الأسد في سوريا ولبنان... ربع قرن من الاستباحة والتدمير

كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)
كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)
TT

الأسد في سوريا ولبنان... ربع قرن من الاستباحة والتدمير

كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)
كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)

مع حلول القرن الحادي والعشرين بدا أنّ الانعطاف في الزمن يحمل انعطافاً في التاريخ. فلنتذكّر العام 2000 الذي منّ علينا ببضعة أحداث يصعب اجتماعها في عام واحد. ففي 10 يونيو (حزيران)، توفّي حافظ الأسد، وبكى كثيرون كما يبكي الضحايا آباء قساة قهروهم وطفّلوهم. لكنّ أكثر منهم قالوا في سرّهم: لأوّل مرّة يصنع الأسد عملاً مفيداً.

وحافظ، الذي كان عمليّاً رئيس البلدين، كان قد أغمض عينيه بعد حدثين شهدهما العام ذاته: ففي مارس (آذار)، كان اجتماعه بالرئيس الأميركيّ بيل كلينتون في جنيف لبحث استئناف التفاوض السوريّ - الإسرائيليّ. هناك قرئ السلام على السلام لأنّ الأسد، وفق عبارته، اختار «الشرف» بديلاً. ومع أنّه كان معروفاً بالجلوس سبع ساعات متواصلة على كرسيّه، فقد تذكّر أنّه كان في شبابه يسبح في بحيرة طبريّا، وأنّ السلام سيكون مرفوضاً ما لم يمنحه كلّ شبر منها.

وفي 25 مايو (أيار)، انسحب الإسرائيليّون من جنوب لبنان التزاماً بالوعد الانتخابيّ الذي قطعه إيهود باراك بالانسحاب من طرف واحد. يومها فُجع أنصار الأسد اللبنانيّون والسوريّون بالانسحاب الذي أحرج إصرارهم على مواصلة حمل السلاح، فسمّوه «مؤامرة الانسحاب». هكذا أخرج أحدهم من قبّعته أرنب «مزارع شبعا» المنسيّة، التي احتلّها الإسرائيليّون في 1967 من سوريّا، فأُرفق الاكتشاف بتجديد صرخة الحرب: إمّا الانسحاب من مزارع شبعا أو فليخرب العالم. لكنْ سريعاً ما هدأت الأعصاب وأُعلن أنّ ذاك الانسحاب يرقى إلى «تحرير» أنجزه «حزب الله» بدعم «سوريّا الأسد».

حافظ الأسد والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في جنيف عام 2000 (غيتي)

تدريب بشّار وسياسيّو لبنان

حين توفّي حافظ، روى أحد السوريّين طُرفة عن فلاّح بسيط من درعا توجّه شمالاً نحو دمشق بقصد المشاركة في جنازة الرئيس. لكنّه مع اقترابه من العاصمة، وقعت عيناه على يافطة كُتب عليها: «الأسد خالد لا يموت». هنا، قفل فلاّحنا البسيط عائداً، ظانّاً أنّ الخبر الذي تناهى إليه شائعة فبركها الأعداء الذين يصفهم الإعلام الرسميّ بفبركة الشائعات.

ولم يكن خطأ الفلاّح كاملاً، أو أنّ ذلك ما تبيّن حينما انتقلت السلطة إلى النجل بشّار، فبدا أنّ حافظ خالد حقّاً. فرغم تغييرات حدثت هنا وهناك، ربطها البعض بشباب بشّار ودراسته في لندن واقترانه بفتاة «عصريّة» تعرف العاصمة البريطانيّة كما تعرف كفّها، بقيت النزعة الخرابيّة أقوى ما يتربّع في قصر المهاجرين. هكذا جاز الحديث عن وصيّة حافظ لنجله، ومفادها: فلتَبق الحرائق مشتعلة إلى أن يقضي الله أمراً.

وبشّارُ لم يكن حقل تدريبه إلا لبنان، غرفة نوم النظام السوريّ. ففي 1998، وعلى طريق توريثه الذي بدأ قبل أربعة أعوام مع رحيل أخيه الأكبر باسل، كُلّف بالمسؤوليّة عن الوجود العسكريّ السوريّ في البلد «الشقيق»، حيث بلغ عدد الجنود أربعين ألفاً. وفي سياق تدريبه وثّق النجل علاقته بالسياسيّين اللبنانيّين ممّن كانت أغلبيّتهم الساحقة تطأطئ الرأس أمام أصغر ضابط منتدَب. وهو مثلما استلطف بعضَهم استثقل بعضهم الآخر عملاً بمزاج أرعن طبّقه على آخرين.

وكان أكثر الذين لفحتهم عواطف بشّار، بالإيجابيّ منها والسلبيّ، ثلاثة: حسن نصر الله ورفيق الحريري وإميل لحّود.

فنصر الله، قائد المقاومة، كان مثار إعجابه. فهو، وقد رُسم في 2000 رجل التحرير، مثّل له كلّ ما لا يملكه، هو الذي حصل عبر «توريث جمهوريّ» فريد من نوعه على ما بات يملكه. وإذا كان لوالده الراحل دالّة على نصر الله، وموقع تفاوضيّ قويّ حيال إيران، فاليافع بشّار افتقر إلى الصفتين. ولئن وفّر له «سماحة الأمين العامّ» الشرط الضروريّ لإبقاء النار مشتعلة في كلّ مكان، فقد كان لمقاومته بُعد علاجيّ مخلوط بالسحر على الرئيس غير المجرّب، وذلك بمعنى العلاجيّة التي تراءى للقيصر نقولا وزوجته ألكسندرا أنّ راسبوتين يحملها لابنهما المريض.

«عواطف» الأسد لفحت الحريري ولحود ونصر الله... حباً وبغضاً (أرشيفية - أ.ف.ب)

لكنْ إذا كانت محبّة نصر الله حبّاً لما يستحيل، فمحبّة إميل لحّود كانت حبّاً لما يمكن. فقائد الجيش، الذي أوصلته دمشق إلى رئاسة الجمهوريّة في 1998، كان فيه من العسكريّة ما كان في «الدكتور» بشّار الذي ألبسوه البزّة لأنّ رئاسة سوريّا مكتوبة لعسكريّين. ذاك أنّ لحّود كان قائداً لسلاح البحريّة في الجيش اللبنانيّ، وكان تواضع هذا السلاح، والوقت الضئيل الذي يستدعيه المنصب، يتيح له ساعات طويلة يتشمّس فيها ويدهن جسده بالزيوت في مسبح «الحمّام العسكريّ». ثمّ في 1989 عُيّن لحّود قائداً للجيش، وكان مطلوباً ضابط مارونيّ رفيع الرتبة يقبل الحلول في هذا الموقع بعد تصفية التمرّد الذي قاده القائد السابق ميشال عون. وأغلب الظنّ أنّ سماتٍ شخصيّةً حبّبت بشّار بلحّود أهمّها الضعف المشترك في ربط الكلمات وصياغة العبارات ثمّ تغطية الضعف بقهقهة تُفلت من الفم وتغيب في زحمة اللامعنى في هذا العالم.

