روسيا تعزز مكاسبها في 2024 وتستعد لاتساع الشرخ في المعسكر الغربي

حرب أوكرانيا «مؤجلة»... وتنشيط الانخراط في ملفات إقليمية

بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو خلال زيارة لمركز تدريب عسكري في أكتوبر (أ.ف.ب)
بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو خلال زيارة لمركز تدريب عسكري في أكتوبر (أ.ف.ب)
TT

روسيا تعزز مكاسبها في 2024 وتستعد لاتساع الشرخ في المعسكر الغربي

بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو خلال زيارة لمركز تدريب عسكري في أكتوبر (أ.ف.ب)
بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو خلال زيارة لمركز تدريب عسكري في أكتوبر (أ.ف.ب)

يبدو المشهدان الإقليمي والدولي مواتيين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نهاية العام. كان 2023 أكثر المحطات اضطراباً وقلقاً خلال السنوات العشر الماضية؛ على الصعيدين الداخلي والخارجي. شهدت روسيا منعطفات خطرة وأحداثاً كبرى.

كاد التمرد العسكري لمجموعة «فاغنر» مدعوماً بتأييد جنرالات بارزين، ومساحة واسعة من القبول الشعبي، يدخل روسيا، في منتصف العام، نفقاً من الفوضى الداخلية. لكن الكرملين خرج منتصراً في معركة داخلية حاسمة ونجح في القضاء بضربة قاضية على خصومه. وأطلق عملية تطهير داخلية واسعة غاب معها تهديد انتشار السلاح والطموحات السياسية لدى أطراف عدة شكلت مراكز ضغط وتأثير.

الأحوال المعيشية شهدت هزات كبرى. وبدا في بداية العام أن الاقتصاد الروسي بدأ يترنح تحت ثقل 11 رزمة من العقوبات الشاملة. لكن المؤشرات انتقلت، مع حلول الخريف، من الجمود إلى تحقيق تحسن في عدد من القطاعات. وبدا أن روسيا بدأت تتعايش مع العزلة الاقتصادية عن الغرب، وحسنت شروط مواجهة التداعيات القاسية، وانتقلت إلى تسجيل أرقام نمو في مجالات عدة.

على جبهات القتال في البلد المجاور، كرس العام الماضي معادلة فشل الرهان على تحقيق انتصار عسكري على روسيا. بدل الكرملين بدوره الأولويات، وبعد اختراق باخموت في منتصف العام، لم يعد يولي اهتماماً لتقدم واسع على الجبهات. لكنه حصن في المقابل خرائط «الأمر الواقع» التي أقامها بعد ضم المقاطعات الأوكرانية، محبطاً كل محاولات التقدم في إطار الهجوم الأوكراني – الغربي المضاد.

في السياسة الدولية؛ سارت الرياح وفقاً لهوى بوتين، مع اتساع الشرخ في المعسكر الغربي حيال ملف المساعدات الحربية لكييف وجدوى الضغوط الاقتصادية على موسكو. وفتحت حرب غزة في الخريف على مكاسب جديدة. ولم يمنع ضعف تأثير التحالفات الإقليمية التي رعاها الكرملين، مثل «بريكس» و«شنغهاي» و«رابطة الدول المستقلة»، على الأحداث العالمية، من تطوير سياسات تقوم على مراكمة فوائد لموسكو وحلفائها.

انقضت أصعب الأوقات؛ وفقاً للكرملين ولتيار واسع داخل روسيا. وبدا أن موسكو تستعد مع حلول العام الجديد لحصد نتائج.

أوكرانيا... تجميد الصراع

بين أبرز توجهات سياسات بوتين في 2024 المحافظة على جمود خرائط الصراع العسكري في أوكرانيا. لا يتوقع خبراء بارزون أن يبادر الكرملين لشن هجوم واسع على الأقل خلال النصف الأول من العام. ولهذا مبررات قوية من وجهة نظرهم؛ إذ لا تحتاج موسكو لتغيير ميداني واسع قد يسبب تبدلاً في موازين القوى القائمة. في حين تستعد البلاد لاستحقاق انتخابي مهم في مارس (آذار) المقبل. ومع أن نتيجة الانتخابات الرئاسية معروفة سلفاً؛ فإن هذا لا يقلل من أهمية الحدث، الذي يكرس بوتين عملياً زعيماً للأمة، وسيداً للكرملين مدى الحياة. خلافاً لتساؤلات قلقة كانت قد برزت سابقاً عن مدى قدرة صاحب قرار الحرب المثير للجدل على الصمود في كرسيه. هذا الاستحقاق سوف يعني تكريس نهج «البوتينية» في روسيا لسنوات طويلة مقبلة بعدما توقع الغرب انهياره.

