خيارات دمشق الضيقة في «وحدة الساحات» مع لبنانhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5026916-%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B9-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86
هل تعتمد «الحياد» كما في غزة أم تكرر سيناريو 2006؟
لوحة إعلانية في طريق بدمشق تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في مايو الماضي (غيتي)
دمشق:«الشرق الأوسط»
TT
دمشق:«الشرق الأوسط»
TT
خيارات دمشق الضيقة في «وحدة الساحات» مع لبنان
لوحة إعلانية في طريق بدمشق تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في مايو الماضي (غيتي)
هل يدعم النظام السوري «حزب الله» اللبناني في حال وسعت إسرائيل حربها على غزة لتشمل لبنان بعدما توعدته بـ«صيف ساخن»؟ هل يكرر النظام ما قام به خلال حرب يوليو (تموز) 2006 بدعم الحزب عسكرياً ولوجيستياً ومالياً، أم سيتخذ موقف «الحياد» كما فعل تجاه حرب غزة؟ هل تستجيب دمشق لـ«ضغوط إيرانية هائلة» بفتح جبهة الجولان وتنخرط بالحرب في إطار «وحدة الساحات» بقيادة طهران أم تواصل موقف النأي بالنفس؟
يبدو البحث عن إجابات هذه الأسئلة ملحّاً في ظل الترقب الشديد لما قد يحدث في جنوب لبنان بعد تصاعد القصف المتبادل عبر الحدود في الآونة الأخيرة من دون مؤشرات واضحة في الأفق.
وفي الوقت نفسه تتجه الأنظار لمعرفة موقف دمشق المنهمكة في مساعيها الخاصة للخروج من أزماتها العميقة وفك عزلتها، بينما يعرب مراقبون وخبراء سياسيون فيها عن اعتقادهم أنها «ستقدم دعماً لكنه لن يكون بمستوى» دعم عام 2006، لأنها «حالياً منهكة اقتصادياً وعسكرياً»، بيد أنهم يلفتون إلى أن موقف دمشق «لا يزال غير واضح حتى الآن».
دفع إسرائيلي للحرب
دخان متصاعد جراء قصف إسرائيلي على بلدة الخيام جنوب لبنان نهاية مايو الماضي (أ.ف.ب)
«فرص التسوية في جنوب لبنان تتراجع بشكل يومي»، هذا ما قاله أحد المحللين في دمشق، مفضلاً عدم كشف اسمه، مستنداً إلى ما جاء في تقييم أمني لمركز «ألما» الإسرائيلي للدراسات، قدمه تل بيري رئيس قسم الأبحاث خلال مؤتمر حول التحديات الأمنية على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ونشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في العاشر من مايو (أيار) الماضي.
ويتابع: «ما قاله بيري الخبير في شؤون الشرق الأوسط، هو دفع لإسرائيل باتجاه شن حرب ضد (حزب الله) في جنوب لبنان قبل أن يباغتها هو، خصوصاً قوله إن أي اتفاق دبلوماسي لن يؤدي إلا إلى كسب الوقت حتى الغزو النهائي من قبل (الحزب) لإسرائيل والذي يقدَّر في موعد لا يتجاوز نهاية عام 2026». ويضيف: «إسرائيل ترى حالياً الفرصة مناسبة لتوجيه ضربة لـ(حزب الله)؛ لأن (حماس) غارقة في حرب غزة، وسوريا ضعيفة، وروسيا مشغولة بحربها في أوكرانيا وأميركا موجودة على الأرض في سوريا».
موقع دمشق
إزالة الأنقاض في المنطقة التي استهدفت فيها غارات جوية إسرائيلية مبنى سكنياً في حي كفرسوسة بدمشق في فبراير الماضي (أ.ف.ب)
دمشق التي كثيراً ما وُصفت بـ«رأس الحربة» فيما يطلق عليه «محور المقاومة»، لم تعلن بشكل واضح ماذا يمكن أن تُقدم لـ«حزب الله» من دعم، واقتصر موقفها على ما قاله الرئيس بشار الأسد في الرابع من مايو (أيار) الماضي خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب «البعث» بأن «كل ما يمكن لنا أن نقدمه ضمن إمكاناتنا للفلسطينيين أو أي مقاوم ضد الكيان الصهيوني سنقوم به دون أي تردد».
