التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
TT

التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)

إن قصة التقنية بدأت منذ أن وجد الإنسان نفسه في مواجهة الطبيعة مع كل ما ينتج عن هذه المواجهة من مخاطر وتحديات وأسئلة وانتظارات. ومن رحم هذا الواقع المتوحش، ولدت فلسفة الفعل التقني التي أسست لصناعة أبسط الأدوات الدفاعية والهجومية والنفعية، وما زالت تفرض نفسها حتى عصرنا الراهن بعد أن تمظهرت من خلال محطات ومنعطفات أساسية في تاريخ البشرية، بدءاً من أبسط الاكتشافات التقنية وصولاً إلى عصر تكنولوجيا النانو، مروراً باكتشاف الذرات وغيرها العديد من الاكتشافات التي ظهرت بفعل التحالف المقدس بين العلم والتقنية.
ومن أبرز محطات فلسفة الفعل التقني كانت الثورة الصناعية الأولى التي تمثلت باكتشاف الآلة البخارية والطباعة، ثم من خلال الثورة الصناعية الثانية التي أتت نتيجة اكتشاف مصادر الطاقة، خصوصاً الطاقة الكهربائية. ولا شك في أن هذه الثورة الصناعية أسهمت في تجاوز وتدمير العالم القديم؛ وقد دامت هذه الثورة طويلاً وصولاً إلى الثورة الصناعية الثالثة التي نعيش في كنفها اليوم وتتمثل في اعتماد البشر الذكاء الاصطناعي من خلال الدعوة إلى تعديل أو تحويل الإنسان من جهة، أو من خلال تجاوزه وإحلال الآلة مكانه من جهة أخرى. هكذا إذن، إن فلسفة الفعل التقني رافقت الإنسان منذ أن بدأ يعي تمايزه عن كائنات الطبيعة الأخرى وراح يحاول عبر التقنية والتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة وتطويعها، فحقق على مراحل متفاوتة وثْباتٍ ومنعطفات مهمة على صعيد العلم والتقنية؛ إلا أن الوثبة الأكثر أهمية في تاريخ البشرية قد تحققت في القرن العشرين، وبدت التقنية رهاناً لهذا القرن، على حد تعبير المفكر الفرنسي جاك إلّول (ELLUL).
أمام هذا التطور التكنولوجي الذي برز من خلال الحلف القائم بين سلطتي التقنية والعلم برزت عدة مساهمات فكرية تدق ناقوس الخطر تجاه جموح التقنية من أجل ردها إلى حدود العقل والعقلانية. ومن أبرز المساهمين في طرح مسألة التقنية في القرن العشرين المفكر الفرنسي جاك إلّول ELLUL من خلال كتابه تحت عنوان «التقنية أو رهان القرن» (La technique ou l’enjeu du siècle)، والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر من خلال بحثه العميق تحت عنوان «مسألة التقنية»، كما برز رواد «مدرسة فرنكفورت» في النقد العميق للعقلانية التكنولوجية. وكذلك شهدنا مساهمة الفيلسوف الألماني هانز يوناس Jonas من خلال كتابه «مبدأ المسؤولية، أخلاق من أجل الحضارة التكنولوجية». في هذا الكتاب، يطرح يوناس إعادة صياغة الأخلاق انطلاقاً من فكرة المسؤولية. ولذلك ينطلق من الأخلاق الكانطية، وخصوصاً من القواعد التي أرساها كانط في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» ويركز على دور الأمر القطعي أو الواجب الإلزامي في تأسيس مبدأ المسؤولية، ويحاول أن يستبدل صيغة كانط الأخلاقية المجردة بصيغة أخرى تنسجم مع دعوته للإنسان المعاصر إلى الالتزام بالمستقبل البشري وإلى عدم المخاطرة حتى ولو كان ذلك منطقياً بمصير الأجيال القادمة. وسنحاول التقاط الفرق بين صيغتي كانط ويوناس. إن الأمر القطعي لدى كانط يقول: «افعل بطريقة تستطيع معها أن تريد بأن تصبح حكمتك قانوناً كونياً» ويلاحظ يوناس أن مسألة الاستطاعة هنا هي مسألة منطقية تتعلق بمدى عدم تناقض العقل مع ذاته، أي أن الإنسان العاقل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كونه واحداً من الكائنات العاقلة، ولذلك عليه أن يحكم بطريقة يكون فيها حكمه كونياً. وبالتالي، إن الاعتبار الأساسي للأخلاق هنا ليس أخلاقياً بل منطقياً، إذ إن الاستطاعة أو عدم الاستطاعة هنا تعبر عن التواؤم أو عدم التواؤم منطقياً وليس عن موافقة أو عدم موافقة. هذا يعني أن الإنسان يستطيع منطقياً أن يريد أو لا يريد تقرير نهاية البشرية. هذا على صعيد المنطق. ولكن على صعيد الأخلاق يجدر التساؤل: من يعطي الحق لحلقة معينة من السلسلة البشرية أن تقطع هذه السلسلة؟ قد يكون من حق أو من واجب جيل معين أو جماعة معينة أن تضحي بنفسها من أجل قضية ما ولكن لا يحق لها أن تتخذ قراراً بقطع السلسلة البشرية، وذلك لأنها مسؤولة عن المستقبل أكثر مما هي مسؤولة عن الحاضر، وبالتالي إن الأمر القطعي عند يوناس يتحول إلى أخلاق من أجل الأجيال القادمة، ليس بمعنى أننا يجب أن نضع من الآن قواعد أخلاقية تلتزم بها الأجيال القادمة، بل بمعنى أن تكون أخلاقنا الراهنة مسؤولة تجاه أجيال المستقبل. ومن أهم المساهمات التي سلطت الضوء على ضرورة إخضاع الجموح التقني لسلطة وقدرة العقل كانت مساهمة الفيلسوف الفرنسي دومينيك جانيكو Janicaud، الذي كان على معرفة قريبة من هايدغر، من خلال كتابه المنشور عام 1985 تحت عنوان «قدرة العقلاني» La puissance du rationnel حيث قدم نظرة ثاقبة وإنذاراً مبكراً تجاه المخاطر التي يسببها جموح التقنية المتفلتة من سلطة العقل والأخلاق.
