حرب البكالوريا مستعرة في سوريا

إغماءات بين الطلاب واتهامات لـ«التربية» باعتماد أسئلة «فهم وتحليل»

أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)
أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)
TT

حرب البكالوريا مستعرة في سوريا

أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)
أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)

عندما خرج ابني من امتحان الرياضيات وقال إنه أجاب عن الأسئلة بشكل مقبول، انهرت بالبكاء، وكأنه قال «نجوت من الموت». بهذه الكلمات كان جرجي (50 عاماً) يحكي لجيرانه ما حصل معه يوم «واقعة الرياضيات»، بحسب تعبيره، وكان يرافق ابنه إلى امتحان الثانوية العامة، الشغل الشاغل لأهالي الطلاب.

وصف جرجي مشهد الأهالي المتجمعين أمام أحد المراكز الامتحانية في ريف دمشق بأنه كان «رهيباً». الأهالي بحالة توتر وغضب وأصوات بكاء وعويل وشتائم. طلاب منهارون لدى خروجهم من الامتحان بعضهم سقط مغمى عليه، والشرطة منتشرة في المكان. «كانت لحظات عصيبة وكاد قلبي يتوقف» قال الرجل.

ما حصل يوم امتحان مادة الرياضيات لشهادة الثانوية العامة الفرع العلمي قبل أيام، يكشف عن عمق أزمة التعليم في سوريا. فبعد عقود طويلة من امتحانات تعتمد التلقين والتحفيظ، قررت وزارة التربية تغيير نمط الأسئلة إلى نموذج يعتمد «الفهم والتحليل». ودون سابق إنذار وجد الطالب الذي أمضى عاماً كاملاً يحفظ أسئلة الدورات السابقة وإجاباتها، مع نماذج للأسئلة المتوقعة، أمام نمط جديد بدا له عبارة عن طلاسم.

مليونان ونصف المليون بلا تعليم

وقالت مصادر تعليمية غير رسمية، لـ«الشرق الأوسط» إن شيئاً مشابهاً حصل في مادة الجغرافيا للفرع الأدبي. وكذلك مادة اللغة الفرنسية لطلاب شهادة الإعدادي، فالأسئلة كانت أعلى من مستوى الطلاب. ولعل أطرف ما في الأمر ما تناقلته المصادر بأن بعض الأهالي اتهموا وزارة التربية بالتساهل بأسئلة اللغة الروسية والتشدد بأسئلة اللغة الفرنسية! وبحسب هؤلاء، فإذا كانت هذه الملاحظة صحيحة إنما هي دليل على «تخبط وزارة التربية في معالجة تدني جودة التعليم» واعتمادها على التجريب والارتجال. فقد اختارت الامتحان لتبدأ تجربة أسئلة تحفيزية، بدلاً من نموذج الحفظ والبصم الذي نشأ عليه الطلاب من السنة الأولى في التعليم الأساسي. وهي تجربة أنتجت على مدى سنوات تزايداً في أعداد الحاصلين على المجموع التام، ليعدّوا اليوم بالعشرات، بعدما كانوا في الماضي ندرة لا تتجاوز الثلاثة أو أربعة طلاب على مستوى البلاد.

وعلى مدى أسبوعين تقريباً من شهر يونيو (حزيران) الحالي، يخضع نحو 558 ألف طالب وتلميذ لامتحانات الشهادات العامة، في 5027 مركزاً امتحانياً في مختلف المحافظات السورية ضمن مناطق سيطرة الحكومة، للعام الدراسي 2023 - 2024، في حين تشير أرقام منظمة «يونيسيف» إلى حرمان نحو مليونين ونصف المليون طفل سوري في سن الدراسة من التعليم.

طفل سوري خلال استراحة من العمل في ورشة تصنيع ألمنيوم في محيط حلب (أ.ف.ب)

اتهامات للوزارة... وإقالات

وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بما حصل يوم امتحان مادة الرياضيات للثانوية العامة لهذا العام، وسط اتهامات من الطلاب وذويهم لوزارة التربية ولجنة وضع الأسئلة، بتعمد توجيه ضربة للطلاب وإلحاق الضرر بهم. مديرة الصحة المدرسية هتون الطواشي صرحت للإعلام المحلي بأنه تم تسجيل 4 حالات إسعافية خلال امتحان مادة الرياضيات نقلت إلى خارج المركز الامتحاني في حماة، السويداء، درعا، وحلب، أما بقية الحالات فقد تنوعت بين الإغماء والقلق، بعضها ترافق مع أعراض هضمية كالقيء، لافتةً إلى تسجيل 20 – 25 حالة إغماء يومياً في مختلف المحافظات.