وبالنظر إلى تطور العلاقة بين أطراف «محور المقاومة»، فإن ما قاله الأسد يوحي بأنه لا يمكن إلا أن يدعم «حزب الله» إذا شنت إسرائيل حرباً على لبنان، لكن هذا الدعم لن يكون بحجم الدعم الذي قدمه في 2006، في حرب استمرت 34 يوماً، حين وُضع الجيش السوري في جاهزية تامة، وفتح النظام مستودعات أسلحته، كما فتح الطرقات بين سوريا ولبنان لنقل الأسلحة.
ويشرح المحلل المتابع للوضع الميداني في سوريا فيقول: «بعد انتشار الآلاف من مقاتلي (الحزب) في سوريا منذ 2011 تبلورت تدريجياً فكرة تحويل القلمون الغربي بريف دمشق إلى ظهير إقليمي للحزب، فبالنسبة له شكَّلت تجربة حرب 2006، معضلتين: الأولى ديموغرافية في نزوح سكان الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان، والثانية: لوجيستية. جرى التعامل مع المعضلة الأولى بتسهيل النظام السوري استقبال مئات الوافدين اللبنانيين في سوريا، بينما اليوم يستقبل لبنان نازحين سوريين بالآلاف، وتمثلت المعضلة اللوجيستية في قلة العمق الاستراتيجي، فجرى التعامل معها عبر التحالف الصلب مع النظام السوري».
يُذكر أن «النظام السوري حليف استراتيجي لـ(الحزب)، ويكنُّ احتراماً لمقاتليه، ومن ثم سيدعمه، لكن المشكلة في التكاليف. ففي عام 2006 كان الوضع الاقتصادي والمالي والعسكري أفضل، وكان النظام صاحب قرار، أما حالياً فليس لديه شيء، ويتدبر أمره بالمساعدات والحوالات الخارجية».
ويوضح المصدر أن هناك فرقاً كبيراً بين موقف دمشق من «حزب الله» وموقفها من «حماس» التي يرى النظام السوري أنها غدرت به منذ السنة الأولى للحرب باصطفافها إلى جانب المعارضة، ولم تشفع لها وساطة إيران و«حزب الله» لدى دمشق وزيارة قياديين منها العام الماضي العاصمة السورية.
معضلة «وحدة الساحات»
مواطن لبناني يقف أمام منزله المدمّر بغارة إسرائيلية استهدفت بلدة عدلون الجنوبية ليل الجمعة - السبت الماضي (أ.ب)
وإن كانت دمشق قد نأت بنفسها عن محور «وحدة الساحات» الذي انخرطت فيه منذ 40 عاماً في موضوع غزة، ورفضت فتح جبهة الجولان المحتل رغم الضغوط الإيرانية، فإن موقفها حتى الآن غير واضح بشأن «وحدة الساحات» مع لبنان.
فإذا كانت إيران قد أخفقت إلى حد بعيد في التعامل مع دمشق في حرب غزة، وراحت تطالبها بإيفاء ديونها البالغة 50 مليار دولار من دون أن تفلح هذه الضغوط بفتح جبهة الجولان، فكيف ستكون الحال مع جبهة جنوب لبنان لا سيما أن «حزب الله» أساسي للبلدين على حد سواء؟
ولا يخفى اليوم أن إرسالية البنزين باتت تتأخر 15 يوماً حتى تصل، بينما خلت شوارع حمص من السيارات، وشوارع دمشق تراجعت فيها حركة السير بنسبة كبيرة.
