كوريا الجنوبية واليابان تدفنان الماضي لمواجهة التحدي الإقليمي

طموح بكين وبيونغ يانغ يعيد رسم أولويات الشرق الأقصى

كوريا الجنوبية واليابان تدفنان الماضي لمواجهة التحدي الإقليمي
TT

كوريا الجنوبية واليابان تدفنان الماضي لمواجهة التحدي الإقليمي

كوريا الجنوبية واليابان تدفنان الماضي لمواجهة التحدي الإقليمي

في خطوة جيوسياسية كبرى وناجحة باتجاه دفن الماضي المرير لعلاقات اليابان بجارتها كوريا الجنوبية، عقد قادة الدولتين العملاقتين المؤثرتين في منطقة الشرق الأقصى، قمتين متتاليتين تحظيان حالياً في ظل التطورات الدولية بأهمية كبرى.

خلال الفترة الأخيرة، التقى كل من رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول ورئيس الوزراء الياباني كيشيدا فوميو، مرتين في غضون شهرين فقط الأولى في العاصمة اليابانية طوكيو والثانية في العاصمة الكورية الجنوبية سيول.

وجاء اللقاءان، وفق خبراء ومراقبين، في محاولة للتغلب على مشاعر السخط والاستياء المزمنة التي تعود بين الجانبين إلى ما يزيد على 100 سنة، وأيضاً لمواجهة التحديات الإقليمية الجديدة للتوازن الاستراتيجي في شرق آسيا، وبالأخص عبر مضيق تايوان وفي شبه الجزيرة الكورية

يعود الكثير من الفضل في التقارب الأخير بين كوريا الجنوبية واليابان إلى الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، وذلك لأخذه زمام المبادرة واتخاذه الخطوة الأولى.

يرى محللون سياسيون أن السياسات الإقليمية لكل من اليابان وكوريا الجنوبية مدفوعة الآن بالبيئة الدولية المقلقة، التي تهيمن عليها تهديدات خطيرة للنظام الدولي جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، والموقف الدولي العدواني للصين، والتهديد النووي والصاروخي المتزايد من قبل كوريا الشمالية. بل إنه خلال الشهور الأخيرة، لم تطلق كوريا الشمالية صواريخ باتجاه اليابان فحسب، بل هدّدت كذلك بشن هجوم نووي ضد كوريا الجنوبية.

في هذا الصدد، يعتقد الصحافي الهندي البارز سي راجا موهان أن «القمتين المنعقدتين بين اليابان وكوريا الجنوبية تشكلان انتصاراً للجغرافيا السياسية على جهود البحث عن العدالة التاريخية». ويضيف موهان: «يمكن أن تكون مسألة عقد القمتين بمثابة مقامرة من جانب الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول ورئيس الوزراء الياباني كيشيدا، ورهان على قدرتهما على التغلب على الخلافات التاريخية والسياسات الداخلية التي دفعت العلاقات بين الجارتين ـ وهما من أكبر اقتصادات المنطقة وديمقراطيات راسخة ـ نحو أدنى نقطة لها منذ عقود».

ثم يتابع: «إلى حد كبير، هدفت القمتان المتتاليتان إلى التوصل لتسوية بعد فترة طويلة من العلاقات الفاترة، التي أثارتها أحكام أصدرتها محكمة كورية جنوبية عام 2018 تقضي بدفع شركات يابانية تعويضات لبعض موظفيها الكوريين السابقين، عن تعرضهم للعمل القسري قبل نهاية الحرب العالمية الثانية. ولقد أثارت هذه الأحكام غضب اليابان، التي أصرت على أن جميع قضايا التعويض قد جرت تسويتها بموجب معاهدة عام 1965 التي أثمرت تطبيع العلاقات بين البلدين».

في الواقع، لطالما ساد الخلاف علاقة «الجارتين» في شرق آسيا، وكلتاهما من الدول الحليفة المهمة للولايات المتحدة، حول قضايا تاريخية على صلة بالاحتلال الاستعماري الوحشي لليابان من عام 1910 إلى عام 1945 لشبه الجزيرة الكورية، بما في ذلك العبودية الجنسية والعمل القسري.

ويذكر أنه عام 1910، ضمت إمبراطورية اليابان إليها شبه جزيرة كوريا، وظلت شبه الجزيرة كلها جزءاً من الإمبراطورية اليابانية حتى عام 1945. وخلال تلك الفترة، شنت اليابان هجوماً شاملاً ضد الثقافة الكورية بغية تعزيز وضعها الاحتلالي المهيمن.

