فراغ... وازدحام!

اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي شهد استعادة سوريا مقعدها بالجامعة العربية (رويترز)
اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي شهد استعادة سوريا مقعدها بالجامعة العربية (رويترز)
TT

فراغ... وازدحام!

اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي شهد استعادة سوريا مقعدها بالجامعة العربية (رويترز)
اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي شهد استعادة سوريا مقعدها بالجامعة العربية (رويترز)

لا يمكن الادعاء بأن الدول العربية مجتمعة استطاعت في الماضي إقامة نظام إقليمي فاعل ينظم العلاقات بينها ويمكّنها من إدارة تعاونها، أو العمل المشترك بما يخدم مصالحها ومصالح شعوبها. ولن أحاول في هذا المقام توجيه اللوم إلى البنية الحالية المتمثلة بالجامعة العربية؛ إذ من المعلوم أن نجاح أي منظمة إقليمية أو دولية يعتمد بصورة أساسية على توفر الإرادة السياسية لدى أعضائها.

وفي ظل غياب مثل ذلك النظام الإقليمي، شهدت العقود الأخيرة، وتحديداً منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، تغييرات كبرى عصفت بهذه المنطقة ولا تزال تداعياتها مستمرة. فمنذ احتلال العراق للكويت دخل الإقليم حالة حادة من عدم الاستقرار، وغياب التوازن، وشهد حرباً كبرى لإنهاء ذلك الاحتلال، أعقبتها حرب أميركا على العراق عام 2003، ثم الحروب الإسرائيلية على كل من فلسطين ولبنان، والتي قد لا يكون آخرها ما نشهده من حرب إبادة ضد الفلسطينيين، خاصة في غزة.

توازى كل ذلك مع انهيارات داخلية شملت عدة دول، ما فاقم من إنهاك واستنزاف هذه المنطقة بصورة لم تحصل في أي إقليم منذ الحربين الكونيتين، وأدى إلى فراغ هائل، وإلى زيادة تأثير القوى الدولية الخارجية، وتنامي نفوذ الأطراف غير العربية، وأقصد هنا إيران وتركيا، وكل منهما تشكل جزءاً طبيعياً من هذا الإقليم، وقبلهما إسرائيل، الدولة التي فرضها الغرب، والتي لا تزال غير مستعدة للتجاوب مع دعوات العيش الطبيعي في المنطقة من خلال تلبية متطلبات قبولها.

والفراغ هنا، سبب ونتيجة لعدم توفر القدرة العربية على تأسيس عمل إقليمي مشترك، الأمر الذي أدى إلى تخلف المنطقة عن مختلف مناطق العالم فيما يتعلق بانفتاح أجزائها على بعضها. ورغم تفاوت قدرة الأطر الإقليمية الموجودة في العالم، نلاحظ أن العمل الأوروبي المشترك، على سبيل المثال، قد تطور وتراكم، عبر عقود سبعة، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي الحالي، الذي نجح، رغم ما يعانيه من تحديات، في تأسيس إطار «فوق وطني» شكل، بنسبة معقولة، شبكة أمان لأعضائه في مجالات عديدة، وقدم نموذجاً على فوائد مثل تلك الشبكة للدول الوطنية.

فالدولة الوطنية عموماً، تواجه تحديات ومشكلات تتجاوز حدودها، لا تقتصر على قضايا مثل الأمن المشترك والمياه والبيئة والكوارث الطبيعية والمخدرات والهجرة وغيرها، بل إن متطلبات الانفتاح الاقتصادي والتنمية تستدعي وجود بنى تحتية مشتركة وما يلزمها من مشروعات عابرة للحدود. علما بأن ثورة الاتصالات والمعلومات، وتنقل رؤوس الأموال، زادت من التحديات والفرص، كما غيرت من تعريف مفهوم السيادة التقليدية.

إن المنطقة العربية بحاجة حقيقية إلى تعزيز قدرات دولها على تنمية اقتصادها والانفتاح على بعضها بما يوسع أسواقها ويزيد إنتاجية قطاعاتها الاقتصادية، ويمكنها من الاستفادة من «اقتصاديات السوق». كما أن معظم الدول العربية تواجه، بالإضافة إلى التحديات المذكورة، تهديدات التطرف والإرهاب، وما يمكن أن يحمله كل ذلك على أمنها الوطني من أخطار.