بيد أنّ الحريري لم يكن مستساغاً. فالرجل الثريّ الذي يوزّع المال والهدايا بسخاء على ضبّاط سوريّين، مُعوّلاً على مقابل سياسيّ، ليس الثريّ الذي يستهوي بشّار. ذاك أنّ المرغوب من الأثرياء هو مَن يدفع صاغراً، ويكون طموحه الوحيد ألاّ تُصادَر ثروته. أمّا أن يُكتب ويقال إنّ الحريري هو من يبني علاقات سوريّا مع العالم، ومن يقترح على دمشق «النموذج الصينيّ» حيث تبقى السلطة في أيدي أصحابها وتُمنح الحرّيّة للسوق، فهذه كلّها أكلاف باهظة ومهينة ينبغي ألا تُدفع.

وهناك أشياء أخرى أسّست البغضاء للزعيم اللبنانيّ. فقد كان شائعاً أنّ الحريري ينطوي على فائض سنّيّ لا يحتمله الفائض العلويّ في نظام بشّار، وأنّه لا يكتفي بتوحيد الطائفة السنّيّة في لبنان، بل يمدّ نفوذه إلى السنّة السوريّين. ولم يكن أقلّ إثارة للارتياب ما يراه البعض تقاطعاً بين مشروعه السنّيّ ومشروع لبنانيّ لا يزال غامضاً، أو ما ينسبه إليه بعض آخر من رغبة في سلام إقليميّ يكمّل ما بدأه الفلسطينيّون والإسرائيليّون في أوسلو عام 1993. وربّما بدا مستفزّاً لبشّار ما كان يُكثر الحريري من ترداده في وصف نفسه، وهو أنّه «عصاميّ» بنى نفسه بنفسه.

عواصف الخارج وجرائم الداخل

كان لانسحاب الإسرائيليّين من الجنوب أن أسقط حجّة النظام السوريّ في إبقاء جيشه بلبنان، وشجّعت وفاةُ حافظ مَن كان يخاف ويتردّد على الإقدام. أمّا رجل المرحلة فكان البطريرك المارونيّ نصر الله صفير الذي رعى، في سبتمبر (أيلول) 2000، ما عُرف بـ«نداء المطارنة الموارنة» الداعي إلى انسحاب الجيش السوريّ الذي «آن أوانه».

ومضى صفير، بهمّة مصارع شابّ، يوجّه لكماته. ففي ظلّه أُسّس، في أبريل (نيسان) 2001، «لقاء قرنة شهوان» الذي اعتُبر نواةً لما بات معارضة. ولئن جمع اللقاء هذا سياسيّين مسيحيّين، فإنّه مدّ جسوراً، منظورة وخفيّة، مع الحريري ووليد جنبلاط المصابين بـ«الاستياء» من بشّار ومن عامله في لبنان إميل لحّود. وفي صيف العام، وبالشراكة مع جنبلاط، أشرف البطريرك على «مصالحة الجبل» بين المسيحيّين والدروز. والأخيرة اكتسبت أهميّتها من أنّ الجبل المسيحيّ - الدرزيّ عمود الوطنيّة اللبنانيّة الفقريّ. وفي موازاة تحرّك رجال الدين والسياسيّين المسيحيّين، اهتزّ المجتمع المسيحيّ، في 7 أغسطس (آب)، عبر تظاهرات طلاّبيّة أعلنها قواتيّون، قائدهم سجين، وعونيّون، قائدهم منفيّ. وبدون مذكّرات توقيف أو مبرّر قانونيّ، زُجّ في المعتقلات مئات المتظاهرين الشبّان المطالبين بحرّيّة التعبير وخروج القوّات السوريّة.

لكنّ الجوار الإقليميّ كان يضجّ بأحداث أكبر. ففي 2003 غزا الأميركيّون العراق، وبعد عام وجد الكرد السوريّون في القامشلي/قامشلو ما يشجّعهم على الانتفاض فانتفضوا. وفيما راح الأسد يردّ على تلك الزلازل بشحن الإرهابيّين إلى العراق، حيث يزرعون عبوات الموت، مضت واشنطن تلوّح له بالعصا الغليظة فواجهها بعبوة سياسيّة فُجّرت في بيروت. فقد تمسّك بشّار بالتجديد للحّود، مع انتهاء ولايته الدستوريّة في 2004، رافعاً محبّته له إلى هيام، وهذا لأنّ لحّود، وفق المراقبين، «المارونيّ الوحيد الذي يطمئنّ له الأسد في ظلّ ظروف المنطقة الجديدة».

وفي سبتمبر من العام نفسه صدر عن مجلس الأمن القرار 1559 الداعي إلى انسحاب القوّات الأجنبيّة المتبقّية من لبنان، وحلّ جميع الميليشيات ونزع سلاحها. وقد بدا واضحاً بما يجلو اللبس أنّ المستهدَفين بالقرار هما بشّار، الذي عليه أن ينسحب، ونصر الله، الذي عليه أن ينزع سلاحه. هكذا كان لا بدّ أن يردّ المستهدَفان بعمل يطال إمّا جنبلاط الذي دفعه التجديد للحّود إلى الموقع المسيحيّ المعارض، أو الحريري، الممتعض من التجديد، والذي تسبّب له امتعاضه بإهانة مباشرة من الأسد، خصوصاً أنّ الشكوك قد حامت بشأن دور له في صدور القرار الأمميّ.

ربّما بدا مستفزّاً لبشّار ما كان يُكثر الحريري من ترداده في وصف نفسه وهو أنّه «عصاميّ» بنى نفسه بنفسه

هكذا شهد يوم 14 فبراير (شباط) 2005 الجريمة التي أودت بالحريري ومعه الوزير باسل فليحان و21 شخصاً من المرافقين، قبل أن تتناسل الجرائم وتحصد مجموعة معتبرة من السياسيّين والصحافيّين المعروفين بمعارضتهم الأسد ونصر الله.

