طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

أكد استحالة الاتفاق على قرار جديد بسبب الشلل الذي يضرب مجلس الأمن

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».


مقالات ذات صلة

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

يوميات الشرق مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

إهمال الدولة اللبنانية لمجتمع الصمّ يبرز في محطّات عدّة. إن توجّهوا إلى مستشفى مثلاً، فليس هناك من يستطيع مساعدتهم...

فيفيان حداد (بيروت)
الاقتصاد صائغ يعرض قطعة من الذهب في متجره بمدينة الكويت (أ.ف.ب)

الذهب يواصل مكاسبه مع احتدام الحرب الروسية - الأوكرانية

ارتفعت أسعار الذهب، يوم الخميس، للجلسة الرابعة على التوالي مدعومة بزيادة الطلب على الملاذ الآمن وسط احتدام الحرب الروسية - الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد ناقلة نفط خام في محطة نفط قبالة جزيرة وايدياو في تشوشان بمقاطعة تشجيانغ (رويترز)

النفط يرتفع وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية

ارتفعت أسعار النفط، يوم الخميس، وسط مخاوف بشأن الإمدادات بعد تصاعد التوتر الجيوسياسي المرتبط بالحرب الروسية - الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
شؤون إقليمية آموس هوكستين (أ.ف.ب)

هوكستين يصل إلى تل أبيب قادماً من بيروت: هناك أمل

وصل المبعوث الأميركي، آموس هوكستين، إلى إسرائيل قادماً من لبنان، في إطار جهود الوساطة لوقف إطلاق النار بين «حزب الله» والدولة العبرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
صحتك أطفال سوريون في مخيم ببلدة سعد نايل في منطقة البقاع (أ.ف.ب)

الحرب تؤثر على جينات الأطفال وتبطئ نموهم

لا يعاني الأطفال الذين يعيشون في بلدان مزقتها الحرب من نتائج صحية نفسية سيئة فحسب، بل قد تتسبب الحرب في حدوث تغييرات بيولوجية ضارة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».