الإنسان المعاصر وأوهام الحرية

لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)
لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)
TT

الإنسان المعاصر وأوهام الحرية

لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)
لماذا يشعر الإنسان المعاصر بأن حريته المفترضة أو الافتراضية مجرد وهم؟ (أ.ف.ب)

منذ آلاف السنين يحاول الإنسان أن يعرف مدى حريته ويتساءل حول مصدر هذه الحرية وحول حدودها وحول إمكان رفع هذه الحدود والتمتع بالحرية المطلقة. في هذا المقال المحدود، سوف نحاول الإضاءة على أهم المنعطفات التي خاضها مفهوم الحرية الإنسانية، وصولاً إلى عصرنا الراهن. وبالتالي إلى طرح الإشكالية الآتية: لماذا يشعر الإنسان المعاصر، في ظل تطور الوعي البشري والعلوم والتكنولوجيا وانتشار المناداة بحقوق الإنسان، بأنه محاصَر ومهدَّد بمخاطر جمّة وبأن حريته المفترضة أو الافتراضية هي مجرد وهم؟
في الواقع، إن مسألة الحرية مطروحة عبر تاريخ الفلسفة والفكر بشكل عام منذ بدايات الفلسفة اليونانية مع سقراط الذي تعامل مع الفلسفة على أساس أنها سؤال دائم ورفض الادعاء بالمعرفة المطلقة، فشكّل بذلك منعطفاً أساسياً في تاريخ الفلسفة. أما أفلاطون فقد ميّز بين طبقات المجتمع وعدّ الحرية امتيازاً للنبلاء. وكذلك فقد تناولت المدرسة الرواقية مسألة الحرية، فرأى كريسيبوس أن الحرية تعود إلى نوعين من السببية؛ إذ إن الإنسان يكون حراً في الأمور التي تكون تحت مجال استطاعته فيختار ما يناسبه من القرارات الواجب اتخاذها في ظروف معينة. أما السببية الثانية فهي تعود إلى الظروف الموضوعية التي لا يمكن للفرد التحكم بها. أمّا أبيقوروس فقد ربط موضوع الحرية بالعلم ورأى بأنه بقدر ما يكون الإنسان عالماً بشؤون الطبيعة بقدر ما يكون حراً ومتحرراً من الأساطير والخرافات.
وهناك منعطف أساسي في تاريخ الفكر الحر تمثّل بالكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وهذا يعني أن ديكارت أعطى أهمية قصوى للإرادة الحرة المنطلقة من «الأنا أفكر». وهكذا انطلقت مسيرة الفكر الحر مع فلاسفة الثورة الفرنسية، وصولاً إلى عصر التنوير الذي مجّد حرية العقل والفكر. وفي مسار الحرية الإنسانية برزت الفلسفة الوجودية مع كيركيغارد الذي طرح مشكلة القلق الإنساني الفردي أمام الحرية، ومع سارتر الذي اشتهر بنضاله المستمر من أجل حقوق الإنسان والحريات السياسية والاجتماعية وربط بين الحرية والقلق الوجودي والمسؤولية وأطلق عبارته الشهيرة «نحن محكومون بأن نكون أحراراً». أما الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر فقد رأى أن الإنسان مقذوف في هذا العالم، وعليه أن يتدبر أمره. وميّز بين الكينونة والكائن ومنح الإنسان مرتبة «الكائن - هناك» (Dasein) المتميز عن الكائنات الأخرى بالفكر وحمّله مسؤولية وجوده.
وفي مقابل المدرسة الوجودية التي أعطت دوراً مهماً للذات الفردية والوعي الفردي، برزت التيارات البنيوية التي تعطي الأهمية القصوى في تفسير حركة المجتمع والتاريخ إلى الأنساق والبنى والظروف الموضوعية التي تتحكم في مسارات وخيارات الأفراد. ومن أهم أعلام هذه المدرسة، نذكر الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشال فوكو الذي شكّل ظاهرة بارزة في تاريخ الفكر الفرنسي المعاصر حيث ركّز في إنتاجه الفكري على مفهوم النسق (السيستام) الذي يتحكم بالعلاقات القائمة بين عناصره بحيث إن الفرد أو العنصر داخل النسق يأخذ معناه انطلاقاً من العلاقة التي تحكمه مع العناصر الأخرى داخل النسق نفسه. كما رأى فوكو أن النزعة الإنسانية، التي أعطت الدور الأساسي للإنسان الفرد في صناعة التاريخ، سوف تنطفئ مع تغيير الظروف التي وُلدت من رحمها، وعلى ذلك فإن فوكو تنبّأ في كتابه الشهير «الكلمات والأشياء» بموت الإنسان، معتبراً أن النزعة الإنسانية حديثة العهد لا يتجاوز عمرها مئتي عام وسوف تنطفئ مع ولادة ظروف جديدة وأنظمة معرفية جديدة (أبيستيمي).
