بدأ عام 2023 بداية كانت تبدو مبشّرة وداعية للتفاؤل بالنسبة إلى السودان، حيث أبرم كل من القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتفاق إطار لتشكيل حكومة مدنية انتقالية. للأسف مع نهاية العام يواجه السودان انقساماً على أرض الواقع مثله مثل ليبيا. فقد دُمرت العاصمة، واستشرى القتال على أساس عرقي، ونزح نحو 5.5 مليون سوداني، في حين يعاني 18 مليوناً من الجوع الشديد.
هذا الوضع أبعد ما يكون عما تصوره الشعب السوداني، والولايات المتحدة الأميركية، وغيرهم بعد عزل الرئيس البشير في أبريل (نيسان) 2019، وما أعقب ذلك من تشكيل حكومة انتقالية يغلب عليها الطابع المدني. كيف ساءت الأمور بهذا الشكل؟ تبين أن الدولة الفاسدة، التي أقامها البشير، قوية وثابتة وراسخة رغم عزله من منصبه. ازدادت الأطراف الفاعلة السياسية المدنية انقساماً وفرقة، وفشلت في التواصل مع النساء والشباب الذين قادوا الثورة التي اندلعت خلال عامي 2018 و2019. وعندما حاولت الحكومة الانتقالية نقل بعض السلطات المرتبطة بالاقتصاد من أيدي الجيش، نفّذ كل من الفريق أول البرهان وحميدتي انقلاباً في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
وبعد الانقلاب، حاول كل من الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، وهي مؤسسة إقليمية، بشكل مشترك تيسير تسوية جديدة بين الأطراف السياسية المدنية والقائدين. دعمت الولايات المتحدة الأميركية هذه المحاولات، وأسفرت العملية عن اتفاق يؤسس لتشكيل حكومة مدنية انتقالية جديدة في أبريل 2023. مع ذلك ظلت المسألة المثيرة للجدل، والمتمثلة في دمج قوات «الدعم السريع» والقوات المسلحة السودانية في جيش واحد قائمةً وعصيّة عن الحل، واستغل المخربون والمفسدون ذلك.
وفي 15 أبريل اندلع قتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» داخل العاصمة الخرطوم ومحيطها، وسرعان ما اتسع نطاق القتال. وعند نهاية العام، سيطرت قوات «الدعم السريع» على أربع ولايات من إجمالي خمس ولايات في إقليم دارفور في الغرب، وأجزاء مهمة من إقليم كردفان في الجنوب، إضافة إلى جزء كبير من الخرطوم الكبرى، في حين تهيمن القوات المسلحة السودانية على غالبية مناطق النيل الأبيض. لقد بات السودان في حالة انقسام فعلي.
لم يتجاهل العالم هذه الأزمة الجديدة في السودان، وسرعان ما نظمت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مفاوضات في جدة سعياً لوقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للنازحين السودانيين. وعلى رغم وعود القائدين بوقف إطلاق النار، استمر القتال وتم تعليق المفاوضات. كذلك حاولت أطراف فاعلة خارجية القيام بجهود وساطة. مع ذلك رفضت حكومة البرهان جهود الاتحاد الأفريقي بقولها إن تعليق الاتحاد عضوية السودان بعد الانقلاب دليل على الانحياز.
كذلك رفض البرهان محاولات اللجنة الرباعية التابعة للهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بزعم أن القيادة الكينية لها تفضل قوات «الدعم السريع» وتنحاز لها. وعرقل أيضاً أي دور لبعثة الأمم المتحدة في السودان. وعقدت مصر اجتماعاً لدول الجوار، لكن أخفقت تلك الجهود أيضاً في وقف القتال. وكانت النتيجة الأكثر بشاعة لتوسيع نطاق الصراع هي مذبحة المساليت العرقية التي ارتكبتها قوات «الدعم السريع» بالتعاون مع حلفائها من القبائل البدوية. استمرت جرائم القتل والاغتصاب دون رقيب من جانب قيادة قوات «الدعم السريع».
في أكتوبر 2023، استأنف كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية محادثات جدة، ونجحت في الدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» لمناقشة إجراءات بناء الثقة بهدف التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار. مع ذلك سرعان ما عاد القائدان السودانيان إلى المطالبة بالحد الأقصى من بعضهما البعض، واستمر القتال.