الإعلامي في التلفزيون الرسمي نزار الفرا كتب على حسابه في «فيسبوك»: «ماذا يخطر ببال اللجنة التي تضع أسئلة الامتحانات لطلاب الشهادة الإعدادية أو الثانوية عندما تكون الأسئلة شبه تعجيزية؟ هل هو تبييض وجه مع الوزارة وأن المدرّس القدير هو من يأتي بطلاسم يصعب فكّها؟ ما الغاية الأساسية من الامتحانات؟ هل هي التأكد من دراسة الطالب واكتسابه العلم والمهارات أم حشره بالزاوية وممارسة كل أشكل (الدهاء) و الحذلقة عليه؟».

وفي محاولة لتهدئة الغضب الذي أثارته أسئلة مادة الرياضيات، خصصت قناة «التربوية السورية الرسمية» حلقة لتوضيح آلية صياغة أسئلة مادة الرياضيات وسلم التصحيح، وأنه يركز «على مهارات الفهم والتحليل بدلاً من الحفظ والتلقين»، وأن الأسئلة تضمنت «مسائل من الكتاب مع تغيير الأرقام فقط».

أهالي طلاب الشهادة الثانوية يتحدثون إلى وزير التربية السوري خارج أحد مراكز الامتحان (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)

وأمام مركز الامتحانات كانت إحدى الأمهات تحاول إفاقة ابنتها طالبة بكالوريا علمي من الإغماء وهي تبكي وتصرخ: «نحن ندفع ثمن شهادة البكالوريا من اللحم الحي وأنتم تتفنون بقهرنا». والد طالب آخر كان بجوارها قال: «يتصرفون وكأنهم في حرب معنا».

المصادر التعليمية في دمشق ردت الذعر الذي يخيم بثقل غير مسبوق على أجواء الامتحانات هذا العام إلى التعليمات الرقابية المتشددة، التي تترافق مع قطع شبكة الإنترنت وشبكات الهاتف فترة الامتحان، واستغربت المصادر تجاهل الحكومة لتعطيل مصالح الناس كل يوم ثلاث ساعات بسبب قطع الاتصالات خلال شهر الامتحانات؛ لأن وزارة التربية عاجزة عن ضبط الفساد وتسريب الأسئلة، والسماح بشنّ حملة توقيف لموظفي التربية المشكوك بنزهاتهم أثناء سير الامتحانات والإعلان عن ذلك، رغم ما يتسبب به ذلك من بلبلة وإثارة شائعات لها انعكاسات نفسية مدمرة على الطلاب، وذويهم، حيث تتحول فترة الامتحانات كل عام موسماً للرعب والتوتر.

وتم إعفاء مدير تربية دمشق، في اليوم الأول من الامتحانات، وقال وزير التربية محمد عامر مارديني في تصريح لوسائل إعلام محلية: «إن الإعفاء جاء نتيجة مخالفة التعليمات الامتحانية في مراكز عدة بدمشق»، موضحاً أنه من خلال «المتابعة للعملية الامتحانية تبين وجود فوضى وعدم انضباط والتزام بالتعليمات الامتحانية في بعض المراكز». وأكد الوزير أن «لا تهاون أو تتردد في اتخاذ أي قرار بحق كل من يتسبب في التشويش و خرق التعليمات الامتحانية».

خسارة طوق النجاة

والواقع أن رسوب الطالب لا يعني فشلاً علمياً، بقدر ما هو خسارة مادية فادحة في بلد يرزح أكثر من 90 في المائة من سكانه تحت خط الفقر، وتمثل الشهادة العلمية فيه «طوق نجاة» من الخدمة الإلزامية بالنسبة للذكور، وأيضاً وهو الأهم تعزيز فرص الهجرة للشباب. حيث يتكبد أهالي الطلاب على مدى العام الدراسي نفقات باهظة على الدروس الخصوصية؛ بهدف تحفيظ الطالب المناهج وأسئلة الدورات السابقة والأسئلة المتوقعة.

