«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينيةhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5059246-%D8%AF%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%AF%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D8%AE%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B7%D8%B9%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D9%84-%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D8%A8-%D8%A8%D9%88%D8%B3%D8%A7%D8%B7%D8%A9-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9
«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
في بداية الحرب غضب الإسرائيليون كثيراً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ليس فقط لأنه شبَّه الحرب العدوانية على غزة بجرائم النازية، بل لأنه أعلن مقاطعة اقتصادية لإسرائيل. وردَّ عليه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، آنذاك بإعلان مقاطعة مضادة. وأعلن وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، عن رفع نسبة الجمارك على كل البضائع التي تصل من تركيا بنسبة 100 في المائة، فيما أُلغيت الرحلات المباشرة التي كانت مزدهرة بين البلدين وكانت تصل في مواسم الذروة السياحية إلى 40 رحلة جوية في اليوم.
كان الهدف الذي وضعته الحكومتان من زيادة قيمة التبادل التجاري من 9 مليارات دولار في سنة 2022 إلى 10 مليارات في 2023، لم يتحقق، بل تراجع إلى 7.5 مليار بمعدل 5.3 مليار دولار استيراد من تركيا، والبقية صادرات إسرائيلية إلى تركيا.
ونظراً إلى أن قسماً كبيراً من الواردات من تركيا يتعلق بمواد البناء (22 في المائة) والمنتجات الزراعية (9 في المائة)، فقد بدا أن فرع البناء الإسرائيلي سيواجه أزمة شديدة. أما فرع الزراعة فسيواجه أزمة خطيرة، لأن السوق الإسرائيلية كانت تعتمد أيضاً على منتجات فلسطينية من قطاع غزة.
وظهرت الأزمة فوراً في إسرائيل، إذ قفزت أسعار الخضراوات والفاكهة عشرات النسب المئوية. وأسهم ذلك في ارتفاع نسبة التضخم. وأُضيفت إلى ذلك عناصر أخرى تسببت في خسائر اقتصادية فادحة في إسرائيل من جراء الحرب.
وفي مطلع الأسبوع، أكد وزير المالية سموتريتش، ما قاله قبل عدة شهور، محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، من أن تكلفة الحرب على غزة ستصل إلى 250 مليار شيقل، أي نحو 67 مليار دولار حتى 2025، محذراً من أنه لا يمكن إعطاء شيك مفتوح للجيش في الإنفاق الأمني. وقال سموتريتش: «نحن في الحرب الأطول والأكثر تكلفة في تاريخ دولة إسرائيل، مع إنفاق مباشر بمبلغ 200 – 250 مليار شيقل (الدولار يساوي اليوم 3.7 شيقل)».
رجل يعبر وسط شارع البورصة في تل أبيب (غيتي)
البندورة المنقذة
هنا، تدخلت البندورة. البندورة التركية بشكل خاص.
فقبل الحرب كانت إسرائيل تستورد نحو 1.2 ألف طن في الأسبوع، تشكل 30 في المائة من الكميات التي يستهلكها الإسرائيليون. ووقف توريدها تسبب في أزمة، نظراً إلى أن بقية الإنتاج في إسرائيل تعطَّل بسبب الحرب. فالحقول التي تنتج البندورة هي تلك القائمة غربي النقب، على حدود غزة. والحرب منعت قطافها.
في البداية استوردت إسرائيل من الأردن 500 طن من البندورة. لكنَّ هذه الكمية لا تكفي الاستهلاك المحلي وليس من سوق بديلة. وإذ بدأت أسعار الفواكه والخضار تقفز أيضاً وتزعج المواطنين، جاء الحل من تركيا.
فبعد مداولات طويلة في الدوائر الحكومية المتخصصة، تبخرت الاتهامات الموجَّهة إلى إردوغان. وقررت الحكومة الإسرائيلية الامتناع عن أي إجراء مقاطعة لتركيا. وحاول الإعلام الإسرائيلي معرفة سر هذا التحول، ولم يجتهد كثيراً. البندورة أعطت الجواب. فقد تبين أنه من وراء الكواليس، وبلا ضجيج، وصلت إلى إسرائيل كميات كبيرة من البندورة التركية قاربت 700 طن في أسبوع واحد. وبنفس الطريقة وصلت كميات كبيرة من البضائع الأخرى.
سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
كيف تم ذلك؟
ببساطة، وافقت الدولتان على تنظيم عملية التفاف على قرارات المقاطعة. يدير هذه العملية التجار في البلدين، بمعرفة السلطات. لكن، وكي لا يظهر الأمر على أنه خرق للقانون ودوس على قرارات القيادات العليا، يتم إرسال البضائع من تركيا باعتبار أنها موجهة إلى فلسطين. ويتم تسجيلها فعلاً باسم تجار فلسطينيين من الضفة الغربية، الذين يقبضون عمولة غير قليلة. والبضائع التي تصل عادةً إلى السلطة الفلسطينية تمر عبر الموانئ الإسرائيلية. وبعد تحريرها من الجمرك الإسرائيلي يتسلمها الوكلاء الفلسطينيون ويسلمونها إلى التجار الإسرائيليين. وعندما سلكت الأمور واستقرت أسبوعاً تلو أسبوع، لم تعد هناك حاجة لأن يحضر التجار الفلسطينيون إلى الموانئ، وأوكلوا المهمة لوكلاء إسرائيليين يحصلون على البضاعة ويرسلون العمولة مباشرة إليهم.
