2024 ليست سنة حسم

جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
TT

2024 ليست سنة حسم

جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)
جنود الاحتلال يتموضعون على الحدود مع غزة المدمرة (أ.ف.ب)

يطلّ العام الجديد على العالم خَجِلاً مما جرى خلال العام المغادر ومن ضعف الأمل في أن يأتينا هو بجديد. يكفي أن نلاحظ أن تجديد النظام الدولي متعدد الأطراف، أو بث طاقة من النشاط في عروقه، والذي كان محور نقاش في مراكز البحث وقاعات الدرس ومقالات الصحف ودردشات الميديا في أركان العالم الأربعة، قد تلقى ضربة موجعة بما حدث في مجلس الأمن في نيويورك أخيراً.

عُطّل مجلس الأمن عن أداء دوره، ومن ثم جرى تمكين دولة قائمة بالاحتلال العسكري غير المشروع من ممارسة القتل الجماعي، واستهداف مساحات سكانية هائلة محمية بمقتضى القانون الدولي؛ مما يعني انتهاء عصر الاستناد إلى القانون الدولي، أو احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وهذا له نتيجتان رئيستان؛ أولاهما أن الدول راعية النظام الدولي قد تخلت عنه وعن أساسياته، وأنها تسقطه إسقاطاً، والأخرى أن على الجميع أن يعي أن عليه البحث عن أسباب القوة التي أصبحت وسيلة حل النزاعات، وألا يصدقوا، بل أن يحذروا، ما تقوله لهم، أو تعدهم به الدول العظمى المفترض أنها راعية هذا النظام. ومن ثم يكون من حسن الفطن الاستعداد لسنوات، بل لعقود من الفوضى واختلال الأمن وخرق الحدود والمساس بسيادة الدول وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والخداع والكذب الرسمي، والعودة إلى سياسات التفرقة العنصرية وعدم التسامح الديني، بل عودة الاستعمار القديم وإن بأثواب جديدة تغطي أدرانه وبلواه.

مندوبة أميركا في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفلد تصوت ضد وقف النار في غزة الأسبوع الماضي (رويترز)

أكاد أقول إن ما تحقق في القرن العشرين من حق تقرير المصير للشعوب وإزالة الاستعمار، وتحقيق استقلال الدول وعقود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعمل على دعم الأمم المتحدة وميثاقها ومؤسساتها لتحقيق علاقات دولية إيجابية مستندة إلى أطر متفق عليها من مبادئ القانون الدولي واتفاقياته ومحاكمه... كل هذا وكأنه اليوم يذهب مع الريح، بعد أن كشفت الدول التي ادعت رعايتها لعالم ديمقراطي حر مستند إلى جملة من الترتيبات، التي تُرسي «نظاماً دولياً رشيداً»، عن مضمون مصاب بازدواجية المعايير، وممارسة التمييز وغرور القوة، والتفرقة العنصرية، واحتقار الآخرين الذين هم دول وشعوب العالم الثالث الذي يسمى الآن الجنوب العالمي. إن ذلك يشي بمواجهة طويلة المدى تنتهي نهايةً قد لا تبقي ولا تذر، وكيف لا وقد أصبحت الحماقة سيدة الموقف في رسم السياسات وحماية الجرائم والاستغناء عن النظام الدولي.

وإذا عدنا إلى منطقتنا التي تسمى الشرق الأوسط، والتي يجب تسميتها «العالم العربي وآخرون»، فقد واكبنا في السنوات الماضية منذ عام 2011 ممارسات سياسية آتية عبر الأطلنطي سميت «الفوضى الخلاقة»، كان من نتائجها هذا الذي لا نزال نراه في ليبيا والسودان واليمن وسوريا ولبنان، بعدما جرى من تدمير العراق؛ وهو الأمر الذي لا تزال تونس تجاهد للتخلص من آثاره. ولم تنجُ منه إلا مصر التي وعت بأبعاده مبكراً، رغم أن المحاولة لا تزال جارية، وتتخذ أشكالاً مختلفة؛ منها ما هو في البر، وما هو في البحر، وما هو في النهر وغير ذلك. وكان أحد الأهداف الرئيسية لسياسات «الفوضى الخلاقة» إزالة القضية الفلسطينية من قائمة أولويات المشاكل، ثم إزاحتها كلياً بدعوى أنها من مخلفات الماضي ومعوقات المستقبل.

لكن الأمور ما لبثت أن انكشفت تماماً، حين ظهرت السياسات الإسرائيلية المُغرقة في العنف وفي العنصرية، بل وفي الجشع للاستيلاء على الأراضي، وعدم الاهتمام بمصير الإنسان العربي تحت الاحتلال، بل الإنسان العربي عامة ولا برد فعله، والتفرقة إزاءه وتحقيره وإهانته، وهي سياسات كان من المنطقي أن تعزز الاضطراب وتوطد للنزاع وتمهد لوقوع الانفجار. وقد حدث ذلك فعلاً، وعاينه العالم مندهشاً، في صبيحة يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

الآن، تخضع احتمالات مستقبل التطورات في القضية الفلسطينية للبحث، وقد يكون عام 2024 هو الوعاء الزمني الذي يسمح بتبادل الرأي فيما يجب عمله.