ويرى كثيرون أن «المسألة معقدة جداً». فإذا انخرط النظام بالحرب فستضرب إسرائيل الجيش السوري هذه المرة، وستحدث مزيداً من الأضرار والدمار في البنى التحتية المتضررة أصلاً؛ فغالبية الضربات الإسرائيلية الجارية حالياً في سوريا تستهدف مواقع إيران وميليشياتها وقادتها، فإذا انخرط النظام في الحرب فسيصبح الجيش (السوري) بين مطرقة الضغوط الإيرانية وسندان الضربات الإسرائيلية.
إضافة إلى ذلك، فإن إيران ليست الفاعل الدولي الوحيد على الأرض في سوريا، فهناك الولايات المتحدة وتركيا وروسيا التي مكّنت الجيش السوري من استعادة مساحات شاسعة من البلاد، لكن ذلك كان أيضاً في مرحلة ما قبل انخراط روسيا في الحرب الأوكرانية.
ومع استمرار الحرب في غزة وعمليات القصف المتبادل بين «حزب الله» وإسرائيل وارتفاع وتيرته استقبلت دمشق نهاية أبريل (نيسان) الماضي وزير الخارجية التشيكي راديك روبيش حاملاً رسالة أوروبية تتعلق بالورقة الفرنسية للتهدئة في جنوب لبنان وفق معلومات لـ«الشرق الأوسط» من دون أي مؤشرات على احتمالات تخفيف العقوبات الأوروبية والأميركية على النظام السوري، كما كان مأمولاً؛ ما يضع دمشق تحت مزيد من الضغوط العسكرية والمالية والخيارات الضيقة والصعبة.
نفت السفارة الأميركية في ليبيا، الأنباء التي أفادت بأن الإدارة الأميركية تعكف على خطة لنقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى ليبيا، حيث كانت شبكة «إن.بي.سي نيوز ذكرت…
الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)
ترافق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا بخمسة شروط أو مطالب، منها «مغادرة جميع المقاتلين الأجانب» من الأراضي السورية. ويشكّل هذا المطلب تحدياً كبيراً بالنسبة للإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع لما لهؤلاء المقاتلين من «دَين» في عهدة «هيئة تحرير الشام» على مدى السنوات الماضية وحتى سقوط نظام بشار الأسد.
فمنذ أن أُعلن عن تشكيل «الجيش الحر» في بدايات الثورة السورية، بدأت مرحلة جديدة من تدفق المقاتلين الأجانب من دول عربية وأجنبية. وكانت الحدود التركية ممراً مزدوجاً للسوريين الفارين من جحيم الحرب وجعلوا لنفسهم فيها موطناً أو رحلوا منها إلى الدول الأوروبية، ولمئات المقاتلين من غير السوريين المتوجهين إلى جبهات القتال داخل سوريا والتحقوا بدايةً بالتشكيلات المسلحة غير «المؤدلجة» في تلك المرحلة.
«حواضن الثورة»
بين عامي 2012 و2014، حين اشتد القصف بالبراميل المتفجرة وأنواع الأسلحة كافة على الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام السابق، حظي المقاتلون الأجانب بسمعة جيدة فيما سُمي «حواضن الثورة»، لا سيما في الشمال السوري، لا لكونهم شاركوا بقوة وفاعلية في القتال ضد قوات الأسد فحسب، وإنما أيضاً لما عُرف عنهم من شدة في القتال. كذلك في مرحلة ما، شكَّلوا مجموعات «الانغماسيين» و«الانتحاريين» ونفَّذوا عمليات «نوعية» واقتحامات فاكتسبوا تعاطفاً شعبياً واسعاً وأُطلق عليهم اسم «المهاجرين».