وكُشف النقاب هذا الأسبوع عن أمر صادر في 26 أغسطس (آب) الماضي عن وزارة الزراعة، يتيح استيراد البندورة من تركيا رغم الحظر، وذلك عن طريق دولة ثالثة، شرط أن يكون مسار نقل هذه البضائع واضحاً بدقة
جدوى المقاطعة
السؤال هو: هل هذا النمط التركي فريد ووحيد، أم أن دول أخرى تتبعه، فتعلن المقاطعة لكنها تجد وسيلة التفافية للاستمرار في العلاقات فتعلن مقاطعة إسرائيل لكن على أرض الواقع تجد بدائل؟
يقول د. موشي بن ديفيد (72 عاماً)، وهو دكتور في التاريخ وفلسفة الأفكار، وعقيد في جيش الاحتياط الإسرائيلي، وخدم في الجيش بالأساس في سلاح الاستخبارات العسكرية، إن المقاطعة غير ممكنة في عصرنا. ويضيف: «غنيٌّ عن القول إنه كان بالإمكان أن يكون حالنا أفضل بكثير، لولا الحرب. لكن علينا الاعتراف بصراحة أنّ النقص في الموارد وفي المقاتلين، وحظر الأسلحة، أو المقاطعة والعزلة الدوليّة، ليست أسباباً كافية لوقف الحرب في هذه المرحلة، أولاً لأن هذه الأمور بدأت تتغيّر. وفقط إذا أتاحت الولايات المُتّحدة لمجلس الأمن أن يرفع بطاقة حمراء لا سمح الله، يمكن الحديث عن مقاطعة مؤثرة، لكنَّ الولايات المتحدة لا تفعل ذلك».
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في البرلمان لحضور خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (إ.ب.أ)
ويرى بن ديفيد، الذي يعد من المقربين من نتنياهو، أن «تكلفة الحرب الإسرائيلية كبيرة جداً وثقيلة ولكنها غير صعبة الاحتمال». ويقول، خلال ندوة في تل أبيب، إن التقدير لدى محافظ بنك إسرائيل في شهر مايو (أيار) الأخير ولدى وزير المالية اليوم بأن تكلفة الحرب في السنوات ما بين 2023 و2025 ستبلغ 250 مليار شيقل، تشمل كل التكاليف المباشرة من تشغيل طائرات، وذخائر، ووقود، وغذاء، وأيّام خدمة جنود الاحتياط، وإخلاء المواطنين من الشمال والجنوب، وإعادة تأهيل المصابين، وما شابه ذلك، والتكاليف غير المباشرة مثل أضرار السياحة، وتعويضات مستقبليّة لرجال الأعمال، والبيوت والأملاك المُتضرّرة.
لكنَّ إسرائيل تمتلك احتياطياً بقيمة 200 مليار دولار، ويدرك السوق أنّ «لدينا عدّة مخازن مليئة بالمواد الحيوية تعافت بأعجوبة منذ اندلاع الحرب حتّى اليوم»، على ما قال بن ديفيد. ويتابع: «يبلغ الناتج المحلّي الإجمالي في وضعنا الحالي نحو 400 مليار دولار، وهو قريب جداً مما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ويشير الإنفاق اليومي من خلال بطاقات الائتمان، الذي يُشكّل 50 في المائة من الناتج المحلّي الإجماليّ، من ضمن أمور أخرى، إلى قدرات المستهلكين الاقتصاديّة، وإلى ميل هامشي للاستهلاك، وهو ارتفع بنحو 25 في المائة. وكذلك الحال بالنسبة لمعدّل العائد السنوي لسداد السندات الحكوميّة، الذي يعكس توقّعات المستثمرين بالربح، إذ ارتفع بالفعل إلى 5 في المائة، أكثر بما يقارب نصف في المائة من ذروته في فترة جائحة كورونا، لكنّه توقّف عند هذا الحدّ».
وأضاف بن ديفيد: «نجحت وزارة الماليّة في تجنيد الأموال حتّى في هذه الفترة، والتقدير هو أنّ المؤسّسات ستنشئ طلبات سندات بقيمة 100 مليار شيقل، ستحوَّل إلى خزينة الدولة خلال هذا العام. هذا على الرغم من علاوة المخاطرة لإسرائيل الممتدّة على 5 أعوام بنسبة 1.4 في المائة، والتي عرضتها وزارة الماليّة الأميركيّة العام الماضي».
من جهته، تباهى سموتريتش بأن «خروج المستثمرين الأجانب من البورصة في تل أبيب، والذي وصل إلى نحو 34 مليار في الربع الأخير من عام 2023، قد توقف ولا يتعدّى الآن نسبة 1 في المائة. يصل ملف الأملاك الماليّة العامّة إلى قيمة 5.68 تريليون شيقل، وهي أعلى قيمة له تاريخياً. ويتعافى مجال العقارات، إذ ترتفع أسعار الشقق مُجدّداً». ويضيف: «صحيح أنّ العجز في الميزانيّة يقترب من نسبة 7 في المائة، لكنّه أقلّ من نسبة 12 في المائة في فترة جائحة كورونا والذي تمّ تداركه خلال عامٍ واحد –مما يدعو إلى التفاؤل. لقد تعافت سوق العمل، وعاد الطلب على العمّال، الذي كان قد انخفض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، تقريباً إلى طبيعته، مما أعاد مستويات الأجور إلى ما كانت عليه عشيّة الحرب. حتى صناعة الهاي تك التي تشغّل نحو 16 في المائة من الموظّفين في قطاع الأعمال والمسؤولة اليوم عن 58 في المائة من التصدير، الذي تعرض لضربة في الحرب، فإنها لا تزال تشكّل المحرّك الاقتصاديّ، وتمكن من تجنيد أموال بقيمة 3.5 مليار دولار في الربع الأخير الذي انتهى في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام، وهو الأعلى منذ سنتين».