وكما أنّ سوريّا سوريّتان فلبنان لبنانان. هكذا انشقّ البلد بين كتلة عُرفت بـ«8 آذار» تيمّناً بيوم مظاهرتها الضخمة التي شكرت «سوريّا الأسد»، وأخرى عُرفت بـ«14 آذار» تبعاً ليوم المظاهرة التي فاقتها ضخامة، والتي احتجّت على اغتيال الحريري وطالبت بخروج الجيش السوريّ.

بالفعل خرجت قوّات الأسد من لبنان في 30 أبريل، لكنّ نصر الله آثر أن يهدي قائدها رستم غزالة «بندقيّة المقاومة» لأنّه لم يشأ للجنود السوريّين أن يغادروا ضعفاء مذلولين. بيد أنّ «لعنة الحريري» طاردت غزالة مثلما طاردت سلفه غازي كنعان لتنسج واحدة من القصص الخفيّة في سيرة بشّار. فرستم، المُعيّن في 2002 على رأس الهرم الأمنيّ محلّ غازي، شاركه القتل والتعذيب اللذين تشهد عليهما بلدة عنجر البقاعيّة وفندق البوريفاج البيروتيّ، كما شاركه رعاية شبكات التهريب والمخدّرات التي تتوزّع عائداتها عليهما وعلى نظامهما وحلفائهما في «محور المقاومة». لكنّ رستم كان أشدّ فظاظة وانضباطاً في ولائه من غازي، ولربّما عاد هذا إلى سنّيّة الأوّل التي أحوجته إلى المزايدة في الولاء قياساً بعلويّة الثاني، ابن بلدة القرداحة، الذي بلغ به اطمئنانه حدّ الافتخار بصداقة الحريري بعدما بات الأخير مغضوباً عليه.

في الأحوال كافّة، شاع أنّ الخوف من انكشاف معلومات تتّصل بمقتل الزعيم اللبنانيّ هو ما أودى، في 2015، برستم، المؤتمن على السرّ وعلى بندقيّة المقاومة. أمّا كنعان الذي نُقل من لبنان في 2001 ثمّ سُلّم وزارة الداخليّة السوريّة، فكان ممّا شاع عنه تسريبه معلومات تتعلّق بالجريمة. وفي 2005، قُتل غازي في مكتبه برصاصتين أو ثلاث، فأشاعت السلطة أنّه انتحر. ولأنّ النكتة السوداء تتّجه إلى حيث الجرح، تردّد أنّ كنعان انتحر برصاصتين أو ثلاث، وفي السنوات اللاحقة تأكّد أنّ الانتحار من خصال عائلته، إذ «انتحر» أيضاً اثنان من أشقّائه.

بيد أنّ الشكل الآخر لتكامل سوريا اللبنانيّة ولبنان السوريّ كان ماليّاً. فقد تبيّن لاحقاً وجود علاقة بين جريمة الحريري وفضيحة سبقتها بعامين. ذاك أنّ من سُمّوا رجال «النظام الأمنيّ اللبنانيّ السوريّ المشترك» غرفوا، بالرشوة والاختلاس، ملياري دولار من «بنك المدينة»، ما أدّى إلى انهياره. وكان البنك المذكور، وفق وثائق حصلت عليها لاحقاً لجنة التحقيق الدوليّة في جريمة الحريري، قد شارك بنوكاً أخرى أعمال تهريب وتبييض غامضة.

لبنان كان «غرفة نوم» النظام السوري حيث تدرب بشار الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

رَسَن لربط الشقيق بالشقيقة

إبّان ما سُمّي «عهد الوصاية»، والذي ورّثه القرن العشرون للحادي والعشرين، أُخضع لبنان لنظريّة بعثيّة عنوانها «عروبة لبنان». والعروبة هذه لا تليق كلمة في وصفها ككلمة المسخرة. فهي مثلاً طالبت اللبنانيّين بالوقوف، في السرّاء والضرّاء، بجانب سوريّا وإيران غير العربيّة ضدّاً على مصر والعراق والخليج والمغرب. بيد أنّ أخطر ما في تلك العروبة أنّها شكّلت، للمرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، آيديولوجيا رسميّة يُحدّد بموجبها «الصديق» و«العدوّ»، فحلّت بهذا محلّ الحرّيّة التي كانت تقليديّاً مُحرّك الرأي ومصدر الموقف في لبنان.

فحافظ، وعلى الطريقة السوفياتيّة، كان قد أحكم ربط بيروت بدمشق، من خلال اتفاقيّة «معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق» الموقّعة في 1991. وعن الاتّفاقيّة هذه رُبطت سياسة لبنان الخارجيّة بسياسة سوريّا الخارجيّة، ولكنْ أيضاً باتت لدمشق اليد العليا في التعيينات الإداريّة والعامّة، لا سيّما منها الأمنيّة والعسكريّة، وفي تسمية مديري الوزارات والقضاة، ورسم توجّهات المنابر الإعلاميّة ومدى حرّيّتها وخريطة العمالة وتدجين النقابات.

ومع بشّار استمرّت هذه العروبة رسَناً يربط الشقيق الأصغر بشقيقته الأكبر. صحيح أنّ الوريث أحدث انفراجاً جزئيّاً بُعيد تسلمّه السلطة، وهو وإن لم يدم طويلاً أتاح هامشاً من الحركة والتعبير لناشطين في المجتمع المدنيّ السوريّ. ومع لبنان، بدت واضحةً آثار التحوّل الجزئيّ نحو اللبرلة، أو «اقتصاد السوق الاجتماعيّ». فقد أنشأت مصارف لبنانيّة فروعاً في سوريّا، واستثمر لبنانيّون، بعضهم رجال أعمال وبعضهم نصّابون ومتزلّفون، كما استُؤجرت خبرات لبنانيّة لإدارة اقتصاد تحرّرت بعض أوجهه. ومع التقدّم في الخصخصة، وتوسّع الاقتصادات المافيويّة الموازية، تعاظم اعتماد الدولة السوريّة على العمالة الضخمة المصدّرة إلى لبنان بوصفها مصدر إعفاء لدولتها من مسؤوليّتها حيال شعبها.

