الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات
TT

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

مع مضينا باتجاه عالم يقوم على الاتصالات المترابطة والتنقُّل الذكي من المهم للجهات المعنية بمجال التنقُّل والمواصلات الدفع باتجاه توفير حلول مبتكَرة، تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية الهائلة التي تشهدها المدن. فالعدد المتكاثر من الناس يرتبط بالأعداد الكبيرة للمركبات الموجودة على الطرقات، التي تُقدَّر حالياً بنحو 1.2 مليار مركبة يومياً. وعند اقتران هذا مع البنية التحتية التقليدية للمواصَلات، تنتج عن ذلك بيئة مدنية مكتظّة جداً، الأمر الذي يُبرِز الحاجة لحلول نقل مستدامة وقابلة للتعديل وفق الطلب. وبينما تواجه هذا الشيء تحدّيات لوجستية، إلا أنه في الوقت ذاته يفتح المجال أيضاً أمام انبثاق فرص بارزة للأعمال.

منعطف بارز

ضمن هذا السياق، يستطيع الأفرقاء المعنيون بقطاع التنقُّل والمواصَلات الاستفادة من الحاجة الاقتصادية والتوجّهات السائدة في الأسواق للتركيز على مسارات استراتيجية باتجاه تحقيق مستقبل التنقُّل المنشود، وذلك كجزء من محافظهم المقبلة.

ومع اقترابنا من بداية عام 2024، فإننا نصل إلى منعطف بارز في الثورة بمجال المواصَلات، ويدفع بهذا الاتجاه التبنّي القوي للمركبات الكهربائية (EV) والمركبات ذاتية القيادة (AV) وتقنيات الاتصال المتطوّرة، التي ستستمر بصياغة التوجّهات في قطاع السيارات على مدى السنوات المقبلة. من جهة أخرى، يتوجّب على التقنيات الموجودة في المجموعة المقبلة من المركبات، التي نتوقّع رؤيتها على الطرقات، ألا تُعنى بمعالَجة مشكلة الازدحام المروري فقط، بل أيضاً تلبية المتطلّبات الملحّة فيما يتعلّق بإحداث أثر مناخي إيجابي واعتماد عمليات مستدامة فعلياً.

أنظمة أكثر ذكاء

ونشير إلى أن المستقبل القريب سيشهد تحوُّلاً إلى أنظمة أكثر ذكاءً وترابُطاً من ناحية الاتصالات، التي من شأنها أن تغيّر طريقة التنقُّل في المدن، وتفتح آفاقاً جديدة أمام الابتكار والاستثمار في الجيل المقبل من أساليب المواصَلات المتطوّرة.

أحد التوجُّهات البارزة ضمن هذا المجال يقوم على تعزيز سُبُل الاتصالات وتوسعة نطاق قدراتها عبر تقنية إنترنت الأشياء (IoT). وأمر مهم يجب تسليط الضوء عليه هو أن العملاء صاروا يتوقّعون التكامل السلس بين مختلف الخصائص والوظائف، أكانت تتعلّق بالترفيه أم الصيانة المنزلية أم التعليم، وغير هذا الكثير – ويُترجَم هذا عبر ما يتوقّعونه من المركبات التي يقودونها. وتناغماً مع هذا المشهد البارز بقطاع التنقُّل، تظهر الحاجة لمركبات حديثة تعمل وكأنها هواتف ذكية على عجلات. فالعميل في العصر الحالي لا يُقدِّر عنصر التكامل فقط، بل يسعى أيضاً لمزيد من التطوّرات في التقنيات، وهو ما يُرسي الأرضية الصلبة لمجموعة الخيارات المطروحة في مجال التنقُّل، التي تكون متميّزة بالاتصال من أساسها.

هذا الاتجاه مثبَت عبر تقارير بارزة من قطاعات الأعمال، مثل دراسات ماكينزي الأخيرة التي تشير إلى أن السيارات المتصِلة تشكّل عنصراً حيوياً ضمن مستقبل قطاع السيارات. فنحو 55 في المائة من المسؤولين بقطاع السيارات يعتبِرون أن السيارات المتصِلة – المركبات التي تستخدم الاتصالات والخصائص الرقمية لتوفير تجربة تنقُّل معزَّزة ومعرَّفة برمجياً – هي واحدة من توجّهين اثنين بارزين يصوغان مستقبل هذا القطاع، بحيث تأتي مباشرة بعد التحوُّل الكهربائي.

