تقديم الفلسفة في عصر السرعة

مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)
مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)
TT

تقديم الفلسفة في عصر السرعة

مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)
مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)

في السابع عشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم احتفل العالم باليوم العالمي للفلسفة. ولكن كيف يمكن لهذا الاحتفال أن يكون مناسبة وحافزاً لاستقبال وقبول الفكر الفلسفي لدى أجيال العصر الراهن المحكوم من ثورة التكنولوجيا وسرعة الاتصالات ومن سيطرة نمط الحياة السريع في كل المجالات؟ وهل يمكن لهذا الجيل أن يجد الوقت الكافي لقراءة مجلدات الفلاسفة الكبار الذين أغنوا تاريخ الفلسفة بفلسفاتهم حول مصير الكون والإنسان والطبيعة؟ في هذا المقال السريع المنسجم مع عصر السرعة سوف نحاول تقديم قصة الفلسفة بحيث يستطيع الإنسان المعاصر أن يلتقط معنى الفلسفة والتفلسف ويوظف هذا الفهم في حياته اليومية والأخلاقية كما في تحضير مصيره واكتمال ماهيته. أضف إلى ذلك نريد من هذا المقال نزع الوهم الراسخ عند العموم حول عقم وتجريد وسفسطة الفكر الفلسفي، وذلك من خلال عرض موجز وسريع لأهم تصورات الفلسفة ومنعطفاتها عبر أهم المدارس الفلسفية وأعلام الفلسفة الكبار الذين طبعوا مراحل تاريخ الفلسفة بطابعهم.
في سبيل تحقيق الغاية من هذا المقال لا بد لنا من طرح سؤال ماهية الفلسفة: هل اتفق الفلاسفة ومؤرخو الفلسفة على تعريف الفلسفة؟ من الطبيعي ألا يتفقوا؛ وذلك لأن فعل التفلسف لا يقبل القولبة، وبالتالي هناك من الفلسفات بقدر ما هناك من الفلاسفة على حد تعبير جان بول سارتر. كذلك اعتبر الفيلسوف كانط بأننا لا يمكننا تعليم الفلسفة، بل يمكننا تعليم التفلسف. على ذلك، إن ماهية الفلسفة تتوقف على نشاطات وتأملات كل من طرح أسئلة حول الكون والوجود والله والإنسان. من هنا، يمكننا رصد تصورات عدة لماهية الفلسفة. ولكن لا بد من الاعتراف بحسب أرسطو بأن دهشة الإنسان أمام الطبيعة وأمام كل ما هو عادي وطبيعي هي مصدر التفلسف. ولكن هذه الدهشة استمرت في إطار الفلسفة الحديثة من خلال السؤال الميتافيزيقي المطروح من قبل الفيلسوف الألماني لايبنتز واستعاده هايدغر في القرن العشرين ألا وهو: لماذا هناك شيء ما بدلاً من لاشيء؟ في الواقع، إن هذا السؤال يختصر المسألة الأساسية في الفلسفة بحيث إنه يطرح مشكلات الفلسفة الأساسية التي تقوم على السؤال الميتافيزيقي والمكان والوجود والعدم.
على هذا الأساس تعددت التصورات التي انطلقت منها تعريفات الفلسفة. ومن أهم هذه التصورات: أولاً، اعتبار الفلسفة كمحبة الحكمة وليست الحكمة بذاتها؛ وثانياً اعتبار الفلسفة كسؤال؛ إذ إن الأسئلة هي أكثر أهمية من الأجوبة بحسب تعبير الفيلسوف كارل ياسبرز. ثالثاً، اعتبار الفلسفة كعقيدة معينة تمتلك تصوراً عن العالم ومصيره؛ ورابعاً، اعتبار الفلسفة كنظرة كونية شاملة لكل الكون؛ وخامساً، اعتبار الفلسفة كنظرية نقدية وتحليل اللغة والعلم.