لكنّ أحداثاً كثيرة كانت تشي بأنّ القوانين الأساسيّة لعلاقة البلدين لا تزال سارية المفعول. فالنجل مدّ يده مثلاً إلى مجال جديد هو الأحزاب المسيحيّة المعروفة بالعداء التقليديّ لآل الأسد. هكذا، وبالاستفادة ممّا كان يوصف بـ«التهميش المسيحيّ»، ثُبِّتَ في 2001 كريم بقرادوني في رئاسة حزب الكتائب، هو الذي انتقل، على مدى السنوات، من البشيريّة إلى البشّاريّة.

وجاءت قمّة بيروت في 2002، والتي صدرت عنها مبادرة السلام العربيّة، برهاناً على استمرار تلك القوانين في العلاقات العربيّة والخارجيّة. فقد أفضى تواطؤ بشّار ولحّود إلى حرمان ياسر عرفات من التحدّث إلى القمّة التي يُفترض بها أن تناقش موضوع فلسطين، وذلك «منعاً لدخول الإسرائيليّين على خطّ المكالمة» كما قيل.

لكنّ العلاقة الوحيدة المحترمة التي أتاحتها تلك السنوات، جسّدها مثقّفون وكتّاب سوريّون شرعوا ينشرون أعمالهم في الصحافة اللبنانيّة، كما يتردّدون على بيروت منشئين مع زملاء لبنانيّين صداقات عاش بعضها طويلاً. بيد أنّ هذه العلاقة النادرة في نظافتها لم تخلُ من غصّة رافقت تعرّف بعض اللبنانيّين إلى خيرة أبناء الشعب السوريّ: فالأخيرون، ومن دون استثناء تقريباً، أتوا من سجون قضى واحدهم فيها، وهو في بواكير طلّته على الحياة، ما بين عشر سنوات وعشرين.

إلى الحرب مع إسرائيل در

كذلك سمح الانفتاح النسبيّ بظهور ما عُرف بـ«إعلان بيروت دمشق» حيث وقّع، في مايو 2006، مئات المثقّفين والناشطين السوريّين، فضلاً عن زملائهم اللبنانيّين، على ذاك «الإعلان» الذي طالب الحكومة السوريّة بتصحيح العلاقة مع لبنان، واحترام استقلاله وسيادته، فضلاً عن إنهاء الاغتيالات السياسيّة فيه. وكان لذاك «الإعلان» أن شكّل نهاية الانفتاح النسبيّ المذكور، فكلّف بعض موقّعيه السوريّين غالياً، اعتقالاً لسنوات ومضايقات وفصلاً من العمل.

لقد تأدّى عن خروج القوّات السوريّة من لبنان، وشعور «حزب الله» وحلفائه بالعزلة، وكذلك صعود الأجندة الوطنيّة التي حملتها حركة 14 آذار، وارتفاع أصوات سوريّة تتضامن مع اللبنانيّين، شعور مُلحّ بضرورة تحويل الاتّجاه وقلب الأسود أبيض. وعلى جاري العادة، ما من شيء يؤدّي هذه الوظيفة كالحرب مع إسرائيل. لكنْ أيضاً على جاري العادة، خطف «حزب الله» مشاعر التأييد والمبايعة في العالم العربيّ، بما فيه سوريّا، بعد خطفه، في يوليو (تمّوز) جنديّين على الحدود اللبنانيّة - الإسرائيليّة.

هكذا، وبسبب ما أسماه نصر الله «انتصاراً إلهيّاً»، راح الحزب الخمينيّ يشغل، في الداخل اللبنانيّ، الدور الذي كان يشغله رستم غزالة قبل انسحاب جيشه. وإذ غدا الحضور الإيرانيّ أقلّ خفاء ممّا كان، غدا الحضور السوريّ مهمّة تُمارَس في الأنفاق والدهاليز أكثر ممّا على سطح الأرض الظاهر.



 

إبّان ما سُمّي «عهد الوصاية» الذي ورّثه القرن العشرون للحادي والعشرين أُخضع لبنان لنظريّة بعثيّة عنوانها «عروبة لبنان»

وكان أن نشأ ازدواج قاتل: من جهة أغلبيّة شعبيّة ونيابيّة تجد تمثيلها في حكومة فؤاد السنيورة، ومن جهة أخرى، «انتصار إلهيّ» يحول سلاحه وتحالفاته دون أيّ حكم مستقرّ. وإلى تعطيل الحكومة، وتعطيل العاصمة نفسها بالخيام التي نُصبت في وسطها، شهد عام 2007 حادثاً كبيراً بدا لوهلة غريباً. ففي مايو قتلت جماعة عُرفت بـ«فتح الإسلام» 27 جنديّاً لبنانيّاً كانوا نياماً في أسرّتهم، واندلعت معارك شرسة استمرّت حتّى آخر الصيف في مخيّم نهر البارد الفلسطينيّ الذي دُمّر بنتيجتها. لكنّ ما تبيّن بعد ذاك أنّ المدعوّ شاكر العبسي، قائد «فتح الإسلام»، كان ممّا فبركته المخابرات السوريّة. فهو كان سجيناً في دمشق، أُطلق سراحه ليتولّى إرسال إرهابيّين إلى العراق، وبعد مواجهات البارد فرّ إلى العاصمة السوريّة، وهناك، وبحسب ما تردّد، قُتل في ظروف لم يُعرف شيء عنها.

وبات الالتزام بالاستحقاقات الدستوريّة أشبه بالمستحيل. فاستمرّ الفراغ الذي سبق انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهوريّة ستّة أشهر، وكان حلفاء «حزب الله» ودمشق قد غزوا بيروت بالسلاح، ما استدعى عقد مؤتمر الدوحة بقطر، ومن ثمّ انتخاب سليمان.

ومن قبيل التنازلات الشكليّة تقرّر، في 2008، وللمرّة الأولى منذ نشأة الدولتين، إنشاء سفارتين في البلدين. إلاّ أنّ ما اعتُبر إقراراً سوريّاً باستقلال لبنان ظلّ يتعرّض لتقويض متعدّد الأشكال. فبذريعة «ثلث معطّل»، أو احتجاجاً على تسهيل أعمال المحكمة الدوليّة بصدد جريمة الحريري، أو نزولاً إلى الشارع من خلال لابسي «قمصان سود»، كانت الحكومات تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها، وهذا علماً بأنّ انتخابات 2009، كسابقتها انتخابات 2005، أنتجت أكثريّة من الـ14 آذاريّين.