والآن، تخضع احتمالات مستقبل التطورات في تلك القضية الحيوية للبحث، وقد يكون عام 2024 هو الوعاء الزمني الذي يسمح بتبادل الرأي فيما يجب عمله... فأولاً، من المستحيل القبول بالسياسات الإسرائيلية السابقة على 7 أكتوبر (في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة)، أي تكريس الاحتلال بالوسائل الدموية والخداعية وغيرها. ثانياً، من الضروري التوجه الجدي نحو إقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية، ورفض الترديد العشوائي لهذا الهدف (Lip service) وتحويله سياسات فاعلة. قد يقول قائل أكثر دراية: وكيف لنا بذلك؟ وأقول بأن نبدأ بما هو ممكن وفي أيدينا أن نفعله فورياً ومبكراً في العام الجديد، وهو ضم الصفوف العربية (بقدر الإمكان عدداً وتوافقاً على مضمون السياسات)، وشرط النجاح هنا هو الحذر من الوقوع في شراك الابتسامات الغربية الفاتنة ووعودها غير المخلصة وسياساتها القادرة على إيقاع الفرقة.

كما أن من الممكن أن نساعد إخواننا في فلسطين لضم صفوفهم وإصلاح علاقاتهم في ما بينهم، وتقليل قابليتهم للاختراق، والخروج بمبادرة (في إطار المبادرة العربية لعام 2002) يلتزمون بها جميعاً، وتلتزم بها معهم دول الجامعة العربية كموقف عربي يُعاد تأكيده وتوحيده مع الاتفاق على عدم الخروج عنه مرة أخرى، خصوصاً في ضوء الموقف العنصري المتطرف للحكومة الإسرائيلية. هذه بدايات ممكنة، يُضاف إليها رهن تطوير العلاقات العربية مع إسرائيل بضرورة توقف الأخيرة عن بناء المستوطنات رسمياً وفعلياً، والامتناع عن تدمير القرى والمباني الفلسطينية وطرد سكانها، وعن اختراق (تدنيس) المسجد الأقصى. مثل هذه المواقف العربية ممكنة، وتستطيع إحداث اختراق في سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية المدعومة غرباً.

أما عن الجانب الإسرائيلي، فرغم النداءات المتوالية لحركة السلام الإسرائيلية لتخرج إلى العلن رافضة لسياسات حكومتهم الحالية وممارساتها اللاإنسانية في غزة ضد سكانها المدنيين، لم نسمع منهم صوتاً.

غني عن البيان أن حكومة إسرائيلية كتلك الحالية وتحت رئاسة بنيامين نتنياهو لا يمكن أن تكون مفاوضاً مقبولاً للسلام العادل، تماماً كما أن مفاوضاً فلسطينياً منقسماً ضعيفاً لن يكون مفاوضاً فعّالاً يأتي للشعب الفلسطيني بحقوقه.

كل هذا يجب أن يتغير... فهل يكفي عام 2024 لإحداث ذلك؟

قد يقتصر هذا العام، على الأقل، على إحداث الحركة نحو موقف عربي أفضل، ووضع فلسطيني أكثر صحة، كما أنه قد يشهد تغييراً جذرياً في الحكومة الإسرائيلية، لكنه مع ذلك لن يكون كافياً لإحداث ما نرجوه من حسم.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

11 سبتمبر... ماضٍ أدمى العراق وحاضر يهدد أفغانستان

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
TT

11 سبتمبر... ماضٍ أدمى العراق وحاضر يهدد أفغانستان

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

فقدت ذكرى هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة، أهميتها مع مرور السنين، لكن آثارها لا تزال حية في منطقة الشرق الأوسط وجوارها.

من دفاتر الماضي، تستعيد «الشرق الأوسط» قصة لقاء «فاشل» استخدمه الرئيس الأميركي جورج بوش في تبرير غزو العراق. اللقاء كان في الخرطوم بين أسامة بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة»، وفاروق حجازي، رئيس العمليات الخارجية في مخابرات الرئيس العراقي صدام حسين، وبوساطة من القيادي الإسلامي السوداني حسن الترابي.

قبله بشهور، دخل الجناح السوري لـ«الإخوان المسلمين» على خط وساطة مشابهة، انتهت إلى «تكفير» بن لادن نظام «البعث» العراقي. صحيح أن موقفه في اللقاء مع حجازي لم يكن بالحدة ذاتها، لكن محاوره استنتج صعوبة «إدارة» علاقة مع رجل بطباع بن لادن، ونقل ذلك إلى صدام في بغداد، لينتهي المسعى. غير أن ذلك لم يمنع انضمام اللقاء إلى قائمة ذرائع الغزو الأميركي.

ومن وقائع الحاضر، ترصد «الشرق الأوسط» نذر تكرار لتجربة «القاعدة» في جبال تورا بورا بأفغانستان، في ظل النسخة الثانية من حكم حركة «طالبان». صحيح أن التنظيم يبدو عاجزاً عن شن هجمات ضخمة بحجم «غزوتي نيويورك وواشنطن»، أو الإعلان عن هوية زعيمه الجديد خلفاً لأيمن الظواهري، رغم مرور أكثر من سنتين على مقتله، لكن تقارير أممية حديثة تؤكد أن التنظيم يقوم حالياً بإعادة بناء صفوفه بعدما أقام سلسلة معسكرات تدريب ومدارس دينية في أفغانستان، مما يشكل تهديداً جديداً للبلاد.