سيول اتخذت الخطوة الأولى

يعود الكثير من الفضل في التقارب الأخير بين كوريا الجنوبية واليابان إلى الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، وذلك لأخذه زمام المبادرة واتخاذه الخطوة الأولى نحو اليابان، بغية إصلاح العلاقات التي تضرّرت في عهد سلفه، مون جاي إن، ورفضه أن يحدد التاريخ المؤلم ملامح الحاضر والمستقبل.

وحقاً، بدأ التحول في العلاقات بين طوكيو وسيول أوائل مارس (آذار) 2023، مع قرار يون وضع نهاية لحالة التأزم التي وصلتها المفاوضات حول قضية ضحايا العمل القسري. وبدلاً عن ذلك، استعان يون بصندوق كوري جنوبي لتقديم تعويضات من جانب واحد للناجين وعائلاتهم الذين ذهبوا إلى المحكمة، الأمر الذي أعفى شركات يابانية من طلب تقديم اعتذار ودفع تعويضات. وفي غضون أيام من قراره هذا، زار يون طوكيو واتخذ خطوات مهمة نحو استعادة مناخ الأعمال والتجارة بين البلدين. وكانت هذه أول قمة ثنائية بين رئيس كوري جنوبي ورئيس وزراء ياباني منذ 12 سنة.

في هذا الصدد، يوضح سانديب كومار ميشرا، الأستاذ المساعد لدى مركز دراسات شرق آسيا في العاصمة الهندية دلهي: «لم يلق هذا التقارب استقبالاً إيجابياً داخل كل من سيول وطوكيو، فبينما جرى اتهام يون باتباع دبلوماسية مهينة أمام المعتدي الاستعماري السابق، تعرّض كيشيدا لانتقادات باعتباره وضع بلاده على الطريق نحو خيبة أمل أخرى عندما تأتي الانتخابات المستقبلية في كوريا بسياسي مناهض لليابان إلى الرئاسة. ولكن مع ذلك، يستحق الرجلان معاً الثناء لاعترافهما بالتاريخ المأساوي لبلديهما بينما يتطلعان نحو المستقبل... إن تعميق العلاقات بين القوتين الآسيويتين لا يفيد بلديهما فحسب، وإنما يعزز كذلك الجهود المبذولة لكبح العدوان الكوري الشمالي وتحقيق توازن ضروري أمام نفوذ الصين المتزايد في المنطقة».

الخطر الصيني

ويتابع ميشرا قائلاً: «مساعي الصين للهيمنة على شرق آسيا قد حققت على ما يبدو ما لم تحققه سنوات من الجهود الأميركية... فقد أثمرت عقد مصالحة بين حليفتي الولايات المتحدة المتناحرتين: اليابان وكوريا الجنوبية». ومن جانبه، صرح رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول خلال قمته الثنائية الثانية مع رئيس الوزراء الياباني كيشيدا بأن «الظروف الدولية الخطيرة» و«مجموعة معقدة من الأزمات العالمية» تستلزم التعاون بين كوريا الجنوبية واليابان. وبالفعل، هذا الشهر، رد رئيس الوزراء الياباني كيشيدا زيارة الرئيس الكوري الجنوبي لبلاده. وأظهر كيشيدا شجاعة سياسية تسجل له بزيارته سيول، في وجه معارضة العناصر المحافظة في اليابان.

لقد أقدم كيشيدا على فعل نادر الحدوث من جانب القادة السياسيين اليابانيين في فترة ما بعد الحرب، وذلك بإعرابه عن تعاطفه مع الكوريين الذين أجبروا على العبودية خلال الحكم الاستعماري الياباني، وقال إن قلبه «يتألم» بسبب معاناة كوريا خلال تلك الحقبة. وأضاف كيشيدا أن «مسؤوليته كرئيس لوزراء اليابان تكمن في التعاون مع الرئيس يون وكوريا الجنوبية في المستقبل، ومواصلة جهود أسلافنا للتغلب على الفترات العصيبة». واستطرد الزعيم الياباني قائلاً: «نحن الحلفاء الأساسيون للولايات المتحدة في شمال شرق آسيا». وأكد أن اليابان وكوريا الجنوبية تسعيان إلى تعزيز قدراتهما على صعيدي الردع والاستجابة لكوريا الشمالية، من خلال سلسلة من التحالفات الأمنية بين البلدين، إضافة إلى الولايات المتحدة.