الأمور ليست وردية
لكنَّ اليمين الإسرائيلي يتجاهل بذلك التراجعات الكبيرة في أداء لاقتصاد ويبدو كمن يُخفي نصف الحقيقة. فالأمور ليست ورديّة، على هذا النحو. فالحكومة رصدت مبلغ 7.5 مليار شيقل من الميزانية مخصصة لتمويل أحزاب الائتلاف الحكومي. والعجز في الموازنة مرتفع بمقاييس غير مسبوقة ويبلغ نحو 30 مليار دولار، الأمر الذي سيتطلب تخفيضات في الميزانية وزيادة الضرائب بما يصل إلى أكثر من 18 مليار دولار، وهو ما سيتم الشعور به بشدة في نوعية الحياة وانخفاض الخدمات للجمهور الإسرائيلي بشكل عام. ومظاهر مقاطعة إسرائيل في العالم تتسع. وشركات التصنيف الائتماني قررت خفض التدريج الائتماني لإسرائيل. وفرع السياحة في إسرائيل انخفض بنسبة 81 في المائة، وفرع البناء يعاني الشلل منذ أن غاب العمال الفلسطينيون (150 ألف عامل منهم 70 ألفاً في البناء). وفشلت إسرائيل في جلب عمال أجانب يحلون محل عمال الضفة الغربية.
وسبق لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن ذكرت أن الحرب في غزة تسبب تحديات وصعوبات لم يسبق لها مثيل في إسرائيل، مع تأزم وضع المجتمعات المحلية، ورغبة جنود الاحتياط في العودة إلى ديارهم، وممارسة العالم ضغوطاً عديدة للتخفيف من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة، وتعرض الاقتصاد الإسرائيلي لأزمة تلو الأخرى.
وتُضاف إلى كل ذلك تكاليف الخدمة في جيش الاحتياط، حيث تم تجنيد 300 ألف جندي في بداية الحرب وانخفض العدد حالياً إلى 50 ألفاً. فكل جندي احتياطي يتقاضى 82 دولاراً يومياً، وبلغ إجمالي هذه المدفوعات وحدها 2.5 مليار دولار في أول 3 أشهر من الحرب. وعلى الجبهة المدنية، بلغت التعويضات التي تُدفع للنازحين عن بيوتهم 2.7 مليار دولار لتلك الأشهر الثلاثة، علماً بأن عدد هؤلاء النازحين يبلغ نحو 125 ألف شخص.
وباتت تكلفة الحرب على غزة موضع نقاش وانتقادات داخل إسرائيل، خصوصاً في ظل استمرارها مع عدم تحقيق النتائج التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية حتى الآن، وفقاً لمراقبين.
نقلت صحيفة «هآرتس» عن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قوله، السبت، إن احتلال قطاع غزة بالكامل هو السبيل الوحيد لإعادة المحتجزين وضمان أمن إسرائيل.
«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنانhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5131584-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9-%D9%81%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%88%D9%82%D8%B8%D9%88%D9%87%D8%A7-%D9%86%D8%B5%D9%81%D9%8F-%D9%82%D8%B1%D9%86%D9%8D-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86
«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنان
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
انقضى نصف قرنٍ على ما قيل إنها الشرارة الأولى للحرب الأهلية في لبنان، حادثة «بوسطة عين الرمّانة». يحلو للبعض الظن أن القلوب ما عادت ملآنة، فيما يخشى البعض الآخر من أن تكون «الحرب نائمة تحت الوسائد». لكن المؤكّد أن البوسطة التي أُطلق عليها الرصاص في 13 أبريل (نيسان) 1975 استحالت صدأً.
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
ظهيرة ذلك الأحد المشمس، تعرّضت حافلة تقلّ مجموعة من منظّمة التحرير الفلسطينية لإطلاق نار من عناصر حزب الكتائب في منطقة عين الرمّانة ذات الغالبية المسيحية. سقط 27 شخصاً من أصل 30 كانوا يستقلّون الحافلة. وكان قد سبق ذلك وفي اليوم والمكان نفسَيهما، إطلاق نار استهدف مرافقي مؤسس حزب الكتائب بيار الجميّل، مما أدّى إلى مقتل عددٍ منهم. وحُكي أنّ الهدف الأساسيّ كان اغتيال الجميّل نفسه.
حتى اليوم، ما زالت الآراء والمعلومات متضاربة بين الطرفين بشأن خلفيات الحادثة ونتائجها. غير أنّ التاريخ الحديث يعتبرها النقطة المفصليّة التي أطلقت صفّارة الحرب في لبنان، وكل ما تلاها من دويّ وحطام ودماء.
في الذكرى الخمسين لـ«13 نيسان»، تعود «الشرق الأوسط» إلى ذلك اليوم الدامي، فتستضيف مجموعةً ممّن شهدوا عليه. بعضهم وقف على جبهة القتال، ومنهم من حاول إخماد النار، ومنهم مَن وثَّق بعينَيه وذاكرته وندوبِه.
أين كنت في ذلك اليوم، وما كان تمَوضعك السياسيّ؟ وهل تعلَّم اللبنانيون درس الحرب الأهلية؟ سؤالان طرحناهما على ضيوفنا الشهود والآتين من عوالم السياسة، والثقافة، والتعليم، والحقوق، والإعلام.
ياسمين (نانو) جمهوري – مقاتلة سابقة ومسؤولة حالية في حزب الكتائب
تتذكّر ياسمين جمهوري ذلك اليوم بوضوح. «كنّا متّجهين إلى المطار لإيصال والدي الذي كان مسافراً، وفي الطريق لاحظنا انتشاراً عسكرياً فلسطينياً». كانت رئيسة قسم بعبدا الكتائبيّ، والمعروفة بـ«نانو»، في الـ13 آنذاك. رغم سنّها الصغير، كانت قد انتسبت للحزب المسيحيّ، «بما أنّ الانتماء الكتائبي في بيتنا يسري في العروق أباً عن جدّ، وأماً عن جدّة».
