هل يفسد «طوفان الأقصى» العلاقات السورية - الإيرانية... أم هو سحابة صيف عابرة؟

دمشق إذ تحاول الخروج من عنق زجاجة طهران و«تنأى بنفسها» عن حرب غزة

إحياء يوم القدس في مخيم اليرموك وغاب عن الاحتفال التمثيل الإيراني الرسمي وصور قياديات إيرانية أو من «حزب الله» اللبناني (الشرق الأوسط)
إحياء يوم القدس في مخيم اليرموك وغاب عن الاحتفال التمثيل الإيراني الرسمي وصور قياديات إيرانية أو من «حزب الله» اللبناني (الشرق الأوسط)
TT
20

هل يفسد «طوفان الأقصى» العلاقات السورية - الإيرانية... أم هو سحابة صيف عابرة؟

إحياء يوم القدس في مخيم اليرموك وغاب عن الاحتفال التمثيل الإيراني الرسمي وصور قياديات إيرانية أو من «حزب الله» اللبناني (الشرق الأوسط)
إحياء يوم القدس في مخيم اليرموك وغاب عن الاحتفال التمثيل الإيراني الرسمي وصور قياديات إيرانية أو من «حزب الله» اللبناني (الشرق الأوسط)

لفحت رياح حرب غزة وجود إيران العسكري في سوريا، فأجبرت طهران على وضع خطط لإخلاء عناصر «الحرس الثوري»، ونقل مقارّ قياداته المعروفة من ريف دمشق إلى مناطق قريبة من لبنان، بعد مقتل الكثير من قادته البارزين في غارات إسرائيلية.

وطالت رياح تلك الحرب أيضاً علاقات البلدين، وبدا التراجع في وهجها بعد موقف «الحياد» الذي اتخذته دمشق تجاهها وظهر على شكل جفاء بين مؤسستي الرئاسة في البلدين ونأي دمشق بنفسها عن محور «وحدة الساحات»، ثم شكوك طهران بتورط أجهزة أمن سورية بتسريب معلومات حول تحركات ضباطها، إضافة إلى قلقها من تجاوب دمشق مع مؤشرات لانفتاح عربي، ورغبة بالخروج من عنق الزجاجة الإيرانية بتطبيع العلاقة مع الغرب.

وعقب القصف الإسرائيلي الذي استهدف في الأول من أبريل (نيسان) الماضي قنصلية إيران الواقعة بجوار سفارتها على اوتوستراد المزة في دمشق وأوقع 7 قتلى؛ على رأسهم قائد «فيلق القدس» في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي، بدا أن «الحرس الثوري» الإيراني يمر بأكثر الفترات صعوبة في سوريا بعد أكثر من عقد على إرساله عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية لمساعدة السلطات السورية.

رفع الأنقاض من مقر القنصلية الإيرانية على أوتوستراد المزة بعد تدميره بضربة إسرائيلية في أبريل الماضي (الشرق الأوسط)
رفع الأنقاض من مقر القنصلية الإيرانية على أوتوستراد المزة بعد تدميره بضربة إسرائيلية في أبريل الماضي (الشرق الأوسط)

خوف وخطط إخلاء

عناصر محلية مرافقة لأحد المستشارين الإيرانيين في سورية ويحمل رتبة جنرال كشفت عن القلق الشديد الذي يعتري الأخير على حياته بعد الضربات الإسرائيلية المتكررة، وينقل أحد العناصر لـ«الشرق الأوسط» عن الجنرال قوله: «أنا الآن مضطر إلى النوم في العراء خشية على حياتي».

وكشفت مصادر من ميليشيات غير سورية تابعة لإيران متواجدة في ريف دمشق أن إيران وضعت خططاً لإخلاء سوريا من عناصر «الحرس الثوري»؛ «بسبب الضغط الإسرائيلي المتزايد وضع هؤلاء خططاً لإخلاء سوريا عبر مطار دمشق الدولي، وكذلك العودة تسللاً عبر الحدود السورية - العراقية».

بالتوازي، أخلت قيادات «الحرس» بعد الهجوم الإسرائيلي مقارّها المعروفة داخل ريف دمشق وانتقلت إلى مناطق قريبة من لبنان، بحسبما قالت لـ«الشرق الأوسط» مصادر أهلية رصدت انتقال هؤلاء نحو مناطق واقعة غربي دمشق قرب الحدود اللبنانية.

مبنى متضرر من غارة إسرائيلية في منطقة كفر سوسة أدت إلى مقتل 3 أشخاص بينهم اثنان يعتقد أنهما إيرانيان في فبراير الماضي (الشرق الأوسط)
مبنى متضرر من غارة إسرائيلية في منطقة كفر سوسة أدت إلى مقتل 3 أشخاص بينهم اثنان يعتقد أنهما إيرانيان في فبراير الماضي (الشرق الأوسط)

استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق الذي صَفّت إسرائيل به ما يوصف بـ«غرفة عمليات الحرس الثوري» في سوريا ولبنان، جاء بعدما كثفت اسرائيل طرق محاربتها للوجود العسكري الإيراني في سوريا، منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وباتت غاراتها وصواريخها لا تستهدف فقط مواقع إيران وميليشياتها العسكرية في المناطق الحدودية، بل تعدى ذلك إلى استهداف العناصر ومن ثم قادة الميليشيات وصولاً إلى قادة «الحرس الثوري» في كل مناطق الحكومة السورية، وذلك عبر تدمير مبانٍ سكنية يقطنون فيها تقع في مدن وأحياء راقية.