هذا التبدُّل لا يَعِدُ بتخفيض التكاليف فحسب، بل يُمكِنه أيضاً توليد مصادر إيرادات جديدة لصالح المنخرطين به وذلك ضمن نطاق واسع من النظام الإيكولوجي العام لقطاع التنقُّل. وتتميّز الاتصالات بكونها تترافق مع فرصة تخصيص تجربة القيادة لفئات مختلفة من العملاء، وتلبية متطلّباتهم المحدَّدة كما يظهر من خلال دراسة سابقة لدى ماكينزي، بالإضافة للتمكُّن من التعامل مع مجموعة تحدّيات فيما يتعلّق بالسلامة والاتصال والترفيه.

لكن لأجل تحقيق المنافع التي توفرها الاتصالات وجعلها واقعاً فعلياً، ينبغي تخطّي مختلف المعوّقات المحتمَلة، وهذا يشمل بشكل أساسي التأكُّد من اعتماد توجّه موحَّد مدعوم من مختلف الأفرقاء، بمن فيهم الجهات الناظمة والعملاء وموفرو خدمات الاتصال والمعنيون بقطاع التنقُّل وغيرهم من الجهات الأخرى. وتَكمُن النقطة الأساس في تسهيل سُبُل الاتصال والتأكّد من أن الخيارات المستقبلية المتلاحقة التي يتم توفيرها تتوافق مع الاحتياجات المحدَّدة للعملاء، وأن تتمحور حول ثلاثة أبعاد مختلفة هي: البُنية التحتية، إدارة المعرفة، والتعاوُن.

1. بناء بُنية تحتية متينة لاتصالات معزَّزة

ترتكز استراتيجية التنقُّل الملائمة للمستقبل على عنصر أساسي هو البُنية التحتية التي يتم التخطيط لها بعناية. فخارج نطاق المكوّنات الحسّية كمحطّات شحن المركبات الكهربائية على سبيل المثال لا الحصر، تتجه الحكومات والهيئات الناظمة للاستثمار في البُنية التحتية الرقمية المنيعة. بناءً عليه، تُعتبَر الرؤية الواضحة فيما يتعلّق بالتحوُّل الرقمي أمراً ضرورياً جداً لتمكين الاتصال السلس بين المركبة والبُنية التحتية، وكذلك بين المركبة والمركبة. ضمن هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن العديد من المدن قد استثمرت بشكل مزداد في العلاقة الرمزية بين قطاع التنقُّل والبنية التحتية للاتصالات، مما يساعد في جعل تجارب السائقين متناغمة أكثر مع المستقبل المقبل. وكنقطة إثبات لهذا الشيء، نتطلّع إلى ما يجري في دبي، التي تعمل باتجاه تحقيق الاستراتيجية الوطنية للتنقُّل الذكي لدولة الإمارات العربية المتحدة. وهذا الأمر سيستمر في السنوات المقبلة، وذلك لضمان تلبية الطلبات المتزايدة على أنظمة التنقُّل الذكية.

وبالنظر للمستقبل، فمن المرجَّح أن تأخذ مخطَّطات البنية التحتية بعين الاعتبار قابلية التعديل لجهة الحجم والتكيُّف، والقدرة على استيعاب التقنيات البارزة مثل تقنية اتصالات «5G» بهدف إرسال البيانات في الوقت الفعلي وضمان توافر بيئة آمنة للمركبات المتصِلة.

ارتفعت صادرات السيارات الصديقة للبيئة في كوريا الجنوبية خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2023 بنسبة 32.5 في المائة وذلك بفضل الطلب العالمي القوي على السيارات الكهربائية (رويترز)

ومع اعتماد البُنية التحتية العامّة على الابتكار، فإن المطلوب هو الالتزام والاستثمار من القطاع الخاص لتعزيز الفرص والإمكانات أكثر. وأحد الأمثلة على الابتكار بهذا المجال هو التزام شركة «جنرال موتورز» بتوفير سُبل اتصال متطوّرة جداً تترافق مع السلامة والحلول الترفيهية عبر تقنية «أونستار». وتتميّز «أونستار» بكونها تُرسي معايير جديدة، إذ إنها توفر خدمة الاتصال ضمن مركبات علامات «شيفروليه»، «جي إم سي» و«كاديلاك» التجارية، بالإضافة للارتقاء بخدمات السلامة والأمن الموجودة فيها. وفي ظل توافرها حالياً في كل من الإمارات العربية المتحدة والكويت والمملكة العربية السعودية - مع خطط لمزيد من التوسّع في المنطقة - فإنها تُحدِث بالفعل ثورة في تجربة القيادة عبر توفير مستويات عالية من الملاءمة وراحة البال والخصائص الذكية المتاحة عبر الاتصالات، التي تشهد دوماً ابتكارات مستمرّة نحو الأفضل.