في السياق ذاته، أعرب دانييل شنايدر، زميل المعهد الاقتصادي الكوري، عن اعتقاده بأن «كيشيدا، تحت ضغط من المحافظين الذين يعارضون أي اعتذار ياباني إضافي أو الاعتراف بمسؤولية القمع في كوريا الجنوبية، ساوره التردد حيال الذهاب إلى هذا الحد البعيد. لكنه مع ذلك، اتخذ قراره بإظهار تعاطفه الشخصي مع الضحايا... وقال أمام المراسلين إن قلبه (يتألم) بسبب معاناتهم. كذلك عرض على كوريا الجنوبية إتاحة الوصول إلى موقع فوكوشيما النووي لتهدئة المخاوف إزاء التلوث الإشعاعي في المياه التي يجري تصريفها».

المصلحة في التقارب

مراقبون يرون أن التوجع العدواني المتزايد من جانب الصين وكوريا الشمالية دفع الولايات المتحدة نحو مزيد من التدخل في تحالفات شرق آسيا. وعليه، دعم البيت الأبيض التقارب الياباني ـ الكوري الجنوبي بشكل غير مباشر عبر سلسلة من اللقاءات الثلاثية خلال العام الماضي. ويرى محللون أن الأميركيين عملوا بجدٍّ لتقليل التوترات بين حليفيهم الآسيويين الرئيسين، مع أن هذه الجهود لم تصادف نجاحاً يذكر على امتداد فترة طويلة... رغم تصاعد التوترات مع الصين وكوريا الشمالية.

مع هذا، في ظل أجواء «الحرب الباردة» المتجددة التي بدأت تلقي بظلالها على آسيا، والتي تهدد باستمرار التصعيد وصولاً للمواجهة، يخالج سيول وطوكيو القلق. ويتركز هذا القلق على القوة العسكرية المتنامية للصين في بحر الصين الجنوبي وحول جزيرة تايوان، والتوجهات العدوانية لكوريا الشمالية التي تنفذ اختبارات صاروخية متطورة على نحو متزايد.

موقف واشنطن

في هذا الإطار، رفعت الولايات المتحدة وتيرة جهودها في الفترة الأخيرة، خاصة بعدما أجرت كوريا الشمالية تجارب على إطلاق أكثر من 70 صاروخاً، يتميز الكثير منها بقدرة نووية، خلال عام 2022. وبالفعل، اعترف السفير الأميركي لدى اليابان، رام إيمانويل، بأن بلاده وحليفتيها، اليابان وكوريا الجنوبية، عقدوا قرابة 40 اجتماعاً ثلاثياً قبل قمة طوكيو.

من ناحية أخرى، ترى الصحافية الهندية بالكي شارما أن كلا من اليابان وكوريا الجنوبية تتبنى التوجه الاستراتيجي القادم من واشنطن، وأنهما تدركان أن بقاءهما - على الصعيدين الوطني والسياسي - يعتمد على الانسجام مع الأولويات العالمية والإقليمية لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. فقد أدركت طوكيو وسيول أن «البيئة الجيوسياسية السريعة التغير خلقت تحديات ليس بمقدورهما التعامل معها بمفردهما». وأسهمت المناورات المشتركة لطائرات عسكرية صينية وروسية قرب المجالين الجويين الكوري الجنوبي والياباني، خلال السنوات الأخيرة، في تعزيز هذه الرسالة.

وبجانب ذلك، ليس بإمكان كوريا الجنوبية تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة ما لم تحافظ على علاقة عمل جيدة مع اليابان، وهذا أمر يدركه الرئيس يون جيداً.

التعاون الثلاثي

على صعيد متصل، من المتوقع أن يعقد كل من يون وكيشيدا مباحثات ثلاثية مع الرئيس جو بايدن، قبل نهاية مايو (أيار) الجاري، على هامش اجتماعات «مجموعة السبعة» في مدينة هيروشيما اليابانية. وترمي المباحثات لمناقشة حالة كوريا الشمالية، واللا استقرار الإقليمي الناجم عن سياسة الصين الخارجية التي تبدي قوة متزايدة.

