«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

أنقذت السوق الإسرائيلية... وحكومة نتنياهو لا تعترف بالأزمة الاقتصادية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
TT

«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

في بداية الحرب غضب الإسرائيليون كثيراً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ليس فقط لأنه شبَّه الحرب العدوانية على غزة بجرائم النازية، بل لأنه أعلن مقاطعة اقتصادية لإسرائيل. وردَّ عليه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، آنذاك بإعلان مقاطعة مضادة. وأعلن وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، عن رفع نسبة الجمارك على كل البضائع التي تصل من تركيا بنسبة 100 في المائة، فيما أُلغيت الرحلات المباشرة التي كانت مزدهرة بين البلدين وكانت تصل في مواسم الذروة السياحية إلى 40 رحلة جوية في اليوم.

كان الهدف الذي وضعته الحكومتان من زيادة قيمة التبادل التجاري من 9 مليارات دولار في سنة 2022 إلى 10 مليارات في 2023، لم يتحقق، بل تراجع إلى 7.5 مليار بمعدل 5.3 مليار دولار استيراد من تركيا، والبقية صادرات إسرائيلية إلى تركيا.

ونظراً إلى أن قسماً كبيراً من الواردات من تركيا يتعلق بمواد البناء (22 في المائة) والمنتجات الزراعية (9 في المائة)، فقد بدا أن فرع البناء الإسرائيلي سيواجه أزمة شديدة. أما فرع الزراعة فسيواجه أزمة خطيرة، لأن السوق الإسرائيلية كانت تعتمد أيضاً على منتجات فلسطينية من قطاع غزة.

وظهرت الأزمة فوراً في إسرائيل، إذ قفزت أسعار الخضراوات والفاكهة عشرات النسب المئوية. وأسهم ذلك في ارتفاع نسبة التضخم. وأُضيفت إلى ذلك عناصر أخرى تسببت في خسائر اقتصادية فادحة في إسرائيل من جراء الحرب.

وفي مطلع الأسبوع، أكد وزير المالية سموتريتش، ما قاله قبل عدة شهور، محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، من أن تكلفة الحرب على غزة ستصل إلى 250 مليار شيقل، أي نحو 67 مليار دولار حتى 2025، محذراً من أنه لا يمكن إعطاء شيك مفتوح للجيش في الإنفاق الأمني. وقال سموتريتش: «نحن في الحرب الأطول والأكثر تكلفة في تاريخ دولة إسرائيل، مع إنفاق مباشر بمبلغ 200 – 250 مليار شيقل (الدولار يساوي اليوم 3.7 شيقل)».

رجل يعبر وسط شارع البورصة في تل أبيب (غيتي)

البندورة المنقذة

هنا، تدخلت البندورة. البندورة التركية بشكل خاص.

فقبل الحرب كانت إسرائيل تستورد نحو 1.2 ألف طن في الأسبوع، تشكل 30 في المائة من الكميات التي يستهلكها الإسرائيليون. ووقف توريدها تسبب في أزمة، نظراً إلى أن بقية الإنتاج في إسرائيل تعطَّل بسبب الحرب. فالحقول التي تنتج البندورة هي تلك القائمة غربي النقب، على حدود غزة. والحرب منعت قطافها.

في البداية استوردت إسرائيل من الأردن 500 طن من البندورة. لكنَّ هذه الكمية لا تكفي الاستهلاك المحلي وليس من سوق بديلة. وإذ بدأت أسعار الفواكه والخضار تقفز أيضاً وتزعج المواطنين، جاء الحل من تركيا.

فبعد مداولات طويلة في الدوائر الحكومية المتخصصة، تبخرت الاتهامات الموجَّهة إلى إردوغان. وقررت الحكومة الإسرائيلية الامتناع عن أي إجراء مقاطعة لتركيا. وحاول الإعلام الإسرائيلي معرفة سر هذا التحول، ولم يجتهد كثيراً. البندورة أعطت الجواب. فقد تبين أنه من وراء الكواليس، وبلا ضجيج، وصلت إلى إسرائيل كميات كبيرة من البندورة التركية قاربت 700 طن في أسبوع واحد. وبنفس الطريقة وصلت كميات كبيرة من البضائع الأخرى.

سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

كيف تم ذلك؟

ببساطة، وافقت الدولتان على تنظيم عملية التفاف على قرارات المقاطعة. يدير هذه العملية التجار في البلدين، بمعرفة السلطات. لكن، وكي لا يظهر الأمر على أنه خرق للقانون ودوس على قرارات القيادات العليا، يتم إرسال البضائع من تركيا باعتبار أنها موجهة إلى فلسطين. ويتم تسجيلها فعلاً باسم تجار فلسطينيين من الضفة الغربية، الذين يقبضون عمولة غير قليلة. والبضائع التي تصل عادةً إلى السلطة الفلسطينية تمر عبر الموانئ الإسرائيلية. وبعد تحريرها من الجمرك الإسرائيلي يتسلمها الوكلاء الفلسطينيون ويسلمونها إلى التجار الإسرائيليين. وعندما سلكت الأمور واستقرت أسبوعاً تلو أسبوع، لم تعد هناك حاجة لأن يحضر التجار الفلسطينيون إلى الموانئ، وأوكلوا المهمة لوكلاء إسرائيليين يحصلون على البضاعة ويرسلون العمولة مباشرة إليهم.

وكُشف النقاب هذا الأسبوع عن أمر صادر في 26 أغسطس (آب) الماضي عن وزارة الزراعة، يتيح استيراد البندورة من تركيا رغم الحظر، وذلك عن طريق دولة ثالثة، شرط أن يكون مسار نقل هذه البضائع واضحاً بدقة

جدوى المقاطعة

السؤال هو: هل هذا النمط التركي فريد ووحيد، أم أن دول أخرى تتبعه، فتعلن المقاطعة لكنها تجد وسيلة التفافية للاستمرار في العلاقات فتعلن مقاطعة إسرائيل لكن على أرض الواقع تجد بدائل؟

يقول د. موشي بن ديفيد (72 عاماً)، وهو دكتور في التاريخ وفلسفة الأفكار، وعقيد في جيش الاحتياط الإسرائيلي، وخدم في الجيش بالأساس في سلاح الاستخبارات العسكرية، إن المقاطعة غير ممكنة في عصرنا. ويضيف: «غنيٌّ عن القول إنه كان بالإمكان أن يكون حالنا أفضل بكثير، لولا الحرب. لكن علينا الاعتراف بصراحة أنّ النقص في الموارد وفي المقاتلين، وحظر الأسلحة، أو المقاطعة والعزلة الدوليّة، ليست أسباباً كافية لوقف الحرب في هذه المرحلة، أولاً لأن هذه الأمور بدأت تتغيّر. وفقط إذا أتاحت الولايات المُتّحدة لمجلس الأمن أن يرفع بطاقة حمراء لا سمح الله، يمكن الحديث عن مقاطعة مؤثرة، لكنَّ الولايات المتحدة لا تفعل ذلك».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في البرلمان لحضور خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (إ.ب.أ)

ويرى بن ديفيد، الذي يعد من المقربين من نتنياهو، أن «تكلفة الحرب الإسرائيلية كبيرة جداً وثقيلة ولكنها غير صعبة الاحتمال». ويقول، خلال ندوة في تل أبيب، إن التقدير لدى محافظ بنك إسرائيل في شهر مايو (أيار) الأخير ولدى وزير المالية اليوم بأن تكلفة الحرب في السنوات ما بين 2023 و2025 ستبلغ 250 مليار شيقل، تشمل كل التكاليف المباشرة من تشغيل طائرات، وذخائر، ووقود، وغذاء، وأيّام خدمة جنود الاحتياط، وإخلاء المواطنين من الشمال والجنوب، وإعادة تأهيل المصابين، وما شابه ذلك، والتكاليف غير المباشرة مثل أضرار السياحة، وتعويضات مستقبليّة لرجال الأعمال، والبيوت والأملاك المُتضرّرة.

