وليست مجرد عملية عسكرية أطلقتها إسرائيل في المخيم في 21 يناير (كانون الثاني) الماضي، في بداية تحرك يتسع نطاقاً في باقي الضفة، بعد إدراجها على قائمة أهداف الحرب.

«السور الحديدي» وقواعد ثابتة

كانت العملية التي تعدّ تغييراً في الاتجاه الإسرائيلي، واتخذت اسم «السور الحديدي»، في تذكير واضح بالعملية الواسعة التي شنتها إسرائيل في الضفة عام 2002 في أثناء الانتفاضة الثانية، وأطلقت عليها اسم «السور الواقي»، واجتاحت معها كل الضفة الغربية، بدأت بهجوم جوي نفذته طائرة مسيرة على عدة بنى تحتية هناك، قبل أن تقتحم الوحدات الخاصة والشاباك والشرطة العسكرية مناطق واسعة في جنين، ثم ينفذ الطيران غارات أخرى.

بعد 25 يوماً، حين وصلنا إلى المخيم كانت إسرائيل قتلت 26 فلسطينياً وجرحت آخرين، وهجّرت 20 ألفاً بالتمام والكمال هم كل سكان المخيم، بلا استثناء.

سألت أحمد الشاويش، وهو صحافي من جنين تطوع للدخول معنا: إذاً ماذا يفعلون في المخيم؟ قال إنهم في مناطق لا نستطيع الوصول إليها يبنون قواعد ثابتة، ما يذكّر بكلام وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنهم لن يغادروا المكان.

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أعلن شخصياً عن بدء العملية في جنين، قائلاً إنها أطلقت «بتوجيه الكابينت»، بوصفها «خطوة أخرى نحو تحقيق الهدف، وهو تعزيز الأمن في الضفة الغربية». وتابع حينذاك: «نحن نتحرك بشكل منهجيّ وحازم ضد المحور الإيرانيّ، أينما يرسل أذرعه؛ في غزة ولبنان وسوريا واليمن والضفة الغربية».

مسألة توقيت لا قرار

لم يكن قرار الهجوم على جنين مستحدثاً، لكنهم قرروا انتظار الهدنة في غزة، وبعد 3 أيام من بدء سريانها هناك، حولوا البوصلة إلى الضفة بعد توصية رئيس الشاباك رونين بار الذي أبلغ المجلس الأمني والوزاري المصغر أنه يجب اتخاذ إجراءات أوسع لتغيير الواقع، والقضاء على المجموعات المسلحة في الضفة، مطالباً «بالتعلم من الذي حصل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)»، ومحذراً من أن الانخفاض الكبير في العمليات في الضفة الغربية «مخادع ومضلل»، و«لا يعكس حجم تطور الإرهاب على الأرض».

آليات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم جنين (الشرق الأوسط)
آليات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم جنين (الشرق الأوسط)

مسألة أخرى قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنها ساهمت في اتخاذ قرار الهجوم على الضفة الغربية، هي الإفراج الجماعي عن الأسرى الفلسطينيين ضمن صفقة غزة، باعتبار ذلك «سيثير حماس الإرهابيين في المنطقة، ويزيد من دوافعهم لتنفيذ الهجمات».

لم أصدق ما شاهدت بأم العين رغم أنني رأيت مئات الفيديوهات من جنين قبل ذلك.

كان الدمار هائلاً؛ بيوت مهدمة، وجدران متهاوية، وشوارع مجرفة، وأكوام من الركام في كل مكان، فيما رائحة الحرائق تفوح من كل زقاق.

مضينا بحذر شديد فيما كانت طائرات «الدرون» التي يسميها الفلسطينيون «زنانات»؛ لفرط الإزعاج الذي تسببه، تحوم فوق المخيم 24 ساعة في اليوم والليلة.

