«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

أنقذت السوق الإسرائيلية... وحكومة نتنياهو لا تعترف بالأزمة الاقتصادية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
TT
20

«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

في بداية الحرب غضب الإسرائيليون كثيراً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ليس فقط لأنه شبَّه الحرب العدوانية على غزة بجرائم النازية، بل لأنه أعلن مقاطعة اقتصادية لإسرائيل. وردَّ عليه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، آنذاك بإعلان مقاطعة مضادة. وأعلن وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، عن رفع نسبة الجمارك على كل البضائع التي تصل من تركيا بنسبة 100 في المائة، فيما أُلغيت الرحلات المباشرة التي كانت مزدهرة بين البلدين وكانت تصل في مواسم الذروة السياحية إلى 40 رحلة جوية في اليوم.

كان الهدف الذي وضعته الحكومتان من زيادة قيمة التبادل التجاري من 9 مليارات دولار في سنة 2022 إلى 10 مليارات في 2023، لم يتحقق، بل تراجع إلى 7.5 مليار بمعدل 5.3 مليار دولار استيراد من تركيا، والبقية صادرات إسرائيلية إلى تركيا.

ونظراً إلى أن قسماً كبيراً من الواردات من تركيا يتعلق بمواد البناء (22 في المائة) والمنتجات الزراعية (9 في المائة)، فقد بدا أن فرع البناء الإسرائيلي سيواجه أزمة شديدة. أما فرع الزراعة فسيواجه أزمة خطيرة، لأن السوق الإسرائيلية كانت تعتمد أيضاً على منتجات فلسطينية من قطاع غزة.

وظهرت الأزمة فوراً في إسرائيل، إذ قفزت أسعار الخضراوات والفاكهة عشرات النسب المئوية. وأسهم ذلك في ارتفاع نسبة التضخم. وأُضيفت إلى ذلك عناصر أخرى تسببت في خسائر اقتصادية فادحة في إسرائيل من جراء الحرب.

وفي مطلع الأسبوع، أكد وزير المالية سموتريتش، ما قاله قبل عدة شهور، محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، من أن تكلفة الحرب على غزة ستصل إلى 250 مليار شيقل، أي نحو 67 مليار دولار حتى 2025، محذراً من أنه لا يمكن إعطاء شيك مفتوح للجيش في الإنفاق الأمني. وقال سموتريتش: «نحن في الحرب الأطول والأكثر تكلفة في تاريخ دولة إسرائيل، مع إنفاق مباشر بمبلغ 200 – 250 مليار شيقل (الدولار يساوي اليوم 3.7 شيقل)».

رجل يعبر وسط شارع البورصة في تل أبيب (غيتي)
رجل يعبر وسط شارع البورصة في تل أبيب (غيتي)

البندورة المنقذة

هنا، تدخلت البندورة. البندورة التركية بشكل خاص.

فقبل الحرب كانت إسرائيل تستورد نحو 1.2 ألف طن في الأسبوع، تشكل 30 في المائة من الكميات التي يستهلكها الإسرائيليون. ووقف توريدها تسبب في أزمة، نظراً إلى أن بقية الإنتاج في إسرائيل تعطَّل بسبب الحرب. فالحقول التي تنتج البندورة هي تلك القائمة غربي النقب، على حدود غزة. والحرب منعت قطافها.

في البداية استوردت إسرائيل من الأردن 500 طن من البندورة. لكنَّ هذه الكمية لا تكفي الاستهلاك المحلي وليس من سوق بديلة. وإذ بدأت أسعار الفواكه والخضار تقفز أيضاً وتزعج المواطنين، جاء الحل من تركيا.

فبعد مداولات طويلة في الدوائر الحكومية المتخصصة، تبخرت الاتهامات الموجَّهة إلى إردوغان. وقررت الحكومة الإسرائيلية الامتناع عن أي إجراء مقاطعة لتركيا. وحاول الإعلام الإسرائيلي معرفة سر هذا التحول، ولم يجتهد كثيراً. البندورة أعطت الجواب. فقد تبين أنه من وراء الكواليس، وبلا ضجيج، وصلت إلى إسرائيل كميات كبيرة من البندورة التركية قاربت 700 طن في أسبوع واحد. وبنفس الطريقة وصلت كميات كبيرة من البضائع الأخرى.

سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

كيف تم ذلك؟

ببساطة، وافقت الدولتان على تنظيم عملية التفاف على قرارات المقاطعة. يدير هذه العملية التجار في البلدين، بمعرفة السلطات. لكن، وكي لا يظهر الأمر على أنه خرق للقانون ودوس على قرارات القيادات العليا، يتم إرسال البضائع من تركيا باعتبار أنها موجهة إلى فلسطين. ويتم تسجيلها فعلاً باسم تجار فلسطينيين من الضفة الغربية، الذين يقبضون عمولة غير قليلة. والبضائع التي تصل عادةً إلى السلطة الفلسطينية تمر عبر الموانئ الإسرائيلية. وبعد تحريرها من الجمرك الإسرائيلي يتسلمها الوكلاء الفلسطينيون ويسلمونها إلى التجار الإسرائيليين. وعندما سلكت الأمور واستقرت أسبوعاً تلو أسبوع، لم تعد هناك حاجة لأن يحضر التجار الفلسطينيون إلى الموانئ، وأوكلوا المهمة لوكلاء إسرائيليين يحصلون على البضاعة ويرسلون العمولة مباشرة إليهم.

