ربع قرن على عرش الكرملين

كيف غير بوتين ملامح روسيا والعالم؟

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي


مقالات ذات صلة

تهوين أوروبي من توقف ضخ الغاز الروسي

الاقتصاد دونالد ترمب يتحدث مع المسؤولين التنفيذيين والمديرين خلال زيارة لمنشأة تصدير الغاز الطبيعي المسال كاميرون في هاكبيري (رويترز)

تهوين أوروبي من توقف ضخ الغاز الروسي

هوّنت المفوضية الأوروبية من توقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا، أمس (الأربعاء)، مؤكدةً أن الاتحاد الأوروبي استعدَّ مبكراً لمواجهة هذا الأمر الذي كان متوقعاً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمره الصحافي السنوي الكبير وخلفه رجلان يحملان علم القوات البحرية التابعة لأسطول المحيط الهادئ (أ.ب) play-circle 01:10

بوتين: لم ألتقِ الأسد بعد... وأجلينا 4 آلاف مقاتل إيراني من سوريا

قال الرئيس الروسي، الخميس، إن بلاده لديها علاقات مع كل الجماعات في سوريا، مشيراً إلى أنه لم يلتقِ بالرئيس المخلوع بشار الأسد في روسيا لكنه «يعتزم» مقابلته.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا صورة من قمر اصطناعي تظهر دفاعات جوية من طراز «إس 400» بقاعدة حميميم الجوية الروسية بالقرب من اللاذقية في سوريا يوم 25 نوفمبر 2024 (رويترز)

روسيا لم تحسم بعد مصير قاعدتيها العسكريتين في سوريا

أعلن الكرملين، اليوم (الاثنين)، أنه لم يحسم بعد مصير المنشآت العسكرية الروسية في سوريا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
عالم الاعمال جانب من المنتدى

منتدى الاستثمار الخامس عشر لبنك في تي بي «روسيا تنادي!» يختتم أعماله في موسكو

استضاف منتدى الاستثمار الخامس عشر لبنك في تي بي «روسيا تنادي!» على مدار يومين نحو ألفي ضيف، بمن في ذلك مستثمرون أفراد ورجال أعمال ومسؤولون حكوميون. وغطّى…

عالم الاعمال منتدى الاستثمار الخامس عشر لبنك في تي بي ينطلق تحت عنوان «روسيا تُنادي! 2024: ما يُمكن توقّعه»

منتدى الاستثمار الخامس عشر لبنك في تي بي ينطلق تحت عنوان «روسيا تُنادي! 2024: ما يُمكن توقّعه»

ينعقد منتدى الاستثمار الخامس عشر لبنك في تي بي «روسيا تُنادي!» في موسكو يومي 4 و5 ديسمبر (كانون الأول)، حيث سيركّز هذا العام على موضوع «مستقبل رأس المال…


إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.