ياسمين «نانو» جمهوري بالزيّ العسكري في مطلع الثمانينيات (أرشيف جمهوري)
عادت العائلة من المطار إلى البيت حيث سمعت خبر استهداف «البوسطة» عبر الراديو. تروي جمهوري: «لم أتفاجأ كثيراً لأننا كنا نلاحظ تحركات مريبة في المنطقة. لكن لم أفهم شيئاً كفتاة في الـ13 من عمري». كل ما تعرفه أنها وخلال أيام، حملت البندقية هي وفتيات أخريات ووقفن لحراسة مراكز الحزب، «فيما الشباب يقاتلون على الجبهات».
خضعت «نانو» لتدريبات عسكرية وشاركت في معركة كفرشيما، ثم تمركزت على المدفعيّة في الـ19 من عمرها خلال معركة زحلة. حدث ذلك بالتزامن مع تخصصها في إدارة الأعمال المعلوماتيّة في الجامعة اليسوعية. «كنّا الجبهة المساندة للشباب في منطقة عيون السيمان، نحضّر ملابسهم وطعامهم ونقوم بالحراسة ليلاً». وتضيف جمهوري: «كل ما قمت به كان انطلاقاً من إيماني بلبنان وتجذّري بأرضه. لم أندم يوماً، وإذا اقتضى الأمر فسأحمل السلاح من جديد». لكنها في المقابل تؤكّد أنها من الجيل الذي تعلّم دروس الحرب، «أما بعض القادة السياسيين فلم يفعل».
«ما زلت أبكي كلما ذكرت اسم رفيقي منير الذي استُشهد عندما كنا في الـ14 من العمر» - ياسمين جمهوري
أسعد الشفتري - مسؤول أمني سابق في حزبَي الكتائب والقوات ونائب رئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»
في 13 أبريل 1975، كان أسعد الشفتري طالب هندسة في الـ20 من عمره يجلس إلى مائدة الغداء مع أهله في بيتهم في بيروت. «رنّ جرس الهاتف وجاء صوت الرفيق في حزب الكتائب سليم صادر لينبئني بما حصل». توجّه الشفتري فوراً إلى مركز الحزب، وبدأت رحلة تجهيز شبكة التواصل والتنصّت الخاصة بالحزب. يروي مستذكراً: «بعد الحادثة، انطلقت إلى منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة، حيث ركّبت أول جهاز لا سلكي على سطح أحد المباني.»
أسعد الشفتري بالزيّ الحربي وفي لقطة مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل (أرشيف الشفتري)
كانت تلك من بين أولى المهمات، التي تلاها ما هو أصعب وأكثر تعقيداً، إذ أصبح الشفتري أحد الرؤوس الأمنية في حزب الكتائب، ولاحقاً في القوات اللبنانية. أسأله عن أفظع ما رأى خلال تلك المرحلة فيجيب: «كانت مجموعة من مقاتلي حزب الكتائب متّجهة إلى إحدى مناطق التماس في بيروت. جهّزتهم بالأدوات اللاسلكية للتواصل معنا، ثم لمحت الموت في عيون اثنين منهم. هذان الشابان لم يعودا أبداً من المهمة. شعرت بذنبٍ ما زال يرافقني حتى اللحظة».
يحاول الشفتري محو هذا الذنب «بتأسيس حياة أفضل للأجيال اللاحقة كي لا يخوضوا هذه الحروب»، وفق تعبيره. يبوح بأنه «نادم على ارتكابات كثيرة»، لكنه راضٍ عن واقعه الجديد: «أنا الآن متسامح، ولديّ قناعة بأنّ العنف لا يؤدّي إلى حلول». برأيه، فإنّ «اللبنانيين لم يتعلموا الدرس لأن السلطة لم تؤسس لعدالة انتقالية تأخذنا من الحرب إلى السلام».
يكرّس أسعد الشفتري وقته منذ ربع قرن لإعادة بناء السلام من خلال ورش تدريبية ومحاضرات
زياد صعب - مقاتل سابق في الحزب الشيوعي ورئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»
لم يُسمع أزيز رصاص عين الرمانة في منطقة برج حمّود، حيث كان يمضي زياد صعب ظهيرة الأحد على سطح منزله. كان على العنصر الشاب في الحزب الشيوعي أن ينتظر زيارة رفيقٍ له حتى يخبره بما حدث. يروي لـ«الشرق الأوسط»: «كنت في الـ16 ومتعطشاً للقتال. وفور سماعي الخبر سألت متى ننطلق». يتابع صعب: «جمعت الشباب وذهبنا إلى أحد المنازل القريبة، وجهّزنا السلاح المخبأً هناك».
كانت لديه ثقة قائد ميدانيّ، بينما مَن في سنّه جالسون إلى مقاعد الدراسة. «لم تكن هناك مدرسة ثانوية في منطقتنا. ظننّا أن العلم ممنوع علينا، ولم نجد سوى العنف بديلاً عن العلم كوسيلة للتغيير. وعندما فُتحت لنا مدرسة وصرت مسؤولاً عن شؤون الطلاب، كانت الحرب قد اندلعت فانتقل التلاميذ من الصفوف إلى الجبهات».
زياد صعب على الجبهة في منطقة الرميلة (أرشيفه الخاص)
ما زال مشهد «الجثة الأولى» عالقاً في ذاكرته: «حدث ذلك في يونيو (حزيران) 1975. كان صديقاً من عمري... اختفى قبل أيام، وذهبت للبحث عنه في منطقة سن الفيل فوجدته جثة ملقاة أرضاً، بعد أن تعرّضت للتعذيب والتشويه».