«السيدة زينب» مقراً للإيرانيين

في منطقة «السيدة زينب» جنوبي دمشق، التي تعد المعقل الرئيسي للوجود الإيراني وأتباعه، اختفى كلياً مشهد العناصر المسلحة، سواء من الإيرانيين أو الميليشيات الموالية لهم، وذلك بعد مقتل قائد قوة الارتباط لـ«الحرس الثوري الإيراني» في سوريا رضي موسوي، بغارة إسرائيلية استهدفت «منطقة الروضة» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. تلى تلك الحادثة غارة جوية استهدفت مبنى سكنياً في منطقة الفيلات الغربية بحي المزة الراقي في يناير (كانون الثاني) الماضي، قُتل فيها مسؤول استخبارات «الحرس الثوري» و«فيلق القدس» في سوريا حجت الله أميدوار.

وبحسب مشاهدات ميدانية لـ«الشرق الأوسط»، يقتصر اليوم الانتشار المسلح في «السيدة زينب» على عناصر من «حزب الله» اللبناني، خصوصاً في محيط المقام الذي يؤمّه الزوار الشيعة من إيران والعراق ولبنان وباكستان وأفغانستان وعند حاجز «المستقبل» المؤدي إلى المنطقة من طريق مطار دمشق الدولي.

وتقول مصادر أهلية في بلدة «حجيرة» الواقعة شمالي «السيدة زينب»: «هنا مقر (القائد) ومقارّ قيادات إيرانية دينية وعسكرية، ولكنهم منذ تكثيف إسرائيل قصفها للمنطقة مشاهدتهم باتت نادرة، وفي الفترة الأخيرة لم نعد نراهم كلياً... لقد اختفوا».

تأتي هذه التطورات على رغم تأكيد السفير الإيراني حسين أكبري، عقب مقتل موسوي، أن بلاده لن تنسحب عسكرياً من سوريا. ونقلت صحيفة «الوطن» السورية المقربة من الحكومة قول أكبري حول ما ورد من تقارير صحفية تحدثت عن مغادرة مستشارين عسكريين إيرانيين: «نحن موجودون وحاضرون في سورية بالقوة نفسها وأبداً لن ننسحب».

ومنذ سنوات الحرب الأولى، كانت إيران أحد أبرز داعمي النظام السوري سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وينتشر في سوريا نحو 3 آلاف مقاتل ومستشار عسكري من «الحرس الثوري» الإيراني بحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان»؛ لكن طهران تتحدَّث فقط عن «مستشارين» يعاونون القوات الحكومية.

مقام السيدة زينب جنوب شرقي دمشق وبدت رايات حمراء ترفرف أعلاه (الشرق الأوسط)
مقام السيدة زينب جنوب شرقي دمشق وبدت رايات حمراء ترفرف أعلاه (الشرق الأوسط)

الزعامة والنفوذ

ويعد «حزب الله» القوة الضاربة للميليشيات الشيعية في سورية. وبحسب قول مصدر مقرب من الحزب لـ«الشرق الأوسط»، يشغل قادة الحزب موقعاً متقدماً بين الميليشيات الشيعية في سورية، فهم في المستوى الثاني بعد قادة «الحرس الثوري» الإيراني.

ويوضح المصدر أن «الحزب يركز على إدارة التواصل مع السوريين العاديين؛ فمسؤولو الحزب مثلاً هم من يقومون باستئجار الشقق والفلل للمستشارين الإيرانيين، كما يقومون بدفع مبالغ التعويضات على الأضرار لأصحاب العقارات التي تعرّضت للضربات الإسرائيلية».

عدا عن ذلك، وبحسبما تنقل هذه المصادر، «فإن قادة الحزب، يتميزون بحرصهم العميق على عدم استفزاز الغالبية السنية في سورية، بل يقومون، بنسج علاقات جيدة مع الفعاليات الاجتماعية في مناطق انتشارهم، مثل بلدة القصير بريف حمص ومنطقة القلمون بريف دمشق الغربي، وهم في حالات كثيرة يوفرون الحماية للسكان المحليين في مواجهة ممارسات عناصر الأجهزة الأمنية الجائرة».

وبالنسبة للسلطات السورية، يشكل انضباط عناصر «حزب الله» وقياداته عنصراً إيجابياً، بخلاف الميليشيات العراقية «المنفلتة من كل رقيب»، على حد قول المصادر.

وحول العلاقة بين دمشق و«حزب الله» يقول مصدر مقرب من السلطات السورية لـ«الشرق الأوسط»: «دائماً ما تتدخل قيادات من (حزب الله) لدينا لتهدئة التوتر الذي ينشأ أحياناً مع (العناصر) العراقيين أو الإيرانيين. لدينا تاريخ طويل من التعاون معهم، وهم يتفهمون حساسياتنا وطريقة تفكيرنا».

ويذكر المصدر نقلاً عن مسؤول سوري رفيع المستوى، أن الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله لطالما استخدم نفوذه الشخصي ورصيده لدى الرئيس السوري بشار الأسد لـ«حلحلة الكثير من الخلافات» حتى إنه «مؤخراً لعب دور صمام الأمان في العلاقات السورية - الإيرانية التي شهدت الكثير من التوتر»، فخرج نصر الله علانية في إحدى خطبه ليدافع عن عدم انخراط سورية في الحرب على غزة.

نأي سوري بالنفس

وبعكس حلفاء إيران في لبنان والعراق واليمن، حرصت السلطات العليا في سوريا على عدم الانجرار والانخراط في حرب غزة، فبقيت جبهة هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل هادئةً نسبياً، واقتصرت التحركات هناك على مناوشات قامت بها الميليشيات التابعة لإيران وتمثلت بإطلاق عناصرها قذائف على القسم المحتل من الجولان سقط أغلبيتها في أراضٍ زراعية، ولم يسفر معظمها عن أضرار.