وكُشف النقاب هذا الأسبوع عن أمر صادر في 26 أغسطس (آب) الماضي عن وزارة الزراعة، يتيح استيراد البندورة من تركيا رغم الحظر، وذلك عن طريق دولة ثالثة، شرط أن يكون مسار نقل هذه البضائع واضحاً بدقة

جدوى المقاطعة

السؤال هو: هل هذا النمط التركي فريد ووحيد، أم أن دول أخرى تتبعه، فتعلن المقاطعة لكنها تجد وسيلة التفافية للاستمرار في العلاقات فتعلن مقاطعة إسرائيل لكن على أرض الواقع تجد بدائل؟

يقول د. موشي بن ديفيد (72 عاماً)، وهو دكتور في التاريخ وفلسفة الأفكار، وعقيد في جيش الاحتياط الإسرائيلي، وخدم في الجيش بالأساس في سلاح الاستخبارات العسكرية، إن المقاطعة غير ممكنة في عصرنا. ويضيف: «غنيٌّ عن القول إنه كان بالإمكان أن يكون حالنا أفضل بكثير، لولا الحرب. لكن علينا الاعتراف بصراحة أنّ النقص في الموارد وفي المقاتلين، وحظر الأسلحة، أو المقاطعة والعزلة الدوليّة، ليست أسباباً كافية لوقف الحرب في هذه المرحلة، أولاً لأن هذه الأمور بدأت تتغيّر. وفقط إذا أتاحت الولايات المُتّحدة لمجلس الأمن أن يرفع بطاقة حمراء لا سمح الله، يمكن الحديث عن مقاطعة مؤثرة، لكنَّ الولايات المتحدة لا تفعل ذلك».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في البرلمان لحضور خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (إ.ب.أ)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في البرلمان لحضور خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (إ.ب.أ)

ويرى بن ديفيد، الذي يعد من المقربين من نتنياهو، أن «تكلفة الحرب الإسرائيلية كبيرة جداً وثقيلة ولكنها غير صعبة الاحتمال». ويقول، خلال ندوة في تل أبيب، إن التقدير لدى محافظ بنك إسرائيل في شهر مايو (أيار) الأخير ولدى وزير المالية اليوم بأن تكلفة الحرب في السنوات ما بين 2023 و2025 ستبلغ 250 مليار شيقل، تشمل كل التكاليف المباشرة من تشغيل طائرات، وذخائر، ووقود، وغذاء، وأيّام خدمة جنود الاحتياط، وإخلاء المواطنين من الشمال والجنوب، وإعادة تأهيل المصابين، وما شابه ذلك، والتكاليف غير المباشرة مثل أضرار السياحة، وتعويضات مستقبليّة لرجال الأعمال، والبيوت والأملاك المُتضرّرة.

لكنَّ إسرائيل تمتلك احتياطياً بقيمة 200 مليار دولار، ويدرك السوق أنّ «لدينا عدّة مخازن مليئة بالمواد الحيوية تعافت بأعجوبة منذ اندلاع الحرب حتّى اليوم»، على ما قال بن ديفيد. ويتابع: «يبلغ الناتج المحلّي الإجمالي في وضعنا الحالي نحو 400 مليار دولار، وهو قريب جداً مما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ويشير الإنفاق اليومي من خلال بطاقات الائتمان، الذي يُشكّل 50 في المائة من الناتج المحلّي الإجماليّ، من ضمن أمور أخرى، إلى قدرات المستهلكين الاقتصاديّة، وإلى ميل هامشي للاستهلاك، وهو ارتفع بنحو 25 في المائة. وكذلك الحال بالنسبة لمعدّل العائد السنوي لسداد السندات الحكوميّة، الذي يعكس توقّعات المستثمرين بالربح، إذ ارتفع بالفعل إلى 5 في المائة، أكثر بما يقارب نصف في المائة من ذروته في فترة جائحة كورونا، لكنّه توقّف عند هذا الحدّ».

وأضاف بن ديفيد: «نجحت وزارة الماليّة في تجنيد الأموال حتّى في هذه الفترة، والتقدير هو أنّ المؤسّسات ستنشئ طلبات سندات بقيمة 100 مليار شيقل، ستحوَّل إلى خزينة الدولة خلال هذا العام. هذا على الرغم من علاوة المخاطرة لإسرائيل الممتدّة على 5 أعوام بنسبة 1.4 في المائة، والتي عرضتها وزارة الماليّة الأميركيّة العام الماضي».

من جهته، تباهى سموتريتش بأن «خروج المستثمرين الأجانب من البورصة في تل أبيب، والذي وصل إلى نحو 34 مليار في الربع الأخير من عام 2023، قد توقف ولا يتعدّى الآن نسبة 1 في المائة. يصل ملف الأملاك الماليّة العامّة إلى قيمة 5.68 تريليون شيقل، وهي أعلى قيمة له تاريخياً. ويتعافى مجال العقارات، إذ ترتفع أسعار الشقق مُجدّداً». ويضيف: «صحيح أنّ العجز في الميزانيّة يقترب من نسبة 7 في المائة، لكنّه أقلّ من نسبة 12 في المائة في فترة جائحة كورونا والذي تمّ تداركه خلال عامٍ واحد –مما يدعو إلى التفاؤل. لقد تعافت سوق العمل، وعاد الطلب على العمّال، الذي كان قد انخفض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، تقريباً إلى طبيعته، مما أعاد مستويات الأجور إلى ما كانت عليه عشيّة الحرب. حتى صناعة الهاي تك التي تشغّل نحو 16 في المائة من الموظّفين في قطاع الأعمال والمسؤولة اليوم عن 58 في المائة من التصدير، الذي تعرض لضربة في الحرب، فإنها لا تزال تشكّل المحرّك الاقتصاديّ، وتمكن من تجنيد أموال بقيمة 3.5 مليار دولار في الربع الأخير الذي انتهى في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام، وهو الأعلى منذ سنتين».