قال الرخ إنه يريد العودة. تردد كثيراً لأن زوجته و2 من أولاده الصغار معه، لكن زوجته أصرّت على أن تواصل؛ لأنها بحاجة إلى جلب معاطف من المنزل. وفعلاً عبرت مع ابنتها إلى هناك، وأحضرت بعض الملابس، أما هو فوقف عاجزاً عن وصف مشاعره وهو يشاهد منزله المهدم جزئياً.

غزّة ثانية

لا أعرف كيف سيشعر أي شخص حين يرى منزله الذي بناه من تعب وعرق واحتضنه مع عائلته قد تبخر بلمح البصر؟! الابن أحمد قطع علينا أفكارنا وهو ينادي والده بفرح: «يابا يابا... جابت ستر جابت ستر (معاطف)».

لم يغادر الرخ سريعاً رغم أن المهمة أُنجزت، وظل يراقب منزله في حارة الحواشين، ثم أشار إلى بيته المحروق والمهدم وقال: «ما خلو اشي ما خلو بيوت ولا سكان».

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)
مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

قال لنا إنه تسلل قبل ذلك وتعرض لإطلاق نار، وأضاف: «لولاكم ما دخلت. خايف يطخوا علينا معي زوجتي وأولادي. شفتكم وتشجعت... والله الحامي».

وأضاف: «إشي لا يصدق شوف شوف. غزة ثانية عملوها».

سألته: ماذا ستفعل بعد ذلك؟ قال: «سنعود. سأنصب خيمة وراح أنام فيها».

فعلاً كان مخيم جنين غزة صغيرة، عبرنا فوق أكوام الركام، ودخلنا عبر البيوت المهدمة والمفتوحة لتجنب الجيش في الشوارع.

وكان فادي، أحد أبناء المخيم، خبيراً في أزقته، وحاول إلى حد كبير توجيه جولتنا مع كثير من التحذيرات.

طلب منا الوقوف فجأة عندما سمع صوت جيب إسرائيلي يسميه الفلسطينيون «بوز النمر». صاح: «وقفوا بوز نمر قريب». لم يصدر أحد صوتاً، وخيم السكون. تدخل صديقه وقال: «من هنا»، فاضطرنا إلى تسلق ما يشبه جبلاً من الركام، ثم هبوط جبل آخر لنعبر إلى حارة أخرى.

كان شيئاً لم نشهده في الضفة الغربية في الانتفاضتين: الأولى والثانية. وعلى الرغم من أن كل الفلسطينيين اختبروا كل أشكال الحرب، بما في ذلك غارات الطيران الحربي وتوغل الدبابات في قلب المدن، فإن مخيم جنين بدا شيئاً آخر. ولا حتى ما تبثه الشاشات يمكن أن يعكس هول المشهد.

حزن كبير يغمر المكان. حزن الحجارة والشوارع على المكان والناس الذين كانوا قد تشردوا عند أقارب لهم في مراكز نزوح تقام لأول مرة في الضفة الغربية.

تجريف لتسهيل الاقتحام

لم أعرف أين وقف كاتس، نهاية الشهر الماضي، عندما وصل إلى المخيم، لكني تخيلته وهو منتشٍ بما شاهده من دمار يوازي دمار غزة.

قال من هنا إنه سيواصل الهجوم، ولن يخرج من المخيم الذي لن يعود كما كان حتى بعد انتهاء العملية.

نظرت إلى المخيم وفهمت أنه لن يعود كما كان، لكني لم أفهم ضد من سيواصل الهجوم في مكان بلا أحد!

سألت الصحافيين والناس مرة أخرى إن كان هناك مسلحون فقالوا: «لا، لا يوجد أي أحد. لا يوجد أي بشر هنا فقط هذا الدمار».

لكن إسرائيل مصرّة وتقول إن العملية في جنين مستمرة، وهدفها «تحييد المسلحين بالكامل»، ويتحدثون عن عملية قد تستمر عدة أشهر.

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)
مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

في الأثناء كانت الجرافات تصل إلى المخيم، وانطلق نقاش حول تجريف إسرائيل شوارع واسعة في المخيم قد تحوله إلى مربعات سكنية صغيرة، بما يسمح للجيش بالبقاء والاقتحام وقتما يشاء.

