ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
TT

ثلاثة مفاتيح لاستقرار لبنان في 2024

الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)
الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله في استقبال الرئيس اللبناني أمين الجميل ورئيس وزراء لبنان شفيق الوزان... ويبدو رئيس المراسم أحمد عبدالوهاب (أرشيفية)

تشعّبت الانتماءات والولاءات والخسارة واحدة: الوطن والدولة.

لكن بدايةً وقبل أي إشعار آخر، تبقى غزة، ليس كمساحة بل كشعب فلسطيني يئنّ موتاً ووجعاً وجوعاً وعوزاً تحت وابل الآلة الإسرائيلية التي تحترف القتل وتتقن الغطرسة. إنها لحظة الوقوف تهيباً أمام هول المأساة التي ذهب ضحيتها عشرات آلاف القتلى والمصابين من المدنيين. إنها لحظة اختبار المجتمع الدولي المدعو فوراً إلى وقف جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، لا بل ضد الدولة الفلسطينية بالذات.

وهي لحظة اختبار الأمة الفلسطينية المدعوة إلى انبثاق مرجعية وطنية، جامعة محررة ومتحررة، يكون التزامها المجرّد بالقضية، وولاؤها المطلق لفلسطين من دون إشراك. إنها المرجعية المرجوة التي تفرض نفسها حكماً كمُحاور مأذون يمثل حصراً الحق الفلسطيني. هذا هو المدخل الطبيعي لوقف المأساة وعودة الحق إلى أصحابه، وخلاف ذلك لن يكون سوى مُدّعي سلطة، أيّاً كانت إنجازاته وبطولاته، فاقد الثقة الوطنية والدولية، وبالتالي فاقد الفاعلية لارتباطه فئوياً وجهوياً، ولربما وطنياً بما هو أبعد من فلسطين.

المطلوب الآن وبإلحاح لمنع هذه السردية القاتلة للقضية الفلسطينية، وقف الانقسامات في القيادة إيذاناً لتأمين وحدة المرجعية ووحدة الشعب، وإسقاط الـ«إيغو» لضمان انتصار القضية، وإلا تصبح إسرائيل المستفيد الأول والأخير، العائمة على بحر الخلافات الفلسطينية والدم الفلسطيني، والقادرة على إعاقة أي دعم عربي إقليمي ودولي.

والتصريحات الأخيرة للقادة في إسرائيل أصبحت واضحة لجهة رفضها قيام دولة فلسطين بالمطلق. هذه هي الفرصة السانحة وقد تكون الأخيرة للسلطة الفلسطينية وللمجلس الوطني الفلسطيني للالتئام والتحرر من القيود وجمع الشمل الفلسطيني والضغط باتجاه دولة فلسطينية مستقلة تسترجع أبناءها - كل أبنائها - من الشتات كما فعلت إسرائيل منذ قيامها في عام 1948...

أما بعد...

لعلّ تجارب التاريخ واضحة لجهة تفكك بعض الدول والكيانات. إن مشكلة بعض العالم الغربي في الماضي، والعربي في الماضي والحاضر هي مشكلة غموض في الانتماء وعدم ثبات في الولاء لمفهوم الوطن والدولة.

ومهما تلوّن الانتماء يبقى انتماءً سواء للشخص أو للحزب أو للطائفة أو للمذهب أو للآيديولوجية المستوردة أو المستوطنة، على حساب الانتماء للوطن الجامع داخلياً والمعترف به دولياً. الانتماء - الولاء للدولة العادلة والمسؤولة يبقى جامعاً، مشتركاً، موحَّداً وموحِدّاً، يبقى حوكمة لا تحكّماً، يبقى تكريساً لمرجعية السلطة ومركزيتها وحصانتها. أما الانتماء - الولاء للحزب أو للشخص أو للطائفة أو للخارج، فيغدو مثقلاً بمتفرعات قاتلة ليس أقلها تعطيل مفهوم المواطنة المنزّهة واستبدال نزعة التبعية على أشكالها به، والالتزام بعقيدة مستوردة أو مستحدثة، والاستزلام لشخص يسهم أتباعه في تأليهه.