زينة العام الجديد في موسكو: نجمة الكرملين بعلامة «زد» شعار الجيش الروسي في أوكرانيا (أ.ف.ب)

في هذا الإطار؛ يمكن رصد توجهات عدة لبوتين على صعيد معركته في أوكرانيا.

نجحت القوات الروسية في تجميد القتال على طول خط المواجهة بالكامل، ومنع وقوع اختراقات كبيرة. وغدا النجاح يقاس بتقدم لبضع مئات من الأمتار، أو تراجع بمثلها. ويقول الخبراء العسكريون إن موسكو قد تطور حصارها على أفدييفكا (دونيتسك) من دون شن هجوم كبير لا يحتاجه الكرملين، لتأكيد «شعبية» بوتين في المرحلة المقبلة، كما أن مخاطره مرتفعة للغاية، وقد تنعكس سلباً إذا وقعت خسائر كبيرة في صفوف الجنود الروس.

العنصر الثاني على هذا الصعيد أن موسكو باتت في وضع رابح جزئياً في «حرب الاستنزاف»؛ لذلك تركز توجهاتها على السعي لتوسيع الشرخ في صفوف الغرب، وهي تستعد لمزيد من التململ الأوروبي، وأن تحذو بلدان عدة حذو سلوفاكيا والمجر وهولندا في تخفيف لهجتها حيال موسكو والدعوة بشكل أكثر إلحاحاً إلى فتح حوار معها.

في الإطار ذاته، تشير معطيات موسكو إلى استنفاد الأسلحة والذخيرة من مخازن الغرب، مما يعني أن تكلفة إمدادات أوكرانيا ستكون أعلى في المرحلة المقبلة. وهذا بدأ ينعكس في توجه بعض البلدان الغربية لدعم إنشاء صناعات دفاعية مشتركة مع كييف بديلاً للإمدادات العسكرية بالأسلحة والتقنيات المصنوعة في بلدان «حلف الأطلسي».

يراهن الكرملين على أن جمود الصراع يوفر أساساً مهماً لتوسيع الشرخ لدى الغرب، ويضعف أكثر قدرات كييف على المناورة، خصوصاً مع انتظار وتشجيع صراعات داخلية في أوكرانيا قد تتطور مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الداخلي المؤجل حتى الآن.

ولا يتوقع خبراء أن يحدث تطور عسكري واسع قبل حلول منتصف العام المقبل، وغالباً سوف تكون مقدماته مرتبطة بالمشهد الداخلي الأوكراني، ومستوى الترهل الذي يتوقع الكرملين أن يصيب الحلف الغربي.

عموماً تميل التقديرات إلى أن عام 2024 سيكون حاسماً بالنسبة إلى تحديد مصير الحرب مع اقترابه من الربع الأخير.

تعزيز جبهة الحلفاء

على الرغم من أن تحالفات روسيا الإقليمية لم تنعكس خلال العام الماضي في إظهار تماسك صلب يدعم مواقف الكرملين تجاه الغرب، فإن موسكو نجحت في تحقيق اختراقات عدة؛ بينها توسيع خطوط التبادل التجاري البديلة، في مواجهة الحصار الغربي، وزيادة نسبة التبادل بالعملات الوطنية في إطار «شنغهاي» و«بريكس» وبشكل ثنائي مع حلفاء «استراتيجيين» مثل الصين، لتصل إلى نحو نصف حجم التجارة الخارجية الروسية. هذا المسار سوف يتواصل بقوة خلال العام الجديد، وتسعى موسكو إلى تعزيز مسار طرق الإمداد البديلة، خصوصاً «ممر شمال - جنوب» بالتعاون مع الصين وإيران وبلدان جنوب القوقاز، وتحسين شروط التبادل التجاري مع حلفائها.

على صعيد السياسة الدولية؛ يعمل الكرملين على تثبيت انحيازه لبلدان «الجنوب» في إطار مواجهة الهيمنة الأميركية على الملفات الإقليمية. وهذا التوجه بدأ يتخذ منحى أوضح مع اندلاع حرب غزة. لذلك تسعى موسكو إلى توسيع التعاون في أفريقيا، وهي هيأت لذلك عبر إعادة ترتيب وجود مجموعات بديلة لـ«فاغنر» في عدد من بلدان القارة؛ مما يؤسس لاستمرار التدخل المباشر في السياسات الداخلية ودعم بعض البلدان في مواجهة الضغوط الغربية.