وفي هذا السياق لا بد من ذكر عالم الأنتربولوجيا كلود ليفي شتراوس الذي بشّرنا بقرب مراحل غروب البشرية وبأن العقل البشري ثابت ولا يتقدم مع الزمن وذلك بسبب الظروف القاهرة التي تتحكم بالإنسان. في كتابه تحت عنوان «الأنتروبولوجيا البنيوية» أراد ليفي شتراوس إعادة إدماج الثقافة مع جذورها الكامنة في الطبيعة.
وفي هذا السياق أيضاً لا بد من الإشارة إلى الدور الذي لعبه صاحب مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد في تاريخ الفكر البشري وفي موضوع الحرية بالذات. من المعروف أن فرويد اكتشف أن الكائن النفسي الإنساني مكون من ثلاث طبقات: الأنا الأعلى، والأنا الواعي، والأنا الغرائزي. بالنسبة إلى فرويد، الأنا الواعي يتعرض لضغوطات من الأنا الأعلى المتمثل بالمجتمع والأخلاق العامة، ومن الأنا الغرائزي المتمثل بالشهوات الحيوانية. لذلك فإن فرويد اعتمد مفهوم اللاوعي أو بنية اللاوعي الذي يتحكم بسلوك البشر الذين يرون أنفسهم أحراراً.
وفي ظل هذا التباين سالف الذكر بين التيارات الفكرية المختلفة برز عصر التقنية الحديثة بالتزامن مع تطور العلوم المختلفة. لا شك في أن التقنية الحديثة لاقت الترحيب والانبهار من الإنسان المعاصر لأنها غيّرت حياته بطريقة سريعة ولكنها في المقابل فرضت عليه شروطاً إضافية للتكيف مع الأوضاع الجديدة والتخلي عن التقاليد التي اعتاد عليها. وفي هذا المجال برز النقد الحاد الذي مارسته «مدرسة فرانكفورت» تجاه سيطرة العقلانية التكنولوجية واتهامها بالعمل على تنميط الإنسان وإخضاعه للآلة، وهذا ما برز في كتاب هربرت مركيوز «الإنسان ذو البعد الواحد». ولا بد في هذا المجال من ذكر النقد الذي وجهه هايدغر لماهية التقنية عندما رأى أنها تأتي من مصير الكينونة الذي يحرض الإنسان باستمرار على تلبية ندائها المتدفق دوماً. كما تنبأ هايدغر بأن التقنية لن تقف عند حدود معينة لأن ماهيتها ليست تقنية بل هي تكمن في نداء الكينونة المحرّض باستمرار انسجاماً مع تدفق هذه الكينونة المتطلبة لتغيير ثوبها باستمرار. على ذلك فإن الثورة التقنية أخذت منعطفاً جديداً من خلال تكنولوجيا النانو والثورة الرقمية بحيث تحول العالم إلى قرية كونية وضاعت حدود الدول الوطنية ودخلنا في مرحلة العالم الافتراضي الذي يمنحنا امتيازات رهيبة في سرعة التواصل وتحصيل المعلومات واجتياز المسافات العابرة للقارات ولكنه من جهة ثانية يجعلنا معرّضين للانكشاف الكلي من خلال أجهزة التواصل التي نتمتع بامتلاكها ولا نعرف من يتحكم بها عن بعد. ولا بد من التذكير بأن هذه الثورة التكنولوجية بدأت تهدد معنى الإنسان الذي نعرفه كقيمة أساسية تعطي معنى للكون وللحياة. وبالفعل فقد برزت تيارات فكرية وعلمية تنادي بإمكانية ما يسمى تحويل النزعة الإنسانية من خلال العمل على إطالة عمر الإنسان إلى مئات السنين. كما برز تيار «ما بعد الإنسانية» في ظل انتشار ما يسمى الذكاء الصناعي وعالم الروبوتات.
بعد هذا العرض السريع نجد أنفسنا، نحن الذين نرى أننا نعيش كأحرار في عالم حر، محكومين بعوامل قهر للحرية من أهمها: أولاً، قوانين الطبيعة وتحديداتها بحيث لا يمكننا إهمال كوننا كائنات طبيعية تخضع لقوانين الطبيعة العضوية. ثانياً، هناك قوانين وتحديدات المجتمع الذي ننتمي إليه بحيث إننا نخضع شئنا أم أبينا للنظام الاجتماعي المسيطر في بيئتنا. وثالثاً، هناك تحديدات العامل الاقتصادي إذ إن المستوى الاقتصادي يحدد مسار كل فرد وانتماءه في المجتمع.
أخيراً وأمام كل ما أتينا على ذكره، ألا يحق لنا التساؤل حول حرية الإنسان المعاصر؟
في نهاية هذا المقال السريع ومن باب الطرفة أود التذكير بمراحل الإحساس بفقدان الحرية: في مرحلة الطفولة نخضع لعوامل الطبيعة العضوية، وفي مرحلة الشباب نشعر بضغط المجتمع والأخلاق العامة، وفي مرحلة النضج نعيش تحت ضغوط المجتمع والأسرة.
أخيراً نعود إلى عبارة سارتر الشهيرة: «نحن محكومون بأن نكون أحراراً». في هذه المفارقة يظهر أن سارتر «فيلسوف الحرية» يعود إلى الإلزام من أجل الحرية. ألا يعني ذلك أن الإنسان حر في خلق أوهام الحرية؟
* باحث وأستاذ جامعي لبناني



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.