كيف تغير المسيّرات طبيعة الحروب وساحاتها؟

كشفت خطوط الإمداد وحلّت مشكلة الرماية

جندي أوكراني يطلق مسيّرة خلال المعارك مع الروس في باخموت (رويترز)
جندي أوكراني يطلق مسيّرة خلال المعارك مع الروس في باخموت (رويترز)
TT

كيف تغير المسيّرات طبيعة الحروب وساحاتها؟

جندي أوكراني يطلق مسيّرة خلال المعارك مع الروس في باخموت (رويترز)
جندي أوكراني يطلق مسيّرة خلال المعارك مع الروس في باخموت (رويترز)

على مر السنين، تميزت الحروب الكبرى بإرساء قناعات جديدة، وتكتيكات جديدة، وتكنولوجيا جديدة. في عام 1453 اختُرقت جدران القسطنطينية بواسطة مدفع عملاق استخدمه السلطان محمد الثاني. وجلب نابليون تكتيكات جديدة ومبتكرة للمشاة. وفي الحرب العالمية الأولى، غيّر غاز الخردل والمدافع الرشاشة من وجه ساحة المعركة. وفي الحرب العالمية الثانية، كانت حاملات الطائرات، وتكتيكات الحرب الخاطفة، والأسلحة النووية.

واليوم، إنها المركبة الجوية من دون طيار، والمعروفة عموماً باسم الطائرة المسيّرة (الدرون). صارت الطائرات المسيرة في أفغانستان، والعراق، وأوكرانيا، وأذربيجان، وغزة، أداة أساسية للحرب الحديثة، وسواء استخدمت في المراقبة أم الاستطلاع أم الهجوم، فإن سماء كييف وغزة والبحر الأحمر والخليج العربي ومضيق تايوان تعج بهذه المسيرات الصغيرات القاتلات.

صارت الطائرات المسيرة حُلم كل من يُقاتل، من جيوش نظامية كبرى أو مجموعات مؤثرة غير حكومية، ولها (للمسيرات) ثلاث سمات بارزة. أولا، رخيصة ومتوفرة، يمكن شراء مسيرة المراقبة الصغيرة من أمازون بأقل من 100 دولار وتسلمها بين عشية وضحاها. وفي حين أنها قد لا تدمر الدبابات، فإنها يمكن أن توفر شريط فيديو في الوقت الحقيقي لخط خندق العدو عبر الميدان، أو موضع قناص على سطح مبنى، أو موقع كمين في الجوار.

ويمكن للطائرات المسيرة الأكثر تطوراً أن تحلق لارتفاعات أعلى، ولمسافات أبعد، وتبقى في الجو لفترات أطول، وهذه هي لعنة قوات الدعم. ففي حين تُشن الحروب على الخطوط الأمامية بالاستعانة بالمشاة والدبابات والطائرات، لا يمكن الفوز بالحروب من دون مواصلة تغذية خطوط المواجهة الأمامية، وتزويدها بالوقود، وإعادة الإمداد. ويستلزم ذلك تأمين سلاسل إمداد ضخمة من مخازن الذخيرة، ومستودعات الوقود، ومرافق الإصلاح، جنباً إلى جنب مع أساطيل الشاحنات، والآلاف من قوات الدعم لتجديد ملايين الأطنان اللازمة يومياً للحفاظ على جيش صغير يقاتل.

تقع غالبية سلاسل الإمداد هذه بعيداً تماماً عن الخطوط الأمامية، وقبل انتشار الطائرات المسيرة، كان لا يمكن رصد المسيرات إلا بصورة متقطعة ومن دون دقة كافية حتى يستهدفها العدو بالمدفعية أو الصواريخ. أما الآن، فقد صارت منطقة العمليات بأكملها ساحة للمعركة ولا يوجد مكان للاختباء. إذ يمكن للطائرات المسيرة تنفيذ الدوريات فوق الطرق، واستطلاع المواقع ذات المخزونات اللوجيستية المحتملة، والتقرب من إشارة الحرارة بالأشعة تحت الحمراء في الليل لاكتشاف وحدة مدفعية مخفية أو طابور دبابات متحرك. إن قدرة الطائرات المسيرة على الرؤية في جميع أنحاء منطقة القتال، يخلق فعليا ساحة معركة شفافة، بصورة لم يسبق لها مثيل.