الأمور ليست وردية

لكنَّ اليمين الإسرائيلي يتجاهل بذلك التراجعات الكبيرة في أداء لاقتصاد ويبدو كمن يُخفي نصف الحقيقة. فالأمور ليست ورديّة، على هذا النحو. فالحكومة رصدت مبلغ 7.5 مليار شيقل من الميزانية مخصصة لتمويل أحزاب الائتلاف الحكومي. والعجز في الموازنة مرتفع بمقاييس غير مسبوقة ويبلغ نحو 30 مليار دولار، الأمر الذي سيتطلب تخفيضات في الميزانية وزيادة الضرائب بما يصل إلى أكثر من 18 مليار دولار، وهو ما سيتم الشعور به بشدة في نوعية الحياة وانخفاض الخدمات للجمهور الإسرائيلي بشكل عام. ومظاهر مقاطعة إسرائيل في العالم تتسع. وشركات التصنيف الائتماني قررت خفض التدريج الائتماني لإسرائيل. وفرع السياحة في إسرائيل انخفض بنسبة 81 في المائة، وفرع البناء يعاني الشلل منذ أن غاب العمال الفلسطينيون (150 ألف عامل منهم 70 ألفاً في البناء). وفشلت إسرائيل في جلب عمال أجانب يحلون محل عمال الضفة الغربية.

وسبق لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن ذكرت أن الحرب في غزة تسبب تحديات وصعوبات لم يسبق لها مثيل في إسرائيل، مع تأزم وضع المجتمعات المحلية، ورغبة جنود الاحتياط في العودة إلى ديارهم، وممارسة العالم ضغوطاً عديدة للتخفيف من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة، وتعرض الاقتصاد الإسرائيلي لأزمة تلو الأخرى.

وتُضاف إلى كل ذلك تكاليف الخدمة في جيش الاحتياط، حيث تم تجنيد 300 ألف جندي في بداية الحرب وانخفض العدد حالياً إلى 50 ألفاً. فكل جندي احتياطي يتقاضى 82 دولاراً يومياً، وبلغ إجمالي هذه المدفوعات وحدها 2.5 مليار دولار في أول 3 أشهر من الحرب. وعلى الجبهة المدنية، بلغت التعويضات التي تُدفع للنازحين عن بيوتهم 2.7 مليار دولار لتلك الأشهر الثلاثة، علماً بأن عدد هؤلاء النازحين يبلغ نحو 125 ألف شخص.

وباتت تكلفة الحرب على غزة موضع نقاش وانتقادات داخل إسرائيل، خصوصاً في ظل استمرارها مع عدم تحقيق النتائج التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية حتى الآن، وفقاً لمراقبين.


مقالات ذات صلة

تجارب إسرائيل في استخدام الذكاء الاصطناعي بحرب غزة تثير مخاوف أخلاقية

شؤون إقليمية تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لإنشاء متاجر إلكترونية وهمية في دقائق ما يزيد صعوبة التمييز بينها وبين الحقيقية (شاترستوك)

تجارب إسرائيل في استخدام الذكاء الاصطناعي بحرب غزة تثير مخاوف أخلاقية

دفعت إسرائيل بتقنيات ذكاء اصطناعي متطوِّرة إلى ساحة المعركة، مما عزَّز من قدراتها العسكرية، لكن ذلك أثار مخاوف أخلاقية حادة؛ بسبب تداعياته المميتة على المدنين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي رئيس الوزراء الكندي مارك كارني (رويترز)

رئيس وزراء كندا يرفض استخدام الغذاء «أداة سياسية» في غزة

حث رئيس الوزراء الكندي مارك كارني إسرائيل على السماح لبرنامج الأغذية العالمي بالعمل في غزة.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا )
المشرق العربي فلسطيني يبحث عن ناجين في منزل عائلة الخور بحيّ الصبرة (أ.ف.ب)

غزة: 17 قتيلاً و20 مفقوداً بضربات إسرائيلية

أعلن الدفاع المدني في قطاع غزة مقتل 17 شخصاً على الأقل، صباح اليوم (السبت)، بضربات إسرائيلية في قطاع غزة، عدد كبير منهم في قصف طال منزلاً وطمر ساكنيه تحت أنقاضه

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس (رويترز) play-circle

وزير الدفاع الإسرائيلي: القتال بغزة له «ثمن باهظ»

أكد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أمس الجمعة أن القوات الإسرائيلية تدفع ثمناً باهظاً لنجاحاتها العسكرية ضد حركة «حماس».

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية منظومة القبة الحديدية بالقرب من عسقلان في جنوب إسرائيل (أرشيفية - رويترز)

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ أُطلق من اليمن

أعلن الجيش الإسرائيلي، السبت، أنه اعترض صاروخاً أطلق من اليمن قبل دخوله أراضي إسرائيل، ومسيّرة آتية من الجهة الشرقية.


هشاشة الحدود السورية ترسم علاقات شائكة مع دول الجوار

جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)
جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)
TT
20

هشاشة الحدود السورية ترسم علاقات شائكة مع دول الجوار

جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)
جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)

تشكِّل قضية الحدود السورية مع دول الجوار تحدياً كبيراً للإدارة الناشئة للرئيس أحمد الشرع، فهي المعبر الأول لصياغة علاقة سياسية وأمنية مستقبلية بين دمشق ومحيطها، وهي في الوقت نفسه حاجز مفخَّخ بكثير من رواسب النظام السابق.

