السعودية 2024... توقعات إيجابية تدعمها إرادة سياسية وقدرة اقتصادية

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)
TT

السعودية 2024... توقعات إيجابية تدعمها إرادة سياسية وقدرة اقتصادية

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الكوري الجنوبي يحضران إحدى جلسات منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» (واس)

في عالم تزيد فيه حالة عدم التيقن يوماً بعد يوم، تبقى الثوابت هي المستند الرئيسي لاستشراف المستقبل القريب، هذه الثوابت هي العوامل التي ترتكز عليها التوقعات المستقبلية، ويمكن اختصارها في ثلاثة عوامل: الأول هو الإرادة السياسية، وهي المحرك الأول لتوجهات الدول، وما تريد أن تصل إليه.

الثاني هو القدرة الاقتصادية، وهي الممكّن الذي يعين الدول على تنفيذ إرادتها السياسية، والأداة التي تسهم في تحويل الخطط إلى واقع ملموس.

أما الثالث فهو التغيّرات العالمية، وهي العوامل التي تؤثر في تنفيذ هذه الخطط سلباً أو إيجاباً، وهي أكبر مسبب لحالة عدم التيقن تجاه التوقعات المستقبلية، وتلعب سياسة الدول دوراً جوهرياً في تحديد ذلك. وعند تطبيق هذه النظرة على المملكة العربية السعودية، يمكن توقع ما سيكون عليه العام المقبل.

السعودية في 2023

البداية مع الإرادة السياسية، فعلى المستوى الداخلي، لا تزال المملكة ماضية في تنفيذ «رؤيتها الطموحة 2030»، ويدعمها في ذلك تحقيق كثير من المبادرات لمستهدفاتها بشكل مبكّر. ولا شك أن كثيراً من هذه المبادرات بدأت تؤتي أكلها، لا سيما تلك التي بدأت مبكراً لإعادة هيكلة بعض قطاعات الدولة.

ولم تقف المملكة عند برامجها التي أطلقتها مع بواكير رؤيتها، فاستمرت في إطلاق مبادرات ومشاريع عديدة استهدفت قطاعات كالسياحة والترفيه والرياضة، والأخير تحديداً بيّن مدى تأثير إرادة الدولة في تحويل الخطط إلى واقع، ففي غضون أعوام قليلة سرق الدوري السعودي لكرة القدم الأضواء من الدوريات العالمية الكبرى، وأصبح محط أنظار العالم بعد هيكلة القطاع الرياضي وتفعيل دور القطاع الخاص في المنظومة الرياضية.

ولكون «الرؤية» شاملة لجميع القطاعات الحيوية، ظهرت تقاطعات مشاريع «الرؤية» ودعم بعضها لبعض، فعلى سبيل المثال، اتضح أن القطاع السياحي بحاجة إلى تدعيم لوجيستي، فأطلق صندوق الاستثمارات العامة شركة «طيران الرياض» لتسهم في تحقيق مستهدفات القطاع السياحي، والأمر ينطبق على تقاطعات كثيرة بين برامج «الرؤية». ويسهم في زيادة فعالية هذه القطاعات إشراف القيادة العليا في المملكة على الاستراتيجيات الوطنية، بما يضمن تكامل الأعمال والبعد عن الازدواجية.

كما ظهر أثر الإرادة السياسية في المملكة من خلال علاقاتها الخارجية مع الدول، فمنذ أعوام مدَّت المملكة جسور التواصل مع دول العالم تحت شعار المصالح المشتركة وتبادل القيم، وفي حين اختتم عام 2022 بزيارة الرئيس الصيني للرياض، امتدت هذه الزيارات عالية المستوى لعام 2023، فشهدت المملكة عدداً من قمم القادة، مثل: القمة السعودية الأفريقية، وقمة دول الخليج ودول الآسيان، والقمة السعودية الكاريبية، والقمة العربية، والقمة الإسلامية.

القادة ورؤساء الحكومات المشاركون في القمة العربية - الإسلامية بالرياض (أ.ف.ب)

وتنوعت أهداف هذه القمم بين الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، والأسلوب المشترك فيها أن المملكة تعمل مع جميع الدول ذات الاهتمام المشترك والمصالح المتبادلة.