زيارة تفقدية لمركز تصحيح أوراق الامتحانات الرسمية في سوريا (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)

بثينة سيدة أربعينية وأم لطالب يخضع لامتحان الشهادة الإعدادية، قالت إنها خلال فترة الامتحان لا تعرف النوم، وإنها «مستعدة أن أشحذ حتى أشتري لأبني الشهادة». فهي تريده أن يتابع دراسته بأي طريقة كي لا يساق إلى الخدمة العسكرية، والمشكلة أن مستوى ابنها التعليمي ضعيف، بسبب تنقله خلال سنوات الحرب بين مناطق ومدارس عدة، كما أنه يكره الدراسة والقراءة؛ لذلك ومنذ بداية العام الدراسي أعلنت الاستنفار وطلبت من شقيقتها مساعدتها في التناوب على تحفيظه المنهاج، بالإضافة إلى دورات دروس خاصة بالمواد كافة.

شاهين طالب ثاني ثانوي يستعد للتقدم لامتحان الثانوية العامة العام المقبل، وقد بدأ منذ عام بالخضوع لدورات خاصة بمنهج البكالوريا ويقول: «أسعى لحفظ المنهاج من الآن؛ فأنا أريد مجموعاً جيداً يؤهلني لدخول كلية هندسة ثم السفر».

ويتراوح سعر الساعة بين الخمسين والمائة والخمسين ألف ليرة، (3 إلى 10 دولارات) حسب المدرس والمنطقة، ويحتاج بالحد الأدنى يومياً إلى 100 ألف ليرة للدروس الخاصة لأكثر من مادة، في حال تقاسم سعر الساعة مع عدد من الطلاب، وهو ما تفعله الغالبية، ويقدر متوسط الإنفاق السنوي للطالب بـ15 مليون ليرة، ناهيك عن مصاريف أخرى تتعلق بالنقل، في حين لا يتجاوز متوسط الرواتب 20 دولاراً.

وتحتاج الأسرة المؤلفة من أربعة أبناء بالحد الأدنى إلى 500 دولار شهرياً لتغطية تكاليف المعيشة؛ وهو ما دفع الغالبية للعمل بأكثر من مهنة، لا سيما في المجال الخدمي. وحين يضاف إلى ذلك أعباء التعليم الباهظة، تتحول الامتحانات إلى كابوس مرعب؛ لما يحمله من خسارات مالية مضنية. عدا كابوس السوق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في حال رسب الطالب لأكثر من مرة وفقد فرصته في تأجيل الالتحاق بالخدمة.


مقالات ذات صلة

السلطان هيثم وإردوغان يبحثان العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية

الخليج الرئيس التركي مستقبلاً سلطان عُمان بالقصر الرئاسي في أنقرة (الرئاسة التركية)

السلطان هيثم وإردوغان يبحثان العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية

اتفقت تركيا وسلطنة عمان على تعزيز علاقات الصداقة والتعاون فيما بينهما وأكدتا دعمهما لأي مبادرات لوقف إطلاق النار في غزة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شمال افريقيا امتحانات لطلاب سودانيين بمصر (السفارة السودانية في القاهرة)

انفراجة في أزمة المدارس السودانية الموقوفة بمصر

في انفراجة لأزمة المدارس السودانية الموقوفة بمصر أعلنت السفارة السودانية بالقاهرة أن لجنة من وزارة التعليم المصرية ستزور بعض المدارس الأخرى لمراجعة قرار إغلاقها

أحمد إمبابي (القاهرة)
شمال افريقيا امتحانات لطلاب سودانيين بمصر (السفارة السودانية بالقاهرة)

المدارس السودانية في مصر بانتظار انفراجة بعد 3 شهور من إغلاقها

تأمل الجالية السودانية في مصر انفراجة في أزمة المدارس السودانية العاملة في البلاد، والمغلقة منذ نحو 3 أشهر لحين استيفائها الشروط المطلوبة.

أحمد إمبابي (القاهرة)
يوميات الشرق حظي المنتدى بجلسات علمية بين الجانبين (وزارة التعليم)

شراكة سعودية – أميركية لدعم تعليم اللغتين العربية والإنجليزية بين البلدين

السفير الأميركي مايكل راتني: المنتدى هو نتيجة عامٍ من التعاون بين سفارتنا ووزارة التّعليم السعودية.

عمر البدوي (الرياض)
الاقتصاد مسؤولو الذراع الاستثمارية لشركة «إي إف جي هيرميس» ومجموعة «جي إف إتش» المالية خلال إطلاق صندوق التعليم السعودي (إكس)

«هيرميس» تطلق صندوقاً للتعليم بـ300 مليون دولار في السعودية

أطلقت شركة «إي إف جي هيرميس» صندوقاً للتعليم السعودي (SEF) بقيمة 300 مليون دولار لبناء مشغل تعليمي عالمي المستوى في السعودية

«الشرق الأوسط» (الرياض)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».