يندم على 15 سنة أمضاها محارباً، ويتأسف على لبنانيين تعلموا الدرس لكنهم لا يقومون بأي فعلٍ من أجل التغيير. أما هو فيحاول التعويض من خلال جمعية «محاربون من أجل السلام». أسسها إلى جانب محاربين قدامى من الأحزاب التي كانت متناحرة خلال الحرب. جمع زياد صعب أعداء الجبهات فباتوا رفاق السِلم.
أسس زياد صعب مع عدد من المحاربين القدامى جمعية «محاربون من أجل السلام»
فؤاد السنيورة - الرئيس السابق للحكومة اللبنانية
في 13 أبريل 1975 كان فؤاد السنيورة في بيته في صيدا، ولم يعلم بالحادثة التي وقعت ظهراً سوى في المساء. «كان حدثاً جللاً خصوصاً أنه كان قتلاً متعمداً»، يقول الرئيس السابق للحكومة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط»: «لكننا لم نتصور أن تنجرف الأمور بعده إلى ما هو أدهى بكثير».
لطالما كان هوى السنيورة عروبياً، لكنه في تلك الآونة لم يكن منضوياً تحت لواء أي حزب: «كنت قد انسحبت من حركة القوميين العرب في منتصف الستينيات». تفرّغ للأنشطة الثقافية والتدريس. وفي أحد أيام خريف 1975، وفيما كان يقود سيارته برفقة زميله الأستاذ الجامعيّ د. حسن صعب من شارع بلِس إلى منطقة القنطاري، حصل ما لن ينساه مدى العمر.
الرئيس فؤاد السنيورة يتلو الفاتحة على ضريح الرئيس رفيق الحريري (موقعه الرسمي)
يروي السنيورة: «كانت نافذة السيارة مفتوحة فسمعت صوتاً ينادي: وقّف... وقّف. تبيّن أن هناك حاجزاً لمسلّحين من حزب الكتائب. خرج من خلف «الدشمة» شخص ملثّم ومسلّح وقال: «يا دكتور حسن كنت رح قوّسكن لو ما عرفتك... أنت استاذي بالجامعة. الله معكن». تركت تلك الحادثة أثراً كبيراً في نفسه، خصوصاً أنها «كانت مؤشّراً إلى انضمام جيل كامل من الشباب للحرب الأهلية».
اليوم، وبعد 50 عاماً على تلك اللحظة، يرى السنيورة أن «ثمة لبنانيين استخلصوا العِبَر من الحرب ومنهم مَن لم يفعل». لكن المؤكّد في نظره، هو أنّ «المجتمع اللبناني ما عاد راغباً في خوض حروبٍ أهلية بعد الآن، والدليل احتضانه بعضاً لبعض خلال العدوان الإسرائيلي الأخير».
السنيورة في مظاهرة 14 مارس 2005 (موقعه الرسمي)
أكرم شهيّب - قياديّ في الحزب التقدّمي الاشتراكي، نائب حالي ووزير سابق
لم يكن أكرم شهيّب قد انتسب بعد إلى الحزب التقدّمي الاشتراكي، يوم وردَ إلى دارة أهله في عاليه نبأ بوسطة عين الرمانة. كان الشاب منخرطاً في مجال التعليم بعد أن استكمل دراسته في جامعة القاهرة، غير أنّ الهوى السياسيّ في البيت كان اشتراكياً، و«كمال جنبلاط القامة الوطنية والمرجع».
يخبر شهيّب أن الخبر لم يفاجئه كثيراً حينها، «لأنّي كنتُ في جوّ الاستنفار النفسي الحاصل في معظم المناطق اللبنانية». يتابع: «صحيح أن بوسطة عين الرمانة كانت الشرارة الأولى، لكن لو لم تندلع في عين الرمانة لاندلعت في مكان آخر. الأوضاع الإقليمية والمحلية كانت ستفرض الحرب عاجلاً أم آجلاً».
النائب والوزير السابق أكرم شهيّب (أرشيفه الخاص)
من السنوات الدامية تلك، أكثر ما يؤلم أكرم شهيّب «رفاقٌ أصيبوا في الحرب وما زالوا على الكرسي المتحرك حتى اليوم. الظلم الذي تعرضوا له يحزّ في نفسي. هذا مشهد من الحاضر يذكّرنا يومياً بمأساة الماضي».
لا يندم الرجل، الذي خاض الحرب والسِلم إلى جانب الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط، على شيء قام به. «كنت أسعى في مراحل للدفاع عن النفس، هذا كان دوري وكنت مثل الجميع أعتبر أنني كنت على حق والآخر على خطأ».
يعتبر شهيّب أنّ «مصالحة الجبل» عام 2000، والتي بادر إليها وليد جنبلاط والبطريرك صفير «وضعت اللبنة الأساسية لتضميد الجراح». يبدو مطمئناً إلى أن اللبنانيين تعلّموا الدرس، لكنّ «غليان المنطقة» يقلقه لأنه «ينذر بما هو أصعب».
شهيّب برفقة وليد جنبلاط في مطلع الثمانينيات (أرشيفه الخاص)
إلياس عطا الله - قيادي سابق في الحزب الشيوعي، أمين سر حركة اليسار الديمقراطي ونائب سابق
عقب حادثة بوسطة عين الرمانة، لم يكن الياس عطا الله يتوقّع أنّ «تتدهور الأمور إلى هذا الحدّ وأن تكون تلك مقدّمة لحرب أهلية». يخبر «الشرق الأوسط» أنه كان حينها في الـ28 من عمره ورئيس فرع كلية التربية في الجامعة اللبنانية في اتحاد الشباب الديمقراطي.