كما شاركت المملكة كذلك في قمم عالمية، أبرزها قمة العشرين التي أقيمت في الهند، والقمة من أجل ميثاق مالي جديد في باريس. وتبيّنت بعض آثار هذه الجهود والزيارات الدولية من خلال فوز المملكة بتنظيم معرض «إكسبو 2030» بعد أن جمعت المملكة أصوات غالبية الدول، مسخّرة قوة علاقاتها مع دول العالم.

القدرة الاقتصادية

العامل الثاني هو القدرة الاقتصادية التي قد تمثلها الميزانية العامة للعام القادم، فقد استمرت المملكة في سياساتها الإنفاقية التوسعية، ورصدت ميزانية فاقت 1.2 تريليون ريال، مع اتباعها سيناريوهات متحفظة من ناحية الإيرادات. ولم يزد العجز في الميزانية العامة للدولة على 2 في المائة، واستمرت الحكومة في تمويل قطاعاتها دون تغيير جذري يذكر، بما يضمن استمرارية الاستراتيجيات القطاعية للدولة، وبما يتوافق مع المتغيرات المحيطة بها.

وبينما انخفضت الإيرادات النفطية بسبب سياسة «أوبك» الاستباقية للحفاظ على استقرار أسواق النفط، استمرت الإيرادات غير النفطية في الازدياد لتصل إلى 441 مليار ريال، لتشكل نحو 37 في المائة من إيرادات الدولة، بعد أن كانت هذه النسبة نحو 32.5 في المائة عام 2018.

واستمرار المملكة في إنفاقها في الميزانية العامة دليل على أمرين: الأول، هو ثقتها بمتانة اقتصادها وقدرتها على الإيفاء بهذا الإنفاق التوسعي دون الإضرار بمعدل الدين للناتج الإجمالي العام ودون الإخلال باحتياطياتها، والثاني، هو مُضيّها في برامج «الرؤية الطموحة» وثقتها بنتائجها الإيجابية المستقبلية على الاقتصاد الوطني.

التغيرات العالمية

العامل الثالث هو التغيرات العالمية التي قد تشكل إما مخاطر وإما فرصاً للمملكة، هذه التغيرات قد تكون جيوسياسية، كاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، التي تؤثر على استقرار أسعار النفط، أو التغيرات في العدوان الإسرائيلي على غزة الذي يؤثر على المنطقة بشكل عام، أو الهجمات الحوثية التخريبية على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما يمكن أن تتمثل هذه التغيرات في وضع الاقتصاد العالمي، فلا يزال الاقتصاد العالمي يشهد تباطؤاً بفعل عوامل مثل التضخم، والسياسة النقدية المتشددة التي اتخذتها البنوك المركزية للحد منه، وتبعات الجائحة التي أثرت على سلاسل التوريد العالمية.

السعودية 2024

تغلب الإيجابية على التوقعات العامة للاقتصاد السعودي للعام القادم، فتوقعت «فيتش» أن ينمو الاقتصاد السعودي بين 2.6 و3.3 في المائة، وتوقعت «مودي» أن يكون النمو بنحو 4.6 في المائة، ورفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو المملكة في فترة قليلة لتصبح 4 في المائة، وأشارت التقديرات التي ذكرتها وزارة المالية في البيان التمهيدي للميزانية العام إلى أن تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 4.4 في المائة.

هذه التوقعات مدفوعة بعدد من العوامل المرتبطة بأحداث عام 2023، وبالسياسة العامة للمملكة. فإيرادات المملكة ارتفعت في هذا العام رغم خفضها لإنتاج النفط مدفوعة بارتفاع الإيرادات غير النفطية، ويتوقع أن تستمر هذه الإيرادات في الارتفاع العام القادم، كما ارتفعت في الأعوام الخمسة الماضية.

وسبب هذا الارتفاع هو ازدياد نشاط القطاع الخاص الذي يشجعه عدد من الإجراءات الحكومية، وبرامج «الرؤية». ويقلل هذا التوجه للحكومة السعودية من المخاطر والتقلبات التي قد تشهدها أسواق النفط العالمية، وهو في الأساس أحد أكبر محاور «الرؤية» التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل لضمان استدامة النمو والتنمية في المملكة.

