الشقير لـ«الشرق الأوسط»: تراث الدولة السعودية الأولى تعرض للطمس والتهميش

شرح كيف جمعت الدرعية الناس من حضرموت إلى الشام كأنهم أبناء رجل واحد

 تجمع في أحد الأسواق ويبدو طراز الملبس والزي (الشرق الأوسط)
تجمع في أحد الأسواق ويبدو طراز الملبس والزي (الشرق الأوسط)
TT

الشقير لـ«الشرق الأوسط»: تراث الدولة السعودية الأولى تعرض للطمس والتهميش

 تجمع في أحد الأسواق ويبدو طراز الملبس والزي (الشرق الأوسط)
تجمع في أحد الأسواق ويبدو طراز الملبس والزي (الشرق الأوسط)

أكد الباحث السعودي المتخصص في علم الاجتماع والإنثروبولوجيا، الدكتور عبد الرحمن الشقير، أن الدولة السعودية الأولى عند قيامها سعت إلى دعم الإبقاء على التجانس الاجتماعي بتعزيز الأمن وفرض العقوبات الصارمة ضد الجريمة والسرقة وتهديد الأمن الاجتماعي، ما كان له أثر كبير في إيجاد بيئة صحية للمجتمع المنجز والحيوي والمتفاعل مع العالم من حوله.

وشدّد الشقير، في حوار مع «الشرق الأوسط»، بمناسبة ذكرى يوم التأسيس على يد الإمام محمد بن سعود، على أن هذا التراث الضخم تعرض للطمس والتهميش، ما جعل كثيراً من المؤرخين يصف المجتمع بالكسل وعدم الإنجاز والفقر، كنوع من «الاستشراق الذاتي» أو «المحلي». ويقصد بذلك تسلط المؤرخين المحليين بالاعتداء على تاريخهم، إذ تأثروا بما تم تأسيسه لهم من تاريخ مضلل لـ3 عقود، وكأن «الميت يقبض على الحي»، وهي قبضة رمزية منغرسة في اللاوعي، تمثلت في متابعة النصوص بلا فحصها، وهيمنة المؤرخ السابق على اللاحق. ولفت الشقير أن التراث المحلي السعودي هو في الحقيقة بوابة عبور للعالمية.

واعتبر الشقير أن البحث في النواحي الاجتماعية وممارسة الحياة اليومية للناس العاديين في زمن الدولة السعودية الأولى يعدّ من أهم دراسات علم الاجتماع المعاصر، لأن ذلك من مقاييس المجتمع المنجز للهوية والثقافة والتراث والقيم.

وكان المجتمع السعودي، قبل ضمّ بلدانه للدولة السعودية وبعدها، يعيش حياته اليومية بقوة العادات والتقاليد والتعاون، ويقوم نشاطه على الزراعة والرعي والتجارة والعلم والمهن والصناعات البسيطة، وكان لذلك دور كبير في تجانس المجتمع وضبط دورة حياته.

الدرعية على الخارطة وامتدادات علاقاتها في المحيط (الشرق الأوسط)

وعندما برزت الدولة السعودية الأولى، سعت إلى دعم الإبقاء على التجانس الاجتماعي بتعزيز الأمن وفرض العقوبات الصارمة ضد الجريمة والسرقة وتهديد الأمن الاجتماعي، ما كان له أثر كبير في إيجاد بيئة صحية للمجتمع المنجز والحيوي والمتفاعل مع العالم من حوله.

وحول ما إذا كان الأمن أحد مكونات هوية المجتمع وعن علاقته بالتراث، رأى الشقير أنها علاقة عضوية. وذكّر بفكرة أن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وذلك يبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه عوامل الإبداع والإنتاج. لذا، فإنه بعد تأسيس الدولة السعودية الأولى، واكتمالها، برز الأمن كأحد أهم المعايير التي تمت المحافظة عليها. وكان عهد الإمام عبد العزيز بن محمد مضرب مثل في الأمن، وشهد بذلك خصوم الدولة قبل مؤرخيها، فيذكر المؤرخ أحمد زيني دحلان اعترافاً بالفضل في التجانس الاجتماعي بسبب تأمين حياة الناس، ويذكر المؤرخ عثمان بن سند الفيلكاوي البصري أن الدولة السعودية الأولى أمنت جزيرة العرب، ومنعت قتال القبائل، وأصبح الناس من حضرموت إلى الشام أبناء رجل واحد.

ويعدّ الأمن المادي على الممتلكات أحد أسباب الأمن الروحي والنفسي، وهي الأرضية الصلبة التي تبني فيها الشعوب هويتها الثقافية وحضارتها وتراثها المادي وغير المادي.

تاريخ مضلل غيّب المنجز

وعن الهوية الثقافية، قال الشقير إنه حيثما يوجد مجتمع متفاعل ونشط، توجد الهوية الثقافية، وينشأ بداخله تراث وعادات ومصفوفة قيم تحكم سلوكه. ومرّ تراثنا المحلي بـ3 مراحل أساسية...