شبان سوريون يحتفلون بدخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» إلى دمشق في 13 ديسمبر 2024 (رويترز)
وبعد سقوط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول)، كانت تنظيمات المقاتلين الأجانب، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أجناد الشام» (شيشان) وأجناد القوقاز جزءاً أساسياً من «غرفة إدارة العمليات العسكرية» بقيادة «هيئة تحرير الشام». وفي أول تصريح حول قضية المقاتلين الأجانب في البلاد، قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن هؤلاء الذين ساهموا في إطاحة نظام الأسد «يستحقون المكافأة». وأوضح الشرع، في لقاء مع صحافيين منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أن جرائم النظام السابق دفعت إلى الاعتماد على المقاتلين الأجانب، وهم يستحقون المكافأة على مساندتهم الشعب السوري، ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية؛ وهو ما أثار نقاشات واسعة في حينه.
ولم يمضِ وقت كثير قبل أن تعلن الإدارة السورية الجديدة تعيين مجموعة من هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة ورتب تتراوح بين عميد وعقيد في الجيش السوري الجديد، وأبرزهم عبد الرحمن حسين الخطيب، وهو أردني تمت ترقيته إلى رتبة عميد، وعلاء محمد عبد الباقي، وهو مصري، وعبد العزيز داوود خدابردي التركستاني من الإيغور، ومولان ترسون عبد الصمد (طاجيكي)، وعمر محمد جفتشي مختار (تركي)، وعبد البشاري خطاب (ألباني)، وزنور البصر عبد الحميد عبد الله الداغستاني، قائد «جيش المهاجرين والأنصار».
العقدة والحل
اليوم، في حين القرار بشأن مصيرهم على المحك، يشكّل هؤلاء الأجانب أحد أوجه العقدة والحل في مستقبل سوريا. وفي السياق، قال لـ«الشرق الأوسط» قيادي سابق في «هيئة تحرير الشام»، فضَّل عدم ذكر اسمه، إن «إدارة الشرع لن تمانع من الاستجابة لشرط الإدارة الأميركية»، مؤكداً أن «الإخوة المهاجرين» أنفسهم لا يتمسكون بالمناصب «إن كانت تعيق مصلحة البلاد».
وبالفعل، بعد أقل من يوم على لقاء ترمب - الشرع في العاصمة السعودية، بدأت وكالات محلية سورية تبث أخباراً حول مداهمة الأمن العام مقار تابعة للمقاتلين الأجانب في ريف إدلب. وفي حين لم يتسن لـ«الشرق الأوسط» تأكيد هذه المداهمات بعد، فإن الإجراء سواء كان حقيقياً وبدأ بالفعل أو أنه مجرد فقاعة إعلامية، فإنه يرسل إشارة واضحة إلى النوايا.
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
ويقول كريم محمد، وهو قيادي في الجيش السوري (الحالي) وكان قائد كتيبة في «هيئة تحرير الشام» تضم مقاتلين أجانب، يقيم حالياً في دمشق، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «لا مصلحة للحكومة بأي خطوة سلبية تجاههم» لكونهم يتمتعون بشعبية قوية داخل صفوف الجيش والأمن الجديد وحاضنة الثورة. ويضيف محمد: «بدأت منذ فترة بعض الدول تطرح مسألة المقاتلين الأجانب بصفتها ورقةَ ضغطٍ على الحكومة الجديدة. هؤلاء المقاتلون، الذين نسميهم نحن بصفتنا ثواراً (المهاجرين)، كان لهم دور حاسم منذ بداية الثورة، وبرزت خبراتهم العسكرية في المعارك»، مؤكداً أن الحكومة «تبذل جهوداً واضحة لإبعاد المهاجرين عن الصراعات الداخلية وإعادتهم إلى مواقعهم في إدلب، مع وعود بدمجهم بالمجتمع، وربما حتى منحهم الجنسية السورية مستقبلاً».
