كيف تغير المسيّرات طبيعة الحروب وساحاتها؟https://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/4756496-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D9%91%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D9%88%D8%B3%D8%A7%D8%AD%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7%D8%9F
جندي أوكراني يطلق مسيّرة خلال المعارك مع الروس في باخموت (رويترز)
على مر السنين، تميزت الحروب الكبرى بإرساء قناعات جديدة، وتكتيكات جديدة، وتكنولوجيا جديدة. في عام 1453 اختُرقت جدران القسطنطينية بواسطة مدفع عملاق استخدمه السلطان محمد الثاني. وجلب نابليون تكتيكات جديدة ومبتكرة للمشاة. وفي الحرب العالمية الأولى، غيّر غاز الخردل والمدافع الرشاشة من وجه ساحة المعركة. وفي الحرب العالمية الثانية، كانت حاملات الطائرات، وتكتيكات الحرب الخاطفة، والأسلحة النووية.
واليوم، إنها المركبة الجوية من دون طيار، والمعروفة عموماً باسم الطائرة المسيّرة (الدرون). صارت الطائرات المسيرة في أفغانستان، والعراق، وأوكرانيا، وأذربيجان، وغزة، أداة أساسية للحرب الحديثة، وسواء استخدمت في المراقبة أم الاستطلاع أم الهجوم، فإن سماء كييف وغزة والبحر الأحمر والخليج العربي ومضيق تايوان تعج بهذه المسيرات الصغيرات القاتلات.
صارت الطائرات المسيرة حُلم كل من يُقاتل، من جيوش نظامية كبرى أو مجموعات مؤثرة غير حكومية، ولها (للمسيرات) ثلاث سمات بارزة. أولا، رخيصة ومتوفرة، يمكن شراء مسيرة المراقبة الصغيرة من أمازون بأقل من 100 دولار وتسلمها بين عشية وضحاها. وفي حين أنها قد لا تدمر الدبابات، فإنها يمكن أن توفر شريط فيديو في الوقت الحقيقي لخط خندق العدو عبر الميدان، أو موضع قناص على سطح مبنى، أو موقع كمين في الجوار.
ويمكن للطائرات المسيرة الأكثر تطوراً أن تحلق لارتفاعات أعلى، ولمسافات أبعد، وتبقى في الجو لفترات أطول، وهذه هي لعنة قوات الدعم. ففي حين تُشن الحروب على الخطوط الأمامية بالاستعانة بالمشاة والدبابات والطائرات، لا يمكن الفوز بالحروب من دون مواصلة تغذية خطوط المواجهة الأمامية، وتزويدها بالوقود، وإعادة الإمداد. ويستلزم ذلك تأمين سلاسل إمداد ضخمة من مخازن الذخيرة، ومستودعات الوقود، ومرافق الإصلاح، جنباً إلى جنب مع أساطيل الشاحنات، والآلاف من قوات الدعم لتجديد ملايين الأطنان اللازمة يومياً للحفاظ على جيش صغير يقاتل.
تقع غالبية سلاسل الإمداد هذه بعيداً تماماً عن الخطوط الأمامية، وقبل انتشار الطائرات المسيرة، كان لا يمكن رصد المسيرات إلا بصورة متقطعة ومن دون دقة كافية حتى يستهدفها العدو بالمدفعية أو الصواريخ. أما الآن، فقد صارت منطقة العمليات بأكملها ساحة للمعركة ولا يوجد مكان للاختباء. إذ يمكن للطائرات المسيرة تنفيذ الدوريات فوق الطرق، واستطلاع المواقع ذات المخزونات اللوجيستية المحتملة، والتقرب من إشارة الحرارة بالأشعة تحت الحمراء في الليل لاكتشاف وحدة مدفعية مخفية أو طابور دبابات متحرك. إن قدرة الطائرات المسيرة على الرؤية في جميع أنحاء منطقة القتال، يخلق فعليا ساحة معركة شفافة، بصورة لم يسبق لها مثيل.
لا تستطيع الطائرات المسيرة رصد الأهداف في جميع أنحاء منطقة القتال فحسب، وإنما يمكنها أيضا مهاجمة تلك الأهداف. و«الهدف» في الاصطلاح العسكري يتلخص في إنشاء «رابطة بين المُستشعر إلى الرامي» قادرة على العثور على الهدف في الوقت المناسب، وبقدر كبير من الدقة، وتدمير الهدف تماماً. وتستطيع الطائرات المسيرة أن تحل محل «المُستشعر» من تلك المعادلة عبر توفير معلومات فورية ودقيقة بنظام تحديد المواقع العالمي. لكن حتى وقت قريب، وحتى إذا كان جهاز استشعار الطائرات المسيرة دقيقا وفي الوقت المناسب، فإن الأدوات اللازمة لمهاجمة هذا الهدف كانت «بليدة» نسبيا. إذ تعد المدفعية والصواريخ التقليدية غير دقيقة إلى حد كبير، وغالبا ما تتطلب مئات الطلقات لتدمير الهدف. على سبيل المثال، تُطلق في أوكرانيا أكثر من 65 ألف طلقة يوميا، أي ضعف عدد القذائف التي يمكن للولايات المتحدة إنتاجها شهريا.