أولاً؛ أن أكثر تراثنا المادي وغير المادي قد تأسس في ما يمكن تسميته بـ«مجتمع العصر الوسيط» (بين عامي 600 - 1139هـ) وبدأ قبل قيام الدولة السعودية. وعندما برزت الدولة، عززت ذلك التراث ورسخته.

وثانياً؛ أن هذا التراث الضخم تعرض للطمس والتهميش، ما جعل كثيراً من المؤرخين يصف المجتمع بالكسل وعدم الإنجاز والجهل والفقر، وهذا يشكل «الاستشراق الذاتي» أو «المحلي»، ويقصد به تسلط المؤرخين المحليين بالاعتداء على تاريخهم.

وثالثاً؛ تأثر المؤرخين والباحثين السعوديين على مدى 3 قرون بما تم تأسيسه لهم من تاريخ مضلل، وهذا ما أسميته بحالة «الميت يقبض على الحي»، وهي قبضة رمزية منغرسة في اللاوعي، تمثلت في متابعة النصوص دون فحصها، وهيمنة المؤرخ السابق على اللاحق.

وهذا ما حفز للإسهام البسيط في توثيق مشروع «الذاكرة الشعبية»، من خلال استكشاف الممارسات اليومية للإنسان العادي في المجتمع السعودي، مثل: تحولات قيم الفلاح والراعي والصياد، و«طقوس العبور» وهي العادات الاجتماعية للتعامل مع المراحل الحاسمة للإنسان، كالولادة والزواج والموت، وسياحة الصيف المتمثلة في المقياض، وسياحة الشتاء المتمثلة في المكشات، وسياحة الربيع المتمثلة في المقناص، ما يؤكد على أن المجتمع ديناميكي ومتفاعل مع البيئة وقادر على صناعة بهجته بإمكاناته المحلية.

وهذا يعني أن تاريخ المملكة كان يسير على مسارين تاريخيين مختلفين خلال 3 قرون. هما مسار رؤية المجتمع من منظور ديني، وهي الرؤية المهيمنة سابقاً، ومسار رؤية المجتمع من منظور الحياة اليومية، وهي التي تنتمي إلى روح الدولة السعودية. والدليل على ذلك أن أئمة الدولة أقروا المذاهب الدينية، واستمرت بعض البلدان في الانتماء لمذاهب فقهية غير المذهب الحنبلي، وعينت الدولة قضاة للشيعة في أماكنهم، وأمنت الأهالي لممارسة نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي دون تغيير. وذلك التاريخ طال إهماله، على رغم أنه ينتمي لطبيعة الدولة، ويؤكد انفتاحها وسياستها التي أسهمت في بقائها قوية. فإن خسرت معركة أو سقطت عادت قوية بقادتها وسواعد أبنائها.

وعن مصادر الهوية المحلية، يشرح الشقير أن جوهر الهوية والثقافة والفنون والتراث المادي وغير المادي الذي ينظم سلوك إنسان اليوم يكمن في مجتمع العصر الوسيط؛ وذلك لوقوع العصر الوسيط بين عصرين كبيرين، بينهما تمايزات معرفية وواضحة مع الحقب التاريخية التي بعدهما وما قبلهما، وهما الحقبة الزمنية الطويلة التي تفصل بين العصر الإسلامي، وعصر الدولة السعودية الأولى. فبقي العصر الوسيط بينهما مجهولاً ومهملاً، ولكنه واضح الملامح والسمات لمن يمتلك أدوات منهجية جديدة.

أولاد يلهون قرب سور من أسوار الأحساء يظهر جانباً من الحياة اليومية (الشرق الأوسط)

وبالتالي عند الحديث عن بعض أوجه الحياة الشعبية المعاصرة، مثل: عادات الزواج، والعرضة أو رقصة الحرب وبعض الفنون والألعاب والأمثال الشعبية، والتراث غير المادي عامة، فإننا نتحدث عن منجزات المجتمع في العصر الوسيط؛ لأنها لا تنتمي للعصر الإسلامي الذي سبقها، ولا للتراث السلفي. فقامت الدولة السعودية على تراث موجود، واحتوته بدعم ثقافتها الرئيسة، والثقافات الفرعية التي تنتمي لمختلف المناطق والقبائل.

منجز حضاري للدولة الأولى

ولا شك أن مصادر الهوية الثقافية متعددة وتنبع من الذاكرة الجمعية المتراكمة على مدى أجيال، التي أطلق عليها الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو «الهابيتوس». وبدأت معالمها بوضوح مع العصر الثمودي قبل 3 آلاف عام تقريباً، بممارسات الإنسان العادي وتفضيلاته للإبل والنخل والصيد مثلاً، وقد صدر مؤخراً كتاب «حضارة منقوشة على حجر... الشعب الثمودي» للتأكيد على الانتماء المكاني والثقافي.

كما سنّت القبائل العربية في الجاهلية بعض العادات والقيم، وجاء الإسلام وأضفى الروح الدينية ونبذ بعض قيم الجاهلية وعزّز بعضها الآخر، وكل عصر تاريخي يضفي شيئاً من التراث غير المادي.