وتقول مصادر متابعة في دمشق: «يرفض الإيرانيون تفهم الموقف السوري في الوقوف على الحياد تجاه حرب غزة، وعدم الانخراط في (وحدة الساحات)، ورفضها فتح جبهة الجولان وبالنسبة لهم بذلت بلادهم الغالي والرخيص في سبيل الدفاع عن (النظام السوري)، بينما يستدرج النظام عروض الحوار الغربية كمكافأة له على موقف (النأي بالنفس) وعدم فتح جبهة الجولان، وهو أمر لا يمكن أن يقبل به الإيرانيون».

وتضيف المصادر: «يرى بعض المسؤولين السوريين أن أي مكسب إقليمي لإيران سيكون حكماً على حساب دمشق، ففي بداية حرب غزة كان النظام مرعوباً من صففة إيرانية - أميركية».

وفي ظل اضطراب العلاقة بين دمشق وطهران بات المستشارون الإيرانيون في سورية «مكسر عصا» بين الطرفين. وينقل عنصر المرافقة (السابق الذكر) لـ«الشرق الأوسط» عن الجنرال الإيراني قوله شاكياً: «لا قيمة لنا هنا في سورية، لا أحد يهتم بنا، هناك في بلادي كنت مسؤولاً عن محافظة كاملة وكان السكان يتمنون إرضائي... هنا لا أحد يحترمنا حتى».

جرمانا «عاصمة» العراقيين

الرؤية بالنسبة لقادة الميليشيات العراقية مختلفة. هم يعتقدون أنهم يعرفون السوريين أفضل من الإيرانيين واللبنانيين على السواء. تأثر هؤلاء القادة بانخراطهم الأكبر بالسوريين، سواء مسؤولين أو مواطنين عاديين أو حتى مقاتلين من ميليشيا «الدفاع الوطني» المحلية.

وينقل مصدر لـ«الشرق الأوسط» عن أحد القيادات المتوسطة في ميليشيا عراقية قوله: «يعتقد مسؤولو (حزب الله) أن علينا أن نراعي المسؤولين السوريين، وهذا رأي نافذ أيضاً بين المسؤولين الإيرانيين، لكن تجربتنا تؤكد أن السوريين متشددون في الظاهر، لكنهم أضعف بكثير مما يبدون».

كشافة عراقيون في منطقة الروضة بـ«السيدة زينب» بعد زيارة للمقام في مارس الماضي (الشرق الأوسط)
كشافة عراقيون في منطقة الروضة بـ«السيدة زينب» بعد زيارة للمقام في مارس الماضي (الشرق الأوسط)

لكن مسؤولاً في دمشق يأخذ على العراقيين انخراطهم الزائد مع السوريين حتى باتت مدينة جرمانا بريف دمشق الجنوبي الشرقي تُعرف فعلياً بـ«عاصمة» العراقيين بعد الحرب، تماماً كما كانت إبان غزو العراق في 2003 .

وتنقل مصادر متابعة عن المسؤول أن «هؤلاء المقاتلين يسهرون في الملاهي الليلية المنتشرة في المدنية؛ وهو ما يشكل مخاطر أمنية عالية». ولا يخفي المسؤول شكوكه في أن تسريب المعلومات عن تحركات الإيرانيين مصدرها هؤلاء المقاتلون، كما أن تسريب معلومات يجري أيضاً من جانب مقاتلي «حزب الله»، وقد تم إبلاغ الحزب عن حالات تسريب معلومات عدة نجمت عن عناصره.

تراجع وهج العلاقات

مع تصفية إسرائيل الكثير من كبار الضباط الإيرانيين، «الذين قاتلوا دفاعاً عن النظام السوري»، وإحالة الرئيس الأسد قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية السوريين ممن شهدوا ما قدمته إيران لبلادهم، على التقاعد كمثل اللواء جميل الحسن، مدير إدراة المخابرات الجوية، واللواء محمد محلا، مدير شعبة المخابرات العسكرية، أخذ وهج العلاقة السورية - الإيرانية يتراجع. وازداد ذلك في ظل شكوك الإيرانيين غير المعلنة رسمياً بتورط أجهزة أمن سورية بتسريب معلومات حساسة حول تحركات ضباطهم لإسرائيل أدت إلى تصفيتهم، وموقف دمشق ونأيها بنفسها، وذلك وفق ما ترى مصادر متابعة لمسار العلاقات السورية - الإيرانية في دمشق.

وتقول المصادر لـ«الشرق الاوسط» إن هذين العاملين يأتيان في ظل قلق إيراني مبطّن من الانفتاح العربي على دمشق، وجنوح النظام السوري إلى الحضن العربي، وذلك في أعقاب ما عقدته طهران من صفقات مع الولايات المتحدة أزعجت دمشق، خصوصاً اتفاق الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان في أكتوبر (تشرين الأول) 2022.

وترى المصادر، أن توافق الأيام الخوالي بين دمشق وطهران أخلى طريقه وطغى عليه عدم التوافق، خصوصاً مع ضغوط إيران المتزايدة لاسترداد ديونها المترتبة على الحكومة السورية، ورغبة إيران في تكبيل دمشق بالمزيد من القيود والالتزامات التي تحدّ من قدرة مناوراتها الإقليمية بوصفها ثمناً لتحالف أيام الحرب في سوريا.

وكان جرى في أغسطس (آب) الماضي تسريب وثيقة حكومية مصنّفة «سرية» صادرة عن الرئاسة الإيرانية إلى وسائل الإعلام تتعلق بإنفاق طهران 50 مليار دولار على الحرب في سوريا، خلال 10 سنوات، واعتبارها «ديوناً» تريد استعادتها على شكل استثمارات، ونقل للفوسفات والنفط والموارد الأخرى إلى الحكومة الإيرانية.

وعندما راجع مسؤولون سوريون نظراءهم الإيرانيين لنفي تلك الوثيقة، رفضوا بحجة أنهم لا يعلقون على مزاعم إعلامية؛ ما يعنى أنهم عملياً لا يمانعون في تشكل انطباع سوري وعربي بأن النظام مكبل بالديون لطهران، بحسب ما ذكرت مصادر وثيقة الاطلاع لـ«الشرق الأوسط».