وتعد الحدود السورية - التركية التي تمتد لأكثر من 900 كيلومتر، الجغرافيا الأبرز للصراع على الموارد والنفوذ، وهي التي شهدت تاريخياً فترات من التوتر والهدوء النسبي. وبعد اندلاع الثورة السورية مطلع عام 2011، كانت هذه الحدود أول خاصرة ضعيفة للنظام السابق. ففي حين بدأت دمشق تفقد السيطرة تدريجياً على مناطق واسعة من البلاد، كانت المناطق الحدودية، خصوصاً الشمالية منها، الأولى التي خرجت سريعاً عن سيطرتها.

وبالكاد انتصف عام 2012، حتى كانت فصائل المعارضة السورية المسلحة تسيطر على نقاط استراتيجية على الحدود مع تركيا؛ أولاها معبر باب الهوى الاستراتيجي على بُعد نحو 50 كيلومتراً غربي مدينة حلب في شمال غربي سوريا. بعده مباشرةً تمت السيطرة على معابر باب السلامة وجرابلس والراعي. وامتدت هذه السيطرة لاحقاً إلى معابر معينة مع العراق والأردن ولبنان، في ظل تراجع قدرة النظام على ضبط حدوده كما في السابق.

ومع تصاعد النزاع ودخول لاعبين دوليين وإقليميين على خط الأزمة، أُعيد رسم خريطة السيطرة على المعابر. فأصبحت تركيا من خلال فصائل سورية حليفة لها تهيمن على معظم الحدود الشمالية، في حين مارست إيران نفوذاً مباشراً عبر ميليشياتها على حدود سوريا مع العراق والأردن. أما «حزب الله» اللبناني ففرض سيطرة شبه كاملة على الحدود اللبنانية. في المقابل، تمركزت القوات الأميركية في الشمال الشرقي ومعبر التنف على المثلث الحدودي مع العراق والأردن.

ورغم تباين القوى المسيطرة على المعابر الرسمية وغير الرسمية، فإن القاسم المشترك بينها هو نشوء كيانات محلية ذات أنظمة أمنية واقتصادية منفصلة، لا تخضع للسلطة المركزية بشكل فعلي، ما أسهم في إضعاف تماسك الدولة ووحدتها.

ورغم ما أُعلن عن سيطرة «هيئة تحرير الشام» على إدارة العمليات العسكرية إثر سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، فإن الحكومة السورية الجديدة ورثت واقعاً هشاً ومعقداً، خصوصاً في إدارة الحدود وتواجه تحديات أمنية جسيمة في هذا ملف.

الحدود اللبنانية: «حزب الله» وشبكات تهريب

تمتد حدود سوريا مع لبنان لمسافة تصل إلى نحو 375 كيلومتراً، وكانت خاضعة بشكل شبه كامل لسيطرة «حزب الله» قبل سقوط النظام. وشكّلت المعابر الرسمية الستة، أبرزها معبر «جديدة يابوس - المصنع» و«الدبوسية - العبودية»، ممرات قانونية وشرعية تخضع عملياً للدولة اللبنانية، في حين سيطرت مجموعات تابعة لـ«حزب الله» والعشائر على نحو 20 معبراً غير رسمي في محافظتي حمص وريف دمشق.

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (أ.ف.ب)
نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (أ.ف.ب)

هذه المعابر شكّلت شبكة تهريب ضخمة للأسلحة والبضائع والمخدرات وتسلل أو عبور المقاتلين. وأكدت مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه الشبكات لا تزال تنشط في ظل ضعف أجهزة الدولة الجديدة، وامتلاك المهربين خبرة طويلة في التعامل مع التضاريس الوعرة والاستجابة المرنة للضغوط الأمنية، وتغيير مساراتهم وفق الحاجة».

وأشارت المصادر إلى أن هذه «الشبكات المدعومة من (حزب الله) لبنانياً والفرقة الرابعة سورياً، أنشأت مستودعات وأنفاقاً في مناطق جبلية، بعضها يعود إلى ما قبل الثورة، تُستخدم لتخزين ونقل الأسلحة والمخدرات، وقد استهدفت إسرائيل بعض هذه الشحنات في غارات متكررة».

وفي هذا السياق، قال مسؤول عسكري في الجيش السوري الجديد، فضَّل عدم الكشف عن اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «لقد فككنا عدداً من شبكات التهريب التي تعمل على جانبي الحدود، ونحن في طور الملاحقة الأمنية وتفكيك تلك الشبكات المعقدة». وأشار المسؤول إلى أن «هناك تعزيزات عسكرية سورية مكثفة تصل إلى الحدود اللبنانية، خصوصاً في المناطق الأكثر عُرضة للخطر، والتي يُحتمل أن يتسلل منها عناصر تابعون لـ(حزب الله)».

وحذر المصدر من «صدامات متكررة مع مجموعات تابعة لـ(حزب الله) كتلك التي حدثت في منتصف مارس (آذار) الفائت»، مؤكداً أن الجيش في حالة «استنفار دائم لتفادي المخاطر الأمنية المحتملة».