2. المعايير ونقل المعرفة

إن المستقبل المتصِل يزدهر بالاعتماد على معايير تتميّز بكونها غير مقيَّدة ومقبولة دولياً، ليس فيما يتعلّق بالبرمجيات فقط، بل فيما يخصّ الأجهزة والمعدّات أيضاً. فالدور المحوري الذي تلعبه وظيفة نقل المعلومات في تعزيز الاتصالات خلال السنوات المقبلة لا يُمكِن أبداً التقليل من شأنه. ولقد رأينا حتى اليوم تطوّرات بارزة باتجاه تعزيز مفهوم التشغيل التبادلي، الأمر الذي يساهم بمنع ابتكار تقنيات تتصف بكونها محصورة وتعيق الابتكار الإضافي. وبالتالي، فإن إدارة المعرفة من هذه الناحية لا تشجّع فقط على تعزيز الكفاءة أكثر، بل تسرّع أيضاً عمليات التطوير عبر تفادي الازدواجية غير اللازمة ضمن الجهود المبذولة بواسطة مختلف الجهات المعنية بهذا المجال.

أما بالنسبة للعميل، فإن الاتصال المحسَّن يُترجَم إلى ميّزة مهمة تتمثّل بالإدارة الشاملة للمركبة – مع المنفعة الإضافية التي تقوم على تخصيص النتائج بحيث تتوافق مع السلوكيات الفريدة للسائق نفسه. وبحالة «أونستار» فإن هذا يظهر بشكل التنبيهات التشخيصية، التقارير الشهرية، إشعارات الصيانة وتحديثات البرمجيات عبر الأثير، وهو ما يُمكِّن المستخدمين أكثر عبر منحهم المزيد من السيطرة والفهم الإضافي لمركباتهم، مما يضمن التمتُّع بتجربة قيادة سلسة. ويجري تخصيص هذه التحديثات وفق الاستخدام المفرَد، بحيث يتم تسليط الضوء على مكامن التحسُّن لدى كل سائق على حِدَة، وهو ما يُمكِن الاستفادة منه والارتقاء به لإعداد عقليات قيادة تكون أكثر إدراكاً في المستقبل.

3. تعاوُن على نطاق شامل

من المُمكِن دفع عملية تطوّر قطاع التنقُّل المتصِل بشكل أفضل عبر تعزيز توافق متطلّبات الخدمات العامّة مع المعلومات والمعارف العميقة الذي يتمتّع بها القطاع الخاص. بالتالي، ومن خلال المناسَبات والفعاليات التجارية والمنصّات الحوارية التبادُلية، فإن الحكومات وهيئات التنظيم المدني وشركات التقنية ومصنِّعي السيارات وغيرهم من الأفرقاء المعنيين سيستمرّون بالتلاقي والتعاوُن مما يوجد بيئة تفضي إلى مزيد من الابتكار.

والتعاوُن لا ينحصر فقط بالحوار، بل بالشراكات الاستراتيجية أيضاً ووضع السياسات التنظيمية الجديدة التي من شأنها أن تحفّز على مزيد من التبنّي لهذا التوجّه بين أوساط كل الجهات المعنية. ومن المهم التأكيد على أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص تلعب دوراً محورياً في تطوير قطاع التنقُّل الذكي، وهي تُنشئ مسارات مخصَّصة تتيح التعامل الفعّال مع أي تحدّيات معيَّنة وفريدة من نوعها قد تواجهها المجتمَعات.

وفي ظل مضيّنا باتجاه عالم يقوم على الاتصالات المترابطة والتنقُّل الذكي، من المهم جداً للجهات المعنية بمجال التنقُّل والمواصلات أن تعي أهمية الجهود التعاونية المشترَكة في الدفع باتجاه توفير حلول مبتكَرة.

وعبر التبنّي العام للتوجُّهات السائدة في قطاع السيارات إضافة لخيارات العملاء المفضَّلة، فإننا نستطيع الدخول في عصر جديد يتميّز بكونه ذكياً ويستجيب بديناميكية للاحتياجات المتطوّرة لعالمنا الذي يتميّز بكونه أكثر اتصالاً من قبل.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف
خاص رئيس الاحتياطي الفدراسي في مؤتمر صحافي 13 ديسمبر (أ.ف.ب)

خاص 2024... سنة معقّدة ومحورية للاقتصاد العالمي

الانخفاضات المتوقعة في معدلات الفائدة من قبل المصارف المركزية الرئيسية في يونيو (حزيران) 2024 تأتي مصحوبة بجوانب من عدم اليقين.

سمير عساف

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.