ومن المعلوم أن أعداداً غير قليلة من المعنيين بالشأن العام لا تزال تجد صعوبة في المواءمة بين الانتماء الوطني والانتماء القومي الأشمل، وكأنه من المفروض أن يكون هناك تناقض جذري بين الانتماءين. ومن المفيد التذكير هنا، أن حالات فشل الدولة الوطنية التي شهدها العالم العربي منذ «الربيع العربي»، لم تؤدِّ إلا إلى الانزلاق إلى ممارسات ما قبل تأسيس الدول، وإلى ما كان سائداً من انقسامات طائفية وقبلية وإثنية.

ولما كانت تلك التحديات تمس مباشرة بالأمن الفردي للدول والمجتمعات، فإن القدرة على مواجهتها لا بد أن تتعزز من خلال مقاربتها والتعامل معها على أساس مشترك. إن بناء أرضية مشتركة للتعاون يشكل ضرورة حيوية لا غنى عنها، آجلاً أو عاجلاً، فهذه الأخطار لن تختفي مع الزمن، لا بل إنها قد تزداد وتتفاقم.

وليس من المفروض أن تتفق الدول التي قد تسعى إلى مثل ذلك التعاون، منذ البداية، على كل تفاصيل القضايا والمواضيع التي قد تدخل ضمن نطاقه. إن البدء في التعامل معها والقبول بالتدرج في مراكمة النتائج قد يخلق ديناميكية تشجع على المضي قدماً.

إن نقطة الانطلاق تكون عبر الإقرار بالمصالح المشتركة، وتأسيس الإرادة السياسية للعمل على حمايتها وتنميتها. وهذا يشمل أساساً، وأولاً، عدم ترك هذه المنطقة عرضة لفراغ يؤدي إلى زيادة نفوذ الأطراف الأخرى، ويعزز قدرتها على التدخل، ويزيد من الاستقطاب بين أجزائها، ويحمل المزيد من المخاطر عليها كلها.

ومثل ذلك التعاون لا يشكل بالضرورة موقفاً سلبياً تجاه الآخرين بقدر ما هو موقف طبيعي لحفظ المصالح المشتركة للدول العربية، والتي وإن وُجدت اختلافات بينها، فإن ما يجمعها من مصالح مشتركة يفترض أن يكون أكبر وأكثر مما يفرق بينها.

قد يرى البعض أن تطوير عمل الجامعة قد يكون مدخلاً نحو التأسيس لمثل ذلك العمل المشترك، إلا أن مقاربة هذا الأمر حالياً من خلال الأطر الموجودة قد لا يكون فعالاً بمقدار ما يمكن أن يؤدي إليه، أولاً، تشكيل نواة له من عدة دول، قادرة وراغبة ولها مصلحة واضحة في إرساء قواعد نظام إقليمي عربي مفتوح للجميع، يبدأ بالتعامل مع تحديات لها أولوية، يمكن بناء توافقات حولها، بما يشكل مدخلاً للعمل المشترك الذي يهدف، ابتداء، إلى درء الأخطار وتكوين رؤى مشتركة حول منهجيات التعامل مع تلك القضايا. ويجب عدم توهم سهولة مثل ذلك الجهد؛ إذ إنه يتطلب إرادة وتصميماً ومثابرةً، ومتابعةً متواصلة على أعلى المستويات.

ولا بد أن تؤدي البدايات الناجحة إلى خلق أجواء تعزز الرغبة بالتعاون. كما أن التمكن من تحقيق إنجازات مهما كانت متواضعة سيفتح آفاقاً أكبر، وسيمكّن من بناء أرضية مشتركة، مهما كانت محدودة، المشاركين من الوقوف عليها وتوسيعها، بما يؤدي إلى تضييق التباينات، وزيادة الإقبال على إعطاء الإطار الجديد حيزاً أرحب بما يشمل التعامل مع عدد أكبر من القضايا.

إن تجارب العقود الماضية أثبتت أن غياب إطار عمل مشترك لم يؤدِّ إلا إلى الانتقاص من الحقوق، وإلى التجاوز على المصالح العربية، وأن استمرار هذا الوضع سينتج مزيداً من الاستقطاب والتشظي الذي سيستمر الجميع في تحمل تبعاته ودفع كلفته.

ننتظر بداية عام جديد، والبداية نقطة أمل، فهل يمكن أن نرى بداية تغيير إيجابي باتجاه عدم استمرار ذلك الفراغ؟


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!