كما أن منجزات الإنسان في الدولة السعودية الأولى تبرز بوضوح المعاني الاجتماعية والنفسية المثقلة بالبيئة الحية كالإنسان والحيوان والنبات، والبيئة غير الحية، كالجبال والأودية والرمال والنجوم والماء والمناخ، حيث انعكس تعامل الإنسان معها بوصفها كائنات حية، وخطّط بلدانه ونظم أشعاره وتصوراته عن العالم في محيطها.

«نجد... القصة الكاملة»

في دراسة العصر الوسيط نصل إلى قناعة كبيرة بأن المستقبل لا يمكن أن يفهم إلا بفهم التاريخ وتشخيص الواقع، بحسب الشقير. وذلك وفق مناهج بحثية متقدمة وقادرة على تجاوز ركام التضليل. ولإيمان الشقير بهذه الفلسفة، فقد انشغل 8 سنوات بدراسة المجتمع النجدي على مدى مئات السنوات، وأسماه مبدئياً «نجد... القصة الكاملة». ويقول: «حاولت الإمساك بالسلك الناظم للمجتمع عبر خط الزمن الطويل باستخدام مناهج وأساليب بحث جديدة، ووجدت نظريات جديدة على مستوى العالم العربي وليس المحلي فقط».

من أبرز الخلاصات أن المجتمع هو الأصل، وأن الدولة تكتسب رسوخها برعايتها للمجتمع وتعزيز قيمه وثقافاته الفرعية، وهذا ما حققته الدولة السعودية، ولم يحققه من كان قبلها.

كما أن سقوط الدولة العباسية في منتصف القرن السابع الهجري كان إيذاناً بنهوض حضارة نجدية غير مسبوقة. وهي أنه عندما ضعفت الدولة العباسية الثانية، منذ القرن الثالث الهجري وما بعده، تسبب هذا الوضع الجديد في إهمال منطقة نجد وكثير من مناطق جزيرة العرب، وبعد انهيار الحضارة الإسلامية في القرن السابع الهجري، كانت منطقة نجد تعيش عزلتها. لذلك لم تستفد من النهضة ولم تتأثر من السقوط، وكان تهميشها إيذاناً لها باستقبال زيادة كثيفة من السكان الذين يبحثون عن الأمان البعيد عن مناطق الصراع، والبدء ببناء نهضتها الخاصة بها بعدما أصبح العالم الإسلامي مشتتاً.

وبدأت منطقة نجد تعيش في مطلع القرن السابع الهجري طفرة سكانية واجتماعية واقتصادية وعمرانية غير مسبوقة، وتحولت إلى معمل ضخم لإنشاءات البلدان والقرى الزراعية وترميم شبكة الطرق وشقّ طرق جديدة. وربما كانت تلك أكبر عملية إنشاء حواضر في المنطقة العربية، وبالتالي فإن سقوط الدولة العباسية شكّل مرحلة مخاض عربية وإسلامية كبيرة، تركت فراغاً حاول المماليك ملأه، ثم العثمانيون. ولكن الدولة السعودية كانت الأوفر حظاً لتقبلها من العالم الإسلامي، لقوة العروبة والقرب المكاني من الحرمين الشريفين والوعي السياسي السعودي بهذا الفراغ.

وهذه الرؤية الجديدة من الأفكار الأساسية، على اعتبار أنها تنقض وجهات النظر السائدة حول التاريخ النجدي، بتحويل مؤشر النهضة النازل إلى مؤشر صاعد بمقاييس التحضر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني، وتقدم نقداً لكثير من الآراء السائدة والمتداولة، وهنا جوهر الفرق بين النتائج المستندة إلى نقل النصوص المتداولة، والنتائج المستندة إلى دلائل وتحليل ومناهج بحث مبتكرة وموثوقة.

وعلى المستوى المصغر، فقد درس الشقير بعض المحاور وكتب عن؛ إسكان الغريب وتاريخ الفنادق في نجد، وتواريخ الغرفة، والباب، والإضاءة، والقيمة المضافة وأجرة العامل والضريبة، وتحليل المجتمع من الفتاوى والشعر الشعبي والأساطير الشعبية، واستنطاق المعاني والرموز الاجتماعية المرفقة بها.

الدرعية تجمع هوية المجتمع السعودي

يحمل الاهتمام بقضايا الهوية والتراث قيمة مضافة ومستدامة تصبّ في مشروع متكامل. فالشعوب التي تمتلك المخزون التاريخي والحضاري الحي، يمكنها الصمود أمام الأزمات فتستمد قوتها المعنوية من تاريخها.

ولدى مناطق المملكة مخزون حضاري وتراث كبير شامل لكافة عصورها التاريخية وجميع مناطقها؛ فهي تمتلك منتجاً لغوياً وتراثاً أدبياً كبيراً في الجاهلية، ومساهمة في الفتوحات الإسلامية في صدر الإسلام، وهذه لا تزال محفوظة على رغم أنها تتعرض للاستلاب التاريخي والفني والإعلامي، كما حققت حضارة عمرانية ومنظومة قيمية في العصر الوسيط، وهذه ما زالت مجهولة.