صورة ملتقطة في 11 مارس 2025 بقرية حكر الظاهري شمال لبنان تظهر لاجئين سوريين يعبرون النهر الكبير إلى قرية حكر الظاهري اللبنانية هرباً من العنف في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين السوريتين (د.ب.أ)
صورة ملتقطة في 11 مارس 2025 بقرية حكر الظاهري شمال لبنان تظهر لاجئين سوريين يعبرون النهر الكبير إلى قرية حكر الظاهري اللبنانية هرباً من العنف في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين السوريتين (د.ب.أ)

تحديات المرحلة المقبلة

ورغم عزم الحكومة السورية الجديدة على مواجهة التهريب، لا سيما حين يرتبط بتهريب الأسلحة والمخدرات، فإن ضعف البنية الأمنية، والنقص في عدد العناصر، يشكلان عائقاً حقيقياً أمام ضبط الحدود، خصوصاً في ظل تمدد شبكات التهريب ذات الخبرة الطويلة والمعرفة الجغرافية الواسعة.

وتبقى الحدود اللبنانية - السورية إحدى أبرز بؤر التوتر، في ظل انعدام السيطرة التامة من الحكومتين، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. وتؤكد مصادر أمنية سورية أن معالجة هذا الملف تتطلب تعاوناً مباشراً بين دمشق وبيروت، إضافةً إلى دعم إقليمي لضمان أمن الحدود ومنع تهريب السلاح والمخدرات.

الحدود مع الأردن: ضبط الكبتاغون

كما هو الحال في معظم المناطق الحدودية، فقد النظام السوري سيطرته على الحدود الرسمية مع الأردن، وفي جنوب سوريا لجهة درعا، والقنيطرة، والسويداء، اتخذ الصراع مساراً مشابهاً لما جرى في الشمال، حيث ظهرت هيئات مدنية بديلة وحاربت جماعات مسلحة قوات النظام، مما أدى إلى تراجعه عن مناطق حدودية عدة.

في 2017، ومع تضاؤل الدعم الخارجي تدريجياً حتى توقفه تماماً، عاد النظام السابق ونجح في عقد «مصالحات» أعادت له السيطرة في العام التالي على مساحات واسعة من البلاد وعلى المعابر الحدودية الرسمية مع الأردن.

منذ ذلك الحين، تحولت الحدود السورية - الأردنية إلى ممر منظم لتهريب الكبتاغون إلى الخليج مروراً بالأردن، الذي أصبح منطقة عبور وأحياناً استهلاك. ويعد ذلك من أبرز مظاهر تواطؤ شبكات التهريب والسلطة بعد «استعادة السيطرة» وحتى سقوط النظام لاحقاً.

وتمتد الحدود بين البلدين على نحو 370 كيلومتراً، وتضم معبري نصيب وجابر. وحسب مصادر محلية علمت «الشرق الأوسط» أن عمليات التهريب مستمرة رغم الجهود التي تبذلها الإدارة السورية الجديدة وتعهدها بضبط هذه التجارة. لكن كما هو الحال مع الجانب اللبناني، فإن الشبكات متشعبة ومُلمَّة بالجغرافيا، وفي الحالة الأردنية يستخدم المهربون مُسيّرات صغيرة تنقل ما بين نصف كيلوغرام و3 كيلوغرامات من المواد المخدرة، مما يصعّب رصدها، ويمثل هذا تحدياً أمنياً هائلاً.

وأضافت المصادر أن الأردن يواجه محدودية في الإمكانات، بينما تواصل شبكات التهريب نشاطها، مستفيدةً من ضعف الحكومة السورية في مناطق جنوب البلاد لحسابات أمنية، أبرزها المخاوف من الاحتكاك مع إسرائيل.

كذلك، تُستخدم طرق وعرة في الوديان والمناطق الجبلية لتهريب المواد، مما يعقّد السيطرة الأمنية، ورغم تراجع الكميات مقارنةً بالسابق، فإن النشاط لم يتوقف كلياً.

وتغيّرت طبيعة التهريب من السلاح والكبتاغون سابقاً -بدعم إيراني- إلى التركيز الآن فقط على الكبتاغون، بعد انحسار النفوذ الإيراني. كما تطورت وسائل التهريب لتشمل التضليل بافتعال اشتباكات واستخدام ورش صغيرة وعشوائية للإنتاج بدلاً من المصانع الكبيرة التي دمَّرت وفككت السلطات الجديدة معظمها.

الجولان المحتل... «عيون دولة إسرائيل»

عادت قضية الحدود المشتركة مع إسرائيل إلى الواجهة بعد سقوط نظام بشار الأسد؛ إذ شهدت توغلات إسرائيلية كثيرة، وما كانت لعقود «جبهة باردة» أصبحت اليوم نقطة ساخنة أخرى.

وتتمحور إشكالية الحدود السورية - الإسرائيلية حول مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967 وتعدها جزءاً من سيادتها، ومرتكزاً أساسياً لأمنها القومي ووجودها. بينما تطالب سوريا عبر المجتمع الدولي باستعادة أراضيها المحتلة والعودة إلى ما قبل الحرب.

قصف مدفعي إسرائيلي يطول موقعين في ريف القنيطرة قرب الحدود مع الجولان السوري المحتل (أرشيفية)
قصف مدفعي إسرائيلي يطول موقعين في ريف القنيطرة قرب الحدود مع الجولان السوري المحتل (أرشيفية)

وبعد سقوط نظام الأسد، شهدت الحدود السورية - الإسرائيلية، خصوصاً في مرتفعات الجولان والمنطقة العازلة، استغلالاً إسرائيلياً للفراغ الأمني والسياسي في سوريا لتوسيع سيطرتها على مناطق جديدة في جنوب غربي سوريا، خصوصاً في المنطقة العازلة التي تمتد من جبل الشيخ شمالاً حتى جنوب مرتفعات الجولان المحتلة، ورفضها الاتفاقيات السابقة التي كانت تنظّم وقف إطلاق النار. لكن ثمة من يرى إمكانية انسحاب إسرائيل مستقبلاً مع فتح الحكومة الانتقالية قنوات تواصل مع بعض دول الاتحاد الأوروبي التي ترفض الاحتلال الإسرائيلي أو ضم أراضٍ سورية جديدة.