إن انتماء كهذا يبقى مفتقراً إلى الصدقية والفاعلية ولا يَثْبُت ولا يدوم، بل هو مصدر ضرر حضاري وإنساني أكيد. وأنا أكتب كرئيس سابق لحزب، وكابن لمؤسس حزب، فإذا لم يكن الحزب للوطن يصبح عبئاً على الوطن، يصبح فاعلاً في الوطن لكن على الوطن.

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول

إن العقائد الغريبة والتحزّب الرخيص والانقياد الأعمى لا تولّد مجتمعةً وفرادى سوى الموت البطيء للمجتمعات والدول. وتجربة الإخوان المسلمين في الزمن الحديث لا تزال ماثلة لجهة الخلافات والانقسامات والحروب التي ولدتها وورثتها، وكذلك الفاشية والنازية والشيوعية التي أرست مفهوم الولاء لحزب، بل لشخص أمثال موسوليني وهتلر وستالين، الأمر الذي استدركه الديكتاتور فرنكو، فأجاز ولو متأخراً الانتقال من نظامه الاستبدادي إلى الشرعية الوطنية التاريخية المتمثلة بالملكية الإسبانية، فاستقرّت إسبانيا حتى اليوم. وينسحب الأمر ولو بشكل مختلف على المواجهة بين الرأسمالية والشيوعية التي ولدت الحروب الباردة والساخنة، والحروب بالمباشر أو بالواسطة (proxy war).

وفي العالمين العربي والخارجي، كم من شعارات وشعبويات أطلقتها بعض الأنظمة، ظاهرها جذّاب وواقعها كذّاب، ترويجها توحيدي وفعلها تقسيمي، دعايتها تنموية، ورعايتها خارجية، وحقيقتها طائفية تدميرية أدّت فيما أدّت إليه إلى شرذمة العالم العربي قبل أن يستفيق بعضه لاحقاً ويقرر ركوب الحضارة والحداثة من الباب الواسع. والعينات كثيرة، من البعث الاشتراكي في الظاهر، الممذهب في الواقع، سنيّاً في العراق وعلوياً في سوريا، إلى الحالة الحوثية في اليمن.

الرئيس حافظ الأسد مودعاً الرئيس أمين الجميل في مطار دمشق (أرشيفية)

أكتب منطلِقاً من التجربة اللبنانية، هذا الوطن الذي دفع غالياً كلفة جنوحه وانتمائه المتعدد، وفاتورة الأنماط الغريبة المستوردة إليه أو المستوطنة فيه، فوقعت أحياناً بعض الفئات اللبنانية في فخّها، على حساب الاستقرار والسلام اللبنانيين.

ففي عام 1958، هزّت الناصرية مشروع الوحدة في لبنان، فاهتز التوازن الداخلي. وفي عام 1969، أسهم اتفاق القاهرة في اقتسام السيادة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسنة 1975، كشر مشروع التوطين عن أنيابه فكانت الحرب وكانت المقاومة اللبنانية. وفي عام 1989، شكل اتفاق الطائف نوعاً من ترميم ناقص للبنيان لم تكتمل أعمدته بسبب تعدد الولاءات التي استفاد منها نظام الوصاية السائد في حينه، وعبّد الطريق لتيار الثورة الإيرانية التي استطاعت أن تحدث خرقاً في البيئة اللبنانية، لا سيما فيما يتعلّق بمفهوم الولاء للوطن.

أفضى تعدد ولاءات اللبنانيين في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات

إن تعدد ولاءات اللبنانيين أفضى في أفضل تقدير إلى استحداث أنظمة دخيلة على الديمقراطيات وغريبة عنها، وعرقلت حسن سير المؤسسات كنظام الشغور الرئاسي والحكومي وفراغ المؤسسات، بحيث لا ينتخب رئيس إلا بعد مفاوضات خارجية تفضي إلى تسويات داخلية، ولا تؤلف حكومات إلا باستشارات تنحو إلى أبعد من النص الدستوري، ولا يعيّن ناطور إلا ضمن تفاهمات مسبقة.