ولهذه التداعيات التاريخية والسياسية، يرى الشقير أن الدرعية ما زالت تمتلك روحاً مشعة تجمع هوية المجتمع السعودي، كما كانت عليه في زمن الدولة السعودية الأولى، ولا يستبعد أن تعود عاصمة للدولة كما كانت، ويعاد دمجها وفق مخطط تاريخي ثقافي أوسع لعواصم الدولة التاريخية، وأن تشكل توأمة مع يوم التأسيس الذي انطلق عام 1139هـ - 1727م ليحكي قصة تاريخ متصل منذ 6 قرون.

ويمتلك الشقير منتجاً معرفياً قيماً وعشرات من الدراسات والأبحاث التي تجمع بين الاجتماع والتاريخ والإنثروبولوجيا، فجمع تلك الخبرات ووظفها في دراسة المجتمع السعودي. وعن ذلك، يقول: «في الواقع بدأت مسيرتي الفكرية واهتمامي بالتطور التاريخي للمجتمع منذ نشأتي. وكنت كثير الترحال بين مناطق المملكة ومجالسة الرواة والأعيان في كل بلد أزوره، وقراءة تاريخها وتراثها وأدبها، وقد كتبت كثيراً عن المجتمع، ولكن لفت انتباهي في السنوات الأخيرة ظهور أجيال من القراء المنصهرين في التراث الأدبي العالمي، يتابعون بشغف الروايات والقصص الأميركية والأوروبية والروسية وما فاز منها بجائزة نوبل للأدب وغيرها. وراهنت على أن تراثنا المحلي وأدبنا الشعبي هو بوابة العبور للعالمية. وسبق لكثير من الباحثين أن أكدوا على أن العالمية تبدأ من المحلية، وبدأت في الكتابة عن العادات والظواهر المنغرسة في المجتمع، وكل ما يبدو أنه لا يستحق التحليل، وحققت قبولاً بين أجيال الشباب السعودي، وأخبرني بعضهم أنه عاد لقراءة الروايات السعودية، وبعضهم عاد لقراءة الأساطير الشعبية والأدب الشعبي، وهم مندهشون لما في مجتمعهم مما يوازي الأدب العالمي من الإبداع».


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

TT

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)
أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)

لم يكن خالد يعلم أن مقابلته هذه ستعيد فتح باب من الماضي.

عندما بدأ يتحدث، كانت نبرة صوته مألوفة بطريقة غريبة، لكنني لم أستطع أن أحدد السبب على الفور. بدا خالد (اسم مستعار) متردداً في البداية، وكأنه يخشى أن يقول أكثر مما ينبغي، ثم انساب الحديث بحرية أكبر، حتى وصلت المقابلة إلى نقطة جعلت قلبي يخفق بقوة.

«كنت في الثالثة عشرة عندما أصبحت سجاناً. لم يكن لدينا خيار. كانوا يعطوننا أوامر، وإذا رفضنا، نتعرض للعقاب. كنت أفتح الأبواب، أقدم الطعام، وأراقب السجناء. بعضهم كان يبكي، بعضهم كان يصرخ، وبعضهم كان صامتاً طوال الوقت. كنا نعاملهم كأعداء، حتى لو لم نفهم لماذا كانوا هناك».

عند هذه الجملة، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. سجن الميادين. عام 2015. طفل في الثالثة عشرة مكلف بمراقبتي أنا وبقية السجناء. بدأت أتذكر تلك الفترة القاتمة من حياتي، عندما تم اعتقالي في سوريا لأنني رفضت العمل صيدلانياً مع تنظيم «داعش» الذي كان مسيطراً على المنطقة. شهدت تلك الفترة محاولات التنظيم الحثيثة لضمان الولاء الكامل، خاصة من أصحاب الاختصاصات الطبية. من لم يعلن ولاءه، كان مصيره الاضطهاد، الملاحقة، وأحياناً الاعتقال.

كنت واحداً ممن وقعوا في هذا المصير. لم يأتِ اعتقالي من العدم. في إحدى الليالي، طرقوا باب منزلي بعنف. لم يكن السبب معلناً في البداية، لكنني علمت لاحقاً أن جاري، وهو أحد عناصر التنظيم، وشى بي. ادّعى أنني أخالف الشريعة لأنني كنت أستمع إلى الأغاني. كانت تلك التهمة كافية ليقتادوني إلى السجن، وهناك التقيت بسجاني الصغير.

السجّان الصغير

اليوم وفيما أجري هذه المقابلة من ضمن 17 شهادة جمعتها حول «أشبال الخلافة» توالت الأسئلة في ذهني، فكبحت اندفاعها. لم أكن أريد أن أسأل مباشرة، لكن الفضول بدأ ينهشني.

طرحت أسئلة ملتوية، حاولت من خلالها أن أتأكد من شكوكي دون أن أثير انتباه خالد وقد بلغ منتصف العشرينات. ولكن عندما بدأ يصف السجن، وممراته، ووجبات الطعام القليلة التي كانت تُقدم للسجناء، والطريقة التي كان يُؤمر بها بفتح الأبواب وإغلاقها، قطعت الشك باليقين. لقد كان هذا الصبي سجاني. صراع داخلي انتابني، ولم أعرف كيف أتصرف. جزء مني أراد أن يواجه خالد بالحقيقة، أن يخبره أنني كنت هناك، وأنه كان أحد أولئك السجانين الذين وقف أمامهم صامتاً وهو يحمل المفاتيح. لكن جزءاً آخر مني رفض الفكرة.