«لا مطالب بطرد الأجانب»
الباحث في الجماعات المتطرفة حسام جزماتي يرى أن هناك سوء فهم كبيراً لهذه المسألة؛ إذ إن المطالب الأميركية والغربية لا تتضمن طرد المقاتلين الأجانب «بقدر ما تشترط أمرين، ألا يحتل هؤلاء مناصب بارزة في الدولة الوليدة، ولا سيما في الجيش والأمن والحكومة، وألا يتخذ أي منهم من الأراضي السورية منصة لانطلاق عمليات عسكرية في الخارج أو الإعداد لها أو التدريب عليها».
وأضاف جزماتي لـ«الشرق الأوسط»: «عندما كانت (هيئة تحرير الشام) تسيطر على إدلب، ومنذ سنوات، التزمت بعدم السماح لأي فصيل باتخاذ الأراضي السورية منصة للتهديد، وقد ضبطت إيقاع الجهاديين بشكل لا يطمحون معه للعمل عبر الحدود».
مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)
وتابع: «ما يرفضه حلفاء (المهاجرين) وإخوانهم هو طردهم من البلاد التي قاتلوا للدفاع عن أهلها في وجه نظام متوحش، أو تسليمهم إلى دولهم، حيث تنتظرهم السجون وربما الإعدام. وعموماً، لا أظن أن قيادات ومقاتلي (هيئة تحرير الشام) وسواها من الفصائل، والحاضنة الإسلامية أو الثورية المحبة لنموذج المهاجر، مصرّة على أن يتصدر هؤلاء بناء الدولة. ولا أعتقد أن ذلك في ذهن (المهاجرين) أنفسهم».
ويؤكد ذلك أبو حفص التركستاني، وهو يرأس حالياً كتيبة في الجيش السوري (ضمن تشكيلات وزارة الدفاع) غالبية عناصرها من التركستان وتوجد بين ريف إدلب وريف اللاذقية، وكان قيادياً في «الحزب الإسلامي التركستاني». ويقول التركستاني لـ«الشرق الأوسط»: «لم نأتِ إلى سوريا لقتل السوريين، ولم نأتِ هنا لكسب مادي أو مناصب، فقط قدِمنا لنصرتهم، لنشاركهم همومهم وننصرهم بقدر ما نستطيع والحمد لله تحقق النصر ولنا شرف مشاركة إخوتنا به». وأضاف التركستاني أن هناك هجوماً إعلامياً ممنهجاً عليهم حالياً يتهمهم بأنهم وراء أي تجاوز يحدث، وأنهم «وراء الهجمات على قرى الساحل أو السويداء وهذه مجرد افتراءات».
وأوضح: «نحن لم نتدخل يوماً في شؤونهم (السوريين)، كنا نعيش طوال هذه السنين معهم ولم نتدخل في أساليب حياتهم. نحن نعرف أن لكل شعب اختلافات في العادات، وإن كنا لا نتفق في كثير من الأمور، لكن لم نتدخل في المجتمع السوري. وإن حدثت بعض التجاوزات في السنين الماضية في إدلب، فهي أحداث لم تتكرر، والسوريون يعرفون ذلك جيداً».
جانب من تدريبات قوات «هيئة تحرير الشام» قبل عملية «ردع العدوان» (إكس)
ويرى جزماتي أنه يمكن لـ«المهاجرين» أن «يبقوا في سوريا بصيغ قانونية رسمية واضحة يتفق عليها، وبصفة مدنية فقط من دون أن يتصدروا الواجهة بدولة ليسوا مشغولين بحكمها أصلاً، وأن يتعهدوا بعدم استخدام أراضيها لتنفيذ مخططات جهادية خاصة بهم في بلدانهم الأصلية أو في أنحاء العالم، لما قد يسببه ذلك من ضرر بالغ. وإلا، فيمكنهم المغادرة إلى الوجهة التي يختارون».