لكنَّ إسرائيل تمتلك احتياطياً بقيمة 200 مليار دولار، ويدرك السوق أنّ «لدينا عدّة مخازن مليئة بالمواد الحيوية تعافت بأعجوبة منذ اندلاع الحرب حتّى اليوم»، على ما قال بن ديفيد. ويتابع: «يبلغ الناتج المحلّي الإجمالي في وضعنا الحالي نحو 400 مليار دولار، وهو قريب جداً مما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ويشير الإنفاق اليومي من خلال بطاقات الائتمان، الذي يُشكّل 50 في المائة من الناتج المحلّي الإجماليّ، من ضمن أمور أخرى، إلى قدرات المستهلكين الاقتصاديّة، وإلى ميل هامشي للاستهلاك، وهو ارتفع بنحو 25 في المائة. وكذلك الحال بالنسبة لمعدّل العائد السنوي لسداد السندات الحكوميّة، الذي يعكس توقّعات المستثمرين بالربح، إذ ارتفع بالفعل إلى 5 في المائة، أكثر بما يقارب نصف في المائة من ذروته في فترة جائحة كورونا، لكنّه توقّف عند هذا الحدّ».

وأضاف بن ديفيد: «نجحت وزارة الماليّة في تجنيد الأموال حتّى في هذه الفترة، والتقدير هو أنّ المؤسّسات ستنشئ طلبات سندات بقيمة 100 مليار شيقل، ستحوَّل إلى خزينة الدولة خلال هذا العام. هذا على الرغم من علاوة المخاطرة لإسرائيل الممتدّة على 5 أعوام بنسبة 1.4 في المائة، والتي عرضتها وزارة الماليّة الأميركيّة العام الماضي».

من جهته، تباهى سموتريتش بأن «خروج المستثمرين الأجانب من البورصة في تل أبيب، والذي وصل إلى نحو 34 مليار في الربع الأخير من عام 2023، قد توقف ولا يتعدّى الآن نسبة 1 في المائة. يصل ملف الأملاك الماليّة العامّة إلى قيمة 5.68 تريليون شيقل، وهي أعلى قيمة له تاريخياً. ويتعافى مجال العقارات، إذ ترتفع أسعار الشقق مُجدّداً». ويضيف: «صحيح أنّ العجز في الميزانيّة يقترب من نسبة 7 في المائة، لكنّه أقلّ من نسبة 12 في المائة في فترة جائحة كورونا والذي تمّ تداركه خلال عامٍ واحد –مما يدعو إلى التفاؤل. لقد تعافت سوق العمل، وعاد الطلب على العمّال، الذي كان قد انخفض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، تقريباً إلى طبيعته، مما أعاد مستويات الأجور إلى ما كانت عليه عشيّة الحرب. حتى صناعة الهاي تك التي تشغّل نحو 16 في المائة من الموظّفين في قطاع الأعمال والمسؤولة اليوم عن 58 في المائة من التصدير، الذي تعرض لضربة في الحرب، فإنها لا تزال تشكّل المحرّك الاقتصاديّ، وتمكن من تجنيد أموال بقيمة 3.5 مليار دولار في الربع الأخير الذي انتهى في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام، وهو الأعلى منذ سنتين».

الأمور ليست وردية

لكنَّ اليمين الإسرائيلي يتجاهل بذلك التراجعات الكبيرة في أداء لاقتصاد ويبدو كمن يُخفي نصف الحقيقة. فالأمور ليست ورديّة، على هذا النحو. فالحكومة رصدت مبلغ 7.5 مليار شيقل من الميزانية مخصصة لتمويل أحزاب الائتلاف الحكومي. والعجز في الموازنة مرتفع بمقاييس غير مسبوقة ويبلغ نحو 30 مليار دولار، الأمر الذي سيتطلب تخفيضات في الميزانية وزيادة الضرائب بما يصل إلى أكثر من 18 مليار دولار، وهو ما سيتم الشعور به بشدة في نوعية الحياة وانخفاض الخدمات للجمهور الإسرائيلي بشكل عام. ومظاهر مقاطعة إسرائيل في العالم تتسع. وشركات التصنيف الائتماني قررت خفض التدريج الائتماني لإسرائيل. وفرع السياحة في إسرائيل انخفض بنسبة 81 في المائة، وفرع البناء يعاني الشلل منذ أن غاب العمال الفلسطينيون (150 ألف عامل منهم 70 ألفاً في البناء). وفشلت إسرائيل في جلب عمال أجانب يحلون محل عمال الضفة الغربية.