إذن، كي نستطيع تصنيف الفلاسفة لا بد لنا من طرح المسألة الأساسية في الفلسفة، وهي: مسألة العلاقة بين الفكر والواقع والتي تتناول مسألة الحقيقة الناشئة عن تطابق الفكر والواقع المادي. حول هذه المسألة انقسم الفلاسفة التقليديون إلى معسكرين: المعسكر المثالي والمعسكر المادي. الخلاف وقع حول السباق الدائم بين المعرفة والوجود. في مسألة الوجود يعتبر المثاليون أن الفكر يسبق الوجود؛ أما الماديون فيعتبرون أن الوجود المادي سابق على الفكر. وفي مسألة المعرفة، يعتبر المثاليون بأن المعرفة تتم من خلال إسقاط وتوجيه الوعي إلى الوجود الواقعي؛ أما الماديون فيعتبرون بأن المعرفة تتم من خلال انعكاس الواقع المادي على الوعي البشري.
في الواقع، إن تاريخ الفلسفة شهد مراحل عدة، بدءاً من الفلسفات الشرقية وصولاً إلى الفلسفة المعاصرة مروراً بالفلسفة اليونانية وفلسفة العصر الوسيط العربي والغربي والفلسفة الحديثة الألمانية والفرنسية. ولقد شهد هذا التاريخ الفلسفي منعطفات أساسية في تطور الفكر البشري. من هذه المنعطفات برزت المعجزة اليونانية من خلال فلاسفة المرحة السابقة على سقراط، وبرز فيها هرقليطس فيلسوف الحركة والتغيير والجدل، والفيلسوف برمنيدس الذي اعتقد بمبدأ الثبات والسكون ورفض العدم، حيث اعتبر أن الكون يكون والعدم لا يكون: يعني لا شيء خارج الكينونة الساكنة والثابتة. كما برز الفيلسوف ديمقريطس الذي افترض أن كل شيء في الطبيعة يتكون من ذرّات. أما سقراط فقد شكّل منعطفاً أساسياً في تاريخ الفكر، حيث نقل الاهتمام الفلسفي من الطبيعة إلى الإنسان عندما قال: أيها الإنسان اعرف نفسك. واكتملت المعجزة اليونانية مع أفلاطون وأرسطو اللذين طبعا تاريخ الفلسفة بتأسيس الميتافيزيقا من خلال طرح كل منهما نظاماً فلسفياً متكاملاً. وبالفعل كان لأفلاطون الدور الأساسي في تأسيس الفلسفة المثالية من خلال اعتباره أن الحقيقة تكمن في عالم المُثُل والحقائق الأبدية في حين أن عالمنا الأرضي ليس سوى عالم الفساد والتغير، وقد عبر عن هذه النظرية في كتاب «الجمهورية» عندما تحدث عن أسطورة الكهف. أما أرسطو فقد لُقب بالمعلم الأول لغزارة إنتاجه في الميتافيزيقا والفيزيقا والمنطق. بالفعل، لقد عمل أرسطو على تأسيس الميتافيزيقا متجاوزاً أستاذه أفلاطون ورادماً الهوة التي أقامها الأخير بين عالم المُثل وبين عالم الطبيعة الفيزيقية. لذلك؛ سيطر المنطق الأرسطي لقرون عديدة وصولاً إلى عصر النهضة بعد انتكاسة القرون الوسطى، حيث سادت محاولات التوفيق بين الفلسفة والدين وحتى جعل الفلسفة خادمة للدين. هنا لا بد من ذِكر الدور الذي لعبته الفلسفة العربية - الإسلامية من خلال الفارابي وابن سينا وابن رشد الذي قدم قراءة جديدة لفلسفة أرسطو، حيث ساهمت هذه القراءة في إعادة الاعتبار للمعجزة اليونانية وفي ولادة جديدة للفلسفة في عصر النهضة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى المدرسة الرواقية والمدرسة الأبيقورية اللتين ظهرتا بعد سيطرة الأرسطية لفترة طويلة وكان همهما أخلاقياً واتفقتا على شعار أساسي، ألا وهو العيش وفقاً للطبيعة من خلال مصالحة الإنسان بين طبيعته الفردية والطبيعة المحكومة بقوانينها. في عصر النهضة وعصر التنوير برزت النزعة الإنسانية واستعاد التيار العقلاني مجده وبرزت الفلسفة الحديثة مع الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي أطلق الكوجيتو «أنا أفكر إذن أنا موجود»، حيث فتح الباب أمام مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث من خلال منح الدور الأساسي للإرادة الحرة المنطلقة من الأنا أفكر. ولكن منعطف ديكارت العقلاني الحر استمر مع الفيلسوف الهولندي سبينوزا الذي شكّل إضافة مهمة للفكر الحديث من خلال تأسيسه للأخلاق على أسس رياضية ومن خلال رؤيته لوحدة الوجود، واعتباره أن الحرية هي وعي الضرورة. أما الفيلسوف الألماني لايبنتز فقد استعاد ذرات ديمقريطس وافترض أن كل الكائنات هي عبارة عن اتحاد للمونادات البسيطة والتي تتعاطف مع بقية الكائنات تبعاً لنظرية الانسجام المسبق الذي وضعته العناية الإلهية. وبالتوازي مع هذا الاتجاه العقلاني في الفلسفة الحديثة برز الاتجاه التجريبي مع فرنسيس بيكون وتوماس هوبس وحون لوك، حيث أعطى هذا التيار الأولوية لدور التجربة في عملية المعرفة. وبما أن لكل تيار حججه وبراهينه القوية بحيث لا يمكن إهمالها، فقد برز الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط محاولاً الاستفادة من التيارين التجريبي والعقلاني من خلال تأسيسه للفلسفة النقدية عبر كتابه «نقد العقل الخالص»، حيث حاول الجمع بين العقل والتجربة، مستنداً إلى حدسين أساسيين: حدس الزمان وحدس المكان كشرطين أساسيين للمعرفة. كما كان كانط مهتماً بتأسيس الأخلاق على أساس ميتافيزيقي بحيث تشكل هذه الميتافيزيقا أساساً لأخلاق كونية مجردة تصلح لكل البشر ويكون الإنسان بالنسبة إليها غاية وليس وسيلة.
بعد النقد الكانطي للعقل الخالص أتى الفيلسوف الألماني الموسوعي هيغل ليعيد للعقل اعتباره من خلال كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح»، معتبراً أن العالم هو تجسيد للعقل المطلق. وبذلك؛ فقد شكّل هيغل قمة الفلسفة المثالية، حيث اعتبر أن العقل يحكم العالم. وقد تميز هيغل بمنهجه الجدلي القائم على ثلاثيات كل منها يتضمن قضية ونقيضها والمركب من النقيضين، معتبراً الثلاثية الأشمل التي تستوعب كل الثلاثيات هي التالية: الفن الدين الفلسفة. هذا يعني أن الفلسفة تمثل خطاب العقل المتجاوز للنشاطين الديني والفني. لذلك؛ إن هيغل يعتبر أن الفيلسوف يمثل روح عصره. وبما أن هيغل يمثل قمة الفلسفة المثالية كان لا بد من نقيض يواجه هذه الفلسفة، فكان أحد تلامذة هيغل كارل ماركس الذي قلب المنهج الجدلي الهيغلي رأساً على عقب، حيث أوقف هذا المنهج على قدميه بدلاً من أن يكون واقفاً على رأسه. الجدل عند ماركس ينطلق من الواقع المادي بينما عند هيغل ينطلق من الفكرة الخالصة. إذن، لقد استفاد ماركس من الجدل الهيغلي وأسسه على أرض صلبة تتمثل بالبنية التحتية الاقتصادية؛ إذ إن ماركس يعتبر أن المجتمع البشري يقوم على ثلاثة مستويات: المستوى الاقتصادي والمستوى السياسي والمستوى الآيديولوجي. هذه المستويات تشكل البنية الاجتماعية، ولكن البنية الاقتصادية هي التي تطبع المجتمع بطابعها. إذا كان نمط الإنتاج رأسمالياً يكون المجتمع تحت سيطرة الآيديولوجيا الرأسمالية.
هكذا، وبعد هذا العرض السريع نرجو أن نكون قد استطعنا تقديم فكرة إجمالية حول تاريخ الفلسفة وصولاً إلى الفلسفة الحديثة على أن نستكمل مرحلة ما بعد الماركسية في المقال القادم.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!