بالنسبة إلى جانيكو، إن قدرة العقل تتجاوز وتنظم وتضبط الظاهرة التقنية، ولكن هذه القدرة ليست مباشرة أو ظاهرة بل هي خلفية وتظهر من خلال آليات معينة في جميع ميادين الكينونة. يقول جانيكو حول هذه المسألة: «هناك نقطة أضحت مكتسبة: إن العقل لا يسود مباشرة ولا بالكامل في العالم كما لو أنه ملِك أو ساعة ضخمة أو صورة مؤلّهة من قبل الثورة؛ ولكن ما زال هناك الكثير لحل الأحجية التي يقترحها العالم الراهن على روحٍ ما تزال قادرة على الاندهاش: إن التحول التقني - العلمي الشاسع، الذي يتابع مساره وينمي قدراته ومفاعيله من دون توقف، يتم إنجازه، بمعنى ما، باسم العقلانية؛ وعلى أي حال، إنه يضمن سيطرته على العالم من خلال توسط العديد من الآليات العقلية، النظرية، التقنية والعملية... هكذا نصل بذلك إلى منح العقلاني - على الأقل في هيئاته التقنية - العلمية - مزايا القدرة الفعلية، وذلك لأنه، بحلوله محل الأساطير والطقوس والثقافات التقليدية، يصبح ملاذاً وإشارة أو نموذجاً عن النظام الكوني وحتى عن معنى الحياة. ونتيجة لذلك، فإن الإنسان (فرد، طبقة، أو نوع) يفتخر بكونه وكيله ومن منبعه راح يسكر بملذات السلطة»**. ولكن طالما أن الإنسان ينهل سلطته من ينبوع العقل، ما الذي يدفعه إلى الانتفاض ضد العقلانية المسيطرة سواء كانت عقلانية تقنية أم عقلانية سياسية أو فلسفية؟ نحن هنا أمام «مناقضة: لم يكن العالم أبداً معقلناً بهذا الشكل؛ والعقل لم يكن أبداً بهذا العجز»*** هل نحن أمام عجز العقلاني أم أمام قدرته؟ طالما أننا نتمرد على العقلانية وننتقدها فهذا يعني أن العقل مسيطر، وبالتالي يتمتع بالقدرة الكافية لذلك. وبالمقابل، فإن انتصار الأفكار العدمية والنقدية والتفكيك وعدم ارتياح الإنسان تجاه التكنولوجيا وخوفه من المجهول، فهذا يعني أن العقل عاجز عن تقديم مبرراته.
وإذا عدنا إلى المسألة التقنية بصفتها مسألة عقلانية، نجد أنفسنا نتساءل حول الحدود العقلانية للظاهرة التقنية. هل هي ظاهرة محدودة في الزمان والمكان أم أنها غير محدودة؟ عقلانياً، هي قد تكون محدودة وقد تكون غير محدودة. هذا يتوقف على وظيفتها وعلى مدى انتهاكها لقدرة العقل أولاً وللقانون الأخلاقي الإنساني، ثانياً. وفي هذه المسألة، نجد أنفسنا، أيضاً، أمام مناقضة جديدة تتعلق بالتقنية: «إن مناقضة قدرة العقلاني في عصر القدرة يمكن أن تُصاغ على الشكل التالي: أطروحة: كل ما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً سواء كان تحقيقه معتبَراً حسناً أخلاقياً أو مداناً. أما الأطروحة النقيضة فهي: لا شيء مما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً إذا شكّل تحقيقه خطراً على الأهلية الأخلاقية للبشرية أو ألغاها»****
إن الأطروحة الأولى تتعاطى مع التقنية على أنها ظاهرة حيادية ولا تخضع لأي معيار أو تقدير أخلاقي أو لأحكام القيمة الأخلاقية في عملية تحقيق الموضوع التقني. أما نقيض هذه الأطروحة فيقتضي بأن لا تكون أي عملية تقنية مقبولة إذا انتهكت مبدأ الأخلاق ذاته أي الإنسانية في حريتها.