وسبق لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن ذكرت أن الحرب في غزة تسبب تحديات وصعوبات لم يسبق لها مثيل في إسرائيل، مع تأزم وضع المجتمعات المحلية، ورغبة جنود الاحتياط في العودة إلى ديارهم، وممارسة العالم ضغوطاً عديدة للتخفيف من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة، وتعرض الاقتصاد الإسرائيلي لأزمة تلو الأخرى.

وتُضاف إلى كل ذلك تكاليف الخدمة في جيش الاحتياط، حيث تم تجنيد 300 ألف جندي في بداية الحرب وانخفض العدد حالياً إلى 50 ألفاً. فكل جندي احتياطي يتقاضى 82 دولاراً يومياً، وبلغ إجمالي هذه المدفوعات وحدها 2.5 مليار دولار في أول 3 أشهر من الحرب. وعلى الجبهة المدنية، بلغت التعويضات التي تُدفع للنازحين عن بيوتهم 2.7 مليار دولار لتلك الأشهر الثلاثة، علماً بأن عدد هؤلاء النازحين يبلغ نحو 125 ألف شخص.

وباتت تكلفة الحرب على غزة موضع نقاش وانتقادات داخل إسرائيل، خصوصاً في ظل استمرارها مع عدم تحقيق النتائج التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية حتى الآن، وفقاً لمراقبين.


مقالات ذات صلة

الجيش الإسرائيلي يحتجز قافلة من مركبات الأمم المتحدة بشمال غزة

المشرق العربي شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية تدخل قطاع غزة من الجانب المصري عبر معبر رفح الحدودي

الجيش الإسرائيلي يحتجز قافلة من مركبات الأمم المتحدة بشمال غزة

قال الجيش الإسرائيلي، اليوم (الاثنين)، إنه احتجز قافلة من مركبات الأمم المتحدة في شمال قطاع غزة بعد معلومات استخباراتية.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
أوروبا تعليق الدراسة مؤقتاً لآلاف الطلاب في ألمانيا بسبب تلقي عدد من المدارس رسائل تهديد (أ.ب)

تعليق مؤقت للدراسة في مدارس بألمانيا بسبب رسائل تهديد بعضها مرتبط بحرب غزة

تم تعليق الدراسة مؤقتاً لآلاف الطلاب في ألمانيا بسبب تلقي مدارس في عدة ولايات ألمانية رسائل تهديد عبر البريد الإلكتروني وتهديدات بوجود قنابل.

«الشرق الأوسط» (هامبورغ)
الخليج وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي عقدوا في الرياض اجتماعات وزارية مع نظرائهم في روسيا والهند والبرازيل (الشرق الأوسط)

دعوة خليجية روسية هندية برازيلية لوقف فوري للحرب في غزة

أكد جاسم البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون، خلال مؤتمر صحافي بالرياض، الاثنين، أن دول المجلس تقف على مسافة واحدة من الجميع في الأزمة الروسية - الأوكرانية.

المشرق العربي القوات الإسرائيلية قرب الموقع الذي فتح فيه سائق شاحنة أردني النار على معبر «اللنبي - جسر الملك حسين» (إ.ب.أ) play-circle 00:56

فتح جسر الملك حسين أمام حركة المسافرين الثلاثاء

أسرة الجازي تؤكد أن ابنها لا يرتبط بأي تنظيم حزبي قاطعة الطريق على استثمار بطولته لصالح تيارات سياسية تبحث عن الدعاية الانتخابية.

محمد الرواشدة (عمّان)
المشرق العربي جنود إسرائيليون يكبحون جماح مستوطنين يهود بعد اقتحامهم قرية دير شرف الفلسطينية في الضفة الغربية (أ.ف.ب)

«أنا الشرطة والجيش»... مستوطنون إسرائيليون يعيثون «دماراً» بالضفة الغربية

سلطت صحيفة «الغارديان» البريطانية الضوء على معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية من المستوطنين الإسرائيليين الذين يعدّون أنفسهم مثل الشرطة والجيش.