«في أحد الأيام، وفيما كنت متّجهاً سيراً على الأقدام إلى الجامعة سمعت قصفاً للطيران، وكنت في نقطة قريبة من المدينة الرياضية. بالنسبة لي، كان هذا المشهد بداية الحرب في لبنان»، يروي إلياس عطا الله.
إلياس عطا الله متوسطاً إحدى المظاهرات في بيروت في السبعينيات (أرشيفه الخاص)
أمّا الصورة التي لا تُمحى من مخيّلته فسُجّلت في نهاية 1975: «كنت في مهمة حزبية في منطقة حيّ السلّم عندما رأيت كتبَ مكتبة جامعتي مرميّةً في الوحل أرضاً... سُرقت من الجامعة ورُميت مع كراسٍ وصحون محطّمة». يتابع عطا الله: «لا شيء آلمَني بقدر ما فعل هذا المشهد، خصوصاً أنني شاركت في تجهيز جزء من تلك المكتبة».
مع أنه لم يحارب ولم يطلق النار وفق ما يؤكّد، بل كان منسّق عمليات جبهة المقاومة الوطنية، غير أنّ إلياس عطا الله «نادم على التكيّف مع الحرب، وعلى مساري فيها». يضيف متأسفاً: «ذاك لم يكن أنا، بل شخص آخر». وبعد، هو يستبعد أن تكون الحرب قد انتهت في أذهان اللبنانيين، «لا سيّما أن الوعي الجماعي معتاد على الفساد والكسل».
إلياس عطا الله والكاتب إلياس خوري يوم اغتيال الصحافي سمير قصير (أ.ف.ب)
رشيد درباس - وزير سابق ونقيب المحامين في طرابلس سابقاً
في الحقبة التي شهدت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان ابنُ طرابلس الوزير السابق رشيد درباس يجاهر بهواه الفلسطيني وبانتمائه للحركة الوطنية اللبنانية.
كان في بغداد يوم 13 أبريل 1975 مشاركاً في مؤتمر اتحاد المحامين العرب. ولدى عودته بعد أيام سالكاً الطريق البحري بالتاكسي من مرفأ بيروت إلى عاصمة الشمال، لم يلحظ ما يقلقه أو ينبئه بتدهور الأوضاع.
تولّى رشيد درباس وزارة الشؤون الاجتماعية ما بين 2014 و2016 (موقع رئاسة الحكومة اللبنانية)
لكن ما لم يكن في الحسبان حصل، وامتدّ النزيف إلى طرابلس حيث اختبر درباس الحرب على طريقته. هو الفلسطينيّ العروبيّ الهوى سرعان ما أصابه الخذلان. يبوح لـ«الشرق الأوسط»: «أندم لأنني انغمست إلى أذنيّ، ليس قتالاً، إنما التصاقاً بالحركة الوطنية والقيادات الفلسطينية. أصابتني اليقظة يوم حوصر مرفأ طرابلس من الزوارق السورية، فتبيّن لي أن المقاومة الوطنية ليست خطاً واحداً كما كنت أظنّ، وأنّ الجيش السوري بات رديفاً للقوى اليمينية التي كنا نحارب»، يتابع: «لديّ الشجاعة اليوم لأقول إنني لم أكن متبصّراً».
رشيد درباس مصافحاً وليد جنبلاط (أرشيفه الخاص)
اختبر درباس محاولات القتل والخطف، مما اضطرّه إلى السفر إلى قبرص عام 1977 والابتعاد عن عائلته؛ «لم أشارك في جنازة أبي الذي توفّي في غيابي وما زال هذا الجرح في قلبي. طعنتني كذلك خسارة عدد كبير من الأصدقاء شهداءَ في تلك الحرب».
وفق درباس، فإنّ «اللبنانيين تعلموا الدرس لكن القوى السياسية لم تتخلص من ارتباطاتها الخارجية».
مي كحّالة - صحافية وأول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية اللبنانية
كانت مي كحّالة تمضي ذاك الأحد المشمس مع عائلتها في بيتهم الجبليّ. «سمعنا بأنّ أمراً ما حدث في عين الرمانة، فعدنا أدراجنا إلى منزلنا في سن الفيل شرقي بيروت. شاهدنا على طريق العودة وعلى مقربة من المنزل حواجز فلسطينية. لكن ليس سوى مساءً حتى عرفنا التفاصيل عبر إذاعة مونتي كارلو، ولم ننم في تلك الليلة من أزيز الرصاص».
تخبر الإعلامية والمستشارة الإعلامية السابقة لرئاسة الجمهورية: «ربيت في بيت لا انتماء سياسياً لديه، لذا لم أستوعب ما يجري، إلى أن بدأت القوى الفلسطينية المحيطة بالبيت تتحرّك. أقفلت طرقات كثيرة وصار التنقّل صعباً. عشت قلقاً كبيراً لكني كنت أعتقد دائماً أنها مرحلة وستمرّ».
مي كحالة أول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس الهراوي (أرشيفها الخاص)
من البيت المسالم مباشرةً إلى الميدان، انتقلت كحّالة مراسلةً حربيّة لصحيفة «النهار»؛ «كان الاتّكال على الصحافيات الإناث أكثر في تلك المهمات حينذاك، بما أنّ الذكور كانوا عرضةً للخطف والقتل على الهوية. خاطرتُ كثيراً، وأكبر مخاطرة كانت محاولة العبور إلى الجنوب لتغطية الاجتياح الإسرائيلي. هناك، علقنا بين نار القنص الإسرائيلي والجهات التي كانت تردّ عليه».