وعلى هذا النحو استؤنفت حياة سياسيّة معاقة، يحيطها التشهير ويتهدّدها القتل.

ما بعد الثورة وما بعد سقوط الأسد

حين انفجرت الثورة السوريّة في 2011، بدا أنّ روحاً لطيفة هبّت على لبنان المريض، روحاً قد تتحوّل ريحاً عاصفة تأخذ في طريقها العفنَ المتراكم. وبالفعل بادر شبّان وشابّات إلى التعبير العفويّ عن تضامنهم، بمظاهرة سلميّة وإضاءة شموع وكتابة بيانات، وكان واضحاً أنّ التضامن مع سوريّا تحرّكه، هذه المرّة، الحرّيّة ومطلب الكرامة، لا العروبة والمقاومة وباقي العناوين المشابهة التي كانت السبب التقليديّ لحركات التضامن. ولم يتكاسل شبّيحة الأحزاب ومُوالو دمشق و«حزب الله» في تعرّضهم للمتضامنين والاعتداء عليهم ومحاولة إرعابهم، ولم تنجُ من الاتّهام السفارة السوريّة الجديدة في بيروت التي اعتبر البعض أنّ توجيهها أعمالاً كهذه هو أهمّ وظائفها «الدبلوماسيّة».

إلاّ أنّ طرابلس التي كانت الأكثر جهراً في تأييدها الثورة تلقّت العقاب الأسوأ. ففي 2013 حصدت تلك المدينة، التي جعلها الجوار الجغرافيّ أشدّ المناطق اللبنانيّة تعرّضاً لأذى النظام الأسديّ، انفجارين تسبّبا بمجزرة في مسجدي التقوى والسلام قُتل من جرّائها 49 قتيلاً وجُرح أكثر من 800 شخص. وعملاً بالطقوس إيّاها، تبيّن لاحقاً أنّ مجموعة إرهابيّة أخرى تابعة لدمشق كانت وراء السيّارتين المفخّختين.

وتفاقم عامذاك ما عُرف بمساجين سجن رومية الإسلاميّين، وذلك بسبب معركة بلدة عبرا، قريباً من مدينة صيدا، بين أنصار الداعية السلفيّ أحمد الأسير و«سرايا المقاومة اللبنانيّة» التابعة لإيران، وتدخّل القوى الأمنيّة لصالح الأخيرة. وبينما كان شبّان إسلاميّون يُعتقلون بحجّة انضمامهم إلى الثوّار السوريّين، أو إعلان نيّتهم في ذلك، فُتح الملفّ الذي يعود إلى عام 2000 مع ما عُرف بأحداث الضنّيّة، والذي ضخّمه، في 2007، اتّهام آخرين بالتورّط في معارك نهر البارد ضدّ الجيش اللبنانيّ. وعلى العموم، بلغ عدد المساجين 1200 شخص أوقعت بهم، بطرق مختلفة، المنظومة الأمنيّة اللبنانيّة التي تديرها دمشق. والأسوأ أنّ هؤلاء، الذين أُودعوا «غوانتانامو اللبنانيّ»، لم يُحقّق معهم ولم يحاكَموا حتّى اليوم، بحجّة افتقار المؤسّسة القضائيّة إلى شروط تنفيذ مهمّة كهذه.

والحال أنّ النفوذ السوريّ، بنتيجة الثورة ثمّ الحرب الأهليّة، صار أشدّ اضطراراً للهبوط إلى الأنفاق والدهاليز. ففي 2012 انفجرت «قضيّة ميشال سماحة» التي تساءل اللبنانيّون عمّا إذا كانت جريميّتها أكبر من فضائحيّتها أم العكس. ذاك أنّ الوزير السابق، الذي يُعَدّ «من أصدقاء الأسد»، تورّط في نقل متفجّرات من سوريّا إلى لبنان والتخطيط لتنفيذ تفجيرات رُجّح أنّ مهندسها كان علي المملوك، مستشار بشّار الأمنيّ.

وباتت دمشق، في تلك الغضون، أشدّ اضطراراً للالتفاف على العقوبات الدوليّة عبر المنافذ الاقتصاديّة التي يتيحها لبنان. وأغلب الظنّ أنّ المرحلة تلك شهدت توطّد الشراكة الماليّة مع «حزب الله» في ما خصّ أعمال التهريب، لا سيّما الكبتاغون. والحال أنّه منذ 2019 خصوصاً، حين صدر «قانون قيصر»، وبالتعاون مع مافيات روسيّة، بات هذا النشاط يردّ مليارات الدولارات على أطراف التحالف الممانع.

لكنْ مقابل سياسة الأنفاق والدهاليز، تُركت العلنيّة الفجّة لـ«حزب الله» الذي بدأ تدخّلَه العسكريّ المباشر في سوريا، عام 2013، متذرّعاً بالدفاع عن مقام السيّدة زينب، ما جعل تطوّع أفراد لبنانيّين إلى جانب الثورة أقرب إلى هوايات صبيانيّة. وتلازم التدخّل، الذي ما لبث أنّ اكتسب طبيعة احتلاليّة وتهجيريّة للسكّان، مع تطوّرات بقدر ما أفضى إلى تطوّرات. فهو، وقد نقل سوط التعذيب إلى يد لبنانيّة، ترافق مع انتفاخ في نظريّة «حلف الأقلّيّات» التي تُرك تنظيرها للعونيّين ممّن التحقوا بالحزب وبدمشق منذ 2006. وكانت الرسالة التي أريدَ إيصالها أنّ المسيحيّين والشيعة والعلويّين، ممثّلين بالعونيّين والحزب ونظام الأسد، يقفون سدّاً واحداً في وجه السنّة ممثّلين بـ... داعش! وبذريعة مقاتلة الأخير وحماية اللبنانيّين منه، كان يُهجَّر سوريّو المناطق الحدوديّة التي يحتلّها الحزب، ما يفاقم مشكلة اللجوء السوريّ التي لن تلبث أن تنفجر.

والراهن أنّ لبنان الرسميّ حاول النأي بنفسه عن الصراع السوريّ منذ انفجار الوضع هناك. هكذا رعى رئيس الجمهوريّة، أواسط 2012، المؤتمر الذي أصدر «إعلان بعبدا» معبّراً عن توافق الجميع، بمن فيهم «حزب الله»، على عدم التدخّل. بيد أنّ طهران، الساعية إلى دعم حليفها السوريّ، سارعت إلى زجّ حزبها فانزجَّ بحماسة قاتلاً ومقتولاً.