«الشرق الأوسط» (لندن)

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر
TT

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

تدور حرب باردة بين نوري المالكي ومحمد شياع السوداني. يتحرك الاثنان بسرعة نحو حلبة الانتخابات المقبلة. هناك، سيكون الصراع مؤذياً ومفتوحاً، كما يرجح سياسيون في حزب «الدعوة الإسلامية»، و«الإطار التنسيقي». إلا إذا حدثت صفقة بينهما.

من المفترض أن ينتخب العراقيون، العام المقبل، ممثليهم في البرلمان، لكنَّ رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، يدفع لجعلها مبكرة. في الحالتين سيتفاوض اللاعبون على قانون انتخابات جديد ينسجم مع المتغيرات، ومحاولة السوداني مزاحمة الكبار أبرز متغير في اللعبة.

مع أن كثيرين يشككون في إمكانية الاقتراع المبكر، إلا أن التلويح به قد يكون ورقة ضاغطة على السوداني في سياق الحرب الناعمة، فالأهم من موعد الانتخابات هو قانونها الجديد.

المالكي هو أكثر السياسيين الذين يُظهرون شغفاً بصياغة القانون. يقول مقربون منه وأشخاص عملوا لصالحه في كتابة صياغات ومقترحات، إن الرجل يفكر في «نصب الأفخاخ» للسوداني، الذي يطمح لولاية ثانية، أكثر من انشغاله حتى بحظوظه الشخصية في البرلمان المقبل.

المالكي «الأب المؤسس»

ينظرُ المالكي إلى نفسه على أنه صانع لملوكٍ غير متوجين. ملوك يعملون لديه، في خدمة مشروع بدأ عام 2006، يوم توَّجته ظروف وأقدار برئاسة الحكومة. جاء وقتها بديلاً مغموراً لإبراهيم الجعفري الذي نبذته المعادلة الإيرانية - الأميركية في العراق.

أنصار «الإطار التنسيقي» يرفعون صورة المالكي خلال مظاهرة بالقرب من المنطقة الخضراء في بغداد 12 أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

«تَعلم المالكي أكثر من غيره فنوناً في السياسة»، يقول أشخاص عملوا معه وخاصموه خلال العقدين الماضيين. المناورة والتنقل السلس بين الأقطاب أبرز ما يجيده، إلى جانب «انحيازه المذهبي، وريبته الشديدة»، اللذين يجذبان إليه كل «الشيعة الطامحين والخائفين».

حتى بعد خروجه من الحكومة، بقي المالكي عرَّاباً للمشروع السياسي الشيعي، تلجأ إليه أحزاب «الطائفة» كلما تعرض النظام لتهديد، حتى لو كان من الشيعة أنفسهم. بهذا المعنى هو «الأب المؤسس، وكل الآخرين أبناء وأحفاد»، على حد تعبير قيادي سابق في «حزب الدعوة».

قدم المالكي نفسه «منقذاً لشيعة العراق المعاصر». آخر مرة كان قد لملم شتاتهم حين حاول زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الانقلاب عليهم، وطردهم من الحكومة بعدما حاول التحالف مع السنة والكرد (2020). يرى كثيرون أن دور المالكي في «الإطار التنسيقي» منذ أن تشكلت حكومة محمد شياع السوداني، عزز صورته راعياً لدولة الشيعة العميقة. وفي عقل المالكي أنه عمقها الوحيد.