أما أفظع مشهد فهكذا سجّلته ذاكرتها: «كنت أعبر من منطقة المتحف باتجاه المحكمة العسكرية حيث تنتظرني سيارة من الجريدة. رأيتُ جندياً مختبئاً خلف دبّابته ويومئ لي من البعيد بأن أركض. ركضت فوجدت جثة أرضاً وتجمّدت بدل أن أهرب من القنص. ما زلت أذكر وجه الرجل المقتول حتى الآن...».
تأسف كحّالة لأن اللبنانيين لم يتعلموا الدرس، «فهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً».
«لم يتعلّم اللبنانيون درس الحرب لأنهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً» - مي كحّالة
عبد الحليم كركلّا - المؤسّس والمدير الفني لمسرح كركلّا
تركت «الشرارة الأولى» للحرب الأهلية ندوباً عميقة في جسد فرقة «كركلّا» للرقص. يروي مؤسّس المسرح العريق، عبد الحليم كركلّا، لـ«الشرق الأوسط» كيف انهمر الرصاص على سيارات الراقصين أثناء عودتهم من افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في 13 أبريل 1975.
«13 نيسان» 1975 افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في قصر الأونيسكو في بيروت (أرشيف مسرح كركلّا)
بغصّةٍ ما زالت ترافقه حتى اليوم، يقول كركلّا: «طال الرصاص عدداً من الراقصين مما أدّى إلى إصابة نجمة الفرقة أميرة ماجد بالشلل، كما اخترقت رصاصة جسد ملكة جمال لبنان مارسيل حرّو التي كانت معنا».
لكن التحدّي الأكبر بالنسبة إلى كركلّا كان «الحفاظ على تركيبة الفرقة كي لا تتفرّق كما تفرّق لبنان، خصوصاً أنّها تعكس صورة الوطن المتنوّع». يتابع: «صرنا نهرب من الأماكن الخطرة إلى الأماكن الآمنة. من بيروت إلى جونية». لم يتوقف المسرح خلال الحرب اللبنانية لا في الداخل ولا في الخارج. «وعندما بدأت القذائف تطال مركزنا في جونية، انتقلنا إلى طرابلس. ومن طرابلس إلى بعلبك حيث تابعت الفرقة تدريباتها. ثم من بعلبك إلى الشوف بدعوة من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط».
عبد الحليم كركلّا ووليد جنبلاط في قصر المختارة (أرشيف مسرح كركلّا)
أما أفظع مشهد عالق في ذاكرة كركلّا، فهو انهمار القنابل والقذائف حول سيارات الفرقة، خلال انتقالها «من المكان الذي كنا نظنه آمناً إلى مكان أكثر أماناً»، وفق تعبيره. هو الذي استطاع الحفاظ على الفرقة وعروضها حتى في أعتى أيام الحرب، يرجو أن «يكون اللبنانيون قد تعلموا الدرس لأنهم يحبون الازدهار والثقافة والحرية».
«أفظع مشاهد الحرب كان انهمار القنابل والقذائف حول الفرقة خلال تنقّلاتها» عبد الحليم كركلّا
عصام خليفة - مؤرّخ وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي وناشط نقابي
«بوسطة» من نوعٍ آخر استقلّها عصام خليفة في 13 أبريل 1975، فأستاذ التاريخ في ثانوية البترون كان يرافق طلّابه في رحلة إلى البقاع والليطاني. «في طريق العودة، عبرنا صيدا وبيروت من دون أن ندري بما حدث. وصلنا مساءً لنجد الأهالي متجمهرين ينتظرون أولادهم بقلق، وهناك اكتشفنا ما حدث. كان الجو محتقناً فلم أتفاجأ كثيراً بالخبر».
كان خليفة قد أسس «حركة الوعي» التي نشأت من قلب الجامعة اللبنانية. يشرح: «كنا مع عدالة القضية الفلسطينية لكن رفضنا التدخل الفلسطيني بالشأن اللبناني، خصوصاً التمدد العسكري على حساب السيادة. كنا متمايزين عن اليسار واليمين اللبنانيَين».
أفظع ما شاهد وما زال محفوراً في ذاكرته حصل فيما كان يدرّس في بيروت: «كنت عائداً إلى شقّتي بعد الدوام، حاولت فتح الباب فلم أفلح. فتحت الباب امرأة تحمل بندقية وسألتني: (من أنت). أنا الذي لم أحمل السلاح يوماً، أجبتها بأني صاحب الشقة فقالت: (إذا عدت إلى هنا ستموت)».
يتابع خليفة: «في تلك الآونة، حاولنا من خلال مجموعات وحركات ثقافية تغييرية أن نجمع الناس من كل الأطراف لتتحاور ضد الحرب والعنف. نظمنا تظاهرات نقابية وثقافية وحاولنا إزالة السواتر الفاصلة بين «شرقية» و«غربية». ناضلت من أجل السلام لذلك لا أندم على شيء. لكن لو تعلّم اللبنانيون الدرس من الحرب لما راهنوا على الخارج حتى الآن».
المؤرّخ والباحث الأكاديمي د. عصام خليفة (إكس)
علويّة صبح - كاتبة وصحافية لبنانية
تخبر الروائية والصحافية اللبنانية علويّة صبح أنها في 13 أبريل 1975، كانت في منزل ذويها في منطقة السبتيّة شرقي بيروت. كانت حينها طالبةً جامعيّة يساريّة الهوى، تتخصص في الأدبَين العربي والإنجليزي. «كنت أؤمن بالعلمنة وبنظام مدني، وافترضت أن الحزب الشيوعي والحركة الوطنية هدفهما ذلك. لكن لاحقاً تملّكتني خيبة وانزويت وابتعدت».
لم تكن تعرف حينها أنّ خيبات الحرب ليست عقائديّة فحسب، بل قد تتحوّل في أي لحظة إلى صدماتٍ ترافق المرء مدى العمر. تقول إنها لا تزال تكتب عن الحرب كي تمحوها من ذاكرتها الشخصية.