وبقدر ما أسهم اتفاق الطائف الذي صار دستوراً في إطفاء النزاعات المسلحة، بقدر ما أرسى مشكلة في السياسة، خصوصاً لجهة الحاجة الدائمة إلى مرجعية خارجية، وربما مجموعة مرجعيات لإيجاد التوافق السياسي بين المؤسسات الدستورية الثلاث بفعل الخلاف على الأساسيات؛ مثل الولاء والكيان والهوية والنظام السياسي، وحمل كل طائفة مشروعاً للبنان يستدعي تدخلاً خارجياً، في أحسن الأحوال سياسياً، وفي الغالب عسكرياً، وفي الأغلب مزيجاً من السياسي والعسكري.

هذا ما يحدث اليوم بين اللجنة الخماسية الدولية التي تحاور الداخل اللبناني شكلاً وإيران أساساً، للوصول إلى مساحة مشتركة تتيح انتخاب رئيس للجمهورية. والدرس هنا يفيد بأنه ليس مهماً أن ينسحب التيار الناصري، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والجيشان السوري والإسرائيلي، والباسدران الإيراني من لبنان، بل أن ينسحب اللبنانيون من الخارج ومن التبعية له، وأن يرفضوا نظام الوصاية وتبعاتها على لبنان واللبنانيين.

إن لبنان يحتاج اليوم إلى معالجة ثلاثية الأبعاد لتأمين قيام الدولة واستقرارها:

الأولى تحويل حزب الله إلى مشروع سياسي، ما يفترض نزع سلاحه أسوة بحل الميليشيات التي سبق اعتمادها خلال مرحلة تطبيق اتفاق الطائف، واستبدال الفكر السياسي الذي يحكم حزب الله من منطق استملاك الدولة إلى ثقافة المشاركة النديّة والمتوازنة في الدولة.

الثانية منع توطين اللاجئين الفلسطينيين الذي تذكيه حروب إسرائيل؛ وآخرها الحرب في غزة من خلال تأمين حق العودة عملاً بالقرار الدولي رقم 194، وتوزيع فائض الفلسطينيين على الدول العربية.

الثالثة منع استقرار النازحين السوريين والعمل على إعادتهم إلى سوريا من خلال نقل المساعدات الأممية إلى الداخل السوري بدلاً من صرفها للسوريين في لبنان، كطُعم يبقيهم نزلاء إلى آجال غير مسماة.

تأسيساً على ما تقدّم، نبلغ النتيجة الأساسية وهي مزدوجة: فمن جهة تجب حماية الدين في مكانة جلّى بين المؤمن وربّه، خصوصاً أن التعددية الطائفية والمذهبية هي الغالبة في مجتمعاتنا، والامتناع من جهة ثانية عن «سوق» الله إلى معترك السياسة والاستثمار على اسمه لجني الأرباح السياسية.

ويحضرني هنا نوعان من استغلال الدين لمآرب الشخص أو الحزب؛ النوع الترهيبي والنوع الترغيبي، والاثنان يخدمان المرجعية السياسية بالقوة أو بالحسنى، بالعصا أو بالجزرة على حساب الدين والمجتمع والإنسان كهوية خالصة. الاثنان يُخضعان الإنسان مكرهاً أو مغرراً به، ويستخدمانه باسم الدين أو العقيدة لأغراض مخالفة لأبسط القيم الأساسية التي اعتدنا على تسميتها قيم الديمقراطية وقِيَم الجمهورية.

إن الدين ليس الحل السياسي، بل يصبح مشكلة في الانتماء، بل مشكلة في الوجود إذا أسيء استخدامه أو إذا قُبض عليه بالسياسة.

آن الأوان لسقوط الأنظمة غير الرشيدة...

آن الأوان لسيادة القانون وإعمال الحوكمة الرشيدة بكل مرافقها، وانتصار الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ورفاهه...

آن الأوان لدسترة الأنظمة وأنسنة السياسة، وقد بدأت طلائعها تثمر ولا عودة إلى الوراء.

فتعالوا نصلح معاً ميثاق الحياة.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».