هنا يعتقد ميشرا أن «الحوار الأمني الثلاثي بين اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة سيحمل رداً قوياً على كل من كوريا الشمالية والصين، وحتى على المحور العسكري الصيني ـ الروسي المحتمل. كما ستثمر المباحثات اجتماعاً ثلاثياً في يونيو (حزيران) بين وزراء الدفاع، سيكون من شأنه إضفاء طابع رسمي على مشاركة البيانات حول الدفاع الصاروخي ـ وهو هدف أقر عام 2023. وعلاوة على ذلك، فإن استعادة العلاقات بين أقوى حليفين لواشنطن في آسيا، تتيح فرصاً أمام إدارة بايدن لبناء جبهة موحّدة ضد الصين، التي تسعى إلى تقويض النظام الدولي القائم على القواعد، والهيمنة على المنطقة في مواجهة الولايات المتحدة».

أيضاً، تخطط اليابان وكوريا الجنوبية لربط الرادارات الخاصة بهما عبر نظام أميركي، وذلك لإمداد طوكيو ببيانات في الوقت الفعلي، وهي خطوة من شأنها تحسين قدراتها بينما وقت تواصل كوريا الشمالية المسلحة نووياً إطلاق الصواريخ بمعدل غير مسبوق. وضمن هذا الإطار، أفادت وكالة أنباء «يونهاب» الكورية الجنوبية للأنباء، نقلاً عن مسؤول بالرئاسة في سيول، أن الدول الثلاث تعمل كذلك على إطلاق مجموعة استشارية لتبادل بيانات التحذير من الصواريخ في الوقت الفعلي.

إعلان واشنطن

جدير بالذكر أنه بعد زيارة طوكيو، وصل يون إلى واشنطن للاحتفال بالذكرى السبعين للعلاقات الثنائية بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وكان أبرز ما في الزيارة التوقيع على «إعلان واشنطن» كاستراتيجية ردع نووي.

ماذا يقول إعلان واشنطن؟

وفق الإعلان، سيصار إلى تمركز غواصة نووية أميركية باليستية قبالة شبه الجزيرة الكورية. وسيجري تشكيل مجموعة استشارية نووية لصياغة مبادئ تكتيكات الرد المشترك. وستتلقى كوريا الجنوبية معلومات استخباراتية من الولايات المتحدة فيما يخص التطورات النووية، كما ستعزز الولايات المتحدة قدرات الردع النووي لكوريا الجنوبية من خلال برامج التدريب العسكري المشتركة.

أيضاً، أكد الإعلان من جديد على معاهدة حظر الانتشار النووي، ما يعني أن كوريا الجنوبية لن تغامر بإنشاء قدرات نووية مستقلة خاصة بها، بل ستركز اهتمامها بدلاً من ذلك على تدابير الردع من خلال نهج قائم على التحالف. كما يفوض الإعلان الرئيس الأميركي باعتباره صاحب «السلطة الوحيدة» لاستخدام الترسانة النووية للولايات المتحدة، حال وقوع مواجهة نووية.

ما يستحق الذكر عند هذه النقطة، أن التحالف بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة أسس قبل 70 سنة، تحديداً في أعقاب الحرب الكورية (1950-1953)، وهو الصراع الذي شهد مقتل قرابة 37.000 أميركي قاتلوا إلى جانب نظرائهم الكوريين الجنوبيين. وكانت شرارة الحرب الكورية قد انطلقت يوم 25 يونيو 1950، عندما شنت كوريا الشمالية غزواً مفاجئاً ضد كوريا الجنوبية. ورداً على هذا العدوان، أصبحت الولايات المتحدة أول دولة أجنبية تتدخل في الصراع، وتقف لجانب كوريا الجنوبية.

الترسانة النووية

أما بالنسبة للسؤال: لماذا لا تبدو الولايات المتحدة متحمسة تجاه امتلاك كوريا الجنوبية ترسانة نووية؟ فإن فيمي فرانسيس، الباحثة في المعهد الوطني للدراسات المتقدمة ببنغالورو (جنوب الهند)، توضح: «أعيق برنامج التطوير النووي لكوريا الجنوبية الذي دعمه الرئيس السابق بارك تشونغ هي، بسبب ضغوط أميركية. وفي التسعينات، سحبت واشنطن 100 سلاح نووي من كوريا الجنوبية كجزء من (معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية). وكانت واشنطن - التي أملت في جعل كوريا الشمالية تنزع سلاحها - قد افترضت خطأً أنها يمكن أن تردع إنتاج الأسلحة لكوريا الشمالية من خلال إعاقة القدرة النووية لكوريا الجنوبية».