كيف سأخبره بذلك؟ ماذا سيفيده أن يعرف؟ اليوم أدرك أن خالد لم يكن سوى طفل، مجرد أداة في يد قوة أكبر منه بكثير. أي غضب قد أشعر به، أي كراهية أو استياء، لا يمكن توجيهها إليه. لكن رغم كل هذه التبريرات، لم أستطع تجاهل الشعور المتناقض الذي اجتاحني. أنظر إلى خالد، وأحاول منطقياً أن أراه بمعزل عن ماضيه، لكنني عاطفياً لم أستطع الفصل بين الاثنين.

«هل كنتَ قاسياً على السجناء؟» سألته. تنهد وأطرق رأسه، كأنه يحمل ثقلاً لا يمكن احتماله: «أحياناً كنت أحاول أن أكون لطيفاً فأعطي بعضهم طعاماً أكثر، أو أترك الباب مفتوحاً لبضع ثوانٍ إضافية. لكن في أحيان أخرى... كنت قاسياً. كنت خائفاً أيضاً. فإذا تهاونت، كانوا سيضعونني في السجن معهم». كلماته ضربتني بقوة.

لم أعرف إذا كان خالد يتذكرني، أو أنني مجرد سجين من عشرات مروا عليه، لكنني أعرف الآن أنه كان هو أيضاً يعيش صراعاً داخلياً ربما لم يحسمه بعد.

شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)

فوضى ومساومات

على رغم المصادفة الغريبة إلا أن قصة خالد ليست فريدة من نوعها. هي واحدة من 17 شهادة حية تم جمعها على مدار الأشهر الستة الماضية تقاطعت فيها تجارب الماضي المؤلمة بتحديات الحاضر والمستقبل، نركز فيها على مسار شخصيتين نرصد عبرهما مآلات التنظيم في سوريا اليوم؛ خالد، السجان الذي يحاول التعايش مع ماضيه وسامي (اسم مستعار) الفتى الذي عاش تجربة مواجهة الضحية في أضعف لحظاتها. تتقاطع هاتان الشهادتان مع شهادات أخرى تكشف عن أثر العنف الممنهج والتجنيد القسري على مستقبل هؤلاء الأطفال وتوثق تجربة جيل كامل سُرقت طفولته، لكنها أيضاً تطرح أسئلة ملحة حول هزيمة التنظيم فعلياً أو احتمالات نهوضه من جديد.

فبعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها سوريا، على أثر سقوط نظام بشار الأسد واستلام «هيئة تحرير الشام» عبر الإدارة الجديدة زمام المرحلة، يواجه هؤلاء الشباب تحديات جديدة في ظل بيئة مضطربة تزداد تعقيداً، إذ تثير الفوضى الأمنية والفراغ الناجمين عن إعادة توزيع السيطرة بين الفصائل المختلفة مخاوف من عودة نشاط التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، في وقت لا تزال «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، تمسك بملف بالغ الحساسية، هو معتقلي التنظيم من رجال ونساء وأطفال لديها.

ويعد هذا الملف ورقة مساومة سياسية تستخدمها «قسد» للضغط على القوى الدولية والإقليمية لضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي لها. ومع غياب حلول واضحة أو خطط فعالة للتعامل مع هذه الفئة، يظل الخطر قائماً من استغلالهم مستقبلاً لتحقيق مكاسب سياسية أو لتعزيز نفوذ عسكري في المنطقة، خصوصاً مع احتمالات تفكيك معتقل «الهول» وخروج أعداد إضافية منهم إلى المجهول.

«داعش» يهدد سوريا الجديدة

مع إصدار التنظيم بياناً حديثاً يهاجم فيه الحكومة السورية الجديدة ويتوعدها إذا «حادت عن طريق الصواب»، تتزايد المخاوف من أن هذه التهديدات ليست مجرد تصريحات دعائية، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة فرض نفسه على المشهد السوري.

ولا تزال جيوب تنظيم «داعش» نشطة في البادية السورية والعراقية، حيث تنفذ خلاياه عمليات اغتيال وتفجيرات متفرقة، إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذه العمليات المحدودة، بل في قدرة التنظيم على الاستفادة من الثغرات المتزايدة لإعادة ترتيب صفوفه.

ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض القوى المحلية، سواء من فلول النظام السوري السابق أو حتى قوات سوريا الديمقراطية، قد تجد في استمرار التهديد الداعشي أداة يمكن استخدامها لزعزعة الاستقرار الهش وللحصول على دعم إضافي، سواء من التحالف الدولي أو من الجهات الفاعلة في المشهد السياسي السوري حيث قد يُسمح للتنظيم بتنفيذ عمليات معينة، أو يتم التغاضي عن تحركاته، أو يتم تكليف أفراد منه بمهام في سياق صراعات النفوذ والضغوط السياسية المتبادلة.

سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)

ويمتلك التنظيم من جهته دافعًا قويًا للانتقام من هزائمه السابقة، خصوصاً أن قياداته تدرك أن خسارة الأرض لا تعني بالضرورة نهاية الآيديولوجيا. ولذلك، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء نفسه عبر استغلال عدة عوامل، من بينها المظالم المحلية، والانقسامات العشائرية، والتدهور الاقتصادي، وحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الكثير من مقاتليه السابقين، بمن فيهم أولئك الذين تم تجنيدهم أطفالاً تحت راية «أشبال الخلافة».

هؤلاء، الذين نشأوا في بيئة الحرب والعنف، يواجهون اليوم واقعاً قاسياً: مجتمعاتهم الأصلية ترفضهم، والفرص الاقتصادية تكاد تكون منعدمة، بينما تلاحقهم وصمة الماضي أينما ذهبوا. ومع غياب برامج إعادة تأهيل فعالة، يظل خطر عودتهم إلى التنظيم قائماً، خاصة في ظل استمرار محاولات «داعش» استقطابهم، إما عبر الإغراءات المالية، أو عبر استغلال شعورهم بالعزلة وانعدام المستقبل.

فهل يشكل هؤلاء الشباب، الذين كبروا بين فوهات البنادق، قنابل موقوتة تهدد استقرار سوريا؟

أو أنهم ضحايا ظروف قاسية، تعلّموا منها وينتظرون إعادة دمجهم في المجتمع ليكونوا جزءاً من الحل بدلاً من المشكلة؟

كابوس الماضي الثقيل

«أستيقظ كل ليلة على صراخي. أرى وجوههم في أحلامي. أطفال مثلي، اختفوا واحداً تلو الآخر. بعضهم قتل في المعارك، وبعضهم حاول الهرب فأُعدم. كنت أتظاهر بالنوم حتى لا أسمع بكاءهم في الليل». يقول سامي الذي يبلغ اليوم 24 عاماً عن رحلته المؤلمة ضمن «أشبال الخلافة» في سوريا، وهو بعمر لم يتجاوز الخامسة عشرة، رحلة لم تنتهِ بسقوط التنظيم، بل تحولت إلى كابوس مستمر يطارده في نومه ويقظته على حد سواء ويعيش معركة يومية مع نفسه دون أن يدري إن كان سينجو أم لا.

وعلى رغم أن كلا من خالد وسامي خرجا من كنف التنظيم، لكن حياتهما لا تزال تحمل آثار الماضي.

يعيش خالد في إحدى قرى إدلب، يعمل في محطة وقود، بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه. وبعدما اضطر للعيش مع خاله والزواج من ابنته، وجد نفسه في دوامة فقر لا مخرج منها. فهو لم يكمل تعليمه ولم يكتسب صنعة تعينه.

أما سامي، فيعيش في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، حيث يحاول إعادة بناء حياته في ظل تحديات اقتصادية وملاحقات أمنية مستمرة.

سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)

كثيرون ممن خرجوا من تجربة «أشبال الخلافة» توزعوا في أماكن مختلفة، تتفاوت فيها ظروفهم المعيشية بين الصعوبة والاستقرار. سامي القادم من حماة اضطر لتغيير اسمه والسكن في ريف دير الزور الشرقي خوفاً من الانتقام والوصمة الاجتماعية. بعضهم يعيش في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، يواجهون البطالة وانعدام الاستقرار، بينما اضطر آخرون إلى تغيير أماكن سكنهم بسبب الخوف من محيطهم الاجتماعي.

في تركيا وإقليم كردستان، يعمل الناجون في مهن شاقة، مثل البناء ومعامل النسيج أو التنظيف، لساعات طويلة وفي ظروف قاسية.

وبدأ بعض هؤلاء الشباب بتلقي الدعم النفسي، والبعض القليل وجد طريقه في العمل أو الدراسة، محاولين ترك الماضي وراءهم خصوصاً إذا ما حظوا بدعم أسرهم.

لكن التحدي الأكبر يبقى في نظرة المجتمع لهم كقنبلة موقوتة، لا كأطفال سرقت طفولتهم، ويستحقون فرصة حياة.

يقول سامي: «عندما يعرف الناس قصتي، أرى الخوف في أعينهم. لا يريدون الاقتراب مني، رغم أنني لم أختر تلك الحياة».

أما خالد، فيجد صعوبة حتى في الحديث عن ماضيه: «كيف يمكنني أن أشرح؟ كيف أقول إنني لم أكن أملك خياراً؟».

ورغم اختلاف مصائرهم، فإن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو صعوبة التخلص من الظلال الثقيلة للماضي وهم يتأرجحون بين كونهم ضحايا أو جلادين أو تهديدات أمنية محتملة.

