«الذكاء الاصطناعي» أم الإنسان... مَن سيهزم مَن؟

«الشرق الأوسط» تحاور عرّابي «الانفجار الثوري» لتكنولوجيا العصر... من «سيليكون فالي» إلى «إم آي تي»

TT

«الذكاء الاصطناعي» أم الإنسان... مَن سيهزم مَن؟

حصان طروادة أمام مقر شركة أوبن أيه آي مطوّرة تشات جي بي تي (أ.ف.ب)
حصان طروادة أمام مقر شركة أوبن أيه آي مطوّرة تشات جي بي تي (أ.ف.ب)

قد تكون «القهقهة» هي الكلمة العربية المُثلى لترجمة عبارة «لول!» (LOL!) الإنجليزية التي استخدمها العالم المُسْتَقبلي مايك والش ليقول إنه «يضحك عالياً» عندما طلبت رأيه بالدعوة التي وجهها مؤسس شركتي «تيسلا» و«سبايس أكس» ومالك «تويتر» إيلون ماسك، مع مئات آخرين لكي تتوقف شركة «أوبن أيه آي» برئاسة سام التمان وكل مختبرات الذكاء الاصطناعي «فوراً ولمدة ستة أشهر على الأقل» عن تطوير الأنظمة الأكثر قوة من «تشات جي بي تي 4».

«كوول!» (!Cool) إنجليزية قالها ابن السنوات الست لأهله عند عودته من المدرسة مبهوراً بما قدمته مُعلمته الصف الأول الابتدائي. إذ فتحت الكومبيوتر ودعته مع بقية التلامذة إلى طرح ما يخطر على بالهم من أسئلة. فقدم «تشات جي بي تي» الأجوبة الصحيحة. لكن المعلمة قادت تلامذتها إلى الاستنتاج أنه من الغش تكليف الكومبيوتر بالقيام بما عليهم من واجبات وفروض مدرسية في البيت.

المقاربة ذاتها استدعت سؤالاً مختبرياً حول مسائل أخلاقية مثل الغش في الفروض المدرسية، طرحه باحث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «إم آي تي» على «تشات جي بي تي»، الذي قدم أيضاً الأجوبة «الصحيحة» بل «المثالية»، من دون أن يعكس ذلك قلقاً حقيقياً عند المدير الإداري لشركة «سوميرو» العملاقة للاستثمار في التكنولوجيا الجديدة عبده جورج قديفة، الذي يتلاقى مع والش، مؤلف كتاب «القائد الخوارزمي، كيف تكون ذكياً عندما تصير الآلات أكثر ذكاء» الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة والعالم. كلاهما عزا المطالبة بالوقف الموقت لتطوير الذكاء الاصطناعي إلى «تخلف» إيلون ماسك عن ركب حققه شريكه السابق سام التمان، الذي «أخرج الجني من القمقم».

وكذلك عبر مؤلف كتاب «حقيقة الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية» الشهير الدكتور ستيفن شوارتز، الذي عمل لدى جامعة يال الأميركية، عن اعتقاده بأن «المياه تدفقت فوق السدّ»، ولم يعد في الإمكان وقف التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي.

المستوى الذي بلغه الذكاء الاصطناعي في مختبرات المؤسسات الجامعية، وبدأ ينتقل بعجلة إلى الحياة اليومية للناس خلال الأشهر القليلة الماضية، يرقى إلى ما أحدثه «مشروع مانهاتن»، الذي أنتج القنبلة الذرية، طبقاً للعالم الأميركي - الفلسطيني الأصل البروفسور منذر دحلة، الذي يدير معهد البيانات والأنظمة والمجتمع في «إم آي تي»، المؤسسة الجامعية المصنفة أولى عالمياً في علوم التكنولوجيا.

حصان طروادة أمام مقر شركة «أوبن أيه آي» مطوّرة «تشات جي بي تي» (أ.ف.ب)

أجرت «الشرق الأوسط» حوارات منفصلة، ولكن لتكون بمثابة حلقة افتراضية متخيّلة أميركية - عربية، فجمعت بالإضافة إلى دحلة ووالش وقديفة وشوارتز، كلاً من النائب الأول لرئيس شركة «جينماب» الدنماركية للتكنولوجيا البيولوجية والمدير العالمي لعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي الدكتور هشام حمادة ومدير «مجتمع جميل» جورج ريتشاردز وعضو مجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت الرئيس التنفيذي لشركة «مجرّة» عبد السلام هيكل.