البوابة الخارجية لمقر القنصلية الإيرانية في دمشق بعد استهدافه بغارة إسرائيلية أدت إلى مقتل قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي و6 آخرين (الشرق الأوسط)
البوابة الخارجية لمقر القنصلية الإيرانية في دمشق بعد استهدافه بغارة إسرائيلية أدت إلى مقتل قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي و6 آخرين (الشرق الأوسط)

عنق الزجاجة

وتنقل المصادر المتابعة لمسار العلاقات بين البلدين عن مسؤول سوري قوله: «لقد لحقنا بالإيرانيين، لكن اتضح أن الكثير من وعودهم لم تتحقق، والآن نحاول إيجاد طريقة للخروج من عنق الزجاجة. هذه فرصتنا ويجب أن نستكشفها من أجل مستقبل البلاد». وكان المسؤول في ذلك يشير إلى تصريح للسفير الإيراني في دمشق حسين أكبري مطلع العام الحالي، قال فيه إن بلاده وصلتها رسالة من الولايات المتحدة باستعداد إدارة الرئيس جو بايدن لتسوية كبرى تشمل مشاكل المناطق كافة.

ووفق المصادر، فإن «الاتجاهات داخل العلاقات السورية - الإيرانية كانت تعتمل بعد صفقات طهران وواشنطن خلال عهد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، حول العراق لجهة تشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وإقصاء زعيم (التيار الصدري) مقتدى الصدر عن المشهد السياسي العراقي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 ولبنان وشرق سورية الذي شملته تهدئة بين البلدين بعد اتفاق الدوحة في 10 أغسطس الماضي».

شرخ غزة

إضافة إلى ذلك، أدت حرب غزة إلى بروز تباعد بين طهران ودمشق في القراءة والمصالح، وتقول المصادر المتابعة: «لقد تحسست دمشق إمكانية لتطبيع علاقاتها وأوضاعها مع الدول الغربية بسبب موقفها من حرب غزة تماماً كما فعلت في عام 1990 على حساب صدام حسين والانضمام إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت من الغزو العراقي».

وتضيف: «أيضاً لدى طهران شكوك في أن تعيين اللواء كفاح ملحم المعروف باتجاهاته المناوئة لإيران، على رأس مكتب الأمن الوطني في سوريا، يهدف إلى سياسة أمنية سورية داخلية أكثر تشدداً حيال نفوذها».

وتوالت في الآونة الأخيرة مؤشرات توحي بوجود تراجع في العلاقات السورية - الإيرانية التي يصفها المسؤولون في البلدين بـ«الراسخة والتاريخية»، ومنها غياب التمثيل الإيراني وصور الرئيس الإيراني والمرشد علي خامنئي وصور الأمين العام لـ«حزب الله» عن فعالية «يوم القدس العالمي» التي أُقيمت يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان في مخيم اليرموك جنوبي دمشق، بعدما كان تمثيل تلك القيادات في المناسبة نفسها على مر السنوات الماضية يحصل على مستوى ممثل خامنئي في سوريا أو سفير إيران.

كذلك، اقتصرت الكلمات خلال الفعالية التي رصدتها «الشرق الأوسط» على كلمة سوريا وكلمة عوائل الشهداء وكلمة الفصائل الفلسطينية.

ومن المؤشرات أيضاً عودة اشتداد أزمة المحروقات (بنزين، مازوت) في مناطق الحكومة السورية في دلالة على تزايد ضغوط طهران وهي المورد الأساسي للمحروقات لدمشق.

كما كان لافتاً تبادل الرئيس الأسد برقيات تهنئة مع الكثير من قادة وملوك وزعماء الدول العربية بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، في حين وعلى غير العادة لم تنشر وسائل الإعلام السورية الرسمية السورية والإيرانية خبراً عن تبادل الرئيسين الأسد وإبراهيم رئيسي التهاني بهذه المناسبة؛ وهو ما حصل أيضاً مع حلول عيد الفطر.

السور الخارجي للقنصلية الإيرانية في دمشق وبدت صورة قائد قوات فيلق القدس قاسم سليماني الذي قتل في 2020 في غارة جوية أميركية استهدفته في محيط مطار بغداد الدولي (الشرق الأوسط)
السور الخارجي للقنصلية الإيرانية في دمشق وبدت صورة قائد قوات فيلق القدس قاسم سليماني الذي قتل في 2020 في غارة جوية أميركية استهدفته في محيط مطار بغداد الدولي (الشرق الأوسط)

أين روسيا؟

وعن موقف روسيا حليفة دمشق المقرّبة والتي قلب تدخلها العسكري نهاية سبتمبر (أيلول) 2015 موازين القوى، يقول خبير سياسي لـ«الشرق الأوسط»: «توجّس الروس من اتفاق أميركي - إيراني في المنطقة بعد (طوفان الأقصى)، ففعّلوا وجودهم العسكري والسياسي وبادروا إلى تعزيز صلاتهم بدمشق. في هذا الصدد، لعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دوراً مباشراً في التواصل من أجل تحييد النظام (السوري) عن حرب غزة عبر اتصالات مع دول عربية رئيسية وإسرائيل».

وكان التدخل الروسي العسكري حسم المعركة لصالح الحكومة السورية ومكّن الجيش من استعادة مساحات شاسعة من البلاد من يد فصائل المعارضة المسلحة، مقابل نفوذ قوي ومكاسب اقتصادية لموسكو في الكثير من مناطق الحكومة، مما أثار بدوره تنافساً بينها وبين طهران على كل شيء تقريباً من النفوذ إلى الاقتصاد وحتى الثقافة واللغة.