وترفض إسرائيل السماح لأي قوة «معادية» بالتمركز على حدودها في جنوب سوريا في محافظات القنيطرة والسويداء ودرعا، مع مواصلة تعزيز وجودها العسكري في المناطق التي احتلتها حديثاً، وبنت فيها نقاطاً عسكرية مثل قمة جبل الشيخ التي وصفها رئيس وزراءها بأنها «عيون دولة إسرائيل»، فيما تواصل شن مئات الغارات الجوية على مخازن أسلحة بحجة منع وقوع هذه الأسلحة في أيدي جماعات معادية.

ومع إدراك الحكومة الانتقالية واقع «التوازن العسكري» مع إسرائيل، أبدت هذه الحكومة رغبتها «مراراً» في عدم مواجهة إسرائيل، أو السماح باستخدام الأراضي السورية منطلقاً لشن هجمات على إسرائيل أو تهريب الأسلحة عبر حدوها إلى «حزب الله» اللبناني، والتمسك باتفاقية «فصل القوات» الموقَّعة بينها في عام 1974، ومطالبة الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من مناطق التوغل الجديدة. لكنَّ إسرائيل على ما يبدو، تسعى لتكريس واقع جديد لفرض وجود عسكري طويل الأمد مع المراقبة عن «كثب» لتطور الملفات الداخلية، واحتمالات دخول البلاد في حرب داخلية تسهم في «تفتيت» الدولة السورية، وإضعاف قدرة السوريين على المواجهة، مع معطيات عدة تشير إلى تعرض مصدر التهديد الثاني، أي «محور المقاومة»، لضربات «مميتة» أنهت عملياً تهديدات «حزب الله» اللبناني على الأقل مؤقتاً، وتهديدات حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة.

الإشكالية السورية - التركية

شهدت الحدود السورية - التركية تحولات جذرية منذ عام 2011، حيث تحوّلت من منطقة شبه مغلقة إلى بوابة مفتوحة للفارين والمقاتلين، قبل أن تُصبح واحدة من أكثر الحدود مراقبةً في العالم، وكذلك الممر الرئيسي لعبور السلع والبضائع.

2012 – 2014: الانفتاح والفوضى

مع نهاية عام 2012، فقد النظام السوري سيطرته على معظم الشريط الحدودي مع تركيا، لا سيما في شمال حلب وإدلب والرقة. وتحوّلت هذه الحدود إلى ممرّ مفتوح للمقاتلين الأجانب القادمين إلى سوريا، وللفارين من القصف المتصاعد فيها.

في هذه المرحلة، تساهلت تركيا في ضبط حدودها، ففتحت معابر رسمية وأخرى «طارئة» لاستقبال الجرحى المدنيين والعسكريين، وانتعشت حركة تهريب الأفراد من سوريا إلى تركيا بشكل غير مسبوق. وشملت عمليات التهريب أيضاً، الوقود، والدخان، والبضائع الأخرى، وكانت تُدار أحياناً من فصائل من الجيش الحر.

وبين عامي 2011 و2014، بلغت عمليات التهريب ذروتها، كما أصبحت حركة عبور المدنيين إلى تركيا سهلة وتكلف القليل نسبياً، إذ لم تتجاوز تكلفة التهريب حينها 500 ليرة سورية (بضعة دولارات)، مقارنةً بتكاليف تصل اليوم إلى نحو ألفي دولار.

وزير التجارة التركي عمر بولاط خلال تفقده البوابات والمعابر الحدودية مع سوريا يناير الماضي (من حسابه في «إكس»)
وزير التجارة التركي عمر بولاط خلال تفقده البوابات والمعابر الحدودية مع سوريا يناير الماضي (من حسابه في «إكس»)

2015: التحصين والتشديد

ابتداءً من عام 2015، بدأت تركيا تشديد إجراءاتها على الحدود بعد ضغوط دولية، فشرعت في بناء جدار عازل وسياج أمني على طول الشريط الحدودي، وحوّلت الحدود إلى واحدة من أكثر المناطق مراقبةً عالمياً.

ورغم التشديد، بقيت المعابر الرسمية مفتوحة أمام دخول المساعدات الإنسانية، والبضائع التركية، والحالات الطبية المستعصية. كما تعاملت أنقرة بشكل رسمي مع المعابر الخاضعة لسيطرة الفصائل المعارضة، مع الاعتراف بأختامها لعبور الأشخاص والبضائع. وكان أبرز هذه المعابر باب الهوى، الذي تنقلت السيطرة عليه بين فصائل مثل الجيش الحر، وأحرار الشام، وأخيراً هيئة تحرير الشام.

كما شملت المعابر التي ظلت فاعلة تحت إشراف فصائل «الجيش الوطني» المتحالفة مع أنقرة: باب السلامة، والراعي، وجرابلس، وتل أبيض، في حين أغلقت تركيا معابرها مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

الحدود كورقة سياسية

برزت تجارة التهريب البشري كإحدى أبرز سمات الحدود السورية - التركية، حيث نشأت شبكات تهريب منظمة تسهّل عبور المدنيين باتجاه تركيا ومنها إلى أوروبا. وكانت الفصائل المعارضة المسلحة تستفيد من هذه التجارة عبر فرض رسوم عبور وصلت إلى 25 دولاراً للشخص، تُدفع مقابل «وصل مرور» يسمح بالاقتراب من نقاط التهريب.

