نقد سيطرة العقل التكنولوجي

إعلامي يصور قمراً صناعياً أميركياً - هندياً في 3 فبراير الحالي قبل إطلاقه في مهمة لرصد التغيرات في تضاريس سطح الأرض والتقاط صور عالية الدقة لتتبع تطور قشرة الأرض ومراقبة معدلات تدفق الأنهار الجليدية وديناميات الزلازل والبراكين ودراسة تغير المناخ والتغيرات في أراضي المحاصيل (أ.ف.ب)
إعلامي يصور قمراً صناعياً أميركياً - هندياً في 3 فبراير الحالي قبل إطلاقه في مهمة لرصد التغيرات في تضاريس سطح الأرض والتقاط صور عالية الدقة لتتبع تطور قشرة الأرض ومراقبة معدلات تدفق الأنهار الجليدية وديناميات الزلازل والبراكين ودراسة تغير المناخ والتغيرات في أراضي المحاصيل (أ.ف.ب)
TT

نقد سيطرة العقل التكنولوجي

إعلامي يصور قمراً صناعياً أميركياً - هندياً في 3 فبراير الحالي قبل إطلاقه في مهمة لرصد التغيرات في تضاريس سطح الأرض والتقاط صور عالية الدقة لتتبع تطور قشرة الأرض ومراقبة معدلات تدفق الأنهار الجليدية وديناميات الزلازل والبراكين ودراسة تغير المناخ والتغيرات في أراضي المحاصيل (أ.ف.ب)
إعلامي يصور قمراً صناعياً أميركياً - هندياً في 3 فبراير الحالي قبل إطلاقه في مهمة لرصد التغيرات في تضاريس سطح الأرض والتقاط صور عالية الدقة لتتبع تطور قشرة الأرض ومراقبة معدلات تدفق الأنهار الجليدية وديناميات الزلازل والبراكين ودراسة تغير المناخ والتغيرات في أراضي المحاصيل (أ.ف.ب)

في كتابه: «الإنسان ذو البعد الواحد»، الصادر عام 1964، اعتبر هربرت ماركيوز أن المجتمع الصناعي القائم على التكنولوجيا تحول إلى مجتمع أحادي البعد في النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وبالتالي انعكس ذلك الوضع على الإنسان الذي أصبح بدوره أحادي البُعد، نتيجة خضوعه لمنطق سيطرة العقلانية التكنولوجية التي تجاوزت التناقضات الطبقية في التشكيلات الاجتماعية، وأدت إلى تخدير الفلسفة النقدية وإلى غياب المعارضة في المجتمع. يقول ماركيوز في مدخل هذا الكتاب: «يبدو أن المجتمع الصناعي المتقدم يحرم النقد من أساسه الحقيقي؛ فالتقدم التقني يرسخ دعائم نظام كامل من السيطرة والتنسيق، وهذا النظام يوجه بدوره التقدم ويخلق أشكالاً للحياة (وللسلطة) تبدو كأنها منسجمة مع نظام القوى المعارضة، وتبطل بالتالي جدوى كل احتجاج باسم الآفاق التاريخية، باسم تحرر الإنسان. وعلى هذا، فإن المجتمع المعاصر يبدو قادراً على الحيلولة دون أي تبدل اجتماعي، أي دون أي تحول بالمعنى الكيفي يؤدي إلى قيام مؤسسات مختلفة اختلافاً جوهرياً وإلى ظهور اتجاه جديد لعملية الإنتاج وأنماط جديدة للحياة. ولعل أغرب ظواهر المجتمع الصناعي المتقدم تكمن في العراقيل التي يضعها أمام التغير الاجتماعي. واندماج القوى المعارضة نتيجة هذه الظاهرة وعلتها الأولى في آن واحد، كما يشهد على ذلك مفهوم المصلحة القومية المقبول على أنه تعبير عن الإرادة العامة، وسياسة نظام الحزبين وأفول نظام تعدد الأحزاب، وتواطؤ رأس المال والعمل داخل دولة قوية» (ص28).