وربما أنهم مثل ما يحلمون في غزة يحلمون في مخيمات الضفة، تهجير الناس وتقليص المساحات للوجود الدائم، واستيطان إذا تسنى لهم.

في أحد أزقة المخيم التي تحولت إلى «طينة» بفعل تدمير البنية التحتية، كان ثمة بيانات سابقة ألقاها الجنود ما زالت موجودة تطالب أهل المخيم بنبذ المسلحين، وتقول إنهم السبب بتدمير المخيم، وإنهم هم من يدفع الثمن.

والبيانات أسلوب إسرائيلي قديم جداً لم يتوقف، وطالما ألقى الجيش طيلة الانتفاضة الثانية في كل مكان في الضفة بيانات تقول للفلسطينيين: «قف وفكر. لا تدعم المسلحين».

لم يتوقف الفلسطينيون ولا المسلحون ولا إسرائيل.

لكن في مخيم جنين بعد معارك طويلة ومستمرة، لم يكن هناك اليوم أي مسلحين، ولكن أكوام. أكوام من كل شيء، أكوام حجارة، أكوام حديد، أكوام سيارات محترقة، أكوام رمل، ولا شيء سوى الأكوام.

السجن الكبير

لا تكفي جولة سريعة تقوم بها تحت الضغط والقلق. فأنت بوصفك فلسطينياً أولاً، وإنساناً ثانياً، تنسى أنك صحافي، وتغرق في دهشة وحزن وكثير من الأمنيات بالتخلص من واقع معقد وصعب حوّل الجميع إلى سجناء في سجن كبير بعنابر متفاوتة، ينتظرون الموت أو الإذلال المستمر.

في الطريق إلى جنين عبرنا حواجز عديدة، وكان علينا متابعة أخبار الحواجز؛ لمعرفة إن كانت مفتوحة أو مغلقة أو مزدحمة. وكان علينا أن نلتف عليها في رحلة تحولت إلى مضنية، وأكثر من مضنية خصوصاً في طريق العودة حين أصر الجنود على تفتيش السيارة والجوالات، وبدأوا يطرحون أسئلة سخيفة.

لم نصدق أننا خرجنا سالمين من مصيدة الموت في المخيم.

مجموعة الصحافيين تخرج على عجل من مخيم جنين (الشرق الأوسط)
مجموعة الصحافيين تخرج على عجل من مخيم جنين (الشرق الأوسط)

«لقد نجونا»، صرنا نفكر قبل أن يهمهم الجميع بعد العودة إلى المستشفى الحكومي، الحمد لله على السلامة.

قال الشاويش إنهم في آخر محاولة للدخول تعرضوا لإطلاق النار، وقد أصيب مواطنون حاولوا الدخول إلى المخيم. وفي المرة التي سبقت ذلك اضطر الصليب الأحمر للتدخل من أجل إخراج صحافيين حوصروا داخل المخيم.

خارج المخيم صادفنا شباناً يتصيدون الفرصة للدخول، يراقبون تحرك الآليات ويستطلعون المداخل، وبادروا بسؤالنا: «كيف الوضع؟ وين وصلتوا؟ لاقكم جيش؟».

قال أحمد سمارة إنه يدخل بشكل شبه متكرر متسللاً إلى حارة الدمج، إحدى الحارات التي لم نستطع الوصول إليها ودُمرت بشكل كبير.

وسألته: لماذا يخاطر هكذا؟ فقال باستنفار: «أنا داخل على بيتي مش على بيتهم، بدي أدخل غصب عنهم. خليهم يطخوني».

وفي كل مرة، يصل سمارة إلى بيته المدمر يُلقي نظرة عليه، ويسلّم ويغادر. ومثل الرخ ينتظر سمارة نهاية العملية العسكرية من أجل أن ينصب خيمته هناك، ويقول: «أنا راح أرجع على مخيمي، أنا بحب مخيمي وراح نعمره بأيدينا».