هنا نعود إلى هانز يوناس الذي أخذ على الأمر القطعي الكانطي صوريته ومنطقيته بمعزل عن الحكم الأخلاقي، الذي يمكن أن يؤدي إليه الفعل البشري، فعدله بحيث ربط الحكم على العمل البشري بمدى تأثيره على الإنسانية وعلى مستقبلها فعلياً وليس منطقياً. إن النقاش في هذه المسألة يتعلق بالطبع بمسألة التقنية وبمدى سيطرتها وبكيفية التعامل مع هذه السيطرة مستقبلياً. لقد وضع دومينيك جانيكو ثلاث ملاحظات حول تناول يوناس لهذه المسألة:
في الملاحظة الأولى، يذكر جانيكو الصيغة المعدلة للأمر القطعي بحسب يوناس فيعتبر أنها تتناسب مع الأطروحة النقيضة في المناقضة المذكورة أعلاه. ولكنه يرى أن ظروف الإنسانية في عهد يوناس هي مختلفة عن ظروفها في عصر كانط، إذ لم يكن في ذهن كانط أن الإنسانية سوف تكون مهدَّدة بالفناء. وبالتالي إن يوناس يعدل صيغة مطلقة فينقلها من ظرف إلى ظرف لتصبح محصورة في حالة وحيدة قد تكون مستحيلة وهي فناء البشرية.
وفي الملاحظة الثانية، يعتبر جانيكو أن قانون يوناس لا يتعلق بذات فردية في حياتها اليومية، بل يطال البشرية كبشرية معرّضة لتمدد عدواني من قبل التقنية المتحالفة مع العلم. وفي المناقضة الجديدة تقنية/ أخلاق، إن المكان المخصص للطبيعة لدى كانط أخذته التقنية التي أصبحت عاملاً حاسماً. أما العدو الأكبر للأمر القطعي الأخلاقي فلم يعد اليوم اللذة الطيبة أو الخبث، بل فعالية أو كفاءة البشرية التي خضعت للطابع التقني.
وفي الملاحظة الثالثة، يعتبر جانيكو أنه من وجهة نظر كانطية، قد يمكننا مع ذلك الاعتراض على قانون يوناس كما يلي: إن إعادة صياغة الأمر القطعي تمّت بموجب تعديلات تجريبية في احترام الحياة البشرية. وإن حصر دائرة تطبيق القانون المزعوم على العمليات التي تهدد دوام الحياة البشرية الحقيقية على الأرض يمكن أن يظهر بمثابة آخر خط دفاع للأخلاقية (ولكنه، في الواقع، تنازل وجداني أمام كل الانتهاكات التقنية). فإذا أصبح بسيطاً أمر اعتبار الآخر كوسيلة، ما عدا الحالات التي يعتبر فيها جوهر الإنسان مهدَّداً، ألا يمكن لنا أن نحاول بشكل دائم تمديد حدود المسموح به؟ على سبيل المثال، القرار الذي اتخذه ترومان بقصف هيروشيما وناغازاكي ألا يعتبر متوائماً مع «دوام حياة بشرية حقيقية»؟ وألا ينطبق ذلك عل غرف الغاز الهتلرية؟... إلخ من هذه الناحية، يصبح قانون يوناس، ليس فقط غير مفيد، بل قد يصبح مؤذياً لأنه مصدر إبهام حول ما هو جوهري*****.
ولكن جانيكو يشارك يوناس اهتمامه بمستقبل البشرية شرط ألا يكون هذا المستقبل على حساب الحاضر. هذا يعني أن الحاضر والمستقبل مرتبطان بلعبة قدرة العقل المفتوحة على الممكن المستقبلي. ولكن هل سيبقى هذا الممكن أسيراً لسلطة حلف التقنية والعلم؟ أم أنه سوف يشكل ميدان شراكة تنكسر فيه أحادية هذه السلطة؟ لذلك، إن هذه القدرة المفتوحة على الممكن سوف تنتشر وتترجم في ثلاثة ميادين مقدسة: الأخلاق، والسياسة والشعر. وهذه الميادين الثلاثة هي الأماكن الحساسة في مقاومة عملية التحويل التقني الكامل للمجتمع الإنساني وفي حماية المستقبل البشري على أنه ميدان شراكة وليس أحادية تقنية.