لا تستطيع الطائرات المسيرة رصد الأهداف في جميع أنحاء منطقة القتال فحسب، وإنما يمكنها أيضا مهاجمة تلك الأهداف. و«الهدف» في الاصطلاح العسكري يتلخص في إنشاء «رابطة بين المُستشعر إلى الرامي» قادرة على العثور على الهدف في الوقت المناسب، وبقدر كبير من الدقة، وتدمير الهدف تماماً. وتستطيع الطائرات المسيرة أن تحل محل «المُستشعر» من تلك المعادلة عبر توفير معلومات فورية ودقيقة بنظام تحديد المواقع العالمي. لكن حتى وقت قريب، وحتى إذا كان جهاز استشعار الطائرات المسيرة دقيقا وفي الوقت المناسب، فإن الأدوات اللازمة لمهاجمة هذا الهدف كانت «بليدة» نسبيا. إذ تعد المدفعية والصواريخ التقليدية غير دقيقة إلى حد كبير، وغالبا ما تتطلب مئات الطلقات لتدمير الهدف. على سبيل المثال، تُطلق في أوكرانيا أكثر من 65 ألف طلقة يوميا، أي ضعف عدد القذائف التي يمكن للولايات المتحدة إنتاجها شهريا.

مسيّرة أميركية شاركت في المعارك ضد تنظيم «داعش» في العراق (أ.ف.ب)

كما تساعد الطائرات المسيرة في حل مشكلة «الرامي»، مع ظهور الأسلحة الدقيقة المخصصة بالليزر والموجهة بنظام تحديد المواقع العالمي، إذ يمكن للفرد أو الطائرة مع المعدات المناسبة توجيه القذيفة إلى الهدف بدقة كافية لتحقيق التدمير بقذيفة واحدة. ومع ذلك، فإن الأفراد والطائرات مقيدين بظروف الطيران، وتوافر الطائرات، والظروف الأرضية، ومجال الرؤية المحدود، ومجموعة من التحديات الأخرى التي تعيق القدرة على رؤية الهدف أو الاشتباك معه. فالطائرات المسيرة ليست أفضل بكثير في رؤية الأهداف فحسب، وإنما يمكنها أيضا الاشتباك مع الهدف بعدة طرق. ويمكنها توفير رابط فيديو مع بيانات استهداف دقيقة، وتوفير تحديد الليزر لتوجيه طلقة دقيقة إلى هدف، وحمل وإطلاق الصواريخ ضمن حمولتها الخاصة، أو القيام بدور «طائرة مسيرة انتحارية» لمهاجمة الهدف مباشرة.

ويرى كثيرون أن الطائرات المسيرة تعمل على تغيير طبيعة الحروب، وسوف تكون السلاح السائد في ساحة المعركة في المستقبل. وإلى أقصى حد، يتصور المنظرون ساحة معركة مليئة بالتكنولوجيا ولكنها خالية من البشر. وسوف يتم توجيه الدبابات ذاتية القيادة من قبل مُشغلين بعيدين عن ميدان المعركة، وسوف يتم توجيه الطائرات المسيرة والطائرات ذاتية القيادة من خلال الذكاء الاصطناعي و«شات جي بي تي»، وسوف يتم تعريف النصر من خلال من لديه عدد ماكينات متبقية في نهاية المعركة.

قد يحدث هذا يوماً ما، ولكنه ليس اليوم. ولن يكون ذلك قريباً. في الآونة الراهنة، تعد الطائرات المسيرة مُحصنة وثورية، ولكن كما هو الحال في كثير من الأحيان، تتغلب التكنولوجيا الأفضل على التكنولوجيا الراديكالية الجديدة بوتيرة سريعة، التي إما أن تقفز إلى الأمام أو تُحيّد تلك التكنولوجيا الجديدة كلياً. في حالة تكنولوجيا الطائرات المسيرة الحالية، باتت الجيوش تستغل ميزاتها، ولكن تكنولوجيا مكافحة الطائرات المسيرة تتسابق لسلبها تلك المزايا. فالطائرات المسيرة ليست مُحصنة على الدوام، إذ يمكن إسقاطها، ولا بد من توجيهها، كما تحتاج إلى وصلات بيانات لنقل المعلومات إلى المشغلين، وهم بحاجة إلى صور واضحة للهدف. ويمكن تعطيل هذه العناصر أو إلغاؤها، ولا سيما الوصلات اللاسلكية المهمة التي يمكن تعرضها للتشويش أو الخداع أو الإعاقة.

وعلى الرغم من نقاط ضعفها، فإن الطائرات المسيرة لها تأثير كبير على كل ساحة القتال، سواء أكانت حرباً شديدة الكثافة كما في أوكرانيا، أم هجمات على عناصر الشحن الدولي قبالة ساحل اليمن، أو إطلاق عمليات مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم. وقد أثبتت الطائرات المسيرة أنها متعددة الاستخدامات، وغير مُكلفة، وفعالة إلى حد استثنائي، ولا سيما مع الأهداف العميقة مثل مراكز القيادة، ومواقع المدفعية، والأهداف العالية القيمة مثل الإرهابيين. ومن المحتم أن تواصل تكتيكات وتقنيات مكافحة الطائرات المسيرة الحد - إلى قدر ما - من فاعليتها الإجمالية، ولكن حتى إذا تضاءلت قدراتها، فإن الطائرات المسيرة سوف تحتفظ بدور مهم ودائم في ساحة المعركة الحديثة.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».