تهجير قسري وتمسّك بالعودة

وبحسب منسق القوى الوطنية والإسلامية في جنين، راغب أبو دياك، فإن الاحتلال هجّر قسراً ما يزيد على 20 ألف مواطن من مخيم جنين، بعدما دمر وعاث خراباً في 470 منزلاً بشكل كامل وجزئي.

لم تكن هذه معركة المخيم الذي بني عام 1953 بحسب وكالة «أونروا» الوحيدة، فقد خاض رجاله مواجهة كانت الأعنف في الضفة الغربية عام 2002.

لكن الناس لم يغادروا آنذاك.

وشرح سكان من المخيم كيف أنهم اضطروا للمغادرة تحت تهديد الجنود والطائرات المسيرة التي كانت تطلق النار.

بعضهم كان محظوظاً لأن له أقارب وأنسباء خارج المخيم، لكن عدداً آخر كان عليه أن يجرب ما جربه الفلسطينيون في قطاع غزة.

كانت جنين المدينة هادئة إلى حد ما لكنها أيضاً متعبة.

وفي جمعية «الكفيف» الخيرية، وجدنا العشرات من سكان المخيم يعيشون هناك، ومثلهم مئات في مراكز نزوح أخرى في المدينة والقرى المجاورة.

رجال يقتلون الوقت في نقاشات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأولاد يلعبون في حديقة متواضعة، ونساء يتدبرن أمور الحياة، وجميعهم يربون الأمل فقط من أجل عودة قريبة.

لم يتخيل نظمي تركمان أنه سيكون نازحاً يوماً، وقال إن الموقف صعب وحزين للغاية.

وأضاف: «شفت بحياتي كتير. عشت اجتياحات وقتل وضرب وهدم بس هاي المرة غير».

ومثل غيره، يتسلل تركان إلى المخيم كل يوم مأخوذاً بالحنين: « كل يوم برجع بروح بتفرج على البيت المحروق».

سألته أيضاً: ماذا سيفعل بعد انتهاء العملية؟ فأجاب مثل الآخرين: «راجعين مش بس على المخيم وبدنا نرجع كمان على 48. بفكروا يهجرونا من المخيم لا! أنا من حيفا وبدي أرجع على حيفا».

زوجة محمود الرخّ وابنته تحاولان تفادي القناص للوصول إلى المنزل وسحب حاجيات ضرورية (الشرق الأوسط)
زوجة محمود الرخّ وابنته تحاولان تفادي القناص للوصول إلى المنزل وسحب حاجيات ضرورية (الشرق الأوسط)

غضب على السلطة

وصلت سيارات إلى المكان تحمل بعض المساعدات التي بدت متواضعة، ولا تلبي الاحتياجات، وبعد أيام قليلة فقط أصدر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى توجيهات بتوفير الإيواء والإغاثة اللازمة للنازحين في محافظات شمال الضفة الغربية، خاصة في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس.

لكن الحاجة حليمة، وهي معروفة على نطاق واسع في المخيم ونزحت هي الأخرى منه إلى مركز المكفوفين لم تكن راضية عن دور السلطة.

وقالت الحاجة حليمة، وهي عضو سابق في اللجنة الشعبية في مخيم جنين، إن المخيم دفع ثمناً كبيراً عندما حاصرته السلطة في السابق.

وأضافت بكثير من الألم: «شوف بعد كل هذا العمر وين صرنا إشي بحزن إشي قاتل بالآخر نتشرد من دورنا».

تفهم الحاجة حليمة أن الحرب الحالية أكبر من مجرد عملية، وتعتقد أنها تستهدف حق العودة باستهداف المخيمات ووكالة «أونروا».

في أثناء ذلك، كانت إسرائيل تعيد في مخيم نور شمس بطولكرم ما فعلته في مخيم جنين.

لقد بدت حرباً واضحة على المخيمات. لكن الحاجة حليمة استخفت بهم وبحربهم وقالت: «أنا مولودة بالمخيم وراح أرجع... وزي ما بقول المثل: المربى قتال».