بالمقياس نفسه؛ تتعامل موسكو مع ظروف تنشيط عمل مجموعة «شنغهاي» ومسار توسيع حضور تكتل «بريكس» في السياسات الإقليمية، على الرغم من أن التباينات الداخلية لدى أعضاء التكتلين شكلت عناصر عرقلة في السنة الماضية، ومثال ذلك التباينات الصينية - الهندية.

قادة «بريكس» خلال اجتماعهم في جوهانسبرغ في أغسطس (أ.ف.ب)

في العلاقة مع الحليف الأبرز الصين، الذي سوف يتحول أكثر خلال عام 2024 إلى الشريك «الأكبر» بعدما كانت موسكو تسعى إلى تكريس الندية في التعامل معه في السابق، تخطط روسيا والصين لإطلاق مشروعات مشتركة في مجالات عدة عام 2024؛ بما في ذلك على صعيد تعزيز تنسيق السياسات الخارجية وتعزيز مسار المشروعات الاستراتيجية المشتركة. من ذلك؛ خطط لمشروعات عملاقة في مجال بناء السفن والتقنيات الشاملة والطاقة الخضراء. علماً بأن الصين باتت تحتل مكان الاتحاد الأوروبي سابقاً شريكاً تجارياً أول. وخلال عام 2023، ارتفع حجم التجارة الثنائية بنسبة 23 في المائة ليصل إلى 201 مليار دولار.

إيران الحليف الاستراتيجي

بين التوجهات الرئيسية للسياسة الروسية في العام الجديد؛ مواصلة تعزيز العلاقة بإيران بصفتها الشريك الإقليمي الأبرز لروسيا. وقد وضع ترسيخ الشراكة في الحرب الأوكرانية، والإمدادات الكبرى التي قدمتها طهران لموسكو خلال العام الماضي، مقدمات للبناء على توسيع هذا التحرك المشترك، وهو ما بدأ يبرز عبر اتفاقات على صناعات مشتركة يجري العمل لتطويرها في المجالين؛ المدني (صناعة السيارات وتجميع طائرات وآليات...)، والعسكري الذي يتعلق بالدرجة الأولى بتطوير التعاون في مجال صناعة المسيّرات ومواصلة العمل على تطوير قطاع الصواريخ الدفاعية. في هذا الإطار يصب أيضاً الحديث عن احتمال تزويد إيران بصفقة طال انتظارها من مقاتلات الجيل الأحدث من «سوخوي».

وتشير تقديرات روسية وإيرانية إلى توجه الطرفين في النصف الأول من 2024 إلى توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية، جديدة وشاملة. جرى العمل على وضع الاتفاقية؛ التي ينتظر أن تنقل العلاقات إلى مستوى نوعي جديد، لمدة عامين، وباتت تنتظر مراسم التوقيع الرسمية بعدما تم التوصل إلى صيغتها النهائية التي تشمل كل مجالات التعاون المستقبلي.

على الصعيد الإقليمي؛ لا يخفي البلدان عزمهما على تعزيز التطابق في وجهات النظر حيال الملفات المطروحة، خصوصاً ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وملف الصراع الدائر في سوريا، الذي ينتظر أيضاً أن يدخل خلال العام المقبل مرحلة جديدة.

سوريا... ساحة صراع متجدد

قادت حرب أوكرانيا، والمواقف التي تبنتها تل أبيب في تقديم دعم صريح لكييف، بالإضافة إلى التداعيات اللاحقة التي سببتها الحرب الدائرة في غزة، إلى تبدل مهم في أولويات روسيا في سوريا.