معضلة التعيينات
قال أحد المقاتلين الأجانب (من جنسية عربية) ويكنى بـ«أبي محمد» لـ«الشرق الأوسط»: «نحن لن نقف ضده (الشرع) كما فعلنا طوال السنوات الماضية. لم نتدخل في قتال الفصائل وكنا على مسافة من الجميع ونراعي مصالح سوريا التي لم ولن تتضارب مع مصالحنا يوماً. كنا نقدِم على الموت من أجل حياة السوريين، ونعرف كيف نعيش الآن تحت ظل دولة نقدّرها ونحترمها».
ولكن المعضلة - بحسب جزماتي - تكمن في صعوبة «التراجع عن التعيينات وقرارات ترفيع العسكريين التي أعلنتها القيادة العامة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط نظام بشار الأسد، وبينهم ثلاثة عمداء وثلاثة عقداء».
وحسب التسريبات التي اطلع عليها جزماتي، فقد تعهد المسؤولون بإيقاف تعيين غير السوريين منذ الآن، وتبقى مسألة الذين جرى تعيينهم بالفعل عالقة وتحتاج إلى حل لا يحرج وضعهم ورتبهم وربما مناصبهم.
أحمد الشرع يخطب في الجامع الأموي في دمشق في 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
وعن احتمالات استغلال الجماعات المتطرفة مسألة التضييق على عناصرها وإبعاد المقاتلين الأجانب منهم، قال الباحث: «لا أرى أن تنظيم (القاعدة) في وارد إحياء نشاطه في سوريا بعدما حلّ فرعه فيها، أي حراس الدين. أما (داعش)، التي لا نعرف مخططاته السورية بالضبط، فربما يستقطب معترضين على سياسة الحكومة الحالية، سواء كانوا من السوريين أو من غيرهم. وربما تحاول ذلك مجموعات أو تنظيمات جديدة ترى في سلوك السلطة الحالية ابتعاداً عن تطبيق الشريعة كما يريدون».
ولا تقف كل مجموعات المقاتلين الأجانب عند نقطة واحدة على طيف التطرف. فهناك تمايز آيديولوجي بينها بدأ لحظة توافدهم إلى سوريا وطريقة هذا التوافد، سواء بالتجنيد المسبق أو الاندفاع الذاتي. فأحياناً كان يتم إرسال مقاتل إلى بلده ليجنّد شباناً راغبين في المجيء إلى سوريا بعد التواصل معهم عبر الإنترنت، فيتم تنظيم انتقالهم بطريقة مدروسة منذ لحظة انضمامهم وحتى عبورهم الحدود وانضمامهم إلى تنظيم محدد. وأحياناً أخرى كان البعض يصل منفرداً بالاعتماد على المهربين ورحلات سياحية عبر تركيا وغالباً كانوا يتكبدون تكاليف السفر من جيوبهم.
ومع الوقت، وخصوصاً أواسط 2013، تشعبت الفصائل وكثرت وبدأت تظهر عملية الفرز والتمايز بينها؛ لكن بقيت وجهة غالبية المقاتلين الأجانب الجماعات الجهادية، لا سيما «جبهة النصرة»، في حين التحقت قلة من الأجانب بجماعات «معتدلة» مثل «لواء التوحيد» في حلب.
خلافات وانشقاق وتشكيلات
مع تعمق الخلافات المتعلقة بالأفكار أو التنافس على النفوذ، انتقل أغلب «المهاجرين» إلى جماعات انقسمت على بعضها في فترات معينة، مثل «جبهة النصرة» التي كانت تابعة لتنظيم الدولة (داعش) وانشقت عنه بعد رفض قائدها حينذاك أحمد الشرع مبايعة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وإعلانه في المقابل بيعته وتنظيمه لزعيم «القاعدة» السابق أيمن الظواهري.
في تلك الفترة انشق المزيد من المقاتلين الأجانب وقيادات من «النصرة» للالتحاق بتنظيم «داعش»، عادّين أن «بيعة الظواهري» غير مقبولة ليدخل الفصيلان في جولات اقتتال أفضت بجزء منها إلى تشكيل جماعات مستقلة عنهما، أبرزها «جند الأقصى» الذي أسسه الجهادي العراقي المولد الفلسطيني الأصل أبو عبد العزيز القطري، وتشكيلات أخرى اعتمدت التمحور حول جنسيتها الأصلية مثل الإيغور والأوزبك والشيشان.