ففي ميدان الأخلاق يبقى الأمر القطعي، في نقاوته، الأطروحة العقلانية الوحيدة الممكنة النقيضة لتوسع القدرة التقنية/ العلمية للعقلاني. وذلك لأن هذا الأمر القطعي الأخلاقي لا شيء فيه يتنازل أمام السلطة أو القدرة أو يدخل في لعبتها. إنه يحفظ بصورة مبدئية نواة عقلانية تعصى على الانقلاب.
أما السياسي (ليس المقصود هنا السياسة اليومية بل السياسة التي تقوم على مواجهة الممكن من قبل الشعب كمسألة حياة أو موت) فهو يشكل ميداناً مقدساً بمعنى أن الشعب يتحمل من خلاله مسؤولية المستقبل. إن القرار السياسي الجوهري هو عقلاني - لاعقلاني؛ إنه يعرف أنه معرّض للانقلاب، وهو بذلك مختلف عن نقاوة الأمر القطعي، وذلك لأنه على علاقة مع السلطة. ولكن، طالما هناك أناس جديرون بهذا الاسم سوف يتغلب شرف الشعب في مواجهة المستقبل ضد خطاب التقنية.
أما الشعر، فهو ذلك البعد الذي يأخذ اللغة والإشارات إلى مداها الأقصى. إنه المعنى المتجاوز للمعنى. إنه قول عما لا يقال، إنه سمع اللامسموع، إنه المستقبل القائم على الاحتياطي الممكن لدى الإنسان. إن الشعر يجتاز التناقضات والانقلابات؛ إنه ذلك الجانب الذي يتجاوز بإفراط، من حيث هو المصدر ومن حيث هو المآل، قدرة العقلاني. إذن هناك اللامعقول؛ ولكن يجب الحفاظ على الشكل الخالص للعقلانية العملية فيما يتعدى كل الانقلابات الخاصة بالعقلانية التقنية. واللا محسوب أيضاً له مكانه، ولكن لا يجب علينا التوقف عن التعداد والحساب. هناك الغامض أو غير المرئي ولكن قول ما هو واضح وما هو مرئي هو مهمة مقدسة أمام انحراف كل المعابد.
ويختم جانيكو كتابه بعبارة لباسكال تقول: «حينها سوف نكون صامدين أو منضبطين جيداً» إذا رأينا الروابط أو العلاقات بين كل الأشياء. إن العقلاني «المنضبط جيداً» لم يعد يملك القوة الوحيدة المسيطرة التي كانت تمنحه إياها مرجعيته الذاتية الميتافيزيقية المطلقة، ولا الفعالية المطلقة المفروضة من خلال نسخته التقنية/ العلمية.
إن قدرة العقلاني، منفصلة إلى مراحل، ومتصدية للانقلاب ومنسوبة إلى الاختلاف الأونطولوجي والمصيري، هي مع ذلك وأكثر من أي وقت مضى، في حالة إمكان لممكن هش ولم نفقد الأمل فيه: إنه مستقبلنا******.
هكذا فإن القدرة التقنية ليست قدراً نهائياً، بل هي مجرد تعبير من تعبيرات العقلانية التي تستطيع احتضان المفارقة داخلها وتفتح دائماً الأبواب للممكن واللامحسوب وبالتالي للحرية. وهنا، لن يعود هنالك أي مبرر للأنظمة الشمولية التي تحكم باسم العقل الشامل سواء كانت أنظمة سياسية أو تقنية أو اقتصادية أو فلسفية... فقدرة العقلاني مفتوحة على المستقبل الممكن وعلى كل احتمالاته وبالتالي على النقد.
من هنا، فإن الموجة العارمة من الانبهار أمام التقنية الحديثة والثورة الصناعية التكنولوجية والتي سادت عصر الحداثة لا بد لها من أن تهدأ وتتأمل ولا تتسرّع في إطلاق الأحكام أو تسلّم تسليماً مطلقاً بما يسمى السلطة التكنوقراطية التي انبثقت من انتصار العلم والتقنية في عصر الحداثة؛ إذ إن هذا التسرع بهذا التسليم بسلطة التقنية مكان السلطات الأخرى ومكان الفاعلين الاجتماعيين سوف يؤدي إلى حركة مضادة للحداثة تنتفض ضد كل ما هو شمولي أو ضد كل ظاهرة تحاول مصادرة الذات الفاعلة والقضاء على دورها في صناعة التاريخ.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني
** Dominique JANICAUD، La puissance du rationnel، Editions Gallimard، Paris، 1985. ص. 11 - 12
*** المرجع نفسه، ص 12
**** المرجع نفسه، ص 146
*****راجع المرجع نفسه ص 147 - 148
****** راجع المرجع نفسه ص 376 - 377



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.