ظهر ذلك بالدرجة الأولى في انتقال موسكو إلى سياسة أقل حذراً وحساسية تجاه مساعيها السابقة للمحافظة على التوازن الدقيق الذي أقامته بين علاقاتها بإيران من جانب؛ وبإسرائيل من الجانب الآخر. وقد تجلى هذا المسار في ازدياد وتيرة الإدانات الروسية للضربات الإسرائيلية على مواقع إيرانية في سوريا، وفي التراجع عن استعدادات في السابق للتوصل إلى صفقة مع الغرب تقوم على «ضبط الوجود» الإيراني في سوريا، وهو أمر برز عبر لقاءات رؤساء مجالس الأمن القومي في روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل، وكذلك عبر تفاهمات سابقة على إبعاد إيران عن مواقع «حساسة» مثل خطوط التماس في الجولان.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال المؤتمر الصحافي في قاعة المعارض غوستيني دفور بوسط موسكو (رويترز)

حالياً؛ مالت موسكو نحو تخفيف التزاماتها في هذا الشأن، ومع حلول نهاية العام نفت موسكو صحة تقارير غربية عن استعداد للوساطة لتجديد اتفاق إبعاد إيران عن الجولان بمسافة 80 كيلومتراً. والأكثر من ذلك؛ تردد تقارير حول تقديم تسهيلات لنقل إمدادات إيرانية عبر المطارات السورية التي تسيطر عليها موسكو بديلاً عن المطارات التي تقصفها إسرائيل دورياً.

يضاف إلى هذا العنصر؛ أن موسكو شجعت بشكل مباشر أو غير مباشر أحياناً على توسيع استهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق.

يتوقع خبراء أن تواصل موسكو تعزيز هذا المسار خلال المرحلة المقبلة، مع ميلها إلى مواصلة الحرص على عدم انزلاق الأمور إلى مواجهة شاملة قد تسفر عن توسيع النطاق الجغرافي لحرب غزة إقليمياً.

يعني ذلك تحول سوريا مجدداً إلى ساحة صراع نشط وإن كان «مضبوطاً» إلى درجة معينة بين الفاعلين الخارجيين، مع توقع أن تتخلى موسكو عن تحركات لضبط الحضور الإيراني في هذا البلد. في الوقت ذاته، وانعكاساً لهذا التطور، يتوقع خبراء أن يشهد العام المقبل تدهوراً أوسع على صعيد غياب مفاعيل التفاهمات الروسية - الإسرائيلية والروسية - الأميركية في مجال «بروتوكولات عدم التصادم»؛ مع المحافظة على الحد الأدنى الذي يمنع وقوع مواجهة مباشرة.


مقالات ذات صلة

أوكرانيا تتهم روسيا بـ«ممارسات تنم عن إبادة» في استخدامها الألغام

أوروبا المسؤول بوزارة الدفاع الأوكرانية أولكسندر ريابتسيف (يمين) خلال مؤتمر قمة سيام ريب - أنغكور حول عالم خالٍ من الألغام في مقاطعة سيام ريب بكمبوديا 26 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

أوكرانيا تتهم روسيا بـ«ممارسات تنم عن إبادة» في استخدامها الألغام

قال ممثل لوزارة الدفاع الأوكرانية، إن روسيا تقوم ﺑ«ممارسات تنم عن إبادة» من خلال استخدام الألغام المضادة للأفراد في أوكرانيا، وذلك خلال قمة دولية في كمبوديا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بعد لقائهما في أثينا الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 (أ.ب)

أمين عام «الناتو»: الحلف «يحتاج إلى الذهاب أبعد» في دعمه أوكرانيا

قال الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي مارك روته، الثلاثاء، إن الحلف «يحتاج إلى الذهاب أبعد» لدعم أوكرانيا في حربها ضد الغزو الروسي.

«الشرق الأوسط» (أثينا)
أوروبا أضرار في موقع هجوم صاروخي روسي ضرب مبنى إدارياً لبنك متوقف عن العمل جنوب غربي أوكرانيا 25 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

روسيا تستهدف البنية التحتية الأوكرانية بأكبر هجوم مسيّرات منذ بدء الحرب

قال مسؤولون أوكرانيون، الثلاثاء، إن القوات الروسية شنّت أكبر هجوم لها على الإطلاق بطائرات مسيّرة على أوكرانيا الليلة الماضية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني شي جينبينغ (رويترز)

تقرير: الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات على شركات صينية تدعم روسيا

كشف تقرير صحافي أن الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات على عدة شركات صينية يُزعم أنها ساعدت شركات روسية في تطوير طائرات مسيرة هجومية تم استخدامها ضد أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (بروكسل )
أوروبا مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين (أرشيفية - رويترز)

مدير المخابرات الروسية: نرغب في «سلام راسخ وطويل الأمد» في أوكرانيا

قال مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسية إن بلاده تعارض تجميد الصراع في أوكرانيا؛ لأن موسكو بحاجة إلى «سلام راسخ وطويل الأمد».

«الشرق الأوسط» (موسكو)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.