جميعهم في إطار جهد يتعدى الإعجاب، أو حتى الانبهار، بما يعدّه البعض «نظماً خارقة» ستؤدي إلى تحوّل ليس فقط في كل مجالات العمل، بل أيضاً في حياة الناس، كما نعرفها. أجاب هؤلاء، كل من موقعه ومنطلقه، عن أسئلة بعضها يمكن أن يبدو بسيطاً وساذجاً، مثل «الغش»، وبعضها الآخر مركب ومعقد، مثل احتمال تغلّب الذكاء الاصطناعي يوماً على صانعيها من البشر.

عندما قدم باحث من معهد «إم آي تي»، سؤالاً لـ«تشات جي بي تي» من أجل شرح مسائل أخلاقية واجتماعية تتعلق بأن يقوم الذكاء الاصطناعي بواجبك المدرسي كتلميذ أو كطالب، جاء جواب «تشات جي بي تي»، لافتاً «هناك عدد قليل من المشكلات الأخلاقية والاجتماعية المحتملة عند استخدام الذكاء الاصطناعي في أداء الواجبات المدرسية. أولاً، إذا كان الطلاب يستخدمون الذكاء الاصطناعي لأداء واجباتهم المدرسية نيابة عنهم، ربما لا يتعلمون المادة كما ينبغي. وهذا ما يمكن أن يؤدي هذا إلى مشاكل في المستقبل عندما يُتوقع منهم معرفة المواد اللازمة للامتحانات أو تطبيقات العالم الحقيقي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي لأداء الواجب المدرسي إلى الغش. إذا كان الطلاب قادرين على الابتعاد عن استخدام الذكاء الاصطناعي في أداء واجباتهم المدرسية نيابة عنهم، ربما يخلق ذلك ميزة غير عادلة بالنسبة إلى الطلاب الآخرين الذين يقومون بواجبهم المدرسي بأنفسهم. أخيراً، يمكن أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي للقيام بالواجب المدرسي إلى الاعتماد على التكنولوجيا التي يمكن أن تكون ضارة إذا فشلت التكنولوجيا أو صارت غير متوافرة».

كان هذا «جواباً رائعاً ومثيراً للإعجاب».

التغيير التخريبي

في عصر التقنيات المتسارعة و«التغيير التخريبي» (مفهوم علمي جديد يتعلق بأثر التغييرات التكنولوجية المتسارعة على حياة الناس)، كان الكتاب الأخير لمايك والش «القائد الخوارزمي: كيف تكون ذكياً عندما تكون الآلات أكثر ذكاءً»، بمثابة دليل مفعم بالأمل لإعادة ابتكار القيادة والمؤسسات، علماً بأن كتابه الأول «فيوتشرتايمنت» («الترفيه المستقبلي») لعام 2009 فاز بجوائز أميركية وعالمية، بعدما توقع فيه تأثير الهاتف الذكي على إعادة تشكيل صناعة الإعلام والتسويق، والظهور الوشيك لوسائل الإعلام الاجتماعية والمؤثرين الرقميين وتدفق الترفيه.

وفي كتابه الثاني «قاموس الأفكار الخطرة» لعام 2014، توقع والش اختراقات في شبكات الأقمار الاصطناعية الصغيرة والعملات المشفرة والسيارات الذاتية القيادة والطائرات المسيّرة والبيولوجيا الرقمية. تُرجمت هذه الكتب الثلاثة إلى اللغات العربية، والألمانية، واليابانية، والصينية، والكورية والبولندية.