ولكن كيف تجلى منطق سيطرة العقلانية التقنية؟ بالإجمال، لقد تم ذلك من خلال الانتقال من الفكر السلبي (النقدي) إلى الفكر الإيجابي. وسوف نوجز وجهة نظر ماركيوز حول هذا الموضوع من خلال بعض المقتطفات: «إن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ورغم كل تغير، استمراراً تاريخياً، ولا تزال هناك رابطة بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة؛ فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد) يحل محلها شيئاً فشيئاً نوع آخر من التبعية: التبعية التي تُخضع المرء إلى (نظام الأشياء الموضوعي)، أي القوانين الاقتصادية، السوق... إلخ. ولئن كان (نظام الأشياء الموضوعي) من صنع السيطرة ونتائجها هو الآخر، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجة أكبر من العقلانية؛ عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية، ويستغل في الوقت نفسه، وعلى نحو أنجع، باطّراد، الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاق متعاظم باستمرار أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحو متعاظم إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج ذاك يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً لمزاحمة عالمية شاملة تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه» (ص181).
ولكن، لكي يبسط هذا النظام سيطرته، يجب أن يستند إلى آيديولوجيا معينة تقنع الفئات الاجتماعية المختلفة بالخضوع لهذه السيطرة، من خلال تبنيها على أنها ضرورة وواقع قائم. «إننا نحيا ونموت تحت راية العقلانية والإنتاج، ونحن نعلم أن الإبادة ضريبة التقدم، كما أن الموت ضريبة الحياة، ونعلم أن التدمير والكدح ضروريان كشرط مسبق للتلبية والفرح، ونعلم أن الأعمال يجب أن تزدهر، ونعلم أن التفكير باختيار آخر إنما هو عين الطوباوية. والحقيقة أن هذه الآيديولوجيا إن هي إلا آيديولوجيا النظام الاجتماعي القائم، لأنه لا يستطيع الاستمرار في حسن سيره وعمله من دونها، ولأنها تشكل جزءاً من عقلانيته» (ص183).
إذن، فإن مبادئ العلم الحديث خدمت كأدوات مفهومية في عالم الإنتاج، فاندمجت النزعة العملياتية النظرية مع النزعة العملياتية العملية، وبذلك فتح المنهج العلمي الباب أمام مفاهيم محضة، ولكنه قدم أيضاً الأدوات التي سهّلت سيطرة الإنسان على الإنسان، من خلال السيطرة على الطبيعة. وبذلك أصبح العقل النظري خادماً للعقل العملي، فاستفاد الاثنان من هذا التحالف. واليوم، أخذت هذه السيطرة طابعاً أكثر شمولاً بفضل التكنولوجيا.
ولكن، أمام نظام السيطرة القائم على ثمرة التحالف بين العلم والتقنية، المتجسد بالتكنولوجيا، لا يمكن للمرء إلا أن يطرح مسألة الحرية، خصوصاً أن العالم الحر اقتصادياً يفاخر بأنه موطن الحريات، خصوصاً الحريات الاجتماعية والسياسية. ويبدو أن الحريات التي تمتّع بها أبناء العالم الحر قد استنفدت قواها، وأصبح واضحاً للإنسان المعاصر أن حريته ليست سوى تجريد للوعي وتخيل لحرية افتراضية، ووجد نفسه أمام صيرورة حتمية لتطور الأدوات والوسائل والأنساق والمفاهيم التقنية عبر التكنولوجيا الحديثة التي فرضت عقلانيتها على أنماط حياة البشر في سائر قطاعات الكون. وبالتالي فإن «التكنولوجيا المعاصرة تضفي صبغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل (تقنياً) أن يكون الإنسان سيد نفسه، وأن يختار أسلوب حياته.
إذن، مقابل النقص في الحرية، يقدم العقل التكنولوجي كتعويض زيادة في الرفاه والتسلية والسلطة وطول العمر وغير ذلك من إغراءات التقنية. وبالتالي، ليس معقولاً أن يكون الإنسان حراً وهو محروم من تقديمات الآلة التقنية، أو محروم من الرفاهية والغذاء الكافي ومن المعرفة، بل ما هو معقول هو القبول بسيطرة التقنية، مع كل ما تجلبه لنا. ذلك لأن ما تجلبه لنا ضروري لبقائنا ولحمايتنا تجاه ما تخبئ لنا الطبيعة من مجهول.