أصدقاء الأسد في لبنان... سجلّ جرائم وفضائح (أرشيفية - سانا)

وفي الخطّ التصاعديّ الذي سلكته الكارثة شهدت بيروت يوم 4 أغسطس 2020 يوماً غير مسبوق في تاريخها المأسويّ. فالحدث الذي استرجع معه المؤرّخون الزلزال الذي ضرب المدينة ومدناً ساحليّة أخرى في منتصف القرن الميلاديّ السادس، كان «أكبر انفجار غير نوويّ في التاريخ»، بحسب وصف شاع. وقيل الكثير عن أنّ مقرّبين من نظام الأسد بالصفقات والتهريب، جاؤوا بخزين نيترات الأمونيوم الذي انفجر ودمّر ربع المدينة، وقيل أكثر منه عمّا يتسبّب به الضباب السياسيّ ومناخ «المقاومة» المعطّل للدولة والمحاسبة. وفي الأحوال كافّة، فبعد تهديد مسؤول الحزب الأمنيّ، وفيق صفا، بـ«قبع» القاضي طارق البيطار، طوي الأمر وسط شعور عارم بموت يُستحسن أن يُختم بدفن صامت.

وكان لتلك السنوات التي افتتحتها الثورة أن حملت إلى بيروت أعداداً من السوريّين، فيهم العائلات والأفراد، ممّن صدروا عن مناطق سوريّا وطبقاتها وطوائفها. وبين هؤلاء واللبنانيّين نشأت صلات حميمة، تبادل فيها الطرفان الصداقات والتعارف الذي شمل البيوت والمآكل والعادات وشراكة الهمّ والشكوى، وهذا فضلاً عن انعقاد زيجات بين سوريّين ولبنانيّات ولبنانيّين وسوريّات.

لكنْ على مقربة من هؤلاء جميعاً، كانت تعتمل مشكلة تسبّبت بها وحشيّة النظام، وفي عدادها وحشيّة «حزب الله». فقد تفاقم اللجوء السوريّ وبات عدد اللاجئين الضخم عبئاً ثقيلاً على بلد يعاني أزمة اقتصاديّة طاحنة، ويتشارك أبناؤه أنفسُهم في علاقات من العداء والريبة المتبادلين. وإذ أحسّت البيئة الاجتماعيّة الأفقر والأشدّ اعتماداً على العمل اليدويّ بمنافسة سوريّة، كان من تعابير المنافسة ظهور مشاعر عنصريّة رافقها تقييد لحركة السوريّين وانتهاكات مباشرة نزلت ببعضهم. وفي معرض التوتّر كان صعباً على المتوتّرين، وقد أجّجهم العونيّون وقوى سياسيّة أخرى، إدراك أنّ أحداً لا يستطيع حلّ مشكلة يرفض النظام السوريّ حلّها. ودائماً كان اللبنانيّون الأشدّ رحابة ينبّهون إلى ذلك، ويذكّرون بأنّ قطاع الزراعة يعتمد على ما بين 300 و400 ألف سوريّ، والشيء نفسه يقال في قطاع البناء، وهذا فضلاً عن حضور العمالة السوريّة في مجالات الكهرباء والسباكة وميكانيك السيّارات وسواها.

وإذ سقط الأسد، وولّى هارباً إلى موسكو، كان للّبنانيّين حصّتهم من التركة الهيوليّة التي خلّفها النظام الساقط. فهناك، كما بيّنَ خلع الأبواب والأقفال، مخطوفون ومساجين لبنانيّون في سجونه أنكرَ النظامان وجودهما. بعض هؤلاء حُرّروا، وبعضهم الآخر يستمرّ البحث عنهم. وهناك ما ضربه الإسرائيليّون من مصانع أسلحة وأنفاق على الحدود المشتركة للبلدين، وعلاقات سياسيّة وماليّة تنتظر التحقيق فيها بين رموز في سلطتي البلدين. والأخطر أنّ رجالاً من معاوني الأسد لجأوا إلى لبنان، محاطين برعاية الحكومة وحماية «حزب الله». ويُستحسن بالسلطة اللبنانيّة أن تسلّم هؤلاء إلى ضحاياهم، إن لم يكن حبّاً بسوريّا، وبإحقاق الحقّ، فحرصاً على علاقات سليمة بين البلدين في المستقبل. عندها فقط يمكن القول إنّ ربع القرن الفائت، الذي اكتوى بالاستباحة والتعذيب، انتهى حقّاً.


مقالات ذات صلة

طهران: ادعاء تدخلنا في الشؤون الداخلية لسوريا مردود

شؤون إقليمية صورة منشورة على موقع الخارجية الإيرانية من المتحدث باسمها اسماعيل بقائي

طهران: ادعاء تدخلنا في الشؤون الداخلية لسوريا مردود

قال القيادي في «الحرس الثوري» محسن رضائي، إن «الشباب والشعب السوري سيحيون المقاومة في هذا البلد بشكل آخر في أقل من عام»

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
الخليج السعودية عدّت ممارسات إسرائيل في «الأقصى» تعدياً صارخاً (د.ب.أ)

السعودية تدين استمرار انتهاكات إسرائيل في فلسطين وسوريا

دانت السعودية اقتحام وزير الأمن القومي لباحة المسجد الأقصى، وتوغل قوات الاحتلال في الجنوب السوري.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
المشرق العربي برج مراقبة تابع للجيش العراقي لجزء من الحدود العراقية مع سوريا التي يبلغ طولها 600 كيلومتر (أ.ف.ب)

وفد عراقي التقى في دمشق الإدارة السورية الجديدة

التقى وفد عراقي يرأسه رئيس جهاز المخابرات العراقية، حميد الشطري، في دمشق الإدارة السورية الجديدة، وفق ما قال المتحدث باسم الحكومة العراقية.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي سوريون في منطقة بالقرب من معبر المصنع الحدودي اللبناني مع سوريا (د.ب.أ)

لبنان يتطلع إلى «أفضل علاقات الجوار» مع الحكومة الجديدة في سوريا

قال لبنان، اليوم (الخميس)، إنه يتطلع إلى «أفضل علاقات الجوار» مع سوريا، في أول رسالة رسمية للإدارة الجديدة في دمشق.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي  رئيس القضاء العسكري السوري السابق محمّد كنجو الحسن الذي كان مسؤولاً عن الإعدامات الميدانية في سجن صيدنايا (متداولة) play-circle 00:29