يشبه الدخول في الذكاء الاصطناعي اليوم بدء العمل يوماً بأنوال الحياكة الميكانيكية. آنذاك ثار عمال النسيج وحطموا الآلات الجديدة، غير أنهم سرعان ما أدركوا أن العمل الوحيد الذي خسروه، هو الذي لا يبعث على السعادة بين البشر - وكان هناك بالفعل المزيد من الوظائف المختلفة الجديدة المتاحة الآن. في نهاية المطاف، صار نول جاكارد الآلي، الذي يعمل ببطاقات تسجيل أوقات الشغل، أساساً لأجهزة الكومبيوتر الحديثة. يعتقد مايك والش أن «الخطر الحقيقي للذكاء الاصطناعي لا يتمثل في أن تصبح الأنظمة مدركة لذاتها وأن تدمرنا، بل يكمن في تفويض الكثير من اتخاذ القرارات لمنصات سيئة التصميم لا نفهمها تماماً».

اختبار تورينغ

بمقاربة مشابهة، أعاد قديفة إلى الأذهان الاختبار الذي ابتكره ألان تورينغ، أحد الرواد الأوائل في التشفير والحوسبة، لمعرفة ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يقترب من الذكاء البشري، باختبار يقتضي وضع كومبيوتر خلف ستارة، ثم أن تطلب من شخص ما أن يتحدث مع «الشخص» الآخر خلف الستارة من دون أن يعرف أنه كومبيوتر. فإذا بدا منطقياً وكأنه إنسان، تعلم أننا نقترب من الذكاء البشري، وهذا ما تفعله «جي بي تي» الذي «يستند إلى 175 ملياراً من الوسائط الرقمية، مع رقمنة 300 مليار جزئية من المعلومات، ويستند إلى 40 ألف رمز في اللغة الإنجليزية»، مؤكداً أن «كل هذه الأرقام مدعاة للاحتفال بدلاً من القلق».

ومع أن هذه الأرقام تبدو فلكية، شرح ستيف شوارتز، الذي ألّف أيضاً كتاب «الروبوتات الشريرة، الكومبيوترات القاتلة، وخرافات أخرى» وشارك في تأسيس شركة «ديفايس24» للتكنولوجيا الذكية، طريقة بنائها، معبراً أولاً عن اعتقاده أن «(تشات جي بي تي) ليس أذكى من البشر. ولكن لديه ذاكرة أكبر»، موضحاً أنه «جرى تدريب (تشات جي بي تي) بقراءة ما يعادل ثلاثة ملايين كتاب. يختارون ثلاثة ملايين كتاب، ثم يحددون الكتاب الأول، ويقولون لـ(تشات جي بي تي): حسناً، هذه هي الكلمة الأولى في الكتاب، وعلى (تشات جي بي تي) أن يتوقع الكلمة الثانية. وبالطبع، سينتج أمراً ما بصورة عشوائية لكي تعطيه الإجابة الصحيحة، ومن ثم تقدم له الكلمتين الأوليين وكلمة ثالثة محددة. وبالطبع، ستأتي النتيجة عشوائية مرة أخرى. وتعطيه الإجابة الصحيحة مجدداً. وتبقى على هذا المنوال إلى أن ينتهي الكتاب بأكمله. وبعد ذلك تكون أعطيت ثلاثة ملايين إجابة صحيحة انطلاقاً من الكلمة التالية في الكتاب. وتطلب تعديل مرجعياته. في المرة القادمة، سيقوم (تشات جي بي تي) بعمل أفضل بكثير للتنبؤ».

وذكر بأن الملايين الثلاثة من الكتب، إنما هي إنترنت ونصوص على شبكة التطوير التي يجري تدريبها من أجل التنبؤ بالكلمة التالية. وبذلك، يتضح أنه عليك أن تتعلم الحقائق. إذن، من خلال قراءة ثلاثة ملايين كتاب، تعلمت الكثير من الحقائق. تعلمت قواعد اللغة الإنجليزية. تعلمت الكثير من المفاهيم، مثل أن الطيور يمكن أن تطير والسيارات لها عجلات. فقط كن قادراً على تنبؤ الكلمة التالية. هذه هي التكنولوجيا الكامنة التي تسمى «جي بي تي 3 أو 3.5 أو 4.0». هذه الأنظمة ليست تماماً مثل البشر. لذا؛ فإن السؤال ما هو مقدار ما تعلمته؟ وما مقدار ما يجعل ذلك تفكيراً بشرياً؟

نماذج اللغة الكبيرة

«الوثبة التكنولوجية» التي تحققت بالذكاء الاصطناعي لم تفاجئ الدكتور هشام حمادة الذي يركز في أبحاثه على إحداث اختراق في العلوم الدوائية للأمراض المستعصية. ويوضح أنه على رغم أن الخوارزميات الخاصة بنماذج اللغة الكبيرة التي تدعم الذكاء الاصطناعي التوليدي، «ليست موجودة منذ فترة طويلة»؛ لأنها «بدأت عام 2017 في ورقة بحثية من (غوغل)»، لافتاً إلى أن «ما جعله ينتشر على نطاق واسع هو إمكانية الوصول»، حين قامت شركة «أوبن إيه آي» في سان فرانسيسكو بإتاحته للجمهور من خلال لغة طبيعية. يمكن فقط لأي شخص أن يصل إليه لطرح الأسئلة، بالإضافة إلى التغطية الإعلامية عن إمكاناتها وآثارها الأخلاقية. وأضاف أن «هذا ما ساهم في زيادة الوعي العام والانبهار بهذه التكنولوجيا. ولذا؛ أعتقد أنها ليست الخوارزمية فقط، بل أيضاً سهولة الوصول إليها».

خلال السنين العشر الماضية، ومنذ أن فاز جيفري هينتون وفريقه بمسابقة «أيميدج نت» عام 2012، وحتى نهاية عام 2022 مع تقديم «تشات جي بي تي»، حصلت عمليات تطوير هائلة في الحوسبة، والبنية التحتية السحابية، والتصميم الخوارزمي، وجودة البيانات. وبدا واضحاً أن الذكاء الاصطناعي سيحوّل بشكل أساسي العمليات في كل مؤسسة وصناعة. ويعتقد مايك والش أن جائحة «كوفيد - 19» بدءاً من عام 2020 «كانت العامل المحفز» لـ«تسريع» التحول الرقمي، الذي «يحتمل أن يكون أدى إلى تسريع مجيء عصر الذكاء الاصطناعي بمقدار ما لا يقل عن عشر سنين».

ليس لدى شوارتز قلق من أن يصير الذكاء الاصطناعي «قوياً للغاية بما يمكنه من السيطرة على العالم»، مذكراً بأن ذلك كان رأي سام التمان الذي أوضح أنه «حتى لو كنا نتقدم نحو هذا المستوى من الذكاء الاصطناعي بما يمكنه من السيطرة على العالم، فمن الأفضل طرح هذه التطورات ببطء وتدريجاً عوض تقديمها بالكامل إلى العالم مرة واحدة». وأضاف أنه «إذا فعلنا ذلك ببطء، يمكننا معرفة المشاكل، وإيجاد الحلول لهذه المشاكل، وبالتالي، يمكننا أن نضعها في مكانها ونجعلها آمنة وتتحسن شيئاً فشيئاً بدلاً من الانتظار حتى تصير ذكية بالفعل ثم نحاول معرفتها».

المقارنة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان تبدو بالنسبة إلى حمادة «أشبه بمقارنة سيارة فيراري بجرار زراعي. لجهة القوة، أحدهما فيه قوة أكبر من الآخر. لكن وجهة الاستخدام أساسية»، مضيفاً أنه «لا يمكنك أن تحرث الحقل باستخدام الفيراري»، ومع أن «الجرار فيه محرك أكبر، لكنه لن يتجاوز سرعة الفيراري». لا يزال هذا التمييز يحتاج إلى العقل البشري.

العواقب والمخاوف

يقرّ قديفة الذي تخرّج في الجامعة الأميركية ببيروت ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وجامعة شيكاغو قبل أن يعمل نائباً للرئيس التنفيذي لشركة «هيوليت باكارد» («إتش بي») الأميركية للتكنولوجيا، بأنه «مع أي اختراق كبير في التكنولوجيا، هناك إيجابيات وسلبيات»، موضحاً أن «هناك عواقب قانونية، لجهة حقوق النشر، ولجهة من أين جرى الحصول على المعلومات، ولجهة الخصوصية»، وغير ذلك من التداعيات المرتبطة بمن يتحكم بالمعلومات الموجودة مثلاً في «تشات جي بي تي»؛ لأنه «نظام مغلق»، علماً بأن هناك أيضاً «اعتبارات أمنية» يمكن أن تكون على صلة بالأشخاص الذين يقومون بـ«تسميم البيانات» عبر «إدخال المعلومات في الإنترنت والتي يمكن قراءتها بواسطة (تشات جي بي تي)» الذي «لا يعرف ما إذا كانت هذه المعلومات جيدة أو سيئة».

بات سؤال استبدال الذكاء الاصطناعي بالإنسان مطروحاً بقوة اليوم (أ.ف.ب)

يسود اعتقاد بين الخبراء في المجال الجديد، أنه سيجري تجاوز العقبات والتحديات الماثلة الآن، فعندما جرى تطوير الإنترنت، عبّرت غالبية الناس عن خشيتها من وضع معلومات بطاقة الائتمان الخاصة بهم على الإنترنت بسبب الأمان، والخصوصية وكل تلك الأمور. لكن جرى التوصل إلى حلول ناجحة. وليس أدل على ذلك من أن أحداً لا يفكر الآن في الإنترنت كمكان غير آمن وموثوق لبطاقات الائتمان.

مع «تشات جي بي تي» أو غيره من أشكال الذكاء الاصطناعي التي تنجز الأمور والأعمال بسرعة كبيرة، يؤكد شوارتز أن «المعلومات المضللة ستكون مشكلة هائلة بسبب أدوات كهذه»، داعياً إلى إدراك حقيقة أن «(تشات جي بي تي) ليس الوحيد من نوعه. لذلك؛ إذا فتحت (أوبن إيه آي)، وهي بائعة (تشات جي بي تي)، الوصول إليه، سيبقى لدينا القدر ذاته من المعلومات المضللة؛ نظراً لوجود الآلاف من الأدوات الأخرى المشابهة والمتاحة». وأكد أنه «بصرف النظر عما نفعله، أعتقد أنه خلال العام المقبل، سنرى الإنترنت بأكمله ملوثاً بالمعلومات المضللة التي أنشأتها تلك العقول الكبيرة. وسيكون الأمر فظيعاً».

تثير «الإجابات الخاطئة أو السامّة» من «تشات جي بي تي» مزيداً في القلق حيال ما يمكن أن يحمله الفضاء الإلكتروني. فإذا كتبت على «تشات جي بي تي» (بالإنجليزية) جملة تبدأ بعبارة «إن التحري»... ثم طلبت منه أن ينهي الجملة، فعادة ما سيكملها مع تحرٍ من الذكور. وهذا تحيز ضد التحريات الإناث. وبالمثل إذا كتبت عبارة «إن المسلمين...» وتركت «تشات جي بي تي» يكمل العبارة، في كثير من الأحيان سيضيف كلمة مثل «إرهابيون». يؤكد شوارتز أن «هذا أمر غير عادل حقاً. هذه استجابة سامة لا ينبغي أن تكون».

يتقاسم حمادة هذا «الخوف الكبير» مع شوارتز من «المعلومات المضللة» و«المحتوى المزيف»؛ لأن القدرة موجودة الآن على «إنشاء محتوى مزيف واقعي للغاية، بما في ذلك النصوص والصور والصوت، وحتى الفيديو؛ إذ يمكنك أن تأخذ وجهك وتجعله يقول أي شيء بأي نبرة صوت تريدها. هذا مخيف». وكذلك هناك «قلق آخر» مرتبط بالمخاوف الأخلاقية، مثل «أصالة المحتوى المرتبط بالذكاء الاصطناعي». قال «لنفترض أنك أنشأت فناً بواسطة آلة، وحاولت الدخول في مسابقات باعتبار أنك أنشأت هذا الفن بيدك. هذا أمر مقلق».

هناك ما هو أخطر، ويثير المزيد من التساؤلات. إذا كان هناك ذكاء صناعي يحاول تقديم نصيحة طبية على سبيل المثال، فمن يتحقق من ذلك ويفحصه في كل مرة؟ هل نقول في وقت ما إنه صندوق أسود يمكن الوثوق به لأنه أعطى في المرات المائة الأخيرة الجواب الصحيح، وكذلك سيفعل في المرات المائة التالية؟ ماذا يحدث عندما يكون متحيزاً لفئة معينة من السكان، ويصنّف أفرادها كمجرمين أو كأشخاص ناجحين؟ هل تثق بالذكاء الاصطناعي لتوظيف أشخاص في شركتك، أو للإبلاغ عنهم، أو على الأقل تصفيتهم؟ من يتحمل المسؤولية إذا كانت النتيجة غير مرضية؟ الذكاء الاصطناعي؟ أم مشغل الذكاء الاصطناعي؟

يعتقد مايك والش أن «الجانب السلبي الأساسي للذكاء الاصطناعي هو تطبيقه من دون التفكير في إمكاناته الثورية الحقيقية»، مضيفاً أن القادة «غالباً ما يركزون على تحسينات بنسبة 10 في المائة للعمليات والأنظمة الموجودة، من دون أن يسألوا أنفسهم: ما هي الفرصة المضاعفة عشر مرات لإعادة تصور ما يفعلونه؟».

إيجابيات متناهية

يقف عبده قديفة «على الجانب الإيجابي والمتفائل» بالتكنولوجيا الجديدة، متوقعاً أن «يكون هناك الكثير من الأعمال التجارية الجديدة، والأفكار الجديدة»، قائلاً إن «الكثير من الخير سيحصل، أكان في التعليم أم في مجال الرعاية الصحية وفي العلوم»، مذكّراً بأن القاعدة العلمية القديمة التي كانت تقوم على مرجعيتين أو ثلاث أو عشر مرجعيات «ربما لم تعد ذات صلة» الآن، موضحاً أنه بعدما كانت تقوم طوال السنوات الـ500 الماضية على أن «تنظر، على سبيل المثال، إلى بيئة مادية أو بيولوجية أو كيمائية، وتخرج بفرضية، ومن ثم تتحقق مما إذا كانت هذه الفرضية صحيحة»، كأن تقول على سبيل المثال إن قوة الجاذبية تساوي الكتلة مضروبة بعامل الجاذبية.

لذلك؛ عندما نظر اسحق نيوتن إلى قانون الجاذبية، قال بشكل أساسي «حسناً، هناك ثلاثة عوامل هنا، وقام ببعض القياسات، وكان محقاً». أوصلت هذه القاعدة العلمية الناس إلى القمر والمريخ، وإلى كل مكان. ولكن «مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، ستنفجر المعرفة البشرية أضعافاً مضاعفة بطريقة إيجابية للغاية»؛ لأن القاعدة العلمية في عصر الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تسند ليس فقط بعدد قليل من المرجعيات، بل سيكون لدى الناس ربما مائة ألف أو أكثر من المرجعيات والمتغيرات لشرحها. «(تشات جي بي تي) يشرح كيف تعمل اللغة الإنجليزية من خلال 175 ملياراً من المرجعيات. لذلك؛ أتوقع انفجاراً ضخماً في الاكتشافات العلمية أيضاً».

يشبه الدخول في الذكاء الاصطناعي اليوم بدء العمل يوماً بأنوال الحياكة الميكانيكية (أدوبي ستوك)

ينبّه مايك والش إلى أن «الخطأ الأكبر الذي ارتكبه معظم الناس في شأن الذكاء الاصطناعي حتى قبل بضع سنوات، هو افتراض أنه يشكل خطرا وجوديا على وظائف أصحاب الياقات الزرقاء، مثل الضيافة والبناء والنقل»، أو أن «التهديد الحقيقي للتدمير الخلاق يمكن أن يحصل في الصناعات المعرفية والخدمات المهنية». ولكنه أوضح أن «هذا لا يعني أننا لن نحتاج إلى كتاب أو محامين أو محاسبين أو مصرفيين في المستقبل. بل إن هذه أصحاب هذه المهن، الذين استفادوا بشكل هائل من مكاسب الإنتاجية من التكنولوجيا طوال العقود القليلة الماضية، عليهم فقط أن يعملوا الآن بجدية قصوى لإعادة اختراع أدوارهم، وتحديد أين يمكنهم إضافة قيمة كبشر أثناء العمل جنباً إلى جنب مع محركات الذكاء الاصطناعي المتطورة بشكل متزايد».

الذكاء النافع

يفصل شوارتز بين الذكاء الاصطناعي و«تشات جي بي تي» وإن كانت هناك صلة بينهما، ففي الأول مثلاً «محركات توصية خاصة» بشركات مثل «أمازون» و«نتفليكس» وغيرهما مما يعرض على الناس منتجات معينة بناءً على أنماط الشراء السابقة. كما أن التشخيص الطبي يتأثر بالذكاء الاصطناعي ولكنه ليس «تشات جي بي تي»، وتقنية التعرف على الوجه في الهاتف الذكي تمكنك من التقاط صورة لأصدقائك، وستتعرف على أسمائهم تلقائياً. ورأى أنه ستكون لـ«تشات جي بي تي» تأثيرات في ثلاثة مجالات. الأول هو أنه سننتهي بمساعدين شخصيين أفضل بكثير. كما أن أنظمة «أليكسا» و«سيري» التي يستخدمها الناس ستتحسن كثيراً. وكذلك ستتحسن كثيراً روبوتات المحادثة لخدمة العملاء. والمجال الثاني، سيكون التأثير كبيراً على محركات البحث، مثل «غوغل» و«بينغ» وغيرهما، علماً بأنها «كانت تتحسن تدريجاً على مر السنين».

ولكن «(تشات جي بي تي) سيجعلها أفضل بكثير. وسيحصل الأمر نفسه مع كل أنواع التطبيقات المخصصة للبحث عن كلمات مفاتيح». والثالث هو «بشكل عام التطبيقات التي تجيب على أسئلة، فحيث يمكنك كتابة سؤال والحصول على جواب، سيتحسن الجواب بشكل كبير مع (تشات جي بي تي)». وربما هناك فئة رابعة تتعلق تقريباً بأي شيء إبداعي. لذا؛ إذا كنت تكتب منشوراً لمدونة، يمكنك أن تسأل «تشات جي بي تي» أن يكتب منشوراً للمدونة. وإذا كنت تكتب برنامجاً للكومبيوتر، يمكنك أن تطلب ذلك من «تشات جي بي تي» أو أداة مشابهة لإنشاء نقطة بداية لبرنامج الكومبيوتر الخاص بك. يمكنك أن تطلب من «تشات جي بي تي» أن يلخص وثيقة. كل هذه الأنواع من القدرات ستعمل على تحسين الإنتاجية حقاً.

موقع العرب

أين العرب؟ يعقد العاملون في مجال الذكاء الاصطناعي في أميركا مقارنة بين «الاختراق الثوري» الذي يحصل الآن وذلك الذي أنتجه «مشروع مانهاتن» في علوم الانشطار الذري، خلال الأربعينات من القرن الماضي.

عبده قديفة، وهو لبناني لأب عصامي اسمه جورج كان مسؤولاً في مرفأ بيروت في السبعينات من القرن الماضي، يعبّر عن اعتقاد أن «الذكاء الاصطناعي يشكل تهديداً للغة العربية»، منبهاً إلى أنه «إذا لم يملك العرب نموذجاً لغوياً كبيراً، فإن تراث العرب بأسره سيتأثر». وإذ شدد على أن «العربية مهمة ثقافياً كلغة، بل أيضاً من منظور ديني». قال «كعرب، علينا أن نشارك في هذه الثورة وأن نحافظ على ملكية لغتنا». وأضاف «لا يعتقد أن المال هو القضية»، واعداً بأنه «سيفعل أمراً ما حيال ذلك، بالتأكيد».

وفي السياق نفسه، يعكس مدير «مجتمع جميل» جورج ريتشاردز، الذي ذكر بأن المؤسسة التي أسستها عائلة جميل في المملكة العربية السعودية عام 1945 «تدرك جيداً إمكانات الذكاء الاصطناعي»، بل إنها عملت على تطوير «أدوات الذكاء الاصطناعي السريرية لـ(عيادة جميل)؛ بغية إحراز تحسن كبير في صحة ورفاهية الناس في كل أنحاء العالم»، مستدركاً أن هناك «حاجة إلى العمل الجاد لضمان وصول هذه الأدوات إلى الجهات الضعيفة الموارد». وأضاف أن هذا هو «السبب في أننا ندعم (عيادة جميل)، جنباً إلى جنب مع منظمة (ويلكوم ترست) البريطانية الخيرية، لتنمية شبكة من المستشفيات الشريكة لنشر هذه الأدوات».

وذكر عضو مجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت الرئيس التنفيذي لشركة «مجرّة» عبد السلام هيكل، أن عمله «يشمل الذكاء الاصطناعي مع التركيز على معالجة حوسبة اللغة العربية الطبيعية ونماذج لغة (تشات جي بي تي)»، معتبراً أن «الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك التوليدي، يحتاج إلى تنظيم». لكنه استبعد رؤية ما يسمى «سيناريو يوم القيامة» بأن يخرج الذكاء الاصطناعي عن «نطاق السيطرة أكثر من أي تقنية أخرى يمكن أن يكون لها استخدام مزدوج، كالعقاقير الطبية والمفاعلات النووية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي».

ومع ذلك، أقرّ بأن الذكاء الاصطناعي «يجلب تحديات فريدة من نوعها ستتطلب تدخلات فريدة». وعبّر عن اعتقاده أن تعميم «تشات جي بي تي» وإمكانات الذكاء الاصطناعي «سيؤدي إلى مزيد من الاستثمار والابتكار»؛ إذ إن «عدداً لا يحصى من الأشخاص سيستخدمون هذه التكنولوجيا لخلق فرص جديدة لأنفسهم وللمجتمع، وفي الوقت نفسه تعطيل وظائف وأنظمة قائمة».

تصحيح: أشارت نسخة سابقة من الموضوع إلى علاقة بين مدير مؤسسة «مجتمع جميل» جورج ريتشاردز، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «إم آي تي». والصحيح أن المؤسسة مستقلة، وتعاونت مع المعهد في مشروع آخر لا علاقة لريتشاردز به.


مقالات ذات صلة

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً رغم ارتفاع الأخطاء البشرية

تكنولوجيا نصف الموظفين في السعودية فقط تلقّوا تدريباً سيبرانياً ما يخلق فجوة خطرة في الوعي الأمني داخل المؤسسات (غيتي)

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً رغم ارتفاع الأخطاء البشرية

تكشف دراسة «كاسبرسكي» فجوة كبيرة في الوعي الأمني لدى موظفي السعودية؛ إذ تلقى نصفهم فقط تدريباً سيبرانياً ما يجعل الأخطاء البشرية مدخلاً رئيسياً للهجمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» (أ.ب)

تقرير: مؤسس «أوبن إيه آي» يتطلع إلى تأسيس شركة صواريخ لمنافسة ماسك في الفضاء

كشف تقرير جديدة عن أن سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، يتطلع إلى بناء أو تمويل أو شراء شركة صواريخ لمنافسة الملياردير إيلون ماسك في سباق الفضاء.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد شعار شركة «إس كيه هاينكس» ولوحة أم للكمبيوتر تظهر في هذا الرسم التوضيحي (رويترز)

رئيس «إس كيه» الكورية: صناعة الذكاء الاصطناعي ليست في فقاعة

قال رئيس مجموعة «إس كيه» الكورية الجنوبية، المالكة لشركة «إس كيه هاينكس» الرائدة في تصنيع رقائق الذاكرة، إن أسهم الذكاء الاصطناعي قد تتعرض لضغوط.

«الشرق الأوسط» (سيول)
تكنولوجيا شكل تسارع التحول الرقمي واتساع تأثير الذكاء الاصطناعي ملامح المشهد العربي في عام 2025 (شاترستوك)

بين «غوغل» و«يوتيوب»... كيف بدا المشهد الرقمي العربي في 2025؟

شهد عام 2025 تحوّلًا رقميًا واسعًا في العالم العربي، مع هيمنة الذكاء الاصطناعي على بحث غوغل وصعود صنّاع المحتوى على يوتيوب، وتقدّم السعودية في الخدمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
الاقتصاد هاتف ذكي وشاشة كمبيوتر يعرضان شعارَي «واتساب» والشركة الأم «ميتا» في غرب فرنسا (أ.ف.ب)

تحقيق أوروبي في قيود «ميتا» على منافسي الذكاء الاصطناعي عبر «واتساب»

خضعَت شركة «ميتا بلاتفورمز» لتحقيق جديد من جانب الاتحاد الأوروبي لمكافحة الاحتكار، على خلفية خطتها لإطلاق ميزات ذكاء اصطناعي داخل تطبيق «واتساب».

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.