في الأثناء، عقدت الهيئة الحكومية للتنمية قمة استثنائية في 3 ديسمبر (كانون الأول)، ويُقال إن البرهان وحميدتي وافقا على اللقاء في غضون 15 يوماً لمناقشة وقف إطلاق نار مدته 30 يوماً. وما إن عاد البرهان من القمة، حتى بدأ وزير خارجيته يقوّض نتيجتها، وما أسفرت عنه، ويبدو أن جهود السلام قد وصلت إلى طريق مسدود.
وعلى رغم المكاسب التي حققتها قوات «الدعم السريع» على الأرض مؤخراً، يبدو أن القتال يتجه إلى طريق مسدود هو الآخر. هل يمكن لأي من القوات المسلحة السودانية أو قوات «الدعم السريع» هزيمة الآخر؟ في الوقت الذي قد يعتقد فيه القائدان ذلك، يشير تاريخ السودان إلى خلافه. لقد أسفرت 38 عاماً من الحرب الأهلية السابقة عن انقسام البلاد لا عن نصر عسكري.
هل تقسيم السودان بدرجة أكبر من ذلك هو ما يريده أي شخص، سواء كان سودانياً أو غير سوداني، حقاً؟ ولصالح مَن هذه النتيجة؟ بالتأكيد ليست لصالح السودانيين الذين سيظلون يعانون ويموتون إذا ما استمر القتال. وبالتأكيد ليس ذلك أيضاً لصالح الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا اللتين تريدان توقف القتل العرقي، وتدفق مواد الإغاثة الإنسانية، وإقامة حكم ديمقراطي في السودان. كذلك ليس ذلك لصالح أي من دول جوار السودان، كما هو مأمول، التي إما تخشى امتداد حالة الفوضى وانعدام الأمن إليها، وإما تريد الاستثمار في الإمكانيات الهائلة الزراعية أو التجارية أو في الثروة المعدنية في السودان. فهل تكون الاستثمارات آمنة إذا ظل المعسكران المسلحان يقتتلان؟
حتى ينتهي القتال وتنتهي حالة الانقسام الموجودة حالياً على أرض الواقع، من الضروري تقديم كل الأطراف لتنازلات تتعلق بمصالحهم والتوصل إلى تسوية مرضية توفق بين هذه المصالح. من أين يمكن البدء؟ على الأرجح ليس مع القائدين السودانيين اللذين لا يزالان يسعيان وراء نصر عسكري، ولا يقدمان أي مسار مقبول للسلام. ربما يمكن البدء بأولئك الذين يتيحون استمرار القتال.
يتمتع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعيّن حديثاً، رمتان لامامرا، بالخبرة والوقار اللازمين لإشراك كافة أطراف الصراع في مسار لوقف القتال وإتاحة المجال لحل سياسي. كذلك قد يكون التعيين الفوري لمبعوث للهيئة الحكومية للتنمية نافعاً، شريطة توحيد الجهود مع لامامرا. ويمكن أيضاً لجهود «المسار الثاني» غير الرسمية أن تكون مفيدة في التوصل إلى صيغة تلبي ما يكفي من مصالح الطرفين لإنهاء القتال، والتوصل إلى مسار سياسي لإعادة توحيد السودان. مع ذلك سوف يتطلب أي توحيد وطني حقيقي لدعم الأغلبية العظمى من الشعب السوداني نفسه، ويعني ذلك ضرورة جعل الحركات المدنية السياسية والحركات الشعبية، التي تزداد وحدة وترابطاً، في صلب أي صيغة لسلام واستقرار مستدامين.
عاش السودان منذ الاستقلال في ظل حكم عسكري في غالبية المراحل، وأصبح دولة هشة. والاستمرار في شكل حكم يسيطر عليه الجيش، وتوقع نتيجة مختلفة، أمر غير مجد ولا طائل من ورائه.
هل يمكن للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا دعم مثل هذا النهج القائم على المصالح الذي يتطلب الكثير من التنازلات والمواءمات؟ هل ستتمكنان من تحقيق أهداف الشعب السوداني؛ من أمن وشروط حياة إنسانية وحكم رشيد إذا ما فعلتا ذلك؟ هل يمكن أن تدعما اتفاقات يتوصل إليها القائدان السودانيان وقادة مدنيون مع شركاء إقليميين للبلاد؟ بعبارة أخرى، هل يمكن لهم التنازل عن بعض مصالحهم إذا ما عزم من يشعلون الحرب ويستمرون في القتال على ذلك؟
يعتمد بقاء السودان وصموده على إنهاء القتال، ويتطلب ذلك دبلوماسية بارعة من جانب طرف موثوق به ليس لديه أي مصالح من أجل التوصل إلى تنازلات ومواءمات فيما يتعلق بمصالح سودانية وخارجية.