ويتابع الخبير قوله: «أكثر ما أقلق الروس في البداية إمكانية إبرام اتفاق إيراني - أميركي على المنطقة، ولاحقاً عملوا من أجل تحييد الأراضي السورية عن الصراع في غزة، وضمان عدم امتداد النار إلى منطقة نفوذهم في سوريا». وبرأيه: «الروس يعولون على خفض التصعيد في سوريا، في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية في أميركا».

وبعدما يلفت الخبير إلى الروس: «لديهم قلق حيال أي تصعيد في جنوب لنبان»، يقول: «لم يبادر الروس إلى ملء الفراغ الإيراني الآن نظراً لانشغالهم في أوكرانيا. فعلى المستوى الأكبر أظهرت التطورات الخاصة بضربة إسرائيل التي استهدفت القنصلية الإيرانية في سوريا، والرد الإيراني عليها، تراجع التأثير الروسي في عموم المنطقة».

ويختم الخبير قوله: «مع ذلك عكس الأسد اقترابه من الروس واستظلاله بهم في مواجهة الإيرانيين من خلال مقابلات مع وسائل الإعلام الروسية».

الرؤى المستقبلية

وترى الميليشيات العراقية في سورية امتداداً طبيعياً وبشرياً لها تسعى للهيمنة عليه، وفي هذا لا تختلف نظرتها لسوريا عن نظرة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، أما «حزب الله» فيرى في سوريا حليفاً طبيعياً وعمقاً استراتيجياً وممراً تسليحياً حساساً، ويعول عليها في احتواء تداعيات أي حرب إسرائيلية كبرى على جنوب لبنان، بينما الإيرانيون يهتمون بالموقع الاستراتيجي لسورية ومميزاته الاستراتيجية. كذلك يهتم الإيرانيون باستخدام الصوت السوري داخل جامعة الدول العربية، لكن رفض دمشق فتح جبهة الجولان أمام الإيرانيين، وإصرارها على موقف «النأي بالنفس» والبقاء ضمن الموقف العربي أغضب الإيرانيين وأصابهم بخيبة أمل.

إحياء يوم القدس في مخيم اليرموك وغاب عن الاحتفال التمثيل الإيراني الرسمي وصور قياديات إيرانية أو من «حزب الله» اللبناني (الشرق الأوسط)
إحياء يوم القدس في مخيم اليرموك وغاب عن الاحتفال التمثيل الإيراني الرسمي وصور قياديات إيرانية أو من «حزب الله» اللبناني (الشرق الأوسط)

ويحرص السوريون على إصدار بيانات مختلفة عن البيانات الإيرانية ويمكن الاستدلال من بياني وكالة «سانا» ووكالة الأنباء الرسمية الايراينة الرسمية (إرنا) المنشورين في أعقاب اتصال الرئيس الأسد لتعزية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في مقتل القادة الإيرانيين السبعة في القصف الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية بدمشق، حيث جاء البيان السوري مقتضباً، بينما كان الإيراني موسعاً وتضمن انتقادات لمواقف بعض الدول العربية.


مقالات ذات صلة

الجيش الإسرائيلي يقول إنه أطلق النار قرب نقطة لتوزيع المساعدات في غزة

شؤون إقليمية فلسطينيون يحملون إمدادات مساعدات تلقوها من مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة في وسط قطاع غزة (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يقول إنه أطلق النار قرب نقطة لتوزيع المساعدات في غزة

قال الجيش الإسرائيلي، اليوم (الثلاثاء)، إنه أطلق النار على أفراد على بعد نحو نصف كيلومتر من موقع لتوزيع المساعدات تابع لمؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من أميركا.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
الولايات المتحدة​ متظاهرون يرفعون شعارات عند تمثال جون هارفارد في جامعة هارفارد يوم 17 أبريل (أ.ف.ب) play-circle

هارفارد تسعى لإنهاء خفض التمويل لتهديده الأمن القومي وأبحاث السرطان والأمراض المعدية

طلبت جامعة هارفارد من قاضية اتحادية إصدار حكم مستعجل بإلغاء تجميد تمويل بقيمة 2.5 مليار دولار أمرت به إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية تصاعد الدخان جراء الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة (رويترز)

منذ هجوم «حماس»... صادرات الأسلحة الألمانية لإسرائيل تقارب نصف مليار يورو

منذ هجوم حركة «حماس» على إسرائيل قبل نحو 20 شهراً، وافقت ألمانيا على تصدير أسلحة إلى إسرائيل بقيمة تقارب نصف مليار يورو.

«الشرق الأوسط» (برلين)
المشرق العربي فلسطينيون نزحوا بسبب الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على قطاع غزة يسيرون في منطقة مخيم مؤقت أثناء الغسق بمدينة غزة (أ.ب) play-circle

مقتل وإصابة العشرات أثناء انتظارهم توزيع المساعدات برفح... وإسرائيل تعترف بإطلاق النار

أعلنت وزارة الصحة في غزة اليوم (الثلاثاء)، ارتفاع عدد قتلى هجوم إسرائيل قرب منطقة لتوزيع المساعدات في رفح إلى 27 شخصاً وأكثر من 90 إصابة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي جنود إسرائيليون في قطاع غزة (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل 3 من جنوده في شمال غزة

أعلن الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، مقتل 3 من جنوده في شمال قطاع غزة ما يرفع إلى 424 عدد العسكريين الإسرائيليين الذين قضوا منذ بدء عمليته البرية في القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

مجموعات «غاضبة» تظهر وتخبو في سوريا... أشباح افتراضية أم تنظيمات إرهابية تنمو في الظل؟

مقاتلون من «النصرة»يؤدون تدريبات عسكرية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا 16 أغسطس 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون من «النصرة»يؤدون تدريبات عسكرية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا 16 أغسطس 2024 (أ.ف.ب)
TT
20