اعتقال المسؤول عن الإعدامات بسجن صيدنايا بعد اشتباكات في غرب سوريا

أعلنت السلطة السورية الجديدة، اليوم (الخميس)، توقيف رئيس القضاء العسكري السابق محمّد كنجو الحسن، المسؤول عن الإعدامات الميدانية في سجن صيدنايا.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

فلسطين وإسرائيل... 3 انقلابات ونكبة في ربع قرن

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
TT

فلسطين وإسرائيل... 3 انقلابات ونكبة في ربع قرن

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)

إذا كان هناك حدث فارق في التاريخ الإسرائيلي، فإنه يكمن في واقعتين مفجعتين في قاعة المحكمة المركزية في القدس، خلال الربع الأول من الألفية الثالثة؛ الأولى في عام 2009 والأخرى في 2024. «البطل» فيهما اثنان: الرئيس الأسبق إيهود أولمرت، والآخر هو الرئيس الحالي للحكومة بنيامين نتنياهو.

الرجلان يمثلان الجيل الثالث الصاعد من قادة «الحركة الصهيونية»، ويعكسان ما جرى لإسرائيل منذ أن انطلق كل منهما في سنوات التسعينات شابين «متألقين وموهوبين». كلاهما من «الليكود» اليميني، الذي هزم حزب الآباء والأجداد المؤسسين «العمل» في عام 1977، ومنذ ذلك الوقت يتوالى على الحكم.

برز أولمرت قائداً متمرداً، بنى مجده على محاربة الفساد. انتُخب للكنيست ثم لرئاسة بلدية القدس، ونفذ عشرات المشاريع لتهويدها وتعزيز الاستيطان فيها. ثم قاد في ظل أرئيل شارون الدولة العبرية، منذ عام 2001، إلى عصر جديد، لتتحول إسرائيل «امبراطورية» في التكنولوجيا والعلوم والذكاء الاصطناعي.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث في الكنيست إلى الصحافيين مايو 2023 (رويترز)

بين أولمرت ونتنياهو

على الساحة السياسية، حصل تطور بالغ لدى أولمرت نحو الدبلوماسية الواقعية؛ إذ اعترف بأخطاء الاحتلال وانسحب مع شارون من الليكود وقاد مشروع الانفصال عن قطاع غزة، وعندما مرض شارون وحل محله في رئاسة الحكومة عام 2005، أحدث انعطافاً حاداً في الموقف من الصراع مع الفلسطينيين. وتعامل باحترام كبير مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، واستقبله في مقرّه في القدس الغربية رافعاً علم فلسطين إلى جانب العلم الإسرائيلي. وعرض عليه مشروع حل حقيقياً للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على أساس حل الدولتين.

أما نتنياهو، فقد نشأ قائداً سياسياً يتفوق في العمل الدبلوماسي ويتقن الخطابة باللغة الإنجليزية، لكنه اعتمد أساليب الخداع والاحتيال، فلم يلتقِ رئيساً أو ملكاً إلا وخرج بانطباع عنه أنه شخص غير صادق.

عام 2009، وعندما كان حل الدولتين مطلباً عالمياً، ألقى نتنياهو خطاباً وُصف يومها بـ«التاريخي» أعلن فيه تأييده هذا الحل. وكان أبلغ رد عليه، ما قاله عنه والده، المؤرخ بنتسيون نتنياهو: «إنه ليس أهبل. هو لا يوافق على حل الدولتين». بالفعل، عمل كل ما في وسعه ولا يزال ليمنع ذلك. وعلى الطريق، تمكن من الدخول في صدامات واحتكاكات مع معظم قادة العالم، بمن في ذلك رؤساء الولايات المتحدة الثلاثة، باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن.

وما بين أولمرت ونتنياهو إدانات ومحاكم. الأول، أدين في قاعة المحكمة المركزية في القدس بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، وأمضى في السجن 16 شهراً. وحال تقديم لائحة اتهام ضده استقال من منصبه، ليتعاون مع جهاز القضاء فانتهت محاكمته بعد سنة فقط. أما الآخر، فقد بدأت محاكمته قبل أربع سنوات ولا يبدو أنها ستنتهي قبل أربع سنوات أخرى وأكثر. وبسببها، يخوض حرباً ضد أجهزة القضاء.

كلاهما يتهم الجهاز القضائي بتدبير مؤامرة للإطاحة به؛ أولمرت يعتقد أن التهم ضده نُسجت لأنه كان قد انطلق في مسار سياسي يفضي إلى تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حل الدولتين. وأصدر كتاباً يشرح فيه بالتفصيل كيف عملت ماكينة التحريض عليه. وما زال حتى اليوم متمسكاً بطريقه ويؤكد أن من يريد الخير للأجيال القادمة في إسرائيل يسعى لتسوية للصراع مع الفلسطينيين مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون.

ويتهم نتنياهو الجهاز القضائي بالتآمر عليه من الدولة العميقة اليسارية لغرض إسقاط حكم اليمين؛ لأنه يعمل بشكل حثيث ومثابر على منع إقامة دولة فلسطينية.

أولمرت متواضع ونتنياهو متكبر. غالبية الذين عملوا مع أولمرت يعتقدون أنه كان من أفضل رؤساء الحكومات عبر التاريخ الإسرائيلي ويمتدحون سماته. ويعتبرون فساده خطأً إنسانياً نادراً لم يكن يستحق محاكمته وسجنه. بينما يقول غالبية الذين عملوا مع نتنياهو إنه «لا صاحب له»، وينتقدون تصرفاته الفظة ويؤكدون أنه بلا مشاعر. زوجة الأول بقيت في الظل. وزوجة الآخر توصف بأنها «شريرة وتدير حروباً ضد كل الخصوم بطريقة تذكّر بأساليب المافيا».

يخوض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حرباً مع الجهاز القضائي الإسرائيلي (إ.ب.أ)

قصة محكمة

بالعودة إلى أروقة المحكمة، حرص الكثير من الوزراء والنواب على حضور جلساتها التي تنظر في قضية نتنياهو، للتضامن «التظاهري» معه. وزير التربية والتعليم في حكومة إسرائيل، يوآف كيش، الرجل المكلف تربية الأجيال الطالعة، حضر متأخراً. فراح يشق طريقه بمرفقيه إلى قاعة المحكمة المزدحمة ويلوح بيده مرّة، ثم مرّة ثانية وثالثة في محاولة يائسة لجذب انتباه نتنياهو المتهم، ولو بطرف عينه. ظل يلوّح حتى لاحظ نتنياهو ذلك. وعندها فقط بدا عليه الارتياح.