بطاقة الانتساب إلى الجامعة اللبنانية الخاصة بعلويّة صبح (أرشيفها الخاص)
ما لم تستطع محوه حتى اللحظة هو هذا المشهد: «سمعتُ نداءاتٍ في منطقة برج حمّود، حيث كنّا قد انتقلنا، تطلب المساعدة في نقل جثث ضحايا مدنيّين إلى المسجد». تبرّعت علويّة صبح لأداء المهمة، فملأت المقاعد الخلفيّة وسطح سيارتها بالجثث ونقلتهم. «كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جثة. توهّمت الشجاعة وعندما وصلت إلى البيت أخبرت الحكاية لأهلي بفخر وكأنني بطلة، لكن الكوابيس التي أصابتني تلك الليلة دفعتني إلى الصراخ وأنا نائمة. وما زال هذا المشهد القاسي يلازمني منذ ذلك الحين».
أما أكثر ما يؤلمها اليوم فهو أن أبناء بلدها لم يتعلّموا الدرس، بل احترفوا صناعة الطائفية. تتساءل: كيف يُشفى المجتمع من ندوبه إن لم يقُم أي زعيم بنقدٍ ذاتيّ وظلّ متمسكاً بأنه على صواب وسواه على خطأ؟
«نقلت جثث مدنيين في سيارتي وما زال المشهد يرافقني إلى اليوم» - علويّة صبح
ندى عبد الصمد - إعلامية لبنانية
يوم تعرّضت «البوسطة» لإطلاق الرصاص، كانت ندى عبد الصمد في الـ10 من العمر. تروي لـ«الشرق الأوسط»: «شعرت بأن أمراً كبيراً حدث لأنّ معارف أهلي بدأوا بالتوافد إلى منزلنا في بيروت. كان والدي منتسباً إلى الحزب الشيوعي، أما والدتي فمنخرطة في لجنة حقوق المرأة في الحزب».
يكرّ شريط الذكريات في رأس الإعلامية اللبنانية: «طريق الذهاب والعودة من وإلى المدرسة تحت القصف. نشوء التنظيمات المسلحة الصغيرة بعد حرب الفنادق، وتَمركُز بعضها تحت بيتنا. أذكر كيف كانوا يشتبكون... مثل «الصاعقة»، و«أبو كوسا» وغيرهما ممّن كان تمويلهم فلسطينياً».
أما أبشع المشاهد فسُجّل يوم السبت الأسود في 6 ديسمبر (كانون الأول) 1975: «رافقت والدي إلى مركز عمله في شركة الكهرباء. وفي الطريق إلى هناك من جهة المرفأ رأينا جثتين، بالتزامن مع بداية المجازر على الهوية...».
الإعلامية اللبنانية ندى عبد الصمد
في اعتقاد ندى عبد الصمد، مهّدت حرب الـ75 الدرب لفرزٍ مذهبيّ، «فاتخذت الأحزاب طابعاً طائفياً بعد أن كانت مختلطة ومتنوعة». انطلاقاً من ذلك، فهي ليست مطمئنّة إلى أنّ اللبنانيين تعلّموا درس الحرب، بل تذهب إلى حدّ القول: «أعتقد أنهم قد يكررونها لكن بأشكال ثانية، لا سيّما أنّ لبنان بتركيبته الطائفية يؤسس لحروب مذهبية بسبب المحاصصة القائمة». وتتابع ندى عبد الصمد: «المشكلة هي في أننا ما زلنا ننتج الأشخاص أنفسهم والأنظمة ذاتها».
باترك باز - مصوّر صحفي
«كنت في الـ11 من عمري. أذكر أننا في الأيام التالية للحادثة، وأنا عائد إلى البيت في باص المدرسة، رأيت انتشاراً مسلّحاً في منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة. ما زلت أرى أمام عينيّ أقنعة المسلّحين وهي تغطّي وجوههم». هكذا يتذكّر باتريك باز الأيام التي تلت حادثة عين الرمّانة.
مع الوقت، أراد أن يصبح مثل هؤلاء المسلّحين. يوضح: «كانوا المرجع القوي الوحيد، وكأطفال رغبنا في تقليدهم». لاحقاً، عندما اتّسع وجود مسلّحي الكتائب وصار تحت بيت باز في منطقة التباريس، بات المقاتلون يلعبون كرة القدم مع أطفال الحيّ. «مشهد لا أنساه من تلك الفترة ولعلّه أفظع ما شهدت: أحد هؤلاء الشبان شاركَنا اللعب ثم اتجه صوب الجبهة ليعود من جديد، إنما محمّلاً على كتفَي رفيقه».
المصوّر باتريك باز في سن الـ18 (أرشيفه الخاص)
من طفلٍ يلاعب الكرة إلى فتىً يحمل السلاح، تحوّل باتريك باز في غضون أشهر. «حملت السلاح لأول مرة في الـ14 من عمري وكنت أذهب إلى المدرسة والمسدّس على خاصرتي تحت القميص. ومع الشبان المقاتلين كنا نتدرب عليه بإطلاق النار على أهداف وهمية».
«سرت الحرب في دمي فقررت أن أعيشها من دون إطلاق النار على أحد» - باتريك باز
إلّا أنّ الوعي الذي اكتسبه بعد خروجه من لبنان لسنتَين خلال الحرب، ساهم في تغيير سلوكه. «من جبهة القتال انتقلت إلى جبهة التصوير واستبدلت بالرشّاش الكاميرا في سن الـ18. عبر العدسة أردت أن أعيش الحرب من دون أن أطلق النار على أحد»، يقول باز.