يتوقع رئيس الوزراء الأسبق من حلفائه عدم تجاوز مكانته التاريخية وحدود زعامته، لكن ما الذي يمكن أن يحدث حين يتمرد أشخاص صنعهم المالكي وخلق مشروعهم السياسي؟ ماذا لو قرر السوداني الترشح لولاية ثانية؟

«الابن الضال»

كان السوداني مهندساً زراعياً يعمل لصالح الحكومة في محافظة ميسان (جنوب) حين احتلت القوات الأميركية العراق وأسقطت نظام صدام حسين. ولأنه موظف بدرجة رفيعة وابن عائلة شيعية معارضة، عُيّن منسقاً بين إدارة المدينة وسلطة الحاكم الأميركي في بغداد، لتسيير الأعمال.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (رويترز)

في السنوات اللاحقة، تدرج السوداني في الإدارات العامة. كان من الواضح أن الرجل يجيد الحياة داخل المؤسسات الحكومية، ويمكنه الصمود أمام تقلباتها. إنه «مسلكي» على نحو متمرس، كما يصفه سياسيون موالون له.

يبدو أن المالكي شعر بأن السوداني هو «رجله المناسب». تحول إلى ركن ثابت في الحكومات اللاحقة؛ وزيراً لحقوق الإنسان والتجارة والعمل والصناعة في 3 حكومات. كان الرجل من الصف الثاني أو أقل، لكنه راسخ في الواجهة العامة للمشروع الشيعي على مدار سنوات.

عام 2019، احتج مئات الآلاف من الشبان الشيعة على الحكومة. قفز السوداني من سفينة حزب «الدعوة»، وصعد قارباً صغيراً. أسس حزب «تيار الفراتين» وأراد دخول نادي الشيعة الكبار. بعد عامين، وقع عليه الاختيار رئيساً للحكومة بصفقة صعبة.

في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، دخل السوداني منزل هادي العامري وفي يده ورقة دوّن فيها التزامات يطلبها من رعاة الحكومة في «الإطار التنسيقي». كان المالكي وقيس الخزعلي، زعيم حركة «عصائب أهل الحق» قد جهزا في المقابل ورقة التزامات «ينفذها السوداني ما دام في المنصب».

فحوى الورقة التي سُلمت للسوداني كانت تعكس «عقل المالكي»، الذي تسرب لاحقاً إلى خطاب «الإطاريين» بأن «مهندساً زراعياً كُلف مهام رئاسة الوزراء».

السوداني أراد أن يصبح أكثر من هذا، وأكبر. لقد بدأ عمله في الحكومة هادئاً، لأن أيام الولاية الأولى كانت مخصصة لتصفية تراث سلفه مصطفى الكاظمي. على الأقل كانت «التعليمات» القادمة من «الإطار» تشدد على ذلك.

طموحات السوداني

لاحقاً، أظهر السوداني لمحة قوية عن طموحاته. قدم نفسه وعدد من وزرائه على أنه شخص يريد التركيز على الخدمات والتنمية، بعد أن حصل على تأمين الموازنة الثلاثية، بسقف مالي غير مسبوق.

بالنسبة إلى «الإطار التنسيقي»، لا خطر سياسياً من حكومة تقدم الخدمات، بل «لا معنى لهذا في خلق الأوزان السياسية» كما يقول سياسيون شيعة. كانوا يرون ذلك «خدمة عكسية لصالحهم»، مع إبقاء «العين مفتوحة» على طموحات السوداني.

«انفجر السوداني». يقول سياسيون إنه بعد عامين من الحكم بات يسيطر على نحو 50 نائباً انشقوا «عملياً» عن «الإطار التنسيقي»، ويُلوِّح بأن «كل نائب سابق هو شريك محتمل» في كتلة السوداني الجديدة، في البرلمان المقبل.

الضربة الموجعة للإطار والمالكي –هكذا يأمل السوداني أن تكون– هي تحالفه مع المحافظين الثلاثة الأقوياء، أسعد العيداني في البصرة، ومحمد المياحي في الكوت، ونصيف الخطابي في كربلاء. جميعهم متمردون على «الإطار التنسيقي».

تحدثت «الشرق الأوسط» مع قيادات شيعية مشغولة بتقدير أوزان الفاعلين بالأرقام، رجحوا وزن السوداني بنحو 60 نائباً، وهناك من يتفاءل بأكثر من هذا.