وأضافت فرانسيس: «مراجعة الوضع النووي عام 2022 تعكس تحولاً في الرؤية الأميركية، مع شعور واشنطن بالقلق إزاء القدرات النووية المتقدمة لكوريا الشمالية. ويذكر التقرير أن كوريا الشمالية تخلق معضلات ردع أمام الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وأن اندلاع أزمة أو صراع في شبه الجزيرة الكورية يمكن أن يضم عدداً من العناصر الفاعلة المسلحة نووياً، ما يفاقم خطر اشتعال صراع أوسع».

وفي نهاية الأمر، ترغب واشنطن في السيطرة على إنتاج الأسلحة النووية عالمياً. لذلك، شعرت بالتردد حيال السماح لكوريا الجنوبية بتطوير ترسانتها النووية، لأنها ستعيق بذلك جهود السيطرة على الإنتاج النووي في العالم. ويتوافق التأكيد على أن الولايات المتحدة وأسلحتها النووية ستحمي حلفاءها، من خلال تحمل المسؤولية عن الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، مع الهدف الأميركي الأكبر المتمثل في منع الانتشار النووي. وبوجه عام، تحظى واشنطن بنفوذ كبير فيما يخص صياغة أهداف السياسة الخارجية لكوريا الجنوبية. وفي المقابل، تفضل سيول تجنب إحباط آمال واشنطن، لأن الأخيرة داعم محوري لها.

غضب صيني وكوري شمالي مفهوم لتقارب الخصوم

> التقارب بين سيول وطوكيو، إلى جانب الإعلان النووي لواشنطن، أثار قلق بكين.

وبحسب مقال في صحيفة «غلوبال تايمز» الحكومية في الصين، فإن «سلوك الولايات المتحدة يأتي نتاجاً لعقلية الحرب الباردة. إن ما فعلته الولايات المتحدة يؤجج احتمالات المواجهة، ويقوّض نظام حظر الانتشار النووي، ويضر بالمصالح الاستراتيجية للدول الأخرى».

وتناول مقال آخر سياسات الرئيس الكوري الجنوبي يون «الداعمة للولايات المتحدة بشدة»، واتهمه بـ«السير خلف الولايات المتحدة بشكل أعمى» و«الإذعان أمام اليابان لإرضاء واشنطن». وذكر كذلك أن يون «فقد التوازن» و«يبدو أكثر عدائية تجاه جيرانه الثلاثة المهمين»، بما في ذلك كوريا الشمالية وروسيا.

وبالنسبة لبيونغ يانغ، هدد زعيم كوريا الشمالية، كيم يونغ أون، مراراً بمهاجمة كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، اللتين تعدهما بيونغ يانغ «بلدين عدوين» لها. وجرى التأكيد على تصريحاته من خلال عدد قياسي من عمليات إطلاق الصواريخ العام الماضي. ومنذ العام الماضي، أظهرت الأنشطة في موقع بونغيي ـ ري للتجارب النووية في كوريا الشمالية، استعداد الأخيرة لإجراء تجربة نووية بأي وقت.

غير أن الرئيس الكوري الجنوبي، بعد زيارته الرسمية لواشنطن، أعلن رفضه الانتقادات الصينية، وقال يون: «إذا كانوا يريدون إثارة مشكلة معنا، وانتقادنا لتبني إعلان واشنطن ورفع مستوى تعاوننا الأمني مع واشنطن إلى تعاون نووي، فعليهم خفض التهديد النووي» الصادر عن كوريا الشمالية، «أو على الأقل الالتزام بالقانون الدولي، والالتزام بالعقوبات المفروضة من مجلس الأمن الدولي».

في الوقت ذاته، رأى مراقبون دبلوماسيون أن رد فعل بكين على التحسن السريع في العلاقات بين كوريا الجنوبية واليابان، يؤكد مخاوفها المتزايدة بشأن تحالف عسكري ناشئ بين الجارتين الآسيويتين وواشنطن. وفي الإطار ذاته، قالت كيم يو جونغ، شقيقة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في تعليقاتها المنشورة عبر وسائل الإعلام الرسمية «إن الاتفاق بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية يعكس (إرادة الحلفاء الأكثر عدائية وعدوانية) ضد كوريا الشمالية، وسيدفع السلام والأمن الإقليميين نحو (خطر أكبر)».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.