لاحقاً، تحوّلت هذه التجارة إلى ورقة ضغط سياسية. ففصائل مثل «هيئة تحرير الشام» أوحت لأنقرة بأنها تتحكم في الحدود ويمكنها فتح الطريق أمام اللاجئين، مما منحها هامشاً للمساومة السياسية. فمنذ أن فرضت هيئة تحرير الشام سيطرتها المطلقة على إدلب، بدأت تُظهر نفسها على أنها لاعب إقليمي يمسك بورقة الحدود مع تركيا، ويستخدمها للمناورة مع أنقرة وأوروبا.

وفي ديسمبر 2019، قدمت الهيئة نموذجاً لهذا الدور عندما منعت مئات المتظاهرين من الوصول إلى بوابة باب الهوى، من خلال إغلاق الطرق بالكتل الأسمنتية، ونشر عشرات العناصر الملثمين، بل استخدام الرصاص الحي بشكل مكثف لتفريقهم. المتظاهرون كانوا يطالبون «الضامن التركي» بالتحرك ضد التصعيد العسكري في ريف إدلب، وفرض الالتزام بتفاهمات سوتشي، لكنَّ تركيا لم تسعَ لمنع هجمات النظام السابق وروسيا، والهيئة من جهتها اختارت أن تكون سداً منيعاً بين الأهالي والبوابة الحدودية مقدمةً نفسها أنها هي من يتحكم في الحدود، وأن على أنقرة التفاهم معها.

بهذا السلوك، أرسلت «تحرير الشام» رسالة واضحة: من يسيطر على المعبر، يملك ورقة ضغط حساسة في وجه تركيا والمجتمع الدولي، سواء كانت على شكل تهديد بانفجار شعبي، أو إدارة تدفق اللاجئين والضغط الأمني.

وبدورها استخدمت تركيا ورقة اللاجئين في مفاوضاتها مع أوروبا، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، كما أسهمت الفصائل المتحالفة معها في ضبط الحدود ومنع الانفلات الأمني.

«كسب»... من التجاهل إلى التفعيل

كان معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا، مغلقاً لسنوات خلال سيطرة النظام السابق. ورغم أنه لم يكن مفعّلاً، فإنه شهد عدداً من اللقاءات الأمنية بين استخبارات أنقرة ودمشق. وبعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، أُعيد فتح معبر «كسب» رسمياً، وأصبحت جميع المعابر الرسمية بين البلدين تحت إدارة حكومة الرئيس أحمد الشرع ما عدا تلك التي لا تزال تحت إدارة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهي موضع تجاذبات ومفاوضات.

معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا (أ.ف.ب)
معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا (أ.ف.ب)

وقال مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علّوش لـ«الشرق الأوسط» إن «المعابر البرية كافة في سوريا تحت سيطرة الحكومة السورية، ومنها عشرة معابر بدأ العمل بها فعلياً، فيما لا تزال هناك أعمال صيانة على بقية المعابر ليتم افتتاحها بعد فترة قريبة». وأضاف: «في المقابل لا تزال المعابر ابتداءً من معبر عين العرب مع تركيا، حتى معبر اليعربية مع العراق، تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية».

وعن خطط الحكومة السورية لاستعادة هذه النقاط الاستراتيجية، قال علوش: «تسعى الحكومة السورية إلى استعادة السيطرة على جميع المعابر لتعزيز سيادتها وتأمين تدفق البضائع والأشخاص بشكل طبيعي، وتشمل خططها الحالية تسلم المعابر شمال شرقي سوريا من قوات سوريا الديمقراطية بعد الاتفاق الذي جرى توقيعه بين رئيس الجمهورية العربية السورية وقائد قوات سوريا الديمقراطية».

وإذ أكد علّوش أن «هناك تعاوناً كبيراً بين الدول المجاورة والحكومة السورية»، وأن العلاقات يسودها «التفاهم والاحترام المتبادل»، نفى وجود أي تهديدات مباشرة في الوقت الحالي، معتبراً إن الاشتباكات الأخيرة هي «شأن طبيعي».

وفيما يتعلق بخطط إعادة فتح المعابر المغلقة، قال: «توجد خطط لإعادة فتح بعض المعابر المغلقة، تعتمد على التطورات السياسية والأمنية والمفاوضات الجارية مع الدول المجاورة، خصوصاً لبنان، حيث تجري حالياً أعمال صيانة وترميم لمعبر العريضة الحدودي، وسيليه معبر الدبوسية، حيث كانت هذه المعابر قد تعرضت لقصف إسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على لبنان».

وأضاف علّوش: «هناك أيضاً خطط لتسلم معبر التنف الحدودي والبدء بأعمال الصيانة فيه خلال فترة قريبة حتى يتم تجهيزه، ومعبر البوكمال لتسهيل عبور البضائع والمسافرين إلى العراق، وننتظر تسلم المعابر الأخرى من قوات سوريا الديمقراطية، حتى يتم وضعها في الخدمة».

العراق... مقاتلون في اتجاهين

تُعد الحدود بين العراق وسوريا من أكثر المناطق الحدودية هشاشة واضطراباً في المنطقة، وهي هشاشة سبقت حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011 وسقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003. ويعود ذلك إلى الطبيعة الصحراوية الوعرة للمنطقة، وطول الحدود التي تمتد لأكثر من 600 كيلومتر، إضافة إلى ضعف إمكانات الدولتين في ضبطها، سواء في ظل نظامَي البعث في البلدين أو ما بعدهما.