«ودائع في حساب» المالكي

المالكي سيقطع طريق السوداني. في مارس (آذار) الماضي، ضرب في نفسه مثالاً ليشرح مصير السوداني. قال في مقابلة تلفزيونية: «فزت بـ103 مقاعد في انتخابات 2014. لم أحصل على رئاسة الحكومة (...) لأن الوفاق السياسي لم يحدث، فما معنى أن يحصل أي أحد الآن على 60 مقعداً؟ لا شيء. فالأرقام وحدها لا تكفي».

بالعودة إلى ذلك التاريخ، كان المالكي فائزاً بالفعل، ولأنه فشل في الحصول على إجماع الشيعة والكرد، اضطر إلى إخراج حيدر العبادي من أدراج «الدعوة»، بديلاً من «الصف الثاني»، بوجه ناعم، تماماً كالسوداني الآن. الفارق أن العبادي، ورغم أنه تحمَّل مشقة الحرب ضد «داعش» وموازنة شبه خاوية، عاد إلى صفوف الإطار ولم يغامر بأكثر من هذا، إلا ما ندر.

لماذا يصر المالكي على تضييق الخناق على رئيس الوزراء الحالي؟ يعتقد زعيم ائتلاف «دولة القانون» أنه «من غير المقبول أن يسحب شخص ينتمي إليك الأموال من حساب شركة تملكها». بهذه البساطة يقدم سياسي مطلع هذه الاستعارة ليشرح كيف يفكر المالكي الآن.

لقطة من فيديو تُظهر غاضبين يُنزلون صورة المالكي عن أحد مقرات «حزب الدعوة» جنوب العراق

يعتقد المالكي أن السوداني «يختلس» من رصيده السياسي، ويستخدم أدوات الدولة العميقة، ويمد يديه إلى جمهوره الشخصي، ويخلق تحالفات جديدة خارج المعادلة، خارج التحالف الأهم في العراق. المالكي حين يراقب هذه المتغيرات يتذكر أنه هو «من صنع السوداني وهو مَن عليه إعادته إلى النظام». في الحقيقة إنه مؤمن بذلك.

مع ذلك، لا يستطيع المالكي خوض معركة مفتوحة مع السوداني الآن. إنه مكبّل بتقاليد تيار اليمين الشيعي في العراق وضرورات نموه وازدهاره، كما أن رئيس الحكومة لم يعد سهلاً، ليس هو نفسه الذي دخل بيت العامري بورقة «حقوق وواجبات». لقد تحول إلى مركز للتوافق الإيراني - الأميركي، وهو أفضل دور يجب أن يلعبه رئيس وزراء في العراق. ألم يكن المالكي كذلك في ولايته الأولى؟

ما يستطيع المالكي فعله الآن للإيقاع برفيقه السابق السوداني، هو -على المدى البعيد- صياغة قانون انتخابات جديد يجرِّد رئيس الحكومة من أي صلاحية ومنفذ وقدرة على استخدام موارد السلطة في الانتخابات. هذا ما يقوله، وما يريده حرمان السوداني من فرصة تَمتعَ بها المالكي عام 2010، على سبيل المثال.

تقول المصادر إن خبراء انتخابات يعملون مع المالكي منذ شهرين على صياغة قانون جديد للانتخابات. لقد وصل الآن إلى مرحلة متقدمة، خصوصاً بعد إشراك لاعبين سنة وكرد في الأجواء.

لكن اللافت أن المالكي مستعد لصياغة قانون لا يوفر له فرص الفوز، بل يكرس خسارة السوداني.

على المدى القريب، يحاول المالكي، أيضاً، اصطياد حلفاء السوداني والإيقاع بهم. يقول صناع قرار في الإطار التنسيقي إن السوداني حين يصل إلى الأمتار الأخيرة من الانتخابات المقبلة سيكون محظوظاً لو احتفظ بواحد من المحافظين الثلاثة الأقوياء. «سيطيح بهم المالكي»، يقول سياسي عراقي.