أن تأخذ سبية أو تشهد إعداماً

يتذكر سامي حين جُنّد وهو طفل، يوماً محدداً غيّر مجرى حياته بالكامل. يوم لم تفارقه تفاصيله حتى بعد سنوات من هروبه، ويقول:

«كنت في الخامسة عشرة عندما طلبوا مني الذهاب إلى غرفة وأخذ سبية. لم أفهم تماماً ما يريدون مني فعله. كنت أشعر بالخوف والارتباك، ولكن لم يكن مسموحاً لي بأن أسأل. عندما دخلت، رأيت فتاة صغيرة تبكي. كانت طفلة، أصغر مني بسنة أو سنتين. نظرنا إلى بعضنا، وبدأنا بالبكاء معاً. لم أستطع تحمل الموقف وشعرت بأنني أختنق. تلك الليلة لم أنم، كنت أرى وجهها في كل مكان. كنت أتساءل: هل ما زالت هناك؟ هل أنقذها أحد؟».

ما زال سامي يعيش في تلك الليلة، وكأن الزمن توقف عندها. كلما تذكرها، تتجدد مشاعره كما لو أنه ما زال ذلك الصبي الخائف الذي لم يفهم العالم.

أما خالد، فكان أصغر من سامي عندما جُند، ويتذكر أول عملية إعدام شهدها، ولا تزال تفاصيلها محفورة في ذاكرته كأنها حدثت أمس:

«كنت في الخامس الابتدائي. كان أمامنا رجل مقيد على ركبتيه، وعيناه معصوبتان. القائد أمر أحد الفتيان بالتقدم. لم يرفض، لم يتردد. وكأنه آلة مبرمجة. رفع السكين وقطع رأس الرجل. لم أتحرك. لم أستطع حتى أن أرمش».

بعد سنوات، ما زال خالد يعاني من آثار بعد الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظة، مشاهد الدماء، الصوت الخافت الأخير للضحية، النظرات المذعورة، كلها مطبوعة في ذاكرته. لم يكن وحده في ذلك، فقد أظهرت الشهادات التي جمعناها أن معظم «الأشبال» الذين شهدوا عمليات الإعدام الأولى كانوا يعانون من حالة من الصدمة العاطفية الصامتة، حيث كان يُطلب منهم عدم إظهار أي تأثر، بل وتشجيعهم على الإعجاب بالمشهد بعدّه «تنفيذاً لحكم الله».

يقول ناصر، أحد الناجين من هذه التجربة: «كنا مجموعة من الأطفال، لا نعرف ماذا يحدث حقاً. في البداية، كنت أظن أن كل شيء مجرد تمثيل، حتى أدركت أن الدماء حقيقية. كنت أحاول ألا أنظر، لكن القادة كانوا يجبروننا على المشاهدة. يقولون: هذا مصير المرتدين، وهذا سيكون مصيركم إذا خالفتم الأوامر».

كان الهدف واضحاً: تحويل الأطفال إلى آلات قتل، ونزع إنسانيتهم تدريجياً عنهم وتحويلهم إلى أدوات في ماكينة الموت الجماعي.

بعد سنوات من الفرار من التنظيم، لا يزال سامي يستيقظ كل ليلة على صراخه. يقول إنه يرى الفتاة الصغيرة في أحلامه باستمرار: «أحياناً أراها تصرخ، أحياناً تكون صامتة، لكن نظرتها تطاردني. لا أستطيع الهروب منها، كما لم تستطع هي الهروب مني حينها».

أما خالد، فمشكلته مختلفة، لكنها متجذرة في صدمته ذاتها. يقول بصوت منخفض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «كلما رأيت سكيناً، أشعر برعشة. لا أستطيع حتى تقطيع الخبز دون أن تعود لي الصور. حتى حين أشاهد فيلماً عادياً فيه مشهد عنف، أشعر أنني أختنق».

تظهر شهادات أخرى أن العديد من «الأشبال السابقين» يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بدرجات متفاوتة. يقول ياسر، أحد الناجين: «أحلم دائماً بأنني أركض في ممر طويل لا نهاية له، وفي نهايته أرى وجوه القتلى تنظر إليّ. لا أستطيع الهروب، لا أستطيع حتى الصراخ».

جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)

رسالة تجنيد من مجهول

على الرغم من انهيار دولة «الخلافة»، لم يتوقف تنظيم «داعش» عن محاولاته لاستعادة نفوذه عبر حواضنه السابقة نفسها. لكن الأساليب تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيداً ولا مركزية، ما يجعل من الصعب تتبعها أو القضاء عليها تماماً. فمع ظاهرة التكليف بمهام محددة خارج الإطار التنظيمي أو قيادة مركزية، أصبح هناك عمل مستقل، ودون تنسيق مباشر أحياناً، لدرجة أن بعض الأفراد المستهدفين قد يتلقون أكثر من عرض للتجنيد من جهات مختلفة تابعة للتنظيم، دون أن يعرفوا أيها أكثر ارتباطاً بهيكل القيادة السابق.

يقول خالد: «وقعت في الأسر وبعد فترة من خروجي، جاءني شخص لا أعرفه، بدا ودوداً جداً. لم يقل لي مباشرة إنه من التنظيم، لكنه كان يلمّح دائماً إلى أن الماضي لم ينتهِ، وأن هناك فرصة للعودة إلى العائلة. وبدا أنه يعرف تفاصيل عن حياتي، وعن سجني، وحتى عن الأشياء التي لم أخبر بها أحداً. فمن أين حصل على هذه المعلومات؟».