ولكن المشكلة تكمن في أن تنازل الإنسان عن بعض حريته مقابل رفاهيته سيؤدي إلى ولادة وضع جديد، فتتحول السيطرة التكنولوجية إلى سيطرة سياسية، ونعود إلى منطق استغلال الإنسان القوي تكنولوجيّاً للإنسان الآخر الضعيف، وإلى منطق السيد والعبد: «إن ديناميكية التقدم التقني قد تلبّست على الدوام محتوى سياسياً، وقد أصبح لوغوس التقنية لوغوس العبودية المستديمة. وقد كان في الإمكان أن تكون قوة التكنولوجيا قوة محرِّرة؛ عن طريق تحويل الأشياء إلى أدوات، ولكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر، عن طريق تحويل البشر إلى أدوات. وبالطبع، ليس هدفي هنا أن أشكك في قيمة العلم المعاصر بالنسبة إلى كل العلوم التي سبقته... ولكن ما أحاول أن أبينه أن العلم قد اتُّخذ، بفعل منهجه ومفاهيمه، وسيلة لتعزيز عالم ظلت فيه السيطرة على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الإنسان؛ فالطبيعة، المعقولة والملجومة من قبل العلم، لا تزال ماثلة في جهاز الإنتاج والتدمير التقني الذي يضمن للأفراد حياتهم ويسهلها، الذي يُخضعهم في الوقت نفسه لأرباب الجهاز... من هنا أقول إنه لو طرأ تغير على اتجاه التقدم فحطم العلاقة الوثيقة القائمة بين عقلانية التقنية وعقلانية الاستغلال، لطرأ أيضاً تغيّر على بنية العلم بالذات» (ص191 - 192).
على ذلك، عندما أصبح العلم خادماً للتكنولوجيا ارتبط بمنطق السيطرة على الطبيعة؛ ذلك المنطق الذي يؤدي إلى استغلال الإنسان الضعيف من قِبَل الإنسان القوي المتسلح بالعقل التكنولوجي. وعندما تغيب علاقة الاستغلال يمكن للعلم أن يقدم مفاهيم جديدة عن الطبيعة تفتح آفاقاً مختلفة كلياً قد تحرر الإنسان كلياً من سيطرة العقل الشمولي؛ سواء أكان هذا العقل تكنولوجيّاً أو سياسياً. ولكن لماذا يستخدم العقل التكنولوجي العلم والسياسة، وما الأهداف البعيدة للتكنولوجيا؟ يقول ماركيوز إن «المفهوم العلمي عن طبيعة قابلة على نحو مطلق للخضوع للرقابة أو للتحكم يمثل الطبيعة كمادة تتحرك بلا غاية؛ مادة للنظرية والممارسة. وتحت هذا الشكل يدخل العالم الموضوعي في بناء العالم التكنولوجي، ذلك العالم المكون من أدوات مادية وعقلية. ونظام هذا العالم بطبيعته نظام (فرضي). ومن هنا كانت حاجته إلى ذات تبرره وتتحقق منه. وقد تكون العمليات الهادفة إلى التحقق منه وتصديقه عمليات نظرية محضة، ولكنها مع ذلك لا تتم في الفراغ، ولا في حدود دماغ فردي خاص؛ فالموضوعية المحضة تظل عبارة عن موضوع بالنسبة إلى ذاتية تنشئ الغايات وتتوقعها» (ص192).
هذا يعني أن العقلانية التكنولوجية حين استخدمت العلم وحوَّلت المجتمع إلى أحادي البعد، ساهمت في تخدير النقد، وجعلت الإنسان أحادي البعد أسيراً للمنطق الذي يقايض حريته بإغراءات العيش الرغيد الذي تؤمنه التكنولوجيا حتى الضجر.
وفي إطار «مدرسة فرنكفورت» والفلسفة النقدية الحديثة، أتى يورغن هابرماز في كتابه «التقنية والعلم كآيديولوجيا» ليطور المناقشات التي أثارها هربرت ماركيوز، والتي تتعلق بموضوع قدرة التكنولوجيا على تحقيق التحرر، وانبثاق ظاهرة انتشار الطابع الأداتي في حياة الفرد في المجتمعات الصناعية المعاصرة (سوف نستعين هنا بمقتطف من كتاب علاء طاهر: «مدرسة فرنكفورت، من هوركهايمر إلى هابرماز، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ص109 - 110)؛ فلم يكن التقدم العلمي والتقني عامل انعتاق للإنسان كما كان يأمل أنصار التكنولوجيا والتطور العلمي، بل على العكس كان سبباً في إدخال الإنسان المعاصر داخل قوالب اجتماعية جديدة منبثقة عن المؤسسات ذات الانغلاق المطّرد في المجتمعات الحديثة المصنّعة.