السوداني ليس سهلاً

يعرف رئيس الحكومة أن الشيعة في الانتخابات المقبلة سيواجهون ديناميكية جديدة، قد تنتهي فيها صيغة «الإطار التنسيقي» بالانشطار أو بالتحول إلى مراكز ثقل جديدة؛ وجزء من خطة السوداني أن يكون على رأس أحدها.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (أ.ف.ب)

يمكن للسوداني قطع الطريق على قانون الانتخابات الجديد وإحباط جهود حزب «الدعوة». يقول مقربون إن «رئيس الحكومة سيخوض حوارات شاقة مع السنة والكرد. ثمة تسويات عديدة قد تُقنعهم بمغادرة مطبخ المالكي».

ورغم أن الحفاظ على الحلفاء ليس مضموناً في العراق، فإن السوداني سيكافح للحفاظ عليهم، بينما يعمل على كسب مزيد من عتاة المرشحين الشيعة، لا سيما المحافظين والعسكر.

«السوداني يتعلم من المالكي»، وجزء من الاضطراب داخل الإطار التنسيقي هو «غرور الآباء المؤسسين وانزعاجهم من جرأة التلاميذ»، يقول قيادي شيعي، ويعتقد أن السوداني ليس المتمرد الوحيد، فالخزعلي يشق الطريق ذاته في محاولة عبور المالكي.

يقول، وهو مطلع على أجواء الحرب الباردة مع المالكي ويميل إلى كفة السوداني، إن الأخير يقدم نفسه «شريكاً موثوقاً للاعبين أساسيين في المنطقة، بما فيهم إيران»، وإنه «يقف على طريق شراكات واعدة مرتبطة باتفاقات تهدئة، وشكل جديد للشرق الأوسط، أساسه الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في العراق».

«مشانق» الانتخابات

في السنة الأخيرة من عمر الحكومة، ستنتقل الحرب الناعمة إلى شكل آخر أكثر سخونة. يشكك كثيرون بأن الاضطرابات الأخيرة في العراق على وقع «قضايا الفساد وتورط موظفين حكوميين في ملفات مشبوهة»، مجرد إحماء وتحضير لما سيحدث.

لقد جرب المالكي والسوداني مواجهات محدودة بينهما. السوداني تفوق في جولات محدودة، لكنّ زعيم «دولة القانون» سجل نقاطاً.

يضرب سياسي كردي مثالاً على ذلك: «خلال الأشهر الماضية، حاول السوداني اختراق الحكومتين المحليتين في ديالى وكركوك برعاية تفاهمات مع فائزين في الانتخابات المحلية، لكن المالكي المتمرس حسم منصب المحافظ في الأولى، وكسر توافقات السوداني في الثانية».

«من الآن وصاعداً سيبدأ نصب المشانق الانتخابية» يقول سياسي سُني يشارك في مفاوضات سرِّية حول تعديل قانون الانتخابات، ويتوقع خريطة جديدة للشيعة، ستتأثر بها القوى السنية والكردية.

مع ذلك، فإن ما يسربه السياسيون الشيعة بشأن الحرب الناعمة بين السوداني والمالكي، وما توشك أن تتحول إليه محاولات «كسر عظام»، يكشفان عن قلق تيار اليمين الشيعي على مستقبله بعد عامين من الزهو والنفوذ.

لا يمانع المالكي كتلة صغيرة يقودها السوداني في البرلمان المقبل. «لا بأس بنموذج عمار الحكيم وهادي العامري وآخرين، يدورون في فلك عشرة مقاعد»، يقول القيادي في الإطار، لأن المعركة الآن تتعلق بـ«لعبة الأرقام»، كل شيء يستعر حول تحديدها وتحجيمها لمنع خريطة «مفاجآت».

«سلطة الأرقام تتفوق»، لأن الاعتقاد الشيعي السائد يفيد بأن عوامل التأثير الكلاسيكية بدأت تضمحل في المشهد الانتخابي، مثل المرجعية الدينية والأميركان، «أما إيران فتفضل التدخل، في اللحظة الأخيرة بعد صبر ومراقبة شديدة».

لكن كيف يتصور القادة الشيعة نهاية هذه الحرب الباردة؟ يتحدث كثيرون عن ثلاثة خيارات؛ أن يصمد السوداني، أو يعقد صفقة مع المالكي برعاية طرف ثالث، أو يخرج أحدهما بإصابات سياسية بليغة.