وتعكس أحداث عام 2023 عدداً من التوقعات، فعلى سبيل المثال، من غير المستغرب أن تطلق السعودية عدداً من المشاريع المرتبطة بتنظيمها لـ«إكسبو 2030»، وقد يكون ذلك بتحديد موقع إقامة الحدث، وبدء الفعاليات المرتبطة به، كالمؤتمرات والمعارض والخطط الاستراتيجية، وقد يمتد ذلك إلى إنشاء جهة حكومية متخصصة تشرف على هذه الفعالية المهمة التي سعت حكومة المملكة إلى استضافتها.

كذلك، فمن المتوقع أن تحدث تغييرات في القطاع الرياضي في المملكة العام المقبل، فكما بدأت السعودية في تخصيص أنديتها بنقل ملكية 4 أندية لصندوق الاستثمارات العامة، قد يستمر ذلك العام المقبل بانتقال ملكية عدد أكبر من الأندية لكبريات الشركات السعودية.

كما يتوقع أن يزيد رتم العمل في وزارة الرياضة ضمن الإعلان المتوقع لاستضافة المملكة كأس العالم 2034، وذلك بتقديم ملف الاستضافة الذي قد يشمل إنشاء ملاعب جديدة وبنى تحتية لضمان استضافة متميزة، وللارتقاء بالقطاع الرياضي بما يتناسب مع الطموحات العالية بشأنه.

وبين استضافتي «إكسبو 2030» وكأس العالم 2034، يتوقع الإعلان عن مشاريع بنى تحتية متعددة، سواء في مدينة الرياض التي تشهد بالفعل عدداً كبيراً من مشاريع البنى التحتية، مثل مطار الملك سلمان، ومشروعي القدية وحديقة الملك سلمان، وغيرها من المشروعات الضخمة، أو في غيرها من مدن المملكة التي قد تلعب دوراً مهماً؛ لا سيما في تنظيم كأس العالم.

والمتابع لمشاريع «رؤية المملكة 2030» يرى أنها بدأت بعدد من المشاريع الطموحة، مثل: «نيوم، والبحر الأحمر، وآمالا، والقدية»، وقد بدأت بإطلاق عدد من المشروعات في مدينة الرياض في بدايات «الرؤية»، واستمرت بعدها في إطلاق مشاريع في مدن أخرى، مثل مشروع وسط جدة، أو رؤى المدينة المنورة، أو مشروعي السودة ومطار أبها.

وقد يدل ذلك على مزيد من المشاريع في مدن أخرى بالمملكة، سواء كانت هذه المشروعات لبنى تحتية، أو لمشاريع تخصصية، كما هي الحال في المشاريع الزراعية المرتبطة بمدن ذات خصائص جغرافية وبيئية معينة. ويعني ذلك أن العام القادم هو استمرار -بمشيئة الله- لـ«رؤية المملكة 2030» لتضمين عدد أكبر من المدن السعودية ضمن مشروعها الشمولي، بما يتوافق مع خصائص هذه المدن الثقافية والجغرافية.

مرونة المملكة

لقد أظهرت المملكة في الأعوام السابقة مرونتها في التعامل مع الأحداث الاقتصادية والسياسية، فلم تتأثر بالتضخم الناتج عن الجائحة كغيرها من الدول، واستطاعت تفادي الآثار السلبية للنزاعات الجيوسياسية العالمية، بل أطلقت مبادرات عالمية تهدف إلى التعامل مع نتائج هذه الأحداث، كما فعلت في مبادراتها لسلاسل الإمداد العالمية.

ومن غير المستغرب أن يستمر هذا النهج العام المقبل، بالتحوط من أي تغيرات قد تؤثر سلباً على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، واستثمار متانة اقتصادها وعلاقتها مع الدول في الوصول إلى حلول تفضي إلى الازدهار، كل ذلك دون التخلي عن مشروعها الوطني الذي يهدف إلى الارتقاء بقطاعاتها الاستراتيجية والحيوية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».