كما تساعد الطائرات المسيرة في حل مشكلة «الرامي»، مع ظهور الأسلحة الدقيقة المخصصة بالليزر والموجهة بنظام تحديد المواقع العالمي، إذ يمكن للفرد أو الطائرة مع المعدات المناسبة توجيه القذيفة إلى الهدف بدقة كافية لتحقيق التدمير بقذيفة واحدة. ومع ذلك، فإن الأفراد والطائرات مقيدين بظروف الطيران، وتوافر الطائرات، والظروف الأرضية، ومجال الرؤية المحدود، ومجموعة من التحديات الأخرى التي تعيق القدرة على رؤية الهدف أو الاشتباك معه. فالطائرات المسيرة ليست أفضل بكثير في رؤية الأهداف فحسب، وإنما يمكنها أيضا الاشتباك مع الهدف بعدة طرق. ويمكنها توفير رابط فيديو مع بيانات استهداف دقيقة، وتوفير تحديد الليزر لتوجيه طلقة دقيقة إلى هدف، وحمل وإطلاق الصواريخ ضمن حمولتها الخاصة، أو القيام بدور «طائرة مسيرة انتحارية» لمهاجمة الهدف مباشرة.
ويرى كثيرون أن الطائرات المسيرة تعمل على تغيير طبيعة الحروب، وسوف تكون السلاح السائد في ساحة المعركة في المستقبل. وإلى أقصى حد، يتصور المنظرون ساحة معركة مليئة بالتكنولوجيا ولكنها خالية من البشر. وسوف يتم توجيه الدبابات ذاتية القيادة من قبل مُشغلين بعيدين عن ميدان المعركة، وسوف يتم توجيه الطائرات المسيرة والطائرات ذاتية القيادة من خلال الذكاء الاصطناعي و«شات جي بي تي»، وسوف يتم تعريف النصر من خلال من لديه عدد ماكينات متبقية في نهاية المعركة.
قد يحدث هذا يوماً ما، ولكنه ليس اليوم. ولن يكون ذلك قريباً. في الآونة الراهنة، تعد الطائرات المسيرة مُحصنة وثورية، ولكن كما هو الحال في كثير من الأحيان، تتغلب التكنولوجيا الأفضل على التكنولوجيا الراديكالية الجديدة بوتيرة سريعة، التي إما أن تقفز إلى الأمام أو تُحيّد تلك التكنولوجيا الجديدة كلياً. في حالة تكنولوجيا الطائرات المسيرة الحالية، باتت الجيوش تستغل ميزاتها، ولكن تكنولوجيا مكافحة الطائرات المسيرة تتسابق لسلبها تلك المزايا. فالطائرات المسيرة ليست مُحصنة على الدوام، إذ يمكن إسقاطها، ولا بد من توجيهها، كما تحتاج إلى وصلات بيانات لنقل المعلومات إلى المشغلين، وهم بحاجة إلى صور واضحة للهدف. ويمكن تعطيل هذه العناصر أو إلغاؤها، ولا سيما الوصلات اللاسلكية المهمة التي يمكن تعرضها للتشويش أو الخداع أو الإعاقة.
وعلى الرغم من نقاط ضعفها، فإن الطائرات المسيرة لها تأثير كبير على كل ساحة القتال، سواء أكانت حرباً شديدة الكثافة كما في أوكرانيا، أم هجمات على عناصر الشحن الدولي قبالة ساحل اليمن، أو إطلاق عمليات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم. وقد أثبتت الطائرات المسيرة أنها متعددة الاستخدامات، وغير مُكلفة، وفعالة إلى حد استثنائي، ولا سيما مع الأهداف العميقة مثل مراكز القيادة، ومواقع المدفعية، والأهداف العالية القيمة مثل الإرهابيين. ومن المحتم أن تواصل تكتيكات وتقنيات مكافحة الطائرات المسيرة الحد - إلى قدر ما - من فاعليتها الإجمالية، ولكن حتى إذا تضاءلت قدراتها، فإن الطائرات المسيرة سوف تحتفظ بدور مهم ودائم في ساحة المعركة الحديثة.
ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.
تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.
في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…
نضال أبو لطيف
في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»https://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5068334-%D9%81%D9%8A-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-7-%D8%A3%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%A8%D8%B1-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%88%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%B9%D8%AF-%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9
في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».
لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.
وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.
وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.
وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.
وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.
والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.
«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة
مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.
فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».
تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.
تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.
يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».
ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.
ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.
الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.
الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.
أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.
والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.
التغيير الجديد... نظرة فوقية
في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.
وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.
لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.
والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.
في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.
وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.
إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.
والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.
في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.