مجموعات «غاضبة» تظهر وتخبو في سوريا... أشباح افتراضية أم تنظيمات إرهابية تنمو في الظل؟

مقاتلون من «النصرة»يؤدون تدريبات عسكرية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا 16 أغسطس 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون من «النصرة»يؤدون تدريبات عسكرية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا 16 أغسطس 2024 (أ.ف.ب)

عدّ لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترمب في الرياض بتاريخ 14 مايو (أيار) الماضي، مشهداً سياسياً غير مألوف في السياق السوري، ومفاجئاً. وإذ عبّر كثيرون عن فرحتهم بهذا اللقاء، فإن وقع الصدمة كان عميقاً داخل أوساط التيار المتطرف الذي تأسس خطابه اعتبار الولايات المتحدة عدوه الأبرز، حسبما تصوّره أدبياته.

اللقاء الذي جمع الشرع بترمب، وهو في مخيال الأوساط المتطرفة رمز للمنظومة الدولية المعادية، أطلق موجة ردود فعل متباينة وصل بعضها إلى حد التكفير. لم تتخذ هذه الردود طابعاً مركزياً أو منظّماً، لكنها ظهرت بتواتر عبر تطبيق «تلغرام» – الذي يُعدّ (للمفارقة) المنصة المفضلة للمجموعات الإرهابية – وفي جلساتهم المغلقة، وأحياناً في حسابات تابعة لهم على منصة «إكس». تباينت تلك المواقف بين التوجّس، والتكفير، والغضب، والتململ من سياسة الانفتاح التي ينتهجها الشرع تجاه الغرب، خاصة تجاه إسرائيل، والتبرير الشرعي لضرورة المرحلة.

مع ذلك، لا يمكن القول إن هذه المواقف تمثّل تياراً له ثقل داخل الدولة السورية الجديدة، أو داخل القوى الأمنية والعسكرية التي تشكلت بعد سقوط النظام السابق، خصوصاً أن الكتلة الكبرى ضمن هذه القوى – أي «هيئة تحرير الشام» سابقاً – تُبدي انسجاماً واضحاً مع سياسات الشرع ومواقفه السياسية والعسكرية والأمنية. فهذه الكتلة، التي شكّلت البنية الأساسية للجيش والأجهزة الإدارية الجديدة، لا تظهر أي مؤشرات على رفض خط الرئيس، بل تعدّه المسار الأنسب لقيادة البلاد في هذه المرحلة، ومعها بقية القوى التي انضوت تحت سلطة الدولة بمختلف مجالاتها.

تتكون هذه القوى من فصائل متعدّدة، أغلبها كان ضمن غرفة العمليات العسكرية التي أسقطت النظام السوري في دمشق. هذه الفصائل باتت اليوم جزءاً من الجيش السوري الجديد، وتُجمع غالبيتها على تأييد الرئيس الشرع، وترى في خطواته تجاه الخارج – بما فيها إسرائيل – ضرورة لمرحلة ما بعد النظام.

المبعوث الأميركي توماس برّاك يرفع علم بلاده وبجواره وزير خارجية سوريا أسعد الشيباني في مقر سكن السفير الأميركي في دمشق الخميس (أ.ف.ب)
المبعوث الأميركي توماس برّاك يرفع علم بلاده وبجواره وزير خارجية سوريا أسعد الشيباني في مقر سكن السفير الأميركي في دمشق الخميس (أ.ف.ب)

لكن، في مقابل هذا التماهي داخل المؤسسات، بدأت تظهر أصوات رافضة لهذا التوجّه من خارج بنية الدولة. ويبدو أن «سرايا أنصار السنة» هي الجهة الوحيدة التي تعبّر بشكل معلن عن هذا الرفض. الجماعة، التي ما زال يحيط بها كثير من الغموض، وتعدّ أحدث التنظيمات التي ظهرت على الساحة بعد سقوط الأسد، بدأت نشاطها من خلال قنوات مغلقة في «تلغرام»، وتبنّت خطاباً شديداً في التكفير والتهديد، دون أن تظهر على الأرض أو تقدم هوية تنظيمية واضحة. وكان أحد البيانات الصادرة عنها وتم تداوله أخيراً، يعلن أن التنظيم سيصعّد ضرباته في جميع المحافظات السورية وفي طرابلس في لبنان التي أعلن سابقاً عن نشاطه فيها.

وصحيح أنه حتى الساعة لا يبدو أن للتنظيم أي ثقل عملياتي على الأرض، لكن في هذه الأوساط تكفي أحياناً قلة لإطلاق «ذئاب منفردة» وزعزعة الأمن.

وكانت «سرايا أنصار السنة» قد أعلنت عن نفسها للمرة الأولى في فبراير (شباط) الماضي، ببيان تأسيسي تبنّت فيه عملية في قرية أرزة بريف حماة، أوقعت أكثر من عشرة قتلى من المدنيين. وركّز البيان على مفاهيم «الانتقام الطائفي» و«مهاجمة النصيرية والروافض»، وأكد أن الجماعة «لا مركزية» وتتبنّى أسلوب «الذئاب المنفردة» دون مقرات أو قيادة واضحة.

وبينما رفضت وزارة الداخلية السورية الإدلاء بتفاصيل حول الجماعة، أكدت أنها تتابع نشاطها من كثب، ما يشير إلى أن الدولة تأخذ التهديد على محمل الجد، رغم غياب البنية التنظيمية الملموسة.