معبر البوكمال على الحدود السورية - العراقية (آ ف ب)
معبر البوكمال على الحدود السورية - العراقية (آ ف ب)

في أواخر التسعينات وبداية الألفية، لعب جهاز المخابرات السورية دوراً فاعلاً في السماح بمرور عشرات المقاتلين الأجانب إلى العراق، خصوصاً بعد الغزو الأميركي في 2003. وقد اتُّهم النظام السوري لاحقاً من واشنطن والحكومة العراقية بتسهيل مرور الجهاديين، ودعمهم، وهو ما عمّق التوتر بين البلدين. المفارقة أن هذين الطرفين، المتخاصمين بالأمس، تحوَّلا إلى حليفين بعد اندلاع الثورة السورية، وأصبحت هذه المعابر نفسها التي ضخت جهاديين سُنة نحو العراق تستقبل مقاتلين من «الحشد الشعبي» والميليشيات الشيعية باتجاه سوريا للدفاع عن نظام بشار الأسد، وهي اليوم نقطة ساخنة أخرى تضاف إلى تحديات الإدارة السورية الجديدة.

ولكن قبل ذلك، وعلى أثر انسحاب قوات النظام السوري السابق من أغلب المواقع الحدودية بحلول نهاية 2013، ملأت قوات سوريا الديمقراطية بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية الفراغ الأمني شمال شرقي البلاد، خصوصاً في محافظة الحسكة. أما في دير الزور، فقد تقاسمت السيطرة فصائل معارضة متنوعة، قبل أن يتمكن تنظيم «داعش» عام 2014 من بسط نفوذه على كامل المنطقة، معلناً قيام «دولة الخلافة الإسلامية» ومُلغياً الحدود بين سوريا والعراق من حلب إلى الموصل.

ثم في أعقاب هزيمة «داعش»، ظهرت على الجانب العراقي قوات «الحشد الشعبي»، والفصائل المرتبطة بإيران، لاعباً أساسياً في إدارة الحدود المشتركة مع سوريا. ومن أبرز هذه الفصائل «لواء الطفوف» و«كتائب حزب الله»، التي تركز وجودها في مناطق استراتيجية مثل القائم وعكاشات، حيث يقع معبر القائم - البوكمال، أحد أبرز المعابر بين البلدين. وقد بات هذا المحور جزءاً مما يُعرف بـ«محور المقاومة» المدعوم من إيران، مما منح طهران نفوذاً مباشراً في إدارة المعبر ومحيطه، رغم عودة السيطرة الاسمية للنظام السوري.

ورغم وجود عدة معابر رسمية أخرى مثل «اليعربية - ربيعة»، و«سيمالكا - فيشخابور»، و«الوليد - الفاو»، فإن أغلبها يخضع حالياً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وبعد سقوط النظام السابق نهاية 2024، أغلق العراق رسمياً معبر القائم، وسط مخاوف أمنية متصاعدة، خصوصاً من عودة نشاط تنظيم «داعش».

وحسب مصادر محلية، فإن مفاوضات تُجرى حالياً بين دمشق وبغداد لإعادة افتتاح المعبر وتنظيم الحركة التجارية، وسط وعود سورية بعدم السماح باستخدام أراضيها نقطة انطلاق لتنظيم «داعش» نحو العراق أو غيره.

وبحسب الباحث العراقي رائد الحامد، وهو رئيس قسم الدراسات الأمنية في مركز العراق للدراسات الاستشرافية، فإن بعض فصائل الحشد الشعبي المرتبطة بإيران لا تُخفي قلقها من هشاشة الوضع الأمني في سوريا، الذي قد يهيئ لعودة «داعش». وأكد الحامد لـ«الشرق الأوسط» أن حكومة محمد شياع السوداني ترى ضبط الحدود أولوية قصوى، إلى جانب مكافحة التنظيم، لا سيما مع اقتراب انتهاء مهمة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل.

زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لبغداد منتصف مارس الماضي، كانت أول زيارة رسمية لمسؤول سوري رفيع منذ سقوط النظام، وهدفت إلى تنسيق المواقف في مواجهة «داعش» وتعزيز ضبط الحدود. وقد وعد الشيباني بأن سوريا لن تكون مصدر تهديد للعراق، لا من خلال «داعش» ولا عبر شبكات التهريب مقابل أن تسعى بغداد من جهتها إلى منع تسلل عناصر الميليشيات أو الضباط السابقين في النظام السوري.

ولم تقتصر هذه الجهود على المحادثات الدبلوماسية وإنما ترافقت بجهود ميدانية، إذ نشرت بغداد كاميرات مراقبة حرارية، وشيَّدت خنادق وسياجاً يمتد لأكثر من 100 كيلومتر، إلى جانب نشر مئات المراصد وعشرات المخافر، مع جهد استخباراتي فاعل يعتمد على السكان المحليين.

ورغم هذا الجهد المكثف، والتعاون مع دول الجوار، فإن جميع المصادر الذين تحدث إليهم «الشرق الأوسط» في هذا السياق تقاطعت عند التحديات الكثيرة التي لا تزال قائمة وستكون مرشحة للتفاقم، في ظل غياب سلطة مركزية قوية في دمشق، وقدرة بشرية موازية، مما يُبقي الحدود ثغرة مفتوحة أمام احتمالات التسلل، وعودة الفوضى مجدداً.