مثل خالد، تلقى سامي أيضاً عروضاً غير مباشرة، لكنها كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم التنظيم حسابات مزيفة على «تلغرام» و«واتساب» لاستدراج الشباب. ويقول: «ذات يوم، وصلتني رسالة من مجهول عبر تلغرام. قال لي إنه يعرف ما مررت به، وإن هناك طريقة لأجد مكاني في الحياة من جديد. بدأ بالحديث عن الظلم، وكيف أننا مجرد أدوات تم استغلالها ثم رُميت جانباً. كان بارعاً جداً في اختيار كلماته، كأنه طبيب نفسي يعرف كيف يصل إلى نقاط ضعفي».

وبالإضافة إلى الأساليب التقليدية للتجنيد، يستغل التنظيم التكنولوجيا الحديثة، وألعاب الفيديو التي تروج للأفكار الجهادية والمنتديات المغلقة. في بعض الأحيان، يتم إرسال روابط مشفرة تحتوي على رسائل دعائية، أو فرص تعليمية ومنح دراسية تبدو عادية، لكنها في الواقع وسيلة استدراج إلى مناطق النفوذ.

وبدأ التنظيم في فترة من الفترات الاعتماد على أشخاص لم يكونوا مقاتلين بالضرورة، بل عملوا في مجالات مدنية ولهم قبول بين الناس مثل عمال الإغاثة أو الخدمات اللوجيستية أو غيرها من القطاعات المدنية التي كانت تابعة للتنظيم في فترة سيطرته. ويقول خالد: «أخبرني صديق قديم بأنه يعمل مع شخص ميسور يقوم بتوزيع الأموال والسلال الغذائية والبطانيات للقرى الفقيرة، وقال لي إنه بإمكاني الانضمام والعمل معه. لاحقاً، عرفت أن هذا العمل ليس سوى غطاء، وأن بعض العاملين فيه هم في الحقيقة من أفراد التنظيم السابقين».

سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)

المجتمع يرفضنا والحكومة لا تثق بنا

تشكل الظروف الاقتصادية، كما الوصمة الاجتماعية، عاملاً رئيساً في استمرار نجاح التنظيم في تجنيد الشباب. يعيش كثير من هؤلاء الفتية في مناطق تفتقر إلى فرص العمل، ويعانون من التهميش الاجتماعي، ما يجعلهم عرضة للإغراءات المالية التي يقدمها التنظيم.

يقول سامي: «عندما خرجت، لم أجد أي عمل. حاولت أن أبدأ من جديد، لكن الجميع كان ينظر إليّ كتهديد. لم أكن أملك شيئاً، ولا مستقبلاً. في لحظات اليأس، فكرت: ماذا لو عدت؟ على الأقل سأحصل على شيء مقابل المخاطرة. لا أحد يقبل توظيفي هنا، الجميع يراني تهديداً».

أما خالد، فيتحدث عن شعور آخر يلازم معظم الناجين من تجربة «أشبال الخلافة»: العزلة. «المجتمع لا يريدنا، والحكومة لا تثق بنا. نحن عالقون في مكانٍ لا نعرف إلى أين نذهب منه. عندما يأتي شخص ويقول لك: نحن لم ننسَك، نشعر أنك ما زلت واحداً منا، فإنك قد تفكر في الأمر».

أحد الشهود الآخرين قال: «عندما لا تجد طعاماً، وعندما يرفض الجميع توظيفك لأنك كنت يوماً جزءاً من التنظيم، تبدأ في التفكير في الخيارات المتاحة أمامك. بعضنا قوي بما يكفي لرفض العودة، لكن البعض الآخر قد لا يملك القدرة نفسها».

حرب طويلة

من الأمور التي زادت من ارتباك الناجين أن التنظيم يبدو وكأنه يعرف كل تحركاتهم. لم يكن الأمر يقتصر على مجرد رسائل أو محاولات لقاء، بل في بعض الأحيان كانوا يجدون أنفسهم محاطين بأشخاص يعرفون عنهم تفاصيل لم يشاركوها مع أحد.

يقول خالد: «بعد خروجي بفترة، كنت أعيش في مكان بعيد عن أي شيء له علاقة بالتنظيم. لكن فجأة، ظهر شخص في المسجد الذي كنت أصلي فيه. كان يتحدث عن كيف أن بعضنا قد ضلّ الطريق، لكنه يستطيع العودة. عندما اقتربت منه وسألته عن قصده، قال لي شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقي: أنت كنت هناك، أنت تعرف ما أعنيه».

قد تكون دولة «الخلافة» قد سقطت، لكن أفكارها لم تختفِ، وأساليبها تتطور دائماً لتتلاءم مع أي واقع جديد. بالنسبة لخالد وسامي وغيرهما من «الناجين»، فإن الصراع لم يكن يوماً مجرد معركة سلاح، بل هو حرب نفسية مستمرة، حيث يحاولون الحفاظ على هويتهم الجديدة، بينما يواجهون أشباح الماضي ومحاولات التنظيم لاستعادتهم، بينما سوريا اليوم مفتوحة على خيارات لا تحصى.