يخشى المسؤولون الأوروبيون من أنه مع مرور سوريا بمرحلة انتقال سياسي فقد تتشكل جماعات إرهابية داخل البلاد (أرشيفية - رويترز)
لكن مع تمدد «داعش» جغرافياً أواسط 2014 في محافظات غرب وشمال غربي العراق وصولاً إلى محافظات دير الزور والرقة وجزء من محافظة الحسكة وريفي حلب وإدلب، بدأت حالة من العداء بين التنظيم وجماعات أخرى تشكلت من مقاتلين أجانب أيضاً وحكم عليها التنظيم بـ«الردة». وهذه معظمها بقيت على علاقة جيدة بـ«جبهة النصرة»، مفضلة «الحياد» في كثير من المعارك على الانحياز إلى طرف دون آخر في «قتال الإخوة».
ومن تلك الفصائل التي بقيت على حالها حتى سقوط نظام الأسد، «الحزب الإسلامي التركستاني»، و«أجناد الشام» و«أجناد القوقاز» و«أنصار التوحيد»، وبقايا فصيل «جند الأقصى» الذي كان أغلب قادته من السوريين وانفرط عقده في 2017. وذهب قسم منه باتجاه «داعش» وآخر بقي في مناطق إدلب باسم «أنصار التوحيد» وكان أحد التشكيلات المتحالفة مع «هيئة تحرير الشام» في إدارة العمليات العسكرية التي سيطرت على دمشق.
«سورنة» المعركة
في الأعوام بين 2014 و2018، كانت «هيئة تحرير الشام» بدأت تكبح منهجياً من سلطة المقاتلين الأجانب وتنحيهم عن تصدر القيادة والظهور في الإعلام كما كان الوضع سابقاً، واعتقلت الكثيرين منهم كما فعلت مع «حراس الدين». كذلك طردت من صفوفها الكثير ممن رفضوا الانصياع للتغيرات التي أحدثها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وقتها. فقد بدأ هؤلاء المقاتلون الأجانب يشكّلون عائقاً في وجه مشروع «هيئة تحرير الشام» داخلياً وخارجياً. فمن جهة راح يتنامى لدى السوريين شعور بأن «الهيئة» تفضل عناصرها وقادتها من الأجانب على السوريين، وخارجياً صار هؤلاء يظهرون في الإعلام وينشطون في المساجد، ويتركز خطابهم على أدبيات جهادية كتلك التي تقول بها «القاعدة»، بل ووجدت «هيئة تحرير الشام» أنهم يعرقلون علاقتها مع تركيا؛ إذ حرّموا التعامل مع الجيش التركي؛ كونه ينتمي إلى حلف شمال الأطلسي، «ناتو».
وعليه، عمل الشرع على «تشذّيب المتشددين داخل الهيئة من السوريين والأجانب على السواء»، وغيّر الخطاب من «جهاد عابر للحدود» إلى محلي سوري، فبدأت تظهر في خطاباته عبارات تدل على المحلية وأن سوريا لها الأولوية كعبارة «ثورة أهل الشام» التي كثيراً ما كان يرددها.
في تلك المرحلة اصطف معه كثير من المقاتلين الأجانب وتبنّوا رؤية الشرع «الوطنية»، عادّين أن سوريا للسوريين وأنهم «أنصار» في هذا، وعمل هو بالتوازي على «سورنة المعركة والمقاتلين» من خلال دمجهم في السياسة الجديدة القائمة على الابتعاد عما هو خارج الحدود.
فهل ينجح اليوم وقد صار أحمد الشرع رئيساً للبلاد في إجراء المزيد من التشذيب والدمج بما يحقق شروط الخارج ومصالح الداخل؟