هذه الصورة ينقلها الصحافي بن كسبيت، ويقول: «لم أكن لأتطرق إلى هذا النفاق لولا أنه اتضح لنا، قبل يومين، وضع التعليم في إسرائيل تحت قيادة كيش. نتائج اختبارات TIMMS (مسابقة للعلوم والرياضيات)، واختبارات PISA (تهدف إلى معرفة مدى تمكن الطلاب والطالبات من المهارات والمعارف الأساسية) وضعت أمامنا صورة مرعبة. ليس أقل من ذلك. نوعية الطلاب الإسرائيليين آخذة في الانخفاض. طبقة المتميزين، التي كانت دائماً غنية وسميكة، أصبحت تتقلص».

يعتقد بن كسبيت أن «إسرائيل فقدت ميزات التفوق على الأعداء». لأنه «من دون العلوم والرياضيات والتكنولوجيا، لن تكون هناك الوحدة 8200 (شعبة الاستخبارات العسكرية). ومن دون التفوق العلمي، لن نحقق تفوقاً استخبارياً كما في تفجير أجهزة (البيجر) في لبنان (التي فجَّرتها إسرائيل بألوف عناصر (حزب الله) خلال الحرب)، ولن يكون لدينا تطبيق ويز (تابع لشركة متخصصة في الأمن السيبراني)، ولا قبة حديدية، ولا صواريخ السهم، ولا الطائرات من دون طيار، ولا الليزر، ولا القدرات التي أظهرتها أجهزتنا الأمنية في الـ14 شهراً الأخيرة (بعد الفشل الذريع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول)».

«لا يوجد نصر كامل ولا نصراً جزئياً... كل ما هنالك مجرد استيعاب الضحالة والتطرف والجهل والسطحية. إذا استمر هذا، وهو مستمر ويتكثف في ظل هذه الحكومة، فلن نتمتع في الحرب المقبلة بكل المزايا التي تمتعنا بها في الحرب الحالية. هذه ليست نبوءة غضب. بل إنها بداية التدهور نحو العالم الثالث يمكن أن نراها بالعين المجردة»، يقول بن كسبيت.

أسير الكرسي

هذا بيت القصيد. فإسرائيل في عهد نتنياهو الطويل، الذي أصبح رئيس حكومة لمدة أطول من أي رئيس سبقه، لم تعد إسرائيل ناجحة وهي تواجه خطر الانزلاق إلى الهاوية. ليس لأنه لا يعرف كيف يدير دولة، ففي بداية عهده حقق إنجازات كبيرة في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بل لأنه أصبح أسيراً لكرسيه. وليس فقط لأنه يحب هذا الكرسي ويعتقد بأن الله حبا شعب إسرائيل به، بل لأنه يدرك أيضاً أن نزوله عن الكرسي، سيقوده إلى السجن. ولأن السبيل الوحيد للنجاة هو في البقاء رئيساً للحكومة بفضل قوى اليمين المتطرف يقود سياسة تخدم أجندة سياسية للصهيونية الدينية الاستيطانية التي تحارب ضد أي إمكانية للسلام مع الفلسطينيين.

هكذا، فإن الدولة الحديثة، التي كانت في عام 2000 في مسيرة صعود، تغدو في مسيرة هبوط. ليست «بيت عنكبوت»، لكن مكامن قوتها تضعف. الدولة التي حظيت في عام 2002 بعرض عربي بالغ السخاء، بمبادرة سلام مع جميع الدول العربية وغالبية الدول الإسلامية مقابل تسوية القضية الفلسطينية وفق حل الدولتين، تخوض حروباً جنونية تجعلها مكروهة ومنبوذة بلا أفق سياسي. وقيادتها تبشرها بالعيش على الحراب عقوداً طويلة، تورِث الأجيال القادمة مزيداً من الصراعات والأحقاد.

فلسطينيون ينظرون إلى موقع غارة إسرائيلية على منزل في دير البلح وسط قطاع غزة الأحد (رويترز)

نكبة بعد نكبات

في مقابل ذلك، هناك الفلسطينيون؛ شعب ذو طموحات عالية وجهود كبيرة للتقدم والتطور، هو أيضاً منكوب بالصراعات والأزمات ويعيش نكبة ثانية، ليس فقط بسبب الاحتلال، بل أيضاً بسبب تصرفات غير مسؤولة وغير محسوبة بشكل مهني سليم من بعض قادته.

مطلع التسعينات، كان حلم التحرر من الاحتلال قد اقترب كثيراً، عندما وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، اتفاقيات أوسلو، في عام 1993، مع القائد الإسرائيلي الجاد إسحق رابين. لقد أحدث عرفات ورابين انقلاباً في العلاقات بين الشعبين، لكن اليمين الإسرائيلي المتطرف قتل رابين وأحدث بذلك انقلاباً ثانياً. ونفذ مذبحة الخليل، التي فتحت الباب أمام يمين متطرف فلسطيني نفذ عمليات مسلحة خطيرة ضد المدنيين في إسرائيل.

كانت كل عملية كهذه تحقق للمتطرفين الإسرائيليين مكاسب جماهيرية ضخمة، فالمتطرفون يغذون بعضهم بعضاً ويؤججون العداء والكراهية ويعتاشون منها.

نحن اليوم في عصر غزة. الانقلاب الثالث، خلال ربع قرن. انقلاب قاد إسرائيل إلى حروب جنونية، وذهب بالفلسطينيين إلى نكبة ثانية، دفع ثمنها معهم أيضاً لبنانيون وسوريون ويمنيون. نكبة، تحمل في طياتها كل أسباب البؤس واليأس والإحباط. الشعبان يحتاجان إلى قيادات تعرف كيف تبني الأمل ولا تخضع للمأساة، وكيف تعثر على طاقات النور في حلكة الظلام. ومسارات التاريخ حبلى بالنماذج التي يولد فيها قادة يعرفون كيف يحدثون الانعطاف في حياة شعوبهم، لعلها تكون بشرى الربع المقبل من الألفية الثالثة.