لقد استخدم هابرماز التراث السوسيولوجي الألماني، وفي مقدمته أعمال كارل ماركس وماكس فيبر، رابطاً بشكل عضوي ومتوازٍ بين الاطّراد الحاصل في القوة المنتجة وأسلوب الإنتاج، والتفاقم في القدرة العلمية والتقنية داخل المجتمع. ثم قام بدراسة ظاهرة تكاثر المؤسسات وتناسلها المطّرد ومحاولتها احتواء القدرتين العلمية والتكنولوجية داخل منظومة عامة خاضعة للدولة. ويقر هابرماز بأن المجتمعات الرأسمالية قد اجتازت سلسلة من التحولات العميقة وذات النمط الخاص، حيث تطورت في اتجاهين مزدوجين جعلا من تطبيق المقولات الأساسية للنظرية الماركسية أمراً متعذراً، لا سيما مقولتي الصراع الطبقي والمفهوم الماركسي للآيديولوجيات. وعبر تناوله الموسع للتطور التقني ومعطياته، يناقش هابرماز جملة من الأفكار والنظريات التي طرحها مفكرون آخرون تناولوا موضوع التقنية وتصاعدها الاستلابي في إخضاع المجال الاجتماعي - الإنساني لآليتها، وقيامها بإضفاء الطابع العلمي على الحياة العامة؛ ففي فصل خاص بعنوان «علمنة السياسة والرأي العام»، أي فرض حصار عليهما من خلال إخضاعهما للعلم وإيقاعه التطوري، يُظهر هابرماز الفعالية ذات السرعة التضاعفية في إدخال المنهج والأسلوب العلميين على معظم الأنشطة الحياتية الملبية لحاجات المواطنين. الأمر الذي يؤدي في النهاية للتأثير على رأيهم السياسي، ومن ثم على الاتجاه الكلي للرأي العام داخل المجتمع. ويكتسب هذا التأثير فعاليته من خلال الكيفية المتحكمة في تقديم المعلومات والطريقة العلمية الصارمة المحركة لهذه الكيفية. وهذا يطرح في النهاية حتمية إيجاد إدارة ممركزة للمالية ولعلاقات التبادل التجاري والاقتصادي؛ سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد الإقليمي الداخلي.
وانبثقت كذلك علمنة متزايدة في المجالين العسكري والسياسي، وأُخضعت السياسة الوطنية لشبكة من الأجهزة التقنية المتقدمة التي تخدم الصالح العام بفضل دقة الحسابات المطبَّقة في الاستراتيجية السياسية والعسكرية للدولة. وفي معرض تتبعه الدقيق لجوانب العلمنة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، يقدم هابرماز دراسة للنشاط الاقتصادي والارتباط بالتطور التقني لفعالية المؤسسات. ويقوم برصد سيمانتيكي للمفردات التقنية الخاصة بالعلوم الإنسانية الدقيقة، لا سيما السوسيولوجيا، حيث يبحث في مرادفات هذه المفردات وما تعكسه من مضامين تقنية إضافية. وبذلك يطور بشكل دقيق الأفكار النقدية التي قام هربرت ماركوز بطرحها أثناء دراسته للتقدم الآلي في المجتمعات الصناعية، غير أنه يذهب إلى مدَيات أبعد من تلك التي بلغها ماركوز، فيقوم بدراسة مفصلة لتطور مفاهيم العلوم التقنية، وتكوّن المؤسسات الخاصة بها، ثم نشوء هيمنتها التدريجية على الفرد والمجتمع وتحكمها بالأبعاد الإنسانية المستقلة داخل الوعي الجماعي. إن التراكم العقلاني لتحليلات هابرماز النقدية يفرز لدينا حالة من الخوف والشعور بالمراقبة وعدم الانعتاق.
وفي النهاية، هل يرى هابرماز إمكانية للخلاص من هذا الجو الكلياني الذي لا يكشف عن نفسه بشكل مباشر أمام الوعي الجماعي؟ ونستطيع تلخيص الفكرة التي بدأ هابرماز بتعميقها في السعي لتأسيس وتطوير نمط جديد من الروح الاتصالية داخل المجتمع. ويلح على ضرورة إقامة اتصالية اجتماعية عامة، عبر تأسيس جدل جماعي مشترك يسوده خطاب عقلاني، من شأنه أن يرفد الطاقة النقدية عند المرء بدينامية متجددة، ويحرر الوعي تدريجياً من الهيمنة الذهنية القائمة.

* باحث وأستاذ جامعي لبناني



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.