من هم «سرايا أنصار السنة»؟

علمت «الشرق الأوسط» من مصادر مطّلعة في شمال سوريا، أن «سرايا أنصار السنة» هي الجهة التي أعلنت مسؤوليتها عن عمليات اغتيال في ريفي حماة وحمص، واستهدفت مدنيين من الطائفة العلوية، مبررة ذلك بأنه «انتقام» ممن وصفتهم بـ«الشبيحة» الذين لم تُحاسبهم الدولة، متهمين إياها (الدولة) بعدم الإيفاء بوعود تحقيق العدالة الانتقالية التي باتت مثار سخرية بعض ممن يسمونها «العدالة الانتقائية».

عناصر من الأمن الداخلي السوري خلال عملية إلقاء القبض على خلية لتنظيم «داعش» في ريف دمشق (أرشيفية - الداخلية السورية)
عناصر من الأمن الداخلي السوري خلال عملية إلقاء القبض على خلية لتنظيم «داعش» في ريف دمشق (أرشيفية - الداخلية السورية)

غير أن الجماعة لا تزال، حتى الآن، تفتقر إلى أي وجود علني ملموس، ولا تتعدى بياناتها المكتوبة حدود القنوات المغلقة. وتشير المصادر الخاصة إلى أن الجماعة تعتمد بالكامل على بث بيانات تكفيرية بلغة حادة، دون ظهور مرئي لقادتها. ومن أبرز الأسماء التي ظهرت في سياق هذه الجماعة، «أبو عائشة الشامي» و«أبو الفتح الشامي»، وهما اسمان مستعاران، يرجَّح أن صاحبيهما كانا سابقاً في صفوف «حراس الدين»، المنشق عن «القاعدة». وتشير المعطيات إلى أن الشخصين المذكورين أعادا التموضع ضمن خلايا صغيرة تنشط بشكل سرّي في مناطق محدودة من ريفي حمص وحماة.

وفي بيان نُشر على قناة للجماعة على «تلغرام»، شنّ «أبو الفتح الشامي»، الذي يُقدَّم بوصفه المسؤول الشرعي، هجوماً عنيفاً ضد الشرع، متهماً إياه بالكفر والردة. وجاء في بيانه لغة شديدة تُعيد تأصيل العداء مع الحكومة السورية الجديدة بوصفها «عدواً عقائدياً»، وليست فقط خصماً سياسياً. ومع ذلك، فإن الجماعة تتجنب حتى الآن الصدام المسلح المباشر مع الحكومة، وتُركّز على فكرة الانتقام من «الحواضن الاجتماعية» للنظام السابق.

هذا الخطاب – الذي يتمثّل في العداء العقائدي دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع السلطة – يعكس امتداداً للانقسام القديم بين تيار «القاعدة التقليدي»، والتيار المحلي الذي قادته «تحرير الشام» بقيادة الشرع. هذا الانقسام، الذي كان قد خفّ وهجه لفترة، عاد للواجهة بقوة بعد لقاء الشرع وترمب، وأعاد فتح باب الجدل في أوساط المنظّرين.

حفل تخرج لمقاتلين في «النصرة» في إدلب شمال سوريا في 16 أغسطس 2024 (أ.ف.ب)
حفل تخرج لمقاتلين في «النصرة» في إدلب شمال سوريا في 16 أغسطس 2024 (أ.ف.ب)

وعلمت «الشرق الأوسط» أن من بين أبرز الأصوات المتطرفة التي عبّرت عن رفضها العلني لسياسات الرئيس السوري أحمد الشرع، كان خالد أبو قتادة الأنصاري، القيادي البارز في تنظيم «حراس الدين» سابقاً، الذي وجّه اتهامات للدولة السورية بـ«الخيانة» و«الانحراف عن النهج».

وفي السياق ذاته، برز موقف سامر العلي (أبو عبيدة)، الشرعي السابق في «جبهة النصرة»، الذي وصف زعيم الرئيس أحمد الشرع بأنه «مرق عن المنهج» واتهمه بالتخلي عن ثوابت المشروع الأساسي لصالح حسابات سياسية.

أما خارج سوريا، فقد عبّر عدد من المنظّرين عن مواقف مشابهة، أبرزهم أبو عبد الله الشامي، أحد الأصوات البارزة على الساحة العراقية، منتقداً ماعدّه تحوّلاً جذرياً على حساب العقيدة.

وقد ظهر هذا الجدل بوضوح بين منظرين بارزين؛ فـ«أبو محمد المقدسي» جدّد خطابه الرافض للشرع، وعدّ تقاربه مع واشنطن وإسرائيل خروجاً عن «الثوابت»، بينما رأى «أبو قتادة» أن هذه التحولات قد تكون ضرورية في مرحلة ما بعد إسقاط النظام، لحماية مكاسب الثورة. هذا التباين يعكس انقساماً بين رؤية ترى في «الشرع مرتداً»، وأخرى تعدّ خطواته واقعية ومُبررة وتجعل منه رجل المرحلة.

لا معارضة داخل الحكومة

في هذا السياق، يرى القيادي العسكري السابق، أدهم عبد الرحمن، أنه لا يوجد تيار متطرّف واضح وثقيل يعارض سياسات الحكومة. وقال في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «هي سياسة سلطة وليست سياسة فرد، ولو أن الشرع هو من رسم طريقها. الرفض الشعبي أو الإسلامي لمسألة السلام مع إسرائيل موجود، لكنه اليوم أقل حساسية، وربما مع الوقت سيتبلور في شكل تيارات متعددة، لا تيار واحد، ولن تكون دينية متشددة فحسب، بل قومية وحزبية أيضاً».

ويضيف: «الجماعات المتطرفة المهاجرة تحديداً، تسير الآن نحو الاندماج، وتركز على المعيشة والحياة الطبيعية، حتى لو لم تقتنع تماماً بالسلطة الجديدة. هذا ما لاحظته في أكثر من حالة».

أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير 2025 (رويترز)
أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير 2025 (رويترز)

وحول إمكانية استغلال تنظيمَي «القاعدة» و«داعش» لهذا الامتعاض، يقول عبد الرحمن إن «تنظيم الدولة» يسعى بالفعل لإعادة ترتيب صفوفه، ويملك القدرة على جذب شرائح مهمّشة عبر شعاراته المعتادة. ومع ذلك، فإن الحكومة الجديدة، التي خرجت من تجربة تنظيمية أصيلة، وتراكمت لديها خبرات أمنية وعسكرية كبيرة خلال سنوات الحرب، لا تبدو لقمة سائغة أمام هذه التحديات.

تباينات في «تحرير الشام»

يرى الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، أحمد سلطان، أن هناك تبايناً بين تيارات داخل «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل العمود الفقري للدولة السورية الجديدة. بعض هذه التيارات لا يزال يميل إلى السياسة المتشددة التقليدية ويبدو غاضباً من سياسة أحمد الشرع، من دون أن يمتلك تصوراً واضحاً لمفهوم الدولة المرجوّ بعد سقوط النظام السابق. إلا أنه لا يزال يؤمن بوجهة النظر التقليدية التي تعدّ مجرد التواصل مع «الأعداء» معادلاً للردة.

في المقابل، هناك تيار آخر موازٍ يرى في الانفتاح السياسي «تكتيكاً وضرورة مرحلية». وأكد سلطان أن إدارة الشرع تراوح بين التيارين لاحتواء الغاضبين، بهدف الحفاظ على تماسكها، لا سيما في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها سوريا.

وقال الباحث لـ«الشرق الأوسط»: «التيار الرافض لا يبدو أنه الكتلة الكبرى. الكتلة الكبيرة هي التي تتماهى وتساند الشرع، وهي التيار الأقوى. إدارة الشرع حسمت أمرها بأنها لن تسير مع التيار المعارض أو المتوجس من الانفتاح، وقد يتم التفاهم معه تفادياً لأي خطر، خصوصاً أن الشرع يدرك أن القبول الدولي به قائم على كبح التيارات الأكثر تشدداً».

مخاوف من انشقاقات وتأهب للحسم

عدّ سلطان أنه في حال حدوث انشقاقات داخل «تحرير الشام»، التي تُعد العصب الأساسي في الدولة السورية، فإن ذلك سيكون مهدداً لتماسك إدارة الشرع، كما هو حالها الآن، وقد يؤدي إلى اقتتال داخلي يؤثر على الدولة كلها.

وبحسب الباحث تستعد الإدارة الآن لحسم ملفات مهمة، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي البلاد، وملف المقاتلين الأجانب، وضبط الحدود وتكريس سلطتها؛ لذلك لا بد من احتواء التيارات المتشددة. ويقول: «لدى الشرع وسائل عملية لتفادي مخاطر التيارات المتشددة داخل حكومته، مثل الاحتواء قدر الإمكان، عبر الدروس الشرعية واستخدام النص الديني الذي يقنع تلك الجماعات بضرورة الوحدة والتكاتف لتجاوز مخاطر المرحلة. لا سيما أن بعض الشرعيين المقربين من الشرع لهم ثقل وهيبة لدى التيارات المتشددة، ومن ثمّ يمكنهم إقناع هؤلاء في حال بدأت الخلافات تتعمق».

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

ويشير سلطان إلى أن من بين الوسائل أيضاً «الاستئصال» لبعض الأجسام أو المكونات التي لا يمكن إقناعها بالوسائل الشرعية، ويختتم بالقول: «في النهاية، لن يتهاون الشرع مع عقلية التيار المتشدد إذا قرر الذهاب باتجاه التشويش والتحريض، وسيلجأ إلى أدوات قد تصل إلى حد الاعتقال أو التصفية».

الاحتقان يهدد الحاضنة الشعبية

يقول محمد الإبراهيم، المعروف باسم «أبو يحيى الشامي»، وهو قائد عسكري سابق في أحد الفصائل الإسلامية ومطّلع على تقلبات الجماعات المتطرفة، إن المشهد السوري لا يزال معقداً، ولا يمكن التنبؤ بما قد يحدث. ويضيف: «سوريا اليوم فيها قوى كثيرة، وإذا أرادت الحكومة أن تستمر، فعليها ألا تخسر حاضنتها الكبرى من الثوار».

أبو يحيى الشامي شدد على أن «التكفير هو سلاح الغلاة والدواعش، وهو أمر مرفوض من قبلنا ومن قبل كثيرين داخل الحركة الإسلامية». ورأى أن مواجهة الأخطاء والاجتهادات الخاطئة لدى السلطة يجب أن تتم بوسائل علمية ومجتمعية متزنة، قائلاً: «لا يوجد شيء اسمه تشويش شرعي، فالشرع هو المعيار الذي يحكم على صحة أو بطلان الأفعال».

سوريون يحتفلون في ساحة الأمويين في دمشق بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب برفع العقوبات عن سوريا 13 مايو 2025 (أ.ف.ب)
سوريون يحتفلون في ساحة الأمويين في دمشق بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب برفع العقوبات عن سوريا 13 مايو 2025 (أ.ف.ب)

وأشار إلى وجود مخاوف من تأثر بعض الشباب المتحمسين أو الغلاة بخطاب الجماعات المتطرفة، مؤكداً أن «أهل الخبرة والوعي يعملون على احتواء هذه النزعات، لأنها لا تحل المشكلات بل تفاقمها».

وحذّر الإبراهيم من استغلال تنظيم «داعش» لحالة الاحتقان في بعض الأوساط السلفية، وقال إن التنظيم ينشط في البيئات التي يسودها الجهل والغلو، وقد يستفيد من المنشقين من التيارات المعارضة للإدارة الجديدة وهؤلاء الذين يعانون ضغط الحكومة على من عاشوا تجربة القتال ورفع الشعارات، ليصطدموا لاحقاً بواقع سياسي مختلف.