جان ـ بول سارتر والحق الفلسطيني

يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)
يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)
TT

جان ـ بول سارتر والحق الفلسطيني

يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)
يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)

لا شك في أن عالمنا المعاصر يتخبط في مشكلات عظمى، ومن أهم هذه المشكلات قضية اغتصاب الأرض الفلسطينية من قِبل الحركة الصهيونية قبل خمسة وسبعين عاماً، حيث شهد تاريخ هذه القضية صراعات وحروباً ومحاولات تسوية من دون نتائج. وأمام هذا المأزق اختلفت وجهات النظر تجاه الحق في الأرض الفلسطينية بين العرب من جهة واليهود من جهة أخرى. هذا الخلاف ما زال قائماً ويشكل تهديداً لأمن المنطقة والعالم بأجمعه.
بالفعل، إن نزاع الشرق الأوسط الذي يضع الدولة الصهيونية (إسرائيل) في مواجهة الشعوب العربية، وبشكل خاص في مواجهة الشعب الفلسطيني، هو من أهم المشكلات التي تشغل العالم بأكمله. إن هذه المشكلة هي صعبة ومعقدة إلى درجة أنها أربكت الفيلسوف الفرنسي جان - بول سارتر نفسه الذي فضل أن يتخذ تجاهها موقفاً حيادياً وأخلاقياً أكثر منه سياسياً. ويمكننا الحكم على ارتباك سارتر، وبخاصة عندما نعرف أنه لم يتردد طيلة حياته في الانحياز واتخاذ موقف واضح تجاه كل مشكلات عصره السياسية، ما عدا هذا النزاع العربي - الإسرائيلي.
بالنسبة إليه، يجب حل النزاع العربي - الإسرائيلي ضمن إطار القانون الدولي من خلال إقامة مفاوضات مباشرة، أو بواسطة منظمة الأمم المتحدة، بين العرب والإسرائيليين. وكان يعتبر نفسه صديقاً للمعسكرين؛ ولذلك نراه أكثر من أي وقت مرتبكاً جداً إلى درجة أن تصريحاته كانت لا تعجب العرب ولا الإسرائيليين أحياناً كثيرة. وفي الواقع، هو حاول أن يكون منسجماً مع نفسه، منطلقاً من التزامه الدفاع عن قضية المقهورين في أي مكان من العالم. ولكنه لم يكن يرى كيف يمكنه الاحتفاظ بالانسجام مع نفسه وهو يحكم في قضية شعبين تعرّضا، في نظره، للقمع والقهر وهما في حالة نزاع. لقد اختار الحيادية وهو الذي كان فخوراً بنزعته الجذرية وباتخاذ مواقف منحازة في كل الميادين. هل كانت لديه أسباب معينة كي لا يتخذ موقفاً واضحاً وملتزماً في هذه القضية؟ هل أخطأ بذلك؟ هذا ممكن؛ ذلك لأنه بذاته صرّح قائلاً: «كلما كنتُ أرتكب خطأ كان ذلك يعود إلى أنني لم أكن جذرياً بما يكفي». كيف أمكن لسارتر أن يكون مرتبكاً في اتخاذ موقف بخصوص هذا النزاع المطروح؟ ولكي نفهم حرَج سارتر تتوجب علينا معرفة شروط وظروف طرح هذه المشكلة، وما هي علاقات فيلسوفنا مع كل من الطرفين المتنازعين؟ في الواقع، إن علاقات سارتر مع الإسرائيليين تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية، حيث كان اليهود مهدَّدين بالتصفية من قِبل النازية والحركة المعادية للسامية بشكل عام؛ وبما أنه يقف دائماً إلى جانب المقهورين فقد دافع عن اليهود من خلال المرافعة من أجلهم، والقيام بحملة كبرى ضد النزعة المعادية للسامية.
وفي كتابه «تأملات حول المسألة اليهودية» عام 1946، يصور سارتر الإنسان اليهودي كائناً ضعيفاً غير مهيأ للعنف، وحتى أنه لا يعرف كيف يدافع عن نفسه، ولكن الحركة المعادية للسامية هي التي خلقت المسألة اليهودية، وهي التي حشرت كل اليهود في وضع معين، حيث باتوا يشعرون بأنفسهم جميعاً متماثلين في إطار وضع مشترك: «إن اليهودي هو إنسان يتعامل معه الآخرون بوصفه يهودياً؛ تلك هي الحقيقة التي يجب الانطلاق منها... إن معاداة السامية هي التي صنعت اليهودي».
من الطبيعي بالنسبة إلى سارتر أن يشعر اليهودي دائماً بأنه في خطر في مجتمع تراوده معاداة السامية بشكل دائم. من المؤكد أن سارتر كان يتحدث في كتابه حول المسألة اليهودية عن اليهود الفرنسيين، ولكن ذلك لا يعني أن ليس لديه المشاعر والمواقف نفسها تجاه يهود إسرائيل الذين كان يكنّ لهم صداقة عميقة على مر السنين. وهذه الصداقة ليست بالفعل سوى التزام أخلاقي تجاه جماعة اليسار الإسرائيلي، ونتيجة لإسقاط ماضي اليهود الشاق على حاضرهم. هذا يعني أن سارتر يحتفظ في أعماقه بصورة اليهودي المذبوح أو المقهور من قِبل النازية والحركة المعادية للسامية؛ وذلك لكي يعترف ليهود اليوم بحق الوجود وبالكرامة. ولكن هناك مشكلة تطرح نفسها: إذا كان اليهود قد تعرضوا للقهر والتشتت في كل أنحاء العالم، فهل يحق لهم فعل الشيء نفسه تجاه شعب آخر من أجل تكريس وجودهم ومن أجل تأسيس جماعة قومية؟ هل لديهم الحق في أن يكونوا ظالمين كي يمحوا ذكريات القهر الذي تعرّضوا له؟
تلك هي المشكلة. لقد وجد سارتر نفسه أمام الوضع التالي: إن اليهود من جهة وعرب فلسطين من جهة أخرى لهم كل الحقوق التاريخية في الوجود على هذه الأرض، حيث كانوا يعملون ويعيشون منذ زمن طويل. ولكن الفلسطينيين تعرضوا للطرد من أرضهم عام 1948 من قبل اليهود في ظروف غامضة وملتبسة. وقد أسس اليهود دولة إسرائيل. وبعد مرور بضع سنوات بدأ الفلسطينيون في تنظيم كفاحهم المسلح والدبلوماسي في سبيل العودة إلى فلسطين تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. إسرائيل رفضت بشكل قاطع الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في فلسطين كما رفضت التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. عام 1956 شاركت إسرائيل مع الغرب في الهجوم ضد مصر لاحتلال قناة السويس. عام 1967 وقعت حرب الأيام الستة، حيث احتلت إسرائيل أراضي عربية جديدة. عام 1973 انطلقت حرب جديدة استعادت فيها مصر قناة السويس وصحراء سيناء. بعد هذه الحرب فتح باب التفاوض. عام 1979 قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة إلى إسرائيل ووقّع على أثر هذه الزيارة اتفاقية كامب ديفيد مع مناحيم بيغن رئيس الحكومة الإسرائيلية، حيث أدت هذه الاتفاقية إلى عزل شامل لمصر عن العالم العربي. في ذلك الوقت كانت قدرة منظمة التحرير الفلسطينية تزداد بشكل قوي، حيث تمركز الفلسطينيون، بدعم من اليسار اللبناني، في لبنان أثناء الحرب الأهلية، وبنوا بنية تحتية عسكرية اقتصادية وسياسية بحيث أثارت حفيظة إسرائيل وحلفائها، فشعروا بأن الوضع بات يهدد بالخطر.
إذن، كان الوضع شديد التعقيد لدرجة أن سارتر لم يستطع اتخاذ موقف واضح دون أن يستاء منه الطرفان. إن صداقة سارتر لليهود لم تمنعه من أن يكون صديقاً للعرب، وبخاصة لأولئك الذين يؤمنون بالتقدم والذين يحاولون إقامة الاشتراكية في بلدانهم. وبالفعل، فإن سارتر قام عام 1967 قبل حرب الأيام الستة بزيارة لمصر، حيث أُعجب كثيراً بالعمل الذي كان يقوم به جمال عبد الناصر في سبيل بناء بلده على قاعدة الاشتراكية. وإضافة إلى ذلك، فقد أُعجب بشخصية عبد الناصر ووجد فيه رجلاً يريد السلام. وبعد هذه الزيارة لمصر قام بزيارة المخيمات الفلسطينية في غزة، واكتشف البؤس الذي يعانيه شعب يعيش على مسافة قصيرة من أرضه التي طرد منها. وفي ختام جولته في الشرق الأوسط قام بزيارة إسرائيل، ويبدو أنه تأثر بعبد الناصر أكثر مما تأثر بالقادة الإسرائيليين. وعلى أثر هذه الزيارة المزدوجة لمصر ولإسرائيل كان سارتر شبه مقتنع بأن حرباً ما ستنفجر بين العرب وإسرائيل. وهذا الشعور تكوّن لديه بناءً على محادثة مع عبد الناصر. ويوجز سارتر وجهة نظر عبد الناصر كالآتي:
«هناك تناقض لا نصل إلى حله. ولكن الحل بواسطة الحرب لا يبدو حلاً جيداً». بعد كل ذلك يستنتج أن القضية هي قضية حق: «للفلسطينيين الحق القاطع في العودة إلى ديارهم»، وبالتالي «بكل بساطة لأنهم طُردوا يحق لهم أن يعودوا». وإذا كان للفلسطينيين الحق في أن يكونوا في ديارهم وفي أرضهم، فإن اليهود أيضاً لديهم الحق نفسه، ولكن ليس كل اليهود، بل أولئك الذين ولدوا في فلسطين واشتغلوا فيها. يقول سارتر: «إذا كنت أعترف لحفيد أو لابن أحد اليهود الذي أقام في إسرائيل بحق البقاء في وطنه لأنه فيه ولا يجب طرده منه، فأنا أعترف للفلسطينيين وطبقاً للمبدأ نفسه بحق العودة إلى هذا الوطن».
ولكن ما الحل الذي يقترحه سارتر لحل هذه المشكلة المعقدة؟ إنه يلخص اقتراحاته في ثلاث نقاط:
1. يتوجب على إسرائيل إعادة الأراضي التي تحتلها، وقد يكون عليها اتخاذ القرار من ذاتها ومن دون ضغط.
2. يجب الاعتراف بسيادة إسرائيل.
3. يجب أن تكون مشكلة الفلسطينيين مباشرة موضوع المفاوضات الأولى؛ لأن هذه المشكلة أساسية.
في الواقع، إن سارتر يطلب من الحكومة الإسرائيلية أن تقدم أكثر من الآخرين من أجل حل هذه المشكلة؛ وذلك لأن إسرائيل لديها مسؤولية كبرى في هذه القضية. من هنا هو يعتقد بأن «الكثير من الأمور في يد إسرائيل، وأن السياسة الإسرائيلية خطيرة جداً بشكل خاص؛ لأنها تترك الشك يخيم حول موضوع المناطق المحتلة». وهذه السياسة الإسرائيلية الخطيرة قد تأكدت من خلال إعلان القدس عاصمةً للدولة العبرية عام 1980، ومن خلال ضم هضبة الجولان المحتلة عام 1981.
لقد كان سارتر يعتبر أنه من المؤسف أن تكون مشكلة الفلسطينيين غير منظورة في بيانات الحكومة الإسرائيلية، وكان يجد أنه من خلال دفع الفلسطينيين إلى اليأس نتيجة رفض إعطائهم حق تقرير مصيرهم بذاتهم، وعدم السماح لهم بالمشاركة عبر ممثليهم الشرعيين في المفاوضات المرتقبة حول قضيتهم، قرر هؤلاء تنظيم كفاحهم المسلح في سبيل العودة إلى ديارهم في فلسطين. وبالفعل هو يبرر الكفاح المسلح الذي يخوضه الفلسطينيون، كما كان يبرر ذلك لجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
وهو يحمّل مسؤولية العنف للإسرائيليين الذين أقفلوا كل الأبواب أمام احتمالات أخرى. إذن، بالنسبة إليه: «إن المسألة هي مسألة حق. وما دامت لا تتم مقاربة المشكلة وجهاً لوجه فستكون هناك (حركة فتح) وستكون هناك (جبهة تحرير فلسطين)، وهذا أكيد تماماً. بالتالي سيكون هناك توتر حاد، وفي نهاية الأمر ستقع حرب جديدة». وفي الوقت نفسه يعطي سارتر حقاً لإسرائيل عندما ترد على العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون ضدها؛ لكنه يجد شيئاً من الكذب على الذات (الإيمان الفاسد) في موقف الحكومة الإسرائيلية، عندما تهاجم بلداً مثل لبنان الذي لم يعلن الحرب ضد إسرائيل، بحجة الرد على المجموعات الفلسطينية المقيمة في هذا البلد. إذن، من الصعب بالنسبة لإسرائيل تدمير المقاومة الفلسطينية المنتظمة في مجموعات فردية وتعمل انطلاقاً من فلسطين ذاتها ومن الأراضي المحتلة حديثاً.
في مقابلة عام 1969 في مجلة «l’arche» يعالج سارتر النزاع العربي - الإسرائيلي بطريقة حالمة أكثر منها واقعية. في الواقع، هو لا يعتبر - بخلاف العرب - أن إسرائيل هي رأس حربة «الإمبريالية الأميركية»؛ بل يعتقد، على العكس، أن إسرائيل والعرب هم ضحايا «الإمبرياليتين الكبيرتين الأميركية والسوفياتية»، وأن النزاع في الشرق الأوسط هو نتيجة للتنافس القائم بين هاتين «الإمبرياليتين». وفي إجابة عن سؤال حول هذا الموضوع، قال سارتر: «فيما يتعلق بإسرائيل، فإن التواطؤ الموضوعي بين الروس والأميركيين ليس قابلاً للشك». بالنسبة إليه ما كان يجب على العرب والإسرائيليين أن ينخرطوا في لعبة الأميركيين والسوفيات؛ وذلك لأنه يعتقد أن الاقتصاد الإسرائيلي يجب أن يكون متمحوراً كلياً على الشرق الأوسط. وهو يقول حول هذا الموضوع: «من العبث اعتبار إسرائيل كرأس حربة للإمبريالية الأميركية، ولكن ما هو مؤكد أن إسرائيل الآن هي في حاجة إلى دعم اليهود الأميركيين». إذن، المَخرَج الوحيد لإسرائيل هو أن تتكامل اقتصادياً مع الشرق الأوسط. ولكي يحل السلام تجب إقامة الثقة بين الطرفين، واستبعاد الشروط التي تسبب خوفاً لهذا الطرف أو ذاك. ومن أجل المساهمة في هكذا عملية؛ فإن سارتر طمأن الإسرائيليين قائلاً لهم بأن العرب لا يريدون إلغاءهم كأقلية؛ لأن أقليات الشرق الأوسط، برأيه، تستطيع دوماً إيجاد حلول لمشاكلها بالتكيف مع محيطها. وبهذا المعنى يقول: «باستثناء الشرق الأوسط، إن مشكلة الأقليات غالباً ما تجد حلها في مجزرة...»، ولكن المشكلة تكمن في أن العرب يحقدون على الدولة الصهيونية، ويعتبرونها بمثابة جسم غريب مزروع بينهم من قِبل القوى العظمى، من أجل منعهم من الاتحاد فيما بينهم، وجعلهم يستنفدون قدراتهم الاقتصادية والعسكرية؛ وذلك كي لا يشكلوا في المستقبل خطراً على مصالح القوى التوسعية التابعة للإمبريالية العالمية. ولكن، من أجل طمأنة العرب الذين يرتابون من الصهيونية ويعتبرونها العدو الأول بما تمثل من مشروع توسعي، يقول سارتر لهم بأن الصهيونية أصبحت ميتة. ويصرح بهذا المعنى قائلاً: «برأيي، الصهيونية عاشت حياتها. وهناك سبب وجيه لاعتبار ذلك، هو أنه رغم أن الناس لم يشفوا من معاداتهم للسامية، فليس هناك في الوقت الراهن أزمة معاداة السامية، ولن تكون هناك أزمة كهذه في المستقبل المنظور. إن يهود الشتات يفضلون البقاء حيث هم».
إن سارتر الذي كان يؤمن بنهاية الحركة الصهيونية، وبالنوايا الحسنة لليسار العربي والإسرائيلي، سمح لنفسه بالتعبير عن أمل حالم أكثر منه ممكن التحقق بحلول سلام في الشرق الأوسط، يمكن أن يوحد أولئك الذين يتعرضون للاستغلال، سواء كانوا عرباً أم يهوداً، في الكفاح من أجل الثورة الاشتراكية، وهذا لن يتحقق إلا بدمج الاقتصاد الإسرائيلي في إطار الشرق الأوسط؛ حتى لا يكون هناك أي مبرر للارتياب بين المعسكرين.
وكي يجد صراع الطبقات أفضل شروطه للقيام بثورة حقيقية تستطيع تحرير إسرائيل والعرب من براثن القوى الإمبريالية الكبرى، تجب إقامة اتحاد المستغَليّن من الطرفين في النضال الاجتماعي نفسه. انطلاقاً من هذا الموقف، لم يدخر سارتر جهوده من أجل مباشرة الحوار بين مفكرين عرب وإسرائيليين على صفحات مجلته «الأزمنة الحديثة» من أجل خلق الشروط الضرورية لتقارب محتمل في وجهات النظر بين الطرفين.
والآن نتساءل: ماذا كان يمكن لسارتر أن يقول لو كان ما زال حياً بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982؟ وبعد مجازر «صبرا وشاتيلا» التي ارتُكبت بتواطؤ الإسرائيليين مع بعض القوى اليمينية اللبنانية المتطرفة آنذاك، ضد المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين؟ على أي حال، بالنسبة لأولئك الذين يتتبعون مسار التزامات سارتر، كان من الممكن جداً أن يغير موقفه تجاه إسرائيل، وخصوصاً بعد مجازر «صبرا وشاتيلا»، ويمكننا الذهاب أبعد من ذلك لنقول إنه من أجل تماسك الفكر السارتري، ونظراً لمعطيات المشكلة، كان من الممكن أن يتخذ موقفاً أكثر وضوحاً وأكثر التزاماً، وبالتالي أكثر واقعية، كما كان من الممكن أن يفعل في ظروف سياسية واجتماعية أخرى. بكلمة، يمكننا القول إن موقف سارتر حول الشرق الأوسط هو المثال النموذجي عن التباس أخلاق الالتزام الفردي.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.