جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

طوّع الجيش والاقتصاد والإدارة الأميركية... بمهارات التسويق

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.



سوريو ليبيا... محاولات خروج متعثر من «سجن الغربة»

صورة لشبان سوريين غرق قاربهم قبالة ساحل ليبيا (الحقوقي طارق لملوم)
صورة لشبان سوريين غرق قاربهم قبالة ساحل ليبيا (الحقوقي طارق لملوم)
TT

سوريو ليبيا... محاولات خروج متعثر من «سجن الغربة»

صورة لشبان سوريين غرق قاربهم قبالة ساحل ليبيا (الحقوقي طارق لملوم)
صورة لشبان سوريين غرق قاربهم قبالة ساحل ليبيا (الحقوقي طارق لملوم)

قبل نحو سبعة أشهر، اتّجه 25 شاباً سورياً، بينهم قُصّر، ممن يقيمون في ليبيا، إلى سواحل أوروبا عبر رحلة هجرة غير نظامية، عاد منهم 4، وغرق الباقون في البحر المتوسط.

هذه الحادثة بقدر ما تركت أثراً سيئاً حينذاك في نفوس عديد من السوريين، فإنها سلّطت الضوء على وجود جالية كبيرة لجأت إلى ليبيا، هرب بعضها من نظام الرئيس السابق بشار الأسد، في حين أن البعض الآخر يعيش في ليبيا من قبل.

وبقدر تنوع الجالية السورية في ليبيا، من طبقة رجال الأعمال، إلى المقاتلين المرتزقة، والأسر المقيمة منذ عهد الرئيس السابق معمر القذافي، والعمال، والراغبين في الهجرة إلى أوروبا... بقدر تنوع المشاكل وسبل النجاة.

كثير من السوريين لا يعتبرون ليبيا وجهة نهائية لهم، بل محطة في طريقهم إلى أوروبا. ولم يكن خبر غرق 21 منهم في «المتوسط» أخيراً، والذي شغل المعنيين بملف الهجرة واللاجئين في البلاد، أولى الكوارث؛ فقد فُجعوا بأكثر من ذلك.

وتشير تقارير منظمات محلية ودولية معنية بالهجرة إلى وفاة عديد من الفارين منهم في البحر المتوسط، أو سقوطهم في قبضة حرس السواحل الليبي الذي أبقى عليهم في السجون.

كثير من السوريين تكيّفوا مع طبيعة الأوضاع في ليبيا، فاندمجوا في المجتمع، وتفاعلوا مع أهل البلد ونمط الحياة فيه، لكن ذلك لم يمنع من وجود «صعوبات وانتهاكات» يتعرض لها كثيرون، ولا سيما طبقة العمال، ومن انتهت صلاحية أوراقهم الثبوتية.

سوريون يحتفلون في ساحة الأمويين بدمشق بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا... 13 مايو (أ.ف.ب)

اليوم وفيما سوريون في مختلف بلدان اللجوء يستعدون للعودة إلى بلدهم وقد بات ذلك متاحاً لهم، لا يزال سوريو ليبيا عالقين في منتصف الطريق. لا هم قادرون على الاحتمال مدة أطول ولا هم قادرون على الرحيل. ويقول سوريون في ليبيا إنهم يواجهون مشاكل عدة من قِبَل الخارجين عن القانون، تصل إلى حجز جوازات السفر.

استمعت «الشرق الأوسط» إلى شكاوى سوريين عديدين مقيمين في ليبيا، وتتمثل مشاكلهم بشكل أساسي في البطالة، والتعرض للخطف، ودفع «فديات» للميليشيات المسلحة، بالإضافة إلى ارتفاع الغرامات الواجب سدادها لمن يرغب في العودة إلى وطنه الآن وقد أصبح ذلك متاحاً.

مخالفات الإقامة

يفرض القانون الليبي المعدل في 14 مارس (آذار) 2024، والمتعلّق بدخول وإقامة الأجانب في ليبيا، رسومَ مخالفة البقاء بعد انتهاء صلاحية التأشيرة أو انتهاء فترة الإقامة، بمقدار 500 دينار عن كل شهر؛ أي ما يعادل نحو 90 دولاراً.

ولا تتوفر في ليبيا إحصاءات رسمية بشأن أعداد الوافدين بالنظر إلى انقسام البلاد منذ عام 2014، لكن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين سبق أن أعلنت في عام 2020، أن هناك قرابة 14.500 لاجئ وطالب لجوء من سوريا في ليبيا.

مطالبات أهالي المعتقلين السوريين في ليبيا الإدارة السورية الجديدة بالتحرك للكشف عن مصير أبنائهم المحتجزين هناك والمساهمة في تسهيل إجراءات عودتهم (متداولة)

أحمد كمال الفاخوري الذي كان وصل إلى ليبيا قبل 10 أعوام، ويقيم في طرابلس، ويعمل في أحد المطاعم مثل عديد من مواطنيه، قال لـ«الشرق الأوسط»: «فرضوا علينا غرامات لا يتصورها العقل؛ تقارب 1500 دولار للفرد». واشتكى الفاخوري من أنه لا يجد قوت يومه أحياناً، لقلة العمل، مطالباً السلطة السورية الجديدة بالتواصل مع الجهات الليبية لحل أزمتهم.

الفاخوري انتقل من مدينة درنة في أعقاب السيول التي ضربتها في أغسطس (آب) 2023، إلى طرابلس، وقال إنه رأى الموت بأم العين، واضطر إلى مغادرة درنة لعدم وجود بيت يؤويه: «الآن نعيش في عناء، ونريد أن يصل صوتنا للعالم، ليعرف الجميع كيف يعيش السوريون في ليبيا. نريد المغادرة إلى بلادنا».

النسيج السوري في ليبيا يضم الآلاف من الأطباء، والمهندسين، والدارسين في الجامعات، فضلاً عن عمال ينتشرون في الأسواق بحثاً عن لقمة عيش لأسرهم.

ولم يصدر عن وزارتَي العمل بحكومتَي ليبيا أي تصريحات بخصوص فرض «ضريبة مغادرة» محددة على السوريين المقيمين بالبلاد، لكن شهادات من الجالية السورية تؤكد مطالبتهم بدفع رسوم مغادرة تُحسب بناءً على مدة إقامتهم.

سقوط نظام بشار الأسد شجّع كثيرين على التفكير في العودة إلى بلدهم و«الخروج من سجن الغربة»، كما يقولون، لكنهم اصطدموا بضرورة تسديد هذه الرسوم التي تمثل عبئاً مالياً كبيراً على الأفراد كما العائلات.

«الشرق الأوسط» سعت للحصول على إفادة من الوزارتين بخصوص شكاوى السوريين من انتهاء أوراقهم الثبوتية، ومطالبتهم بتسديد غرامات يرون أنها «تفوق قدراتهم المالية»، لكن من دون رد من جانبهما.

وناشد السوري زكريا سعدي السلطات في شرق ليبيا وغربها إلغاء «ضريبة المغادرة»، ليتسنى لمن يرغب من الجالية السورية في العودة أن يفعل ذلك.

سعدي تحدث عن المعاناة اليومية لأبناء بلده، وقال: «من غير المعقول في ظل الظروف القاسية التي نعيشها، أن يُطلب من كل سوري هذه المبالغ كضريبة خروج من بلد لجأ إليه هرباً من الحرب». ويرى سعدي أن «هذه الضريبة تُعتبر عائقاً كبيراً أمام أي محاولة للعودة إلى الوطن، وتُشكّل عبئاً يفوق طاقتنا في ظل تردّي أوضاعنا المالية».

وقال إن «غالبية السوريين في ليبيا هم من العائلات البسيطة التي لا تمتلك دخلاً ثابتاً، وبعضها مهدّد بالطرد أو الخطف أو الاستغلال؛ ما يجعل المغادرة خياراً مصيرياً»، متسائلاً: «كيف يُطلب من المُهجَّر أن يدفع ثمن خروجه وكأنه سائح أو مقيم ميسور؟!».

ووجّه سعدي رسالة إلى وزارة خارجية بلاده، لاتخاذ موقف رسمي بهذا الخصوص، ومطالبة الجانب الليبي بإعفاء السوريين من الرسوم، والعمل على تنظيم آلية عودتهم وتسهيلها، وحماية من لا يزال مضطراً للبقاء.

مشكلة جوازات السفر

يتحدث عديد من السوريين في ليبيا عن تعرضهم لمشكلات كثيرة بسبب انتهاء الإقامات وجوازات السفر. ونقلت وسائل إعلام سورية أن مراقبة التعليم في مدينة مصراتة (غرب ليبيا) منعت 100 تلميذ سوري من الالتحاق بالمدارس الحكومية؛ نظراً لانتهاء جوازات سفر أولياء أمورهم.

مهندس وعمّال بناء سوريون في ورشة إعادة إعمار منازل في قرى دمرتها الحرب في محافظة إدلب (أ ف ب)

ولعدم وجود سفارة أو قنصلية أو تمثيل دبلوماسي سوري في ليبيا، لم يتمكن آلاف من الوافدين السوريين من تجديد جوازات سفرهم، وظلوا عالقين على أمل تدخل سياسي ينهي أزمتهم.

وتُقدّم ليبيا التعليم المجاني في المدارس الحكومية لأبناء المقيمين الأجانب، وهو ما عدّه الدكتور الليبي أيمن بن حليم «عبئاً مالياً كبيراً على بلاده»، وقال إنه «نظراً للعدد الكبير من العمالة الأجنبية في ليبيا، خاصة من دول الجوار؛ تُستهلك موارد التعليم العام والمجاني بشكل مفرط».

واستغرب طارق لملوم، الحقوقي الليبي والباحث في شؤون المهاجرين وطالبي اللجوء، مما أسماه «وجود شروط إقامات مكلفة وتعجيزية في ظل اشتراط جوازات سفر على أشخاص فرّوا من بلدان نزاع، والحكومة في غرب ليبيا لا تعترف بتمثيل دبلوماسي لبلدهم».

وفي منتصف مايو (أيار) 2025، قال وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إنه أصدر توجيهات بفتح سفارة وقنصلية لدى ليبيا. كما تحدث عبر حسابه على منصة «إكس» عن أنه سيزور ليبيا لاستكمال الإجراءات والتنسيق المشترك لفتح السفارة والقنصلية؛ بغية تقديم خدمات للسوريين في ليبيا، وتعزيز العلاقات بين البلدين.

سجون حكومتين وميليشيات

ويتحدث السوري حيان القدّاح عن أوضاع أبناء بلده في ليبيا، ويشير إلى أن «منهم من ينتظم في العمل، وهناك من ينام في الطرقات لعدم امتلاك أموال لسداد أجرة السكن»، لكنه يلفت إلى مأساة ارتهان جوازات سفر البعض ممن لا يقدرون على سداد تكاليف الفندق.

ويحكي القدّاح في إفادة لـ«الشرق الأوسط» عن تعرض عدد كبير ممن أسماهم بـ«العمالة الوافدة» التي هربت من الأوضاع الأمنية والجيش في عهد الأسد، ولجأت إلى ليبيا باعتبارها خط أمان سعياً للهجرة إلى إيطاليا، لكن في النهاية تقطّعت بهم السبل.

وساهم الانقسام السياسي الليبي، ووجود حكومتين متنازعتين على السلطة، في تعقيد أزمة السوريين؛ إذ لا تعترف حكومة غرب ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بالإجراءات التي تجريها غريمتها في شرق البلاد بقيادة أسامة حمّاد، والمدعومة من «الجيش الوطني» بقيادة المشير خليفة حفتر.

قوات تابعة لحكومة «الوحدة الوطنية» في طرابلس (رويترز)

وسهّلت خطوط طيران «أجنحة الشام» نقل السوريين بأعداد كبيرة خلال السنوات الماضية من دمشق إلى بنغازي، لكنهم كانوا دائماً يواجهون عقبة عدم اعتراف المدن الواقعة تحت سيطرة حكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة بختم الخروج الذي حصلوا عليه في بنينا.

ويضيف القدّاح أن كثيراً من الشباب السوريين في السجون بطرابلس وبنغازي «لا يستطيعون دفع أموال الفدية المطلوبة منهم، والتي تصل إلى 3 آلاف دولار أحياناً». ويضيف: «السجون الليبية مليئة بالسوريين بتهمة الهجرة غير المشروعة، من بينهم أطفال ونساء».

وتحدث الباحث الحقوقي لملوم عن العراقيل التي تواجه السوريين في ليبيا، ومن بينها عدم السماح لهم بالسفر من طرابلس إلى عمّان بسبب عدم وجود خطوط مباشرة، لكنهم أيضاً «يصطدمون بجدار الإجراءات التعجيزية، ومنها السؤال عن الإقامة، أو دفع رسوم مخالفة البقاء في ليبيا من دون إقامات».

وتساءل لملوم: «كيف يجددون جوازاتهم ويستخرجون إقاماتهم، وليس لبلدهم تمثيل قنصلي في بلدنا؟!»، وأضاف: «الأمر الأهم أن الأغلبية منهم مسجّلون لدى مفوضية اللاجئين؛ أي إن تسجيلهم كان داخل مكتب وسط العاصمة، والدولة سمحت بذلك».

وانتهى لملوم إلى أن «هذه الإجراءات فتحت باب الاستغلال؛ إذ تعرض الكثير من السوريين للاستغلال والاحتيال من قِبَل مكاتب وأشخاص قاموا بعمل إقامات